الحب الضائع
الحب اليائس
الحب المكره
بين الحب والإثم
نفس معلقة
ثأر بيرينيس
الخيال الطارق
طيف
الحب الضائع
الحب اليائس
الحب المكره
بين الحب والإثم
نفس معلقة
ثأر بيرينيس
الخيال الطارق
طيف
الحب الضائع
الحب الضائع
تأليف
طه حسين
الحب الضائع
1
ما أكثر ما أعجب من نفسي! وما أسرع ما يستحيل هذا العجب إلى سخرية منها أول الأمر، ثم إلى رثاء لها وعطف عليها! لا يعرض لي شيء غريب أو مألوف إلا حاولت أن أتبين أصله وأرده إلى علته. وقد أبلغ من ذلك ما أريد فأرضى؛ وهذا نادر، وقد أعجز عن التعليل والتأويل فأسخط؛ وهذا كثير. وأنا على كل حال ساخرة من نفسي لهذا المرض الذي لا أجد منه برءا؛ مرض التماس العلة والانتهاء إلى المصادر والأسباب.
والناس يقولون: إننا - نحن الفرنسيين - أمة مريضة بالتعليل والتحليل، وإن فيلسوفنا ديكارت قد أفسد علينا عقولنا لكثرة ما ألح علينا في أن نحلل ونعلل، ولشدة ما فتنا بتحليله وتعليله حتى أصبحنا جميعا فلاسفة أو كالفلاسفة، وحتى اتخذ العالم منا والجاهل، والمثقف منا والساذج، طور الفيلسوف الذي لا يرضى ولا يطمئن إلا إذا رد كل شيء إلى أصله، ووجد له تفسيرا أو تأويلا.
وأكبر الظن أن هذا حق؛ فإننا - نحن الفرنسيين - حين تعرض لنا المشكلات أو تلم بنا الأحداث لا نعنى بحل المشكلات ولا بالتخلص من الأحداث، وإنما نعنى قبل كل شيء بتفسيرها وتأويلها، فإذا وصلنا من ذلك إلى ما نريد رضينا واطمأنت قلوبنا وأذعنا للقضاء، وقد يشغلنا هذا عن التماس المخرج مما يلم بنا من الخطوب أو يعرض لنا من الأزمات.
أنا إذن فرنسية من هؤلاء الفرنسيين، لم أبرأ من هذا المرض الفرنسي العام؛ مرض التأويل والتعليل، وأنا جادة الآن في البحث عن أصل هذا الخاطر الغريب الذي أجلسني إلى هذه المائدة ومد يدي إلى هذا القلم، ثم أخذ يجريها على القرطاس بهذا الكلام الذي أكتبه.
ذلك أني لم أكتب قط إلا ما تعود أمثالي أن يكتبن من هذه الكتب اليسيرة القصيرة، التي تتصل بين الصديقات حين يفترقن ويحرصن على أن تتصل بينهن المودة وتتصل بينهن المجاملة بنوع خاص، وتتصل بينهن بنوع أخص هذه الثرثرة التي لا يستطعن أن يخلصن منها أو يعرضن عنها.
لم أكتب قط إلا هذه الكتب القصار إلى الصديقات حينا، وإلى أبوي وإخوتي حين كنت بعيدة عن الأسرة، رهينة لذلك السجن الذي اضطررت إليه ثمانية أعوام، والذي نسميه المدرسة. وأنا الآن جالسة إلى هذه المائدة، مجرية قلمي على هذا القرطاس، لا لأكتب كتابا إلى صديقة، ولا لأكتب كتابا إلى أحد من أسرتي؛ فإني لا أفكر في أحد غير نفسي ولا أحب أن يقرأ أحد شيئا مما أكتبه الآن ومما سأكتبه فيما سيتصل من أيام. فإني لم أجلس للكتابة إلا وأنا مقدرة أنها ستتصل. وأنا أبحث عن هذا الخاطر الغريب الذي دفعني إلى هذا النحو من التفكير والكتابة، فلا أكاد أهتدي إليه.
أنا أذكر أن ثلاثا من أترابي قد زرنني منذ أيام فخضنا في أحاديث مختلفة، وذكرت كل واحدة منهن كثيرا من شئونها الظاهرة والمستورة، وتحدثت كل واحدة منهن بما تسر بين حين وحين إلى دفترها حين تخلو إلى نفسها وتأوي إلى غرفتها بعد أن يتقدم الليل. وأذكر أني سمعت أحاديثهن فعجبت لها وأعجبت بها، ولم أستطع أن أشارك فيها؛ لأني لا أسر إلى دفتري شيئا إذا آويت إلى غرفتي بعد أن يتقدم الليل، بل لأني لم أتخذ قط لنفسي دفترا أسر إليه أحاديث نفسي، وآمنه عليها، وأستعين به على ما قد يضيق به صدري من الخواطر والهموم، أو على ما تفيض به نفسي أحيانا من ألوان الغبطة والابتهاج.
بل لم أفكر قط في شيء كهذا، وإنما آمنت دائما بأن سر النفس يفقد حرمته وطبيعته إذا تجاوز التفكير إلى طرف اللسان أو إلى طرف القلم. وأبيت دائما أن أشرك في أحاديث نفسي أحدا غيري، ويجب أن أعترف بأن أحاديث نفسي لم تكن ذات خطر، وبأنها لم تبلغ قط من القوة أن تشعرني بالحاجة إلى من يشاركني فيها أو يعينني عليها ، ولكن سمعت أحاديث الصديقات، ولا أدري لماذا أعجبتني أنباء هذه الدفاتر التي تؤتمن على الأسرار وتتلقى الأحاديث حين تأوي كل واحدة منهن إلى غرفتها بعد أن يتقدم الليل.
وقد تفرق عني صديقاتي وشغلت عنهن وعن أحاديثهن بما يكون من حياة الأسرة؛ حتى إذا تقدم الليل وآويت إلى غرفتي وخلوت فيها إلى نفسي، لم أجد ميلا إلى النوم، وإنما أطلت الاضطراب في الغرفة والتشاغل بالترتيب والتنسيق كأني كنت أريد أن أمد الأسباب التي تصل بيني وبين النوم، وأن أطيل السهر وأحتفظ باليقظة، فلما لم يبق ترتيب ولا تنسيق، ولم تنازعني نفسي إلى النوم، أردت أن أتشاغل بالقراءة، وأستعين بها على ما أريد من سهر، فآخذ هذا الكتاب، ولكني لا أكاد أنظر فيه حتى أصرف عنه فآخذ كتابا آخر فلا يكون حظه خيرا من حظ الكتاب الأول، فألبث جامدة شاردة النفس حينا ثم تثوب إلي نفسي، وإذا أنا راغبة عن النوم زاهدة في القراءة، منصرفة عن الحركة في التنسيق والترتيب.
وماذا أنسق؟ وماذا أرتب؟ وقد بلغت من ذلك ما أريد وأكثر مما أريد، حين آويت إلى هذه الغرفة منذ ساعة. وهنا أشعر بالحاجة إلى أن أكتب، ولكن ماذا أكتب؟ ولمن أكتب؟
هنا يعاودني ذلك الخاطر الذي عرض لي حين كنت أستمع إلى حديث الصديقات، فأذكر ائتمان الدفاتر على الأسرار والتحدث إليها بنجوى الضمير. ثم أذكر أني لا أملك دفترا أأتمنه على أسراري، وأفضي إليه بأحاديث نفسي، وليس من شك في أني قادرة على أن أمد يدي فآخذ ما أشاء من الورق وألقي إليه بما أحب من حديث.
ولكني أنفر من ذلك نفورا شديدا، فلا بد من أن أختار الدفتر الذي أتحدث إليه، كما أختار الصديق التي أوثرها بالمودة والإخاء، ولا بد من أن تكون هنالك ملاءمة بين نفسي وبين هذا الدفتر. وإذا أنا أفكر في شكل هذا الدفتر، وما ينبغي أن يكون عليه من الجودة والظرف ومن الشكل الأنيق المعجب، ثم يجب أن يكون خليقا بكتمان السر والضن به على الذين قد يتطفلون أو يتطلعون إلى القراءة واستباحة ما اؤتمن عليه.
وإذن فلن أكتب الليلة ولن أفضي بسري إلى دفتر من هذه الدفاتر العادية أو ورقة من هذه الأوراق المنثورة، ولا بد من أن أنتظر إلى غد حتى إذا اخترت الدفتر وأحسنت اختياره، خلوت إليه خلوة الصديق إلى الصديق الذي يلائمه ويشاكله، فتحدثت إليه أحاديث فيها الثقة والأمن، وفيها اللذة والمتاع، وفيها قبل كل شيء ارتفاع الكلفة وزوال الحرج.
ولو أني أخذت دفترا من تلك الدفاتر العادية أو ورقة من تلك الأوراق المنثورة، ثم حاولت أن ألقي إليها سرا أو أفضي إليها بحديث، لما وجدت في نفسي شيئا. فقد كنت أمس خالية النفس من كل سر وكل حديث، لا يشغلني إلا التفكير في أن يكون لي دفتر كغيري من صديقاتي، وفي أن ألقي إلى هذا الدفتر أسرارا كالتي يلقينها، وأفضي إليه بأحاديث كالتي يفضين بها.
وليس أدل على ذلك من أني قد أصبحت فغدوت على دار من تلك الدور التي تهيئ للناس أنفس ما يحتاجون إليه من أدوات الكتابة والتحرير، فلم أتخير دفترا فحسب، ولكني تخيرت معه قلما رشيقا جميلا غالي الثمن أيضا، ثم أخفيت ذلك في غرفتي، ثم جعلت أفكر في ذلك اليوم كله، ثم جعلت كلما ألممت بغرفتي نظرت إلى القلم ومسست الدفتر بيدي مسا رفيقا، كأنما أريد أن ألاطفه وأبارك عليه، ثم انقضى النهار وتقدم الليل، وجعلت آخذ نفسي بشيء من العنف حتى لا أتعجل الخلوة إلى نفسي والإيواء إلى غرفتي.
ثم هأنا هذه قد آويت إلى غرفتي، وخلوت إلى نفسي، وأخذت الدفتر الجميل فبسطته أمامي، وجعلت أنظر في صحفه النقية فأطيل النظر، كأنما أريد أن أستبئ نقاءها وصفاءها عما يمكن أن يكون لهما من سر أو حديث. وأي عجب في ذلك؟ فقد اتخذت هذا الدفتر صديقا أمينا، ولا بد بين الصديقين من تبادل الود والحديث والثقة والأسرار، ولكن هذه الصحف النقية الصافية لم تنبئني بشيء ولم تلق إلى نفسي شيئا.
وإذا أنا آخذ القلم عازمة حازمة كأنما أريد أن أحطم ما بيننا من الثلج كما نقول في أحاديثنا اليومية، وأن أبدأ بالحديث تشجيعا لهذه الصحف على أن تتحدث، ولكني لا أجد شيئا أقوله ولا حديثا أكتبه، وأكبر الظن أن نقاء هذه الصحف الخالية من كل سر لا يعدله إلا نقاء هذه النفس التي تريد أن تتحدث إليها والتي لا تجد ما تتحدث به، فهي تتكلف وتتصنع وتخلق الحديث خلقا.
وإني لأفكر في هذا فأذكر مواقف وقفتها في عهد الطفولة، وما زلت أقفها إلى الآن، وقد كدت أبلغ العشرين من العمر، وهي مواقفي من القسيس. فما أكثر ما أضعت وقته وأضعت وقتي بما كنت أحاول من الاعتراف، فقد كنت أرى ذلك فرضا علي وأرى أن نفسي لن تستريح، وأن ضميري لن يطمئن إلا إذا قمت من القسيس مقام المعترفة بالخطيئة، ثم مقام النادمة على الخطيئة. ثم انصرفت عنه وقد ظفرت منه بالمغفرة.
ثم أبحث في سيرتي فلا أنكر شيئا، وأبحث في دخيلة نفسي فلا أنكر شيئا، وألتمس مع ذلك شيئا أنكره لأعترف به أمام القسيس فلا أجد ما أنكر، فأخترع الخطايا اختراعا وألقيها إلى القسيس متكلفة غالية في التكلف. فيقبل القسيس مني حينا ويرفض حينا آخر، حتى انتهى به الأمر ذات يوم إلى أن كلفني أن أعترف له بكل ما أثقلت به نفسي من هذه الأكاذيب والأباطيل، ونبهني إلى أن الكذب عليه كذب على الله، وإلى أن هذه الخطيئة الساذجة في ظاهر الأمر قد تستحيل إلى خطيئة مهلكة؛ لأنها تعودني الكذب وتغريني بالتكلف، وتدفعني إلى النفاق، وتنشئ بيني وبين الآثام صلات قد تنتهي بي إلى الشر.
فأقلعت منذ ذلك اليوم عن انتحال الخطايا وتكلف الآثام للقسيس، ولكنني ألاحظ الآن أني قد جلست إلى هذا الدفتر لأنتحل الأحاديث وأتكلف الأسرار وما في نفسي من حديث وما لضميري من سر. وما أدري أيهما خير؟ أن تظل نفسي نقية كهذه الصحف النقية، وأن أخلو إلى هذا الدفتر ساعة في كل يوم، فأنظر في صحفه النقية الصافية لأرى فيها نفسي نقية صافية، أم أن تزدحم نفسي بالأحاديث والأسرار فلا أخلو إلى هذه الصحف إلا ألقيت عليها من سواد نفسي ما يمحو صفاءها، ويزيل نقاءها، ويجعلها مرآة مظلمة لنفس مظلمة؟
أما قبل أن أسمع حديث صديقاتي عن الدفاتر والأسرار، فقد كنت أوثر الأولى، وأما منذ سمعت أحاديثهن وكلفت بمثل ما كلفن به، فإني لا أدري أي الأمرين أحب إلي. بل أنا أدري أيهما أحب إلي. فهذه صحف من هذا الدفتر كانت نقية صافية منذ حين قد جرى عليها هذا القلم فصيرها إلى هذا السواد الذي لا يغني، وجعلها مرآة سوداء لنفس يشوبها الاضطراب، ويشيع فيها القلق، فيخرجها عما ألفت من صفاء ونقاء.
2
ويحك أيها الدفتر العزيز! ويحي منك! لقد شغلتني يومي كله، فلم أكد أفكر إلا فيك منذ أصبحت إلى أن أمسيت، ولقد كانت تشغلني عنك الحوادث الطارئة والأحاديث العارضة، بيني وبين أسرتي أو بيني وبين بعض أترابي، ولكني لم أكن ألبث أن أعود إليك، فأذكرك ثم أراك، ثم أتمثلك مبسوطا بين يدي، ثم أسأل نفسي عما يمكن أن ألقي إليك من سر، أو أفضي به إليك من حديث.
وما أكثر ما خطر لي من الخواطر، وما أكثر ما عرض لي من المعاني، وما أكثر ما ثار في قلبي من العواطف، وما أكثر ما استبان لنفسي من الرأي! ولكني ضقت بهذا كله آخر الأمر، ورأيت أنك ستصبح لي شغلا شاغلا وعلة ملحة، وأشفقت أن تفسد علي حياة صالحة جرت إلى الآن على خير ما تجري عليه حياة أمثالي من الفتيات؛ فأزمعت الإعراض عنك، والتنكر لك، والاشتغال بما كنت أشتغل به قبل أن أعرفك من عمل ورياضة في النهار، ومن حديث وقراءة في الليل.
ثم أخذت في بعض ما كنت آخذ فيه، ولكني رددت إليك ردا، وأكرهت على التفكير فيك، ثم التحدث إليك إكراها. وهأنا هذه أجلس إليك بعد أن هدأ كل شيء، وثاب كل فرد من أفراد الأسرة إلى غرفته، فخلت الدار منا ونحن مع ذلك نملؤها ونعمرها، ونشيع فيها حياة تسكن الآن لتنشط إذا أسفر الصبح.
هأنا هذه أجلس إليك بعد أن هدأ كل شيء، ولعلي تعجلت هذا الهدوء فيما ظهر من أمري، وما أشك في أني تعجلته فيما كنت أخفي من حديث النفس ونجوى الضمير. وأنا كما كنت أحدثك أمس ألتمس تعليل هذا وتأويله، فيروعني ما ينتهي إليه بحثي من التعليل والتأويل، فقد يخيل إلي أن قلبي فارغ يريد أن يمتلئ، وأن نفسي ساكنة كسلة تريد أن تنشط وتعمل، وأن ملكاتي كلها معطلة يؤذيها هذا التعطيل، فهي تلتمس لنفسها منه مخرجا، ولا تجده إلا في معرفة جديدة لصديق جديد.
وأنا أعلم أبواب النشاط أمامي مفتحة، لو شئت، فأنا أستطيع أن أشارك في أعمال البيت، وأنا أستطيع أن أشارك في الرياضة، وأنا أستطيع أن أقرأ وأن أزور وأستزير، وآخذ في ألوان مختلفة من الحديث.
ولكني منصرفة عن هذا كله، وانصرافي عنه يشتد من حين إلى حين. وأنا أحس شوقا إلى شيء جديد ألمحه، ولا أتبينه؛ تحسه أعماق نفسي وضمير قلبي، ولكنه لا يستبين لعقلي ولا ينجلي لرأيي. فأنا حائرة دون أن أعرف مصدر هذه الحيرة، هائمة دون أن أعرف موضوع هذا الهيام، مشوقة دون أن أتبين غاية هذا الشوق.
وأنت تسليني عن هذا كله، وتقوم في نفسي وقلبي مقام هذا كله، فأنا أظهر لك نفسي كما هي وقلبي كما هو، ولعلي أتبسط إلى أبعد من هذا فأجلس إليك في لبسة المتفضل، لا متحرجة ولا متأنفة، ولا متكلفة شيئا يتصل بالزي أو بترتيب الهندام. إنما هي الحرية المطلقة، حرية النفس وحرية الجسم، أصطنعها متى أغلقت الباب من ورائي وجلست إليك. وأنا أجد في هذا راحة وطمأنينة، ولكني أجد في هذا شيئا يسيرا خفيا من قلق يتردد في ضميري بين حين وحين.
فماذا تقول أمي؟ وماذا يقول أبي؟ وفيم يفكران لو أنهما قرآ هذه الأحاديث التي أسرها إليك؟ هذه مشكلة جديدة لا بد من أن أجتهد في حلها. فلم يكن لي على أبوي سر أو كنت أحتفظ بسري، وبما يخطر لي من السخف في هذا الضمير الذي لا يظهر عليه الآباء والأمهات، ولكني الآن أجهر بهذه السخافات وألقيها إليك. وأنت تستطيع أن تضمن لها البقاء ما تركت آمنا محفوظا من العاديات، ولكنك لا تستطيع أن تؤمن نفسك من أن تمتد إليك الأيدي وتجري على صفحاتك العيون.
أنت حافظ للسر ولكنك لا تستطيع له كتمانا، فلا بد من أن أعينك على هذا الكتمان، ولا بد من أن أخفيك وأبالغ في إخفائك على الناس جميعا، وعلى أبوي بنوع خاص وعلى أخي هذا العفريت المارد بنوع أخص. وما كان أغناني عن هذا الجهد الجديد، ولكن لا بد مما ليس منه بد.
3
ولكني أبثك هذه الأحاديث، وأنت لا تعرف من أمري شيئا. ألست ترى أن هذا غريب؟ إني لا أفضي بأيسر أمري إلى أحد حتى أعرفه وحتى يعرفني، فكيف بي أظهر لك نفسي كما هي؟ ولم أعرفك إلا أمس، وأنت لا تعرف من أمري شيئا. إني لغافلة ذاهلة حين أتصور فيك العقل والشعور والمعرفة، وحين أتحدث إليك كما أتحدث إلى الناس، ولكني مضطرة إلى ذلك مكرهة عليه، لا أستطيع أن أرى فيك إلا صديقا، وإلا صديقا يسمع لي ويفهم عني؛ لأني في حاجة إلى هذا الصديق، وإن كنت لا أدري مصدر هذه الحاجة، ولولا ذلك لما اشتريتك، ولما اتخذتك أمينا على السر وحفيظا على نجوى الضمير.
ولست أرى بذلك بأسا، وقد قرأت في بعض الكتب أن بعض بلاد الشرق كانت تشتري الرقيق من الصبية فتنميهم وتربيهم وتؤدبهم وتدربهم، ثم تتخذهم لها قادة وملوكا. وما أنا في حاجة إلى أن أنميك أو أربيك أو أؤدبك أو أدربك لأتخذك لي صديقا. فأنت تكفيني كما أنت، وأنت بعد هذا كله تعينني على أن أنمي نفسي وأربيها، وعلى أن أؤدب نفسي وأدربها، وعلى أن أعرف نفسي حين أعرفها لك، وأقدمها إليك.
فأنت صديقي، وأنت نجيي، ولا بد للصديق من أن يعرف صديقه، ولا بد للنجي من أن يعرف نجيه. فاعرفني إذن. وإني مقدمة إليك نفسي كما عرفتها بل كما جهلتها؛ لأني سأظهرك عليها باحثة عنها، ملتمسة تعليل كثير مما صدر عنها من عمل وتفكير لم أفهمه حين صدر عنها، ولكني أظن أني سأفهمه الآن بعد التفكير والروية.
اعرفني إذن لأني سأقص نفسي عليك ولأنك ستصاحبني منذ اليوم، وستتلقى أسراري وستحاسبني أو ستعينني على أن أحاسب نفسي عن كل ما أعمل، وعن كل ما أجد.
أليس من الغريب أنك لا تعرف اسمي إلى الآن؟! فليكن هذا أول ما تعرف من أمري، فأنا فتاة سأبلغ العشرين بعد أيام، تسميها أسرتها لين، ويسميها الناس مدلين مورل.
وما أنا متحدثة إليك بتاريخي البعيد، فقد استعرضت ما أذكره منه في أثناء النهار فلم أجد فيه غناء، وأشفقت أن أقصه عليك فتسخر مني وتضيق بي؛ لأنه تاريخ الألوف من الفتيات الفرنسيات اللاتي ينشأن في الطبقات الوسطى من أهل الريف الفرنسي. ولكن يحسن أن تعلم أن الحرب الكبرى قد أدركتني حين كدت أتم الرابعة عشرة من عمري، وقد كنت تلميذة تتهيأ للشهادة الثانوية، جادة في الدرس مشغوفة بالعلم دائبة على التحصيل، أتمت عامها الدراسي وظفرت بجوائز كثيرة ممتازة، وعادت إلى أهلها في قريتهم هذه في عطف من أعطاف الجبل في السفوا، سعيدة راضية عن عامها مستبشرة مغتبطة بما ستنعم به من الراحة والسياحة وألوان الرياضة مع إخوتها الثلاثة، وأترابها الكثيرات أثناء الصيف.
وكنت أصغر إخوتي سنا، وكان أكبرنا قد تخرج في كلية الطب ليعمل مع أبينا في صناعته ثم ليخلفه على عيادته بعد عمر طويل، فكان قد أتم الرابعة والعشرين من عمره، وكان ثاني إخوتي قد أتم الحادية والعشرين من عمره وظفر بإجازة الليسانس من كلية الحقوق، وهو يتهيأ للعمل عند بعض الموثقين ولتحصيل إجازة الدكتوراه أثناء ذلك. فأما الثالث من إخوتي، فكان في السابعة عشرة من عمره قد ظفر بالشهادة الثانوية، ويريد أن يذهب إلى باريس، ليتهيأ فيها لدخول مدرسة المعلمين.
وكانت أسرتنا راضية موفورة ليست بذات ثروة ضخمة، ولكنها ليست ضيقة اليد ولا سيئة الحال ولا عاجزة عن أن تعيش عيشة فيها كثير من رغد وخفض، وآية ذلك أنا كنا نتهيأ في ذلك الصيف لألوان من العيش لا يتهيأ لها الذين قتر عليهم الرزق.
فقد كان أخواي يريدان أن يتركا فرنسا ليذهب أحدهما إلى إيطاليا، والآخر إلى بلاد اليونان والترك. وكان أصغر إخوتي يريد أن يلحق برفاق له في جبال الفوج، وكنت أتهيأ لأذهب مع أبوي وبعض أترابي إلى ساحل المحيط في بيارتز.
ولكن جو أوروبا يزدحم بالسحب ثم تخفق فيه البروق، وتقصف فيه الرعود، ثم تثور العاصفة فتحطم كل أمل وتغير كل اتجاه، ويذهب أخواي لا إلى إيطاليا ولا إلى اليونان ولكن إلى حيث تريد توجيههما وزارة الحرب. ويذهب أبي متطوعا للخدمة الطبية في بعض المستشفيات قريبا من الحدود.
وأبقى مع أمي وأخي في قريتنا هذه آمنين من غارات الحرب، غير آمنين أنباءها المنكرة، ومناظرها البشعة، إذا انحدرنا إلى هذه المدينة أو تلك، فرأينا هذا السيل الذي كان يتدفق بالجرحى على المستشفيات، وذلك السيل الذي كان يتدفق بالمحاربين على الحدود. ولكني مع ذلك لم أذق الحرب، ولم أبل مرارتها، ولم أحس لذعها الذي يحرق القلب ويغرق العين، إلا بعد أن تقدمت الحرب وبلغت من عمرها البشع ستة أشهر، حين جاءنا النبأ بأن أكبر أخوي قد صرع في أحد الميادين.
هنالك عرفت الحرب وأحسست آلامها، ولكن أسابيع لم تمض على هذا النبأ حتى يلحقه نبأ آخر بأن ثاني أخوي جريح يمرض في أحد المستشفيات، ثم لا يتم العام حتى تظهر في الأسرة ظاهرة من جنون لم ينكرها أبي حين استشير فيها بالكتب والرسائل، وأنكرتها أمي، ولكنها لم تجرؤ على أن تظهر إنكارها إلا بالإذعان والبكاء المتصل، وأنكرتها أنا أشد الإنكار وأعنفه، ولكن أحدا لم يسمع لي، وإنما كانت تلقاني الأسرة بالتلطف والتعطف والتسلية.
وهذه الظاهرة هي تطوع أخي الصغير للخدمة العسكرية قبل أن يبلغ سن الحرب، وكان يقول: قد صرع أحد أخوي وجرح الآخر، وما ينبغي أن تخلو ميادين الحرب من أحدنا.
ثم يسافر ذات يوم مع الصبح فنودعه، ثم لا نراه إلى الآن.
4
لم تكن ليلتي سعيدة أمس، وإنما انقضت شاحبة يملؤها الحزن والبؤس والشقاء. فقد انصرفت فجأة عنك أيها الدفتر العزيز، وحيل بيني وبين المضي فيما كنت أقص عليك من أنباء نفسي وأحاديث أسرتي.
صرفني عن ذلك ما أثارته هذه الأحاديث وتلك الأنباء من شجون وأحزان امتلأ بها قلبي وغرق فيها ضميري، والتبست لها الأمور على نفسي، ثم لم تلبث أن استأثرت بحسي الظاهر فأجرت في جسمي رعدة خفيفة أول الأمر، ثم عنيفة بعد ذلك، لم تهدئها عني إلا هذه الدموع التي انحدرت من عيني غزارا.
لقد كنت أحسب أن قد هدأت اللوعة وسكت عني وعن الأسرة هذا الجزع الذي ملكنا وأفسد علينا أمورنا كلها حين انتهى إلينا النبأ بمصرع أخي الصغير. فإذا أنا لا أكاد أبدأ الحديث إليك حتى ينكأ الجرح وتثور العاصفة، وحتى يضطرب من حولي كل شيء، وحتى يفسد علي كل شيء، وحتى أغرق في هذا الحزن الشامل، الذي يصرفني عنك وعن نفسي، والذي ينسيني مكاني منك، ومكاني من كل شيء، والذي يشغلني ويشتمل علي اشتمالا تاما، فأنفق ليلة ما أدري كيف أنفقتها، ما أعرف إلى أي لحظة منها بقيت يقظى، وفي أي لحظة منها أدركني النعاس.
وإنما أتنبه لنفسي حين يمسني برد الصباح؛ فإذا أنا كما كنت حين بدأت الحديث إليك، لم أنتقل من مكاني ولم أتحول عن مجلسي ولم أدر كيف قضيت الليل.
هنالك أنهض فزعة مرتاعة متسائلة: ماذا كان يمكن أن يكون لو أن البرد لم يوقظني، ولو أني لبثت على هذه الحال حتى تستيقظ الأسرة وحتى تظهر علي في هذا الوضع الذي كنت فيه؟ هنالك أعمد إليك فأخفيك، وأعمد إلى سريري فأحدث فيه شيئا من الاضطراب، ثم آوي إليه كارهة متكلفة؛ لتعلم الأسرة أني قد قضيت ليلة عادية لم أخرج فيها على المألوف.
ولكني تبينت من هذا كله أني كنت أكذب على نفسي، أو أن نفسي كانت تكذب علي حين كنت أزعم أني قد أخذت أتسلى عن الحزن وأتعزى عن كوارث الحرب. وما أشك الآن في أن الأسرة كلها تكذب على نفسها فتتكلف السلو، وتتصنع العزاء، وتلقي حجابا رقيقا على أحزانها وآلامها، تتخذه من مشاغل الحياة وأغراضها المتصلة؛ لأنها لا تستطيع أن تمضي في هذا الحزن العنيف جاهرة به مظهرة له.
لا تستطيع ذلك لأن للحياة ظروفها وبواعثها إلى العمل والجد، ولا تستطيع ذلك لأنها تحسب لمراقبة الناس حسابا أعظم مما تقدر وتظن. وما أشك الآن في أننا جميعا نلتقي بوجوه باسمة أو غير مكترثة، ونمضي في حياتنا بهذه الوجوه التي تبتسم وتظهر التجلد، ولكنه ابتسام لا يدل على شيء إلا على التكلف والتصنع، ولا يصدر عن شيء إلا الحزن المر، واليأس الممزق للقلوب. ولكنه تجلد يسير هين لا يكاد يثبت إلا متهالكا متضائلا، يكفي أن تعرض له الذكرى، فإذا هو يتبدد ويزول كما يتبدد سحاب الصيف.
وآية ذلك أنا نتجنب إذا التقينا وأخذنا في الحديث ذكر الفقيدين الشهيدين، والإشارة إليهما من قريب أو بعيد؛ مخافة أن يخرج ذلك بنا عن طور التكلف هذا الذي أخذنا به أنفسنا، وأجرينا بيننا عهدا صامتا على أن نلزمه، ونمعن فيه لتستقيم لنا الحياة، كما تستطيع أن تستقيم لقوم لا يجدون ينبوع الحياة في قلوبهم، وإنما يستمدون حياتهم من الخارج ويستعيرونها من الحوادث والظروف، فهم يحيون متكلفين، ولولا هذا التكلف لما ظفروا من الحياة إلا بأسباب واهية لا تغني عنهم شيئا.
وما أشك الآن في أن أمر أبوي شر من أمري؛ فإن لي من الشباب نشاطه وآماله ما يسليني، رضيت ذلك أم كرهته، وما يعينني على أن أتجنب الذكرى، وأفر من الحزن. فأما أبواي فليس لهما من هذا كله شيء؛ فقد فقدا نصف آمالهما حين فقدا اثنين من أبنائهما الأربعة، وبقي لهما نصفها الآخر كئيبا شاحبا لا يثير نشاطا، ولا يدعو إلى جد، ولا يكاد يبعث في النفوس فرحا ولا ابتهاجا.
وهما يتجنبان الحديث في كل هذا بمحضر منا، ولكنهما يضمران غير ما يظهران، ويتحدث كل منهما إلى صاحبه بما يذكي النار في قلبه ويضاعف الحزن على نفسه، وكل منهما مع ذلك رفيق بصاحبه شفيق عليه يخفي عليه أكثر مما يظهر له. لهما الله ما أشد ما يقاسيان وما أعظم ما يألم كل منهما إذا خلا إلى نفسه، واستطاع أن يرفع هذا الحجاب الرقيق المتكلف، وأن يلقى وجها لوجه هذه الصورة البشعة التي تركتها لنا الحرب والتي رأيتها أمس فأنفقت أشنع ليلة وأشقاها.
5
ولم يكن النهار خيرا من الليل، وكأنما اصطلحت مظاهر الطبيعة وأسباب الحزن على نفوس هذه الأسرة البائسة، فاضطرتها إلى هذا السجن البغيض الذي هو أثقل شيء عليها؛ لأنه يخلي بينها وبين حقائق الأشياء، ويكرهها على أن تخلو إلى نفسها وتعكف على آلامها وتذعن لهذه الخواطر المحزنة المؤلمة التي تضطرب في نفوس المحزونين والبائسين.
فقد أصبحنا وإن الشمس لتنشر على القرية وما حولها من هذه الآكام اليسيرة التي ترتفع وتتدرج في لين ورفق ودعة غشاء رقيقا جدا من الضوء، يسحر العين ولكنه يثير في النفس شيئا من الحزن والأسى؛ لما ينقصه من القوة والثبات والاستقرار، ويحمل النفس على أن تتساءل: أقادر هذا الضوء على أن يثبت ويقوى فيغمر الأرض بحرارته وجماله ويبعث فيها القوة والنشاط؟ أم منهزم هو أمام هذه السحب التي تسعى من بعيد سعيا رفيقا ولكنه ملح؟
وما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى كان جواب هذا السؤال واضحا؛ فقد انجاب عن الربى والآكام هذا الغشاء الرقيق المتهلهل من ضوء الشمس، وامتلأ الجو بهذا السحاب الذي كان يسعى ثقيلا يبطئ من ثقله لا من رفقه ولا من كلسه. وهذه الآكام تحجب عنا، وهذه الربى تخفى علينا، وهذه آفاقنا تحد من كل وجه، وهذا السحاب الثقيل البطيء يدنو من الأرض ويسعى في السماء وكأنه يزحف على الأرض زحفا. وهذه ظلمة كثيفة تأخذنا من كل وجه، وهنا نحن أولاء نتحدث فيما بيننا بأن يومنا لن يكون مضيئا ولا مشرقا ولن يكون يوم عمل ونشاط.
وما نطيل الحديث في ذلك، فقد أخذنا نسمع قصف الرعد بعيدا ولكنه يدنو، وإنها لعاصفة عنيفة قد ثارت في السماء فوقفت الحركة وألجأت الناس إلى دورهم . وهذا المطر ينهمر غزيرا عنيفا، وكل شيء يدل على أنه سيتصل وسيستغرق اليوم كله. وها نحن أولاء قد لجأنا إلى دارنا كما لجأ الناس، وخلونا إلى أنفسنا وأخذنا نشغلها بالحديث حينا، وبهذه الأعمال اليسيرة حينا آخر. ولكن الغريب في أمرنا أن صبرنا على الحديث ضئيل، ليس له حظ من ثبات أو استقرار، كأنما يخاف بعضنا بعضا، وكأنما يشفق بعضنا من بعض، وكأنما نحذر إن اتصل الحديث أن ينتهي بنا إلى ما لا نحب؛ فنحن نقتصد فيه اقتصادا، وينتهي بنا إلى البخل والإغراق في الصمت. وأي شيء أبغض من الصمت المتصل بين أسرة متحابة متعاطفة لا تستطيع الحديث؛ لأنه قد ينتهي بها إلى ما تكره، ولا تستطيع الصمت؛ لأنه قد يكون أسرع بها من الحديث إلى ما لا تحب؟!
وإذن فليفر بعضنا من بعض حتى لا يؤذي بعضنا بعضا بالحديث ولا بالصمت، وقد فعلنا. فأما أنا فخلوت إلى الكتب، وأما أبواي وأخي فالله يعلم إلام خلوا، وبماذا اشتغلوا.
وتجمعنا المائدة، فياله من اجتماع كئيب كله حيرة وكله ألم، وكله تردد بين هذا الحديث المتقطع الذي لا غناء فيه، وهذا الصمت الكثيف الملح الذي يريد أن يتصل، والذي يقول أكثر من كل حديث. ومع ذلك فقد لاحظت غموضا في وجه أمي وشيئا من الإلغاز في وجه أبي، ولاحظت فيما كانا يلقيان إلي من النظرات شيئا من العناية لم أتعوده من قبل، فيه إشفاق ظاهر وحنان قوي، وحب لم يتعودا أن يظهراه على هذا النحو.
ولم يكن حديثهما إلي - على تقطعه وندرته - يخلو من بعض هذا. فقد كان الصوت رقيقا عذبا أرق وأعذب مما ألفت، وكانت الجمل غامضة ملتوية بعض الشيء، وكان فيها تلميح للمستقبل ولكنه تلميح حزين، يريد أن يخفي حزنه وأن يظهر مسرورا مبتهجا بعض السرور والابتهاج. ولم يكن أخي بأوضح من أبوي وجها ولا نظرا، ولكن غموض وجهه ونظراته لم يكن يشوبه الحنان والعطف ولا الإشفاق والحب، وإنما كانت تشوبه هذه الدعابة الماكرة التي ألفتها منه، والتي ضقت بها غير مرة؛ لأنها لا تخلو من قسوة تبعث الحنق وتثير الغيظ، وربما رأيت على وجهه بين حين وحين ابتسامة لا تخلو من سخرية، ولكنها في الوقت نفسه لا تخلو من مودة ودعابة ومزاح. ليس من شك في أن بينهم أمرا يخفونه، ولا يريدون أن أظهر عليه إلا شيئا فشيئا، كأنهم يهيئونني له تهيئة، ويعدونني له إعدادا. فما عسى أن يكون هذا الشيء؟
لقد فكرت فيه، وزعمت لنفسي أني لا أعرفه، وأني حريصة على معرفته، وأني ضيقة بجهلي له وغموضه علي. وما أرى إلا أني كذبت على نفسي، وما أرى إلا أني تعمدت هذا الكذب؛ فإن نفوسنا - نحن الفتيات حين نبلغ من حياتنا هذا الطور الذي أنا فيه - معقدة أشد التعقيد، ملتوية أعظم الالتواء. والغريب أن آباءنا يظنون بنا السذاجة ويأخذوننا كما يروننا وينتهي إيمانهم بسذاجتنا، إلى أن يقنعنا نحن بهذه السذاجة، وإلى أن يخدعنا نحن عن أنفسنا، وإلى أن يخيل إلينا ويلقي في روعنا أننا كما يظنون، لا نفهم الحياة ولا نتعمقها، ولا نكاد نعرف ما يهيأ لنا وما يراد بنا. ونحن ننظم سيرتنا على هذا النحو من النفاق، من النفاق الذي لا نكاد نحسه ولا نتبينه، فضلا عن أن نعتمده أو نقصد إليه.
كذلك أرادت أوضاع الحياة الاجتماعية أن يخدع الآباء عن أبنائهم، وأن يخدع الأبناء عن أنفسهم، وأن تمثل في كل دار بين الشباب والشيوخ أو بين الجيل الذي يستقبل الحياة والجيل الذي يستدبرها قصة قوامها هذا النحو من الخداع، تضحك أحيانا ولكنها تحزن وتسوء في كثير من الأحيان.
زعمت لنفسي أصيل هذا اليوم أني لم أفهم غموض أبوي وتلميحهما، وأني لم أفهم غموض أخي ودعابته. ولكنني كنت كاذبة على نفسي، ولن أكذب عليك أيها الدفتر العزيز؛ فقد عاهدتك على أن تعرفني كما أنا، واستعنتك على أن أعرف نفسي. لقد فهمت عن أبوي وعن أخي كل شيء.
إنما كانوا يعرضون بالمستقبل القريب، ويشيرون إلى خطبة تضطرب أحاديثها في الجو من حولي، وتهيأ لها الأسباب تهيئة وهم يخفون أمرها علي حتى يتم الإعداد لها، وحتى يصبح الحديث إلي فيها مجديا لا ينتهي بي إلى شك ولا إلى خيبة أمل. وأنا أعرف هذا كله وأرقب هذا كله محبة لأبوي، راحمة لسذاجتهما مكبرة لحنانهما ممزقة القلب من الحزن أن تتهيأ الحياة لتبتسم لي، ومن حولي كل هذا الحزن العابس وكل هذا الألم العميق.
6
ولكني لا أعرف من أمر هذه الخطبة التي تهيأ ويتصل فيها حديث الأسرة أكثر مما ذكرت. وما أخفي عليك ولا على نفسي أيها الدفتر العزيز أني قد ضقت بهذا الجهل، وثقل علي هذا الغموض، وودت غير مرة لو استطعت أن أنفذ إلى قلب من هذه القلوب الثلاثة الكريمة التي تحيط بي، وتمتلئ بحبي لأرى ما يثور فيه من عاطفة، وما يضطرب فيه من تفكير.
ولكني لم أحاول قط أن أسترق السمع، أو أختلس بعض ما يتصل من حديث؛ لأني أرى ذلك نكرا يأباه الخلق، وتنكره سيرة الفتاة المهذبة التي نشئت تنشئة حسنة، وربيت تربية صالحة. وأي شيء أبغض من التسمع على الآباء والاحتيال في استراق الحديث؟ وقد أنحدر في التفكير إلى أعماق نفسي، فأستكشف شيئا لا أكاد أحققه، ولكني أضيق به ضيقا شديدا، فقد يخيل إلي أن الذي دفعني إلى أن أتخذك لي صديقا، وأحاول أن أفضي إليك بأسرار نفسي؛ إنما هو هذا الشعور الغامض الذي وجدته منذ أيام حين أحسست الغموض الطارئ على ما بيني وبين الأسرة من صلة، وحين تبينت أو خيل إلي أني أتبين من هذا الغموض تفكيرا في الخطبة وتهيئة للزواج.
لم أكن أستطيع أن أبادي بهذا الحديث أخي، أو أحد أبوي، فضلا عن أن أبادي به إحدى صديقاتي، وقد هممت أن أطيل الحديث فيه إلى نفسي مفكرة مقدرة، ولكني وجدت في ذلك مشقة وعنه عجزا.
لم أكن أحاول التفكير فيه حتى أصرف عنه وتدفع نفسي إلى التفرق وخواطري إلى الشرود، فلم أر بدا من الالتجاء إليك، والاعتماد عليك؛ لأجمع هذه النفس المتفرقة، وأرد هذه الخواطر الشاردة. وما أرى أني قد ألقيت إليك كل هذه الأحاديث إلا فرارا من هذه الحقيقة التي أواجهها الآن، وتأخيرا لهذه الساعة التي لا أستطيع الآن لها تأخيرا. إني لأجد مشقة شديدة في تحليل هذا الشعور الذي يغمر نفسي، ويملأ قلبي منذ استكشفت سر أبوي دون أن أصل إلى كنهه، أو أتبين جليته، فأنا سعيدة من غير شك وإن كنت أخفي هذه السعادة حتى على نفسي؛ لأن الأوضاع الاجتماعية تريدني على ذلك.
أنا سعيدة حين أفكر في هذه الخطبة التي تهيأ، وفي هذا الزواج الذي يعد، وأي فتاة مثلي لا تسعد بالتفكير في الخطبة والزواج؟! وأنا ثائرة أشد الثورة بأن أبوي يفكران في ذلك وحدهما، ويستأثران به من دوني، ولا يشركانني فيما يكون بينهما من تفكير أو حديث، كأنما الأمر يعنيهما أكثر مما يعنيني، ويمسهما أكثر مما يمسني، وأنا مشفقة من عواقب استئثارهما بهذا الأمر، وانفرادهما بالتفكير فيه، أخشى أن يتقدما فيه إلى أبعد مما ينبغي وأن أصبح أو أمسي ذات يوم وإذا أنا أمام أمر واقع لا أستطيع أن أخلص منه إلا بالعنف الذي أكرهه، وبالخلاف عن أمر أحب الناس إلي وآثرهم عندي وأكرمهم علي.
ثم أنا بعد هذا وذاك حائرة، يكاد حبي للمعرفة يقهر كل عاطفة أخرى في نفسي ويملك علي كل أمري، ويصرفني إلا عن البحث والتفكير فيمن عسى أن يكون هذا الشاب، الذي يفكر أبواي فيه ويهيئان للصلة بيني وبينه.
ويا للعجب! متى يشعر الآباء بأن الزواج لا يهيأ على هذا النحو، وبأن الخطبة لا تعد على هذا الأسلوب، وبأن أمر الحب لا يدبر تدبيرا؟ ومع ذلك، فقد قلت - وما زلت أقول: إني سعيدة بالتفكير في الخطبة والزواج، وآية ذلك هذا الذهول الذي يستغرق أكثر وقتي حين أخلو إلى نفسي، والذي تملؤه أحلام غريبة؛ منها الجميل الرائع، ومنها المخيف البشع، وكلها على ذلك يرضيني، ويملأ نفسي سرورا وابتهاجا. ومن يدري، لعل في تكتم أبوي واستئثارهما بالأمر من دوني بعض الخير، فهو الذي يبيح لي هذه الأحلام، ويغمرني بهذا الذهول، ويدفع نفسي إلى هيام لا يخلو من لذة، لعل الأخلاق تنكرها، ولعل الحياء - حياء العذارى - يمنعني أن أسطرها أو أصورها، لولا أني أفضي بذات نفسي إلى صديق مثلك أمين يتلقى الأسرار فيخفيها حتى على نفسه.
إني لأستعرض عددا غير قليل من الشباب الذين أظن بهم الكفاءة، وأقدر أنهم خليقون أن يفكروا في، أو يسألوا عني، أو يطمعوا في القرب من أسرتي؛ أستعرضهم وأرى نفسي تتنقل بينهم كما تتنقل النحلة بين الألوان المختلفة من الزهر، لا تكاد تلم بهذه الزهرة حتى تنتقل منها إلى زهرة أخرى، ثم إلى زهرة ثالثة، وعلى هذا النحو. وإني لأستحي من هذا الهيام الآثم الذي لا أرضاه من غيري لو أقبل عليه غيري، ولكني مع ذلك أعترف بأني غارقة فيه، مؤثرة له مستمتعة به معتذرة مع ذلك عن نفسي؛ لأن أبوي هما اللذان دفعاني إليه حين استأثرا من دوني بالتفكير في أمر هذه الخطبة، ولو أنهما أظهراني على ما يدبران من الأمر لاقتصرت هذه النحلة الهائمة المتنقلة على زهرة واحدة، فوقفت عندها ولم تعدها إلى غيرها من الزهر. ولم تضطر إلى الاستمتاع راغمة بهذا الهيام الحلو البغيض.
وكذلك أنفق ساعات طوالا مع هذا الشاب أو ذاك من شباب القرية، ومن شباب القرى المجاورة، فأسمع منه وأتحدث إليه وأبلو أخلاقه وأمتحن سيرته، وأنصرف عنه راضية حينا وساخطة حينا آخر، حامدة مرة وناقدة مرة أخرى. وأنا مع ذلك سجينة غرفتي، أو مضطربة في البيت، أو متنزهة في الحديقة، خالية إلى نفسي على كل حال، لا أرى من هؤلاء الشباب أحدا ولا ألقاه بحديث، حتى طال علي هذا الأمر وثقل على نفسي هذا الهيام، وأخذت أكره التفكير في الخطبة والزواج، وأتمنى أن ينجلي هذا الغموض وأن تتاح لنفسي - هذه الهائمة - غاية واضحة تقف عندها، مفكرة مقدرة، فتقبل عليها آخر الأمر أو تنصرف عنها.
7
وهذا يوم من الأيام ينقضي كما انقضت هذه الأيام القليلة الماضية، لا تنجلي فيه الحقيقة لهذه النفس الحائرة، ولا تستطيع نفسي أن تبرأ من حيرتها وأن تفكر في غير ما دفعت إلى التفكير فيه. ومع ذلك فقد حاولت أن أشغلها عن ذلك بالقراءة وبالحديث، فلما لم تغن القراءة ولا الحديث تكلفت شيئا من النشاط، فخرجت للتروض وأبعدت في المشي.
ولكني رجعت كما خرجت مفرقة النفس شاردة الخواطر، مضطربة بين الثورة والهيام، فلم أكد أستقر وأستريح من جهد الرياضة حتى استأنفت النشاط وخرجت فزرت بعض الصديقات وأخذت معهن في ألوان من الحديث مختلفة، ولكني كنت أحس دائما أن لي نفسين: إحداهما تلقى الصديقات وتتحدث إليهن وتسمع منهن، والأخرى مقيمة في أعماق الضمير ظاهرة غير مستخفية، ناطقة غير صامتة، تبحث وتستقصي وتسأل وتلح في السؤال، وتهيم وتشقى بالهيام. وما أظن إن اتصل الأمر على هذا النحو إلا أنه سيظهر لأسرتي، وستنكر أمي بعض سيرتي، وسأضيق بهذا الإنكار وبما سيتبعه من السؤال.
ما أشد حاجتي إلى رحلة قصيرة تخرجني من هذه البيئة وتصرفني عن هذه الخواطر! ولكن هل إلى الرحلة من سبيل؟ إن قوانين الأسرة صارمة صلبة لا مرونة فيها ولا لين. الرحلة ميسرة لنا في الصيف، نصعد في الجبل إلى أرفع من هذه القرية التي نعيش فيها، أو ننحدر إلى المدينة أو إلى ما يليها من شواطئ، أو نبعد في السفر فنهبط إلى ساحل البحر، فنغير الجو والإقليم تغييرا تاما. وقد كانت الأعوام التي سبقت الحرب تتيح لنا الإمعان في السفر وتجاوز حدود فرنسا من هذه الناحية أو تلك، وربما سمحت لنا بركوب البحر وعبوره أيضا.
الرحلة ميسرة في الصيف لأنها تبيح لنا الاستمتاع بحقنا من الراحة. والرحلة ممكنة في الشتاء على أن تكون قصيرة، وعلى أن تكون قريبة، وعلى أن تدعو إليها الظروف؛ فقد نزور هذا الفرع أو ذاك من فروع الأسرة التي أراد حسن الحظ ألا تجتمع في قرية واحدة أو في إقليم واحد، وإن تقاربت مواطنها وسهل تزاورها. الرحلة ميسرة في الصيف ممكنة في الشتاء، ولكنها محظورة في غيرهما من فصول السنة إلا أن تدعو إليها ظروف قاهرة.
ومهما تكن رغبتي في الرحلة فإني أوثر البقاء على أن أرحل مستجيبة لبعض هذه الظروف. وما أدري بعد ذلك، أواجدة أنا في نفسي الشجاعة على السفر إن تهيأت لي أسبابه؟ فليس من اليسير ولا من الأشياء التي أستطيع احتمالها ترك هذين الشيخين المحزونين، وهذه الأم البائسة ذات القلب الكسير والبال الكاسف والحياة التي أظلمت من جميع جوانبها، ولم يبق فيها إلا هذا الضوء الضئيل الذي يأتي من أخي ومني فيعينها ويعين زوجها على الصبر والاحتمال.
لا، ليس إلى الرحلة من سبيل، وما ينبغي التفكير فيها فضلا عن التحدث بها، وحسبي أن يوما سيأتي بعد وقت طويل أو قصير أرحل فيه عن هذه الدار وأنأى فيه عن هذين الشيخين، وأن هذا مصير أخي، وأن أمر هذين الأبوين صائر إلى هذه الوحدة المنكرة التي لا أفكر فيها إلا امتلأت لها نفسي حزنا، وامتلأ منها قلبي رعبا. وحسبي أن هذين الأبوين الكريمين يهيئان لأنفسهما هذه الوحدة، ويعدان لأنفسهما هذه العزلة، يؤديان بذلك ما يريانه واجبا عليهما وحقا لنا، لا يفكران فيما هما أهل له من عطف، ولا يذكران ما قد يحتاجان إليه من معونة.
إنهما يفكران في ذلك ويجدان، هما الآن يفكران في خطبتي وزواجي، وسيفكران غدا - إن لم يكونا قد فكرا - في خطبة أخي وزواجه، وهل لهذا كله نتيجة بالقياس إليهما إلا الوحدة المظلمة والعزلة المؤلمة والحياة القاتمة التي يحياها أصحابها وقد يئسوا من ماض لا سبيل إلى عودته وانتظروا مستقبلا أيسر ما يقال فيه إنه الضعف والعجز والفناء والموت؟
كلا، ما ينبغي لي أن أفكر في الرحلة، بل ما ينبغي لي أن أفكر في فراق هذين الشيخين قبل أن يكون لي من هذا الفراق بد، بل ما ينبغي لي أن أضيق بشيء أو أن أظهر لهما أني ضيقة بشيء، وإنما أيسر حقهما علي ألا يريا مني إلا وجها مشرقا، وثغرا باسما، ونفسا راضية، وقلبا مطمئنا يملؤه الحب والوفاء، ويفيض منه العطف والحنان.
وإني لقادرة على ذلك، وإني لراغبة فيه حريصة عليه، لولا هذا الخاطر الثقيل الملح الغامض الذي أثاره في نفسي أمر الخطبة وحديث الزواج .
أعني - أيها الدفتر العزيز - على أن أكون جلدة حازمة ضابطة لأمري، مالكة لنفسي مسيطرة على عواطفي وخواطري، محتملة لهذا الهيام الغريب الذي أحبه وأبغضه، والذي أقدم عليه وأحجم عنه.
أعني - أيها الدفتر العزيز - فإني في حاجة إلى معونتك لأقف من نفسي ومن أبوي هذا الموقف الغريب، الذي لا أكاد أتصوره حتى أرتاع له، وأضحك منه؛ فهو مروع حقا ومضحك حقا. أتريد أن أفضي إليك بخبيئة نفسي ودخيلة ضميري؟ إذن فأصغ إلي، واستمع لي، ولا تضحك مني، إني عاشقة قد تيمها العشق، ولكني عاشقة لشخص مجهول لا أعرف من أمره شيئا. هو هذا الذي يفكر أبواي في أن يكون لي زوجا.
8
إنك تسرفين في السهر يا ابنتي، وأخشى أن يؤثر ذلك في صحتك، بل أكاد ألمح آثاره، فإني أرى لونك حائلا ووجهك شاحبا، وأحس منك فتورا لم أتعوده ولا أحب أن أحسه.
قالت لي أمي ذلك بعد أن منحتني قبلة الصباح، ثم وضعت يديها على كتفي، وحدقت في وجهي فأطالت التحديق، ثم ضمتني إليها ووضعت على خدي قبلتين، لم تكد تفرغ منهما حتى انحدرت من عينيها دموع غزار، وحتى خنقت العبرة صوتها فولت منصرفة ومضت إلى غرفتها لا تلوي على شيء.
وكان هذا كله مفاجئا لم أكن أتوقعه، وكان هذا كله سريعا لم يتح لي أن أفكر فيه. دفعتها إليه الغريزة، ودفعها إليه ما يملأ حياتها من حزن وإشفاق. ولم أكن أقل منها تأثرا بالغريزة، فمضيت في أثرها مسرعة حتى انتهيت إلى غرفتها، فإذا هي جاثية أمام الصليب صامتة مغرقة في الصمت، لا ينطلق لسانها بالصلاة ولا يندفع صوتها بالبكاء، والدموع تنحدر من عينيها صامتة أيضا، وقد أظلها الحزن الهادئ الوديع بجناحيه، فظهرت عليها سكينة مؤثرة تملأ القلب حزنا وأسى، وتشيع فيه رهبة وجلالا.
وقد قمت منها غير بعيد، ولبثت أرمقها بنظرات ما أرى إلا أنها كانت تحمل بعض ما كان يفيض به قلبي من حب وحنان، وكأنها أحست وقع هذه النظرات على شخصها، فتحولت عن الصليب في أناة وهدوء، ثم نهضت متثاقلة وهي تهدي إلي ابتسامة حلوة يبلها الدمع، ثم سعت إلي حتى بلغت مكاني، فضمتني إليها مرة أخرى وقبلتني متمالكة متماسكة، ثم أخذت بيدي ومضت تسعى حتى انتهت إلى كرسي طويل فجلست وأجلستني إلى جانبها، وطوقت عنقي بذراعها، وجعلت تنظر إلي فتطيل النظر ولا تقول شيئا.
وما أشك في أن نظرها هذا الصامت الطويل إنما كان صراعا بين حبها لي وحزنها هذا المتصل. وكانت تريد أن ترد الحزن إلى مقره من أعماق نفسها، وأن تقيم في المكان الظاهر من قلبها حبها لي وبرها بي وعطفها علي. وقد أتيح لها ذلك بعد لحظة، فجعلت تلاطفني بيدها تمسح بها خدي مرة وتجري أصابعها في شعري مرة أخرى، وجعل نظرها إلي يتصل كما كان ولكنه يهدأ ويرق ويلين حتى صار حنانا وعطفا، ولم يتح للسانها مع ذلك أن ينطلق بشيء، ولم يتح لشفتيها مع ذلك أن تنفرجا عن شيء.
والغريب أن لساني أنا أيضا قد ظل معقودا، وأن شفتي أنا أيضا قد ظلتا مقفلتين، وقد كنت مع ذلك أدرت في نفسي كلاما أريد أن أقوله لها، وقدرت في خاطري ألفاظا حلوة أريد أن أرسلها إلى نفسها الثائرة وقلبها المكتئب، ولكني أنسيت كل شيء ولم أجد في نفسي شيئا، ولم أستطع أن أدير لساني بحرف. وإذا أنا ألاطفها كما تلاطفني وأداعب خدها وشعرها كما تداعب خدي وشعري وأقبلها بين حين وحين.
وما أدرى أطال مجلسنا هذا أم قصر، ولكني أعلم أني كنت أسرع منها إلى النشاط، فقد نهضت خفيفة رشيقة فاستقبلتها ثم انحنيت عليها فأخذت كتفيها فهززتهما هزا عنيفا رفيقا معا، وأنا أقول لها في صوت حزين يتكلف الفرح وبوجه عابس يتصنع الابتسام: «هلم هلم يا أماه ما هذه القصة الصامتة التي أخذنا في تمثيلها منذ اليوم؟ أي شيء طرأ؟ وأي حادث عرض؟ ألم أنهك عن هذا البكاء؟ ألم أحرم عليك هذا الإغراق في الحزن؟ ما أجمل هذه التحية التي استقبلتني بها! أهكذا تلقى الأمهات بناتهن حين يشرق لهن وجه النهار؟ هلم هلم يا أماه إنك خليقة أن أغضب عليك وأن أعاقبك عقابا شديدا فأعبس لك النهار كله وأعرض عن حديثك إلى الغد. هلم هلم ما كنت أدري أن السن تتقدم بك فتردك إلى سيرة الصبية والأطفال.»
أقول لها ذلك متكلفة أول الأمر، ولكن التكلف يزول شيئا فشيئا، وإذا أنا أراني جادة، ويخيل إلي أني قد صرت لها أما وأنها قد صارت لي بنتا ناشئة، وأني أؤدبها وأهذبها وآخذها في سيرتها بالرشد والصواب، وإذا أنا أنهضها فلا تمتنع علي، وإنما تستجيب لي فتنهض غير متثاقلة، وإذا أنا أطوق خصرها بذراعي وأسعى معها رفيقة فتسعى مطيعة مذعنة وعلى وجهها إشراق كئيب، وعلى ثغرها ابتسام حزين، حتى إذا خرجنا من غرفتها وأغلقت الباب من دوننا، قلت لها في لهجة العاتبة: لقد أخرت ساعة إفطاري، ألا تستحين؟ إنك قد أفطرت من غير شك، فلا عليك ألا يفطر الناس، ومع ذلك فإني لن أفطر الآن عقابا لك!
فتلتفت إلي وتهم أن تتكلم، تريد من غير شك أن تحرضني على الإفطار، ولكني أريحها من الكلام قائلة: لقد صرفت نفسي عن الرغبة في الطعام والشراب، ولا بد لي من لحظات قصار أتنسم فيها الهواء وأطوف في أثنائها بالحديقة، وأحس في أثنائها ما يملأ الحديقة من زهر وشجر، وأتلقى تحية الزهر والشجر أيضا، وستشهدين هذا كله وسترافقينني في هذه الرياضة، فلعلها ترد إليك بعض الحكمة، ولعلك تثوبين معها إلى الرشد، ولعلها تهيئك لإفطار جديد، فلن أفطر وحدي هذا اليوم، ولا بد من أن تحتملي هذه الخطيئة التي لا أغتفرها.
أقول لها هذا كله في صوت يضطرب بين الشدة والهدوء، وبين التكلف والجد، وهي تسمع لي مذعنة أول الأمر، ثم مقبلة علي مبتسمة لي، وما هي إلا لحظات حتى نكون في الحديقة مطوفتين؛ أنا أقف بها من حين إلى حين عند هذه الجماعة أو تلك من النجوم والأزهار، متحدثة إليها ألوانا من الحديث عن هذه النجوم والأزهار، داعية البستاني بين وقت ووقت، أستفسر منه مرة، وألومه طورا، وأنهاه طورا، وما أزال على ذلك حتى أرد إلى قلبها بعض الأمن، وإلى نفسها بعض الهدوء، وإذا هي تشاركني في بعض الحديث وتوافقني في هذه الملاحظة وتخالفني في تلك، حتى إذا بلغت من ذلك كله مأربي رجعت بها إلى غرفة المائدة، فاضطرت متكلفة، وأكرهتها على أن تشرب قدحا من القهوة. ثم أمضيت معها الضحى كله أجاذبها أطراف الحديث في شئون مختلفة متباينة، لا تتصل بي ولا بأخي، ولا بالفقيدين الشهيدين، وإنما تتصل بأهون الأشياء وأيسرها وأجدرها أن ينفق فيه الوقت، ويستعان به على احتمال الحزن والألم.
وكذلك أنفقنا صباح اليوم حليفتين على دفع هذا الضيف البغيض الذي أراد أن يغزو دارنا وأن يفسد أمرنا وأن يردنا إلى شر ما كنا. ولم أفارق أمي إلا حين تقدم المساء، وبعد أن فرغنا من غدائنا ومن هذا الحديث الذي تعودنا أن نأخذ فيه بعد الغداء. ولم أتركها وحيدة، وإنما أوصيت بها إلى أبي، ونبهته في رفق إلى أنها لم تكن حكيمة ولا رشيدة صباح اليوم. ومن يدري لعله هو أيضا لم يكن حكيما ولا رشيدا، ولعله لم يكن أقل منها حزنا، ولكن الرجال يحسنون الصبر ويتقنون التجلد، ويبلغون من كظم الحزن وإخفاء العواطف ما لا يبلغ النساء.
وخلوت إلى نفسي بعد ذلك، فجعلت أستعرض ما كان من الأمر وألتمس له - كما تعودت - العلل والأسباب، ولكني لم أستطع أن أرد هذه الأزمة الطارئة المفاجئة إلى سبب معقول أستريح إليه. وكيف عرفت أمي أني أسرف في السهر؟ إنها إذن تلاحظني أكثر مما كنت أظن. لقد كنت أحسب أني كنت آمنة على خلوتي إذا افترقنا حين يتقدم الليل، وأن كلا منا يأوي إلى غرفته فيفرغ لنفسه من كل إنسان، ومن كل شيء، وتؤجل الصلات بينه وبين الناس والأشياء إلى غد، ويستمتع بحريته الكاملة ساعة قبل أن يغلبه النوم. كنت أظن ذلك، ولكني كنت واهمة، فهذه أمي تلحظني بعد أن نفترق، وتعرف أني أسرف في السهر، وتلومني في ذلك لوما رفيقا.
وليس من شك في أنها تلاحظني منذ أيام، فهي لم تقل لي لقد أسرفت في السهر أمس أو أول من أمس، وإنما قالت لي إنك تسرفين في السهر. إنها لا تتعمد هذه الملاحظة، فليس هذا من خلقها، ولكن المسكينة مؤرقة دائما تسرف في السهر عن اضطرار، لا عن عمد. وما أكثر ما يضطرها الأرق إلى النهوض من سريرها والاضطراب في غرفتها والوقوف إلى النافذة تستنشق الهواء وتنظر إلى السماء!
ولعلها تلتمس نفس هذا أو ذاك من فقيديها الشهيدين، متحيرة بين هذه الأشعة الضئيلة التي ترسلها النجوم إلى الأرض. وأكبر الظن أنها لاحظت الضوء ينبعث من نافذتي، فصبرت على ذلك مرة ومرة، فلما تكررت الملاحظة وطال الأمر لم تطق على ذلك صبرا، فدفعها الإشفاق إلى هذا التنبيه. والغريب أن لنافذتي أبوابا، وأن من دونها أستارا، وأن هذه الأستار إن أسدلت وتلك الأبواب إن أغلقت، خليقة أن تحجب الضوء وتمنعه من النفوذ.
ولكني لا أحسن إليك الخلوة أيها الدفتر العزيز، ولا أحتاط حين أناجيك وأفضي إليك بأسرار الضمير، على أني لم أفهم كيف انتهى إشفاق أمي علي من الإسراف في السهر بنفسها إلى هذه الأزمة الحادة، فقد كان من أيسر الأشياء أن تدعوني إلى ما تحب، وتنهاني عما تكره، دون أن يضطرب قلبها هذا الاضطراب العنيف.
أترى حزنها يعظم لها الهين من الأمر ويكبر لها الصغير من الشأن ويخيفها من أقل الأشياء دعاء للخوف؟ أترى فقدها لابنيها يملأ قلبها حرصا على استبقاء ابنيها الآخرين، فهي تشفق عليهما من أيسر الأمر وأهونه؟ أم ترى أن في الأمر شيئا آخر وأنها لم تكد تتحدث إلي وتضمني إليها، حتى ثارت في نفسها عواطف وعرضت لها شئون وتصورت المستقبل القريب أو البعيد، وأشفقت من فراق قريب أو بعيد، فثارت العاصفة وكانت الأزمة؟
وإذن فما زلنا في هذا السر الغامض والحديث الملتوي والتفكير الخفي في الخطبة والزواج.
ولم تطل خلوتي إلى نفسي، ولم يطل تفكيري في هذا الأمر؛ فهذا أخي قد أقبل على غير عادة فجعل يخلط الهزل بالجد، ثم أظهر الرغبة في أن يخرج معي للتروض ، وقد أنكرت عليه ذلك فلم يحفل بالإنكار، وامتنعت عليه فلم يأبه للامتناع، وظفر في آخر الأمر بما أراد فأخرجني من الغرفة ثم من الدار وجعل يهيم بي في الغابات هابطا ومصعدا ومحدثا أفانين من اللعب والمرح والجنون، ولم يردني إلى الدار إلا حين آن وقت العشاء.
لقد سلاني حزن أمي عن نفسي صباح اليوم، وسلاني مرح أخي عن نفسي مساء اليوم، وكنت أظن أني سأستقبل هذه الليلة بما كان من حديث الصباح والمساء، ولكن أبي أراد أن يشغلني بشيء غير هذا الحديث.
لقد أقبل علي قبل أن نفرغ من العشاء، وقال في صوت هادئ رزين حزين: إن أمك تشفق من إسرافك في القراءة، فماذا تقرئين إذن؟ قال أخي: إن أمنا لتشفق من أيسر الأشياء، وما أرى إلا أن مادلين غارقة في قصصها السخيف تنصرف إليه عن عمل النهار وراحة الليل، فلا تلمها ولم هؤلاء الكتاب الذين يفسدون على الناس حياتهم بما ينشرون من هذا القصص الذي لا رأس له ولا ذيل.
ولولا أني ملكت نفسي لوثبت إلى أخي فقبلته، فقد فتح لي باب المعاذير على غير علم منه ولا إرادة، وأتاح لي أن أجيب بأن ما يقوله حق. فأنا عاكفة هذه الأيام على قراءة الكاتب الإنجليزي ويلز. قال أخي: وليتك تحسنين القراءة، إنما تتبعين القصة وتعرضين عما فيها من وصف وفن. قلت: ما أنت وذاك، إنك لا تعرف كيف أقرأ، وأنا على كل حال خير منك فأنت لا تقرأ شيئا.
وكنت أريد أن يشتد الخصام بين أخي وبيني، فأصرف أبي عن هذا الحديث الذي أخذ فيه، ولكنه قال في صوته الحزين الرزين: ستختصمان حين تخلوان إلى أنفسكما، فأما الآن فإني أحب لك يا ابنتي أن تقرئي في النهار وتستريحي في الليل، وإذا لم تحرصي على الراحة لنفسك فاحرصي عليها لتطمئن أمك وتستريح. وهممت أن أجيب، ولكن أبي مضى في الحديث قائلا: «ليس من الخير أن تغرقي في القراءة على هذا النحو، وما أشفق على الشباب من شيء كما أشفق عليه من هذا العكوف المتصل على الكتب؛ فإن العقل ليس كل شيء، وقد يكون للجسم بعض الحق في أن يعيش. وأكبر الظن يا ابنتي أنك ضيقة بالحياة في هذه القرية ذات الآفاق المحدودة وفي أسرتنا هذه التي فقدت ما كانت تألف من فرح وبهجة، وسنك في حاجة إلى الفرح والابتهاج.»
وأهم أن أجيب ولكنه يمضي في الحديث قائلا: «ولعل من الخير أن تغيري من حياتك بعض الشيء وأن تتركي هذه البيئة الشاحبة الحزينة، وقتا ما، وتعيشي في بيئة أخرى فيها ترفيه على النفس، وتسلية عن الهم وتحقيق لما ينبغي من نشاط. فكري في ذلك، وسنفكر، ولكن عديني منذ الليلة بأنك ستقتصدين في القراءة وستريحين أمك من هذا الخوف الجديد.» قلت وقد اضطربت نفسي أشد الاضطراب وظهرت آيات الارتباك في وجهي وصوتي: «لك ما تشاء يا أبي، ائذن لي، ولتأذن لي أمي، في أن أمضي الليلة في القراءة لأتم قصة بدأتها أمس، وما أراني أستطيع أن أصبر عنها إلى غد.» قالت أمي: «الليلة فحسب.» قلت: نعم. قال أخي: «الأمر أيسر من هذا، إن عادت إلى السهر قطعنا عنها ضوء الكهرباء.» وتضاحكنا في حزن!
ثم افترقنا حين تقدم الليل وخلوت إليك أيها الدفتر العزيز، فلم أتم قصة بدأتها وإنما حدثتك بما كان من أمري. وهأنا هذه حائرة، لا أدري كيف تكون خلوتي إليك منذ الغد، وحائرة أيضا لا أدري كيف خطر لأبي أن ينفيني عن هذه البيئة الحزينة الشاحبة إلى بيئة أخرى لها حظ من فرح وابتهاج. وحائرة أيضا لا أدري أأستجيب إلى ما أراد عليه من الرحيل، أم أظهر الخلاف والامتناع؟ ولكن الشيء الذي لا أتردد فيه هو أني سأخلو إليك! وسأبثك حديثي في النهار أو في الليل، وفي المقام أو في الرحيل.
9
نظرت إلى شخصه فامتلأ به قلبي، وسمعت صوته ففتنت به نفسي، وراقصته ساعة فصرفت إليه عن كل شيء.
نعم عن كل شيء حتى عنك أنت أيها الدفتر العزيز، فقد مضت أيام طوال لم أبثك فيها سري ولم أفض إليك فيها بحديث نفسي، وكنت قد عاهدتك على أن أجدد الخلوة إليك في الليل أو في النهار، وفي المقام أو في الرحيل، ولكني لم أفعل كما ترى. وما أدري أأنكرت غيبتي عنك وضقت بإبطائي عن لقائك، ولكن الذي أعلمه أني صرفت عنك كارهة في اليوم الذي تلا آخر ما أفضيت به إليك من حديث.
شغلت بأمر هذه الرحلة التي أصبحت، فرأيتها قد دبرت لي تدبيرا، وفرضت علي فرضا، ولم يبق لي إلا أن أهيئ لها نفسي وآخذ في أسبابها، ولم يمد لي الوقت للتهيؤ والأخذ في الأسباب. وإنما دعيت إلى ذلك أول النهار، وانحدرت بي السيارة إلى المدينة في آخره، وقضيت ما بين ذلك في إعداد ما لم يكن من إعداده بد لغيبة قد تتصل أسابيع.
وانتهيت إلى المدينة حين تقدم الليل شيئا، فكان لقاء عمتي وأبنائها، وكان العشاء، وكان السمر المتصل والأحاديث المختلفة. ثم آويت إلى غرفتي متعبة متهالكة مؤثرة أن أسلم نفسي إلى النوم على أن أخلو إليك لأبثك السر وآمنك على نجوى الضمير.
ثم أفيق من غد فإذا أبناء عمتي قد أقبلوا علي وكأنما كلفوا أنفسهم أو كلفهم غيرهم أن يحولوا بيني وبين الفراغ لنفسي والخلوة إليها، فهم لا يفارقونني وجه النهار وهم لا يكفون عن التحدث إلي بألوان الحديث، وإظهاري على ما تعود أمثالهم أن يظهروا عليه مثلي من شئون دارهم ومن شئونهم الخاصة، حتى إذا كان الغداء، وخيل إلي أني سأخلو بعده إلى نفسي لأستريح. ولأتحدث إليك شيئا حيل بيني وبين هذا أيضا، فقد هيأ هؤلاء الشياطين رياضة تستغرق ما بقي من النهار؛ رياضة في البحيرة نطوف أثناءها بهذه الشواطئ الجميلة الهادئة المطمئنة التي تبعث في النفوس هدوءا واطمئنانا، الباسمة الحزينة التي تبعث في النفس حزنا وابتساما، والتي تدفع إلى كثير من التفكير الغريب المؤثر الذي لا يستبد به العقل، وإنما يشترك فيه العقل والحس والشعور. والذي ينتهي بصاحبه إلى أن يمتزج بهذه البيئة الحلوة الهادئة، ويكاد يفنى فيها ويحيي في نفسه رغبات هادئة، ولكنها ملحة غامضة، ولكنها مع ذلك تكاد تنم عن نفسها لثنايا القلب وأعماق الضمير.
رياضة في هذه البحيرة، وتطويف بهذه الشواطئ، وإلمام ببعضها ثم تصعيد هادئ في هذه الربى التي ترتفع في رفق وكأنها مبسوطة ليس لها حظ من الارتفاع، ثم انحدار مرة إلى هذه الغابة عن يمين، وانحراف مرة أخرى إلى هذه الغابة عن شمال، واضطجاع هنا على هذا العشب الكثيف، وتنافس هناك في اقتطاف هذه الأزهار الصغار الدقاق وإلى اجتناء هذه الأثمار الوحشية الحلوة التي تمتلئ بها الغابات.
ثم نداء فجائي إلى الإسراع بالعودة، فقد أقبل الليل ولا بد من أن نتهيأ للعشاء؛ فإنا لن نجلس إلى المائدة وحدنا، ولكن أسرة فلان مدعوة إلى العشاء هذا المساء، وما كنت أعرف من أمر هذه الدعوة شيئا، وما كنت أفكر إلا في أننا سنقبل على طعامنا كما فعلنا أمس وسنسمر طرفا من الليل نتجاذب فيه الحديث، وقد نختلف فيه إلى البيانو، وقد نستمع فيه لبعض الغناء تدعى إليه هذه أو تلك من بنات عمتي، فتقبل عليه كارهة أو متكلفة للكراهة، وكنت أفكر فيما بيني وبين نفسي أن القوم سيدعونني إلى العزف وسيلحون علي في الغناء، وكنت أكره ذلك وأضيق به، ولكنني كنت أذعن له كما أذعن للقضاء المحتوم. فهذه قوانين الأسرة لا سبيل إلى الخلاف عنها أو الامتناع عليها.
وكنت أدير في نفسي لحنين أو ثلاثة من ألحان شوبان لأوقعها على البيانو، وأغنيتين أو ثلاثا من أغاني فوريه لأغنيها إن دعيت إلى ذلك.
وكنت أستذكر هذا كله في أثناء الرياضة والحديث، وكنت حريصة أشد الحرص على ألا يظهر مني ضعف أو يبدو مني تقصير؛ فقد لا ينبغي أن يتحدث عني بنات عمتي بأني قد نسيت العزف أو قصرت في الغناء. وإن أمي لحريصة أشد الحرص على أن أكون سباقة في هذين اللونين من ألوان الفن، وعلى أن يسجل السبق لي حين أكون في هذا الفرع من فروع أسرتنا خاصة.
كنت أفكر في هذا كله، ولكن الأمور جرت على غير ما كنت أقدر ، فقد علمت أن القوم يولمون وأنهم قد دعوا إلى وليمتهم منذ أيام وأنهم تعجلوا هبوطي إليهم من قريتي تلك المرتفعة الشاهقة لأشهد وليمتهم هذه. ثم علمت فاشتد ضيقي بما علمت، أن الأمر لن يقتصر على العشاء والسمر، ولكنه يتجاوز ذلك إلى الرقص، وإلى الرقص الذي لا يشترك فيه المدعوون إلى العشاء وحدهم، وإنما سيشترك فيه معهم قوم آخرون دعوا إلى السهرة.
وكان هذا كله قد دبر فأحكم تدبيره، وقد أخفي علي وكتم عني ولم يرفع لي عنه الحجاب إلا قبل العشاء بساعة وبعض ساعة، ولو قد علمت ذلك لما استجبت إلى الدعوة، ولما انحدرت من القرية، ولامتنعت على أبوي حين ألحا علي في الرحلة؛ فقد انقطع عهدي منذ الحرب وما تركت فينا من الأحزان، بهذه الحياة الفرحة المرحة، وبهذا اللون من ألوان العبث البريء. وما كنت أشك في أني سأعود إلى ذلك يوما ما، فلا بد للأحياء من أن يحتملوا الحياة ويتلقوا ما فيها من الخير والشر، ولكني كنت أقدر أني سأعود إلى هذا كله شيئا فشيئا وقليلا قليلا لا على هذا النحو المفاجئ الذي يأخذني كأنه السيل الذي لا سبيل إلى التحول عنه أو التخلص منه.
ومهما يكن من شيء فقد وجدتني مكرهة على ما لا أحب، وما أشد ما ضحك مني أبناء عمتي حين رأوا ما ظهر على وجهي من ضيق وسخط ومن اضطراب وارتباك! وما أشد ما سخروا مني في أثناء العودة! حتى إذا انتهينا إلى الدار تفرقوا عني ومضوا يصلحون من شئونهم ويتهيئون لاستقبالهم.
وخلوت أنا إلى نفسي في غرفتي لأصلح من شأني، وأتهيأ للاستقبال، ولكني رأيتني أغرق في بكاء عميق صامت لم أحاول تفسيره ولم أحاول الخروج منه، وإنما وجدت فيه راحة ووجدت فيه لذة وأحسست فيه وفاء، وكنت خليقة أن أمضي فيه لولا أن يطرق باب الغرفة طرقا خفيفا، ثم يفتح الباب قبل أن آذن بالدخول، ثم تظهر عمتي هادئة رزينة، وقد أغلقت الباب من دونها وسعت إلي مطمئنة وهي تقول في صوت خافت كأنما تتحدث إلى نفسها: «لم أخطئ التقدير إذن!» ثم تدنو مني فتنحني إلي فتقبلني، ثم تنهضني فتضمني إليها ضما رفيقا ملؤه الحنان والحب، وقد أخذت دموعها هي أيضا تنحدر. وقد رجعت تقول لي في صوت تخنقه العبرة: «لا بأس عليك يا ابنتي! لقد كنت أقدر أني سأراك في هذه الحال، ولقد كنت أشفق أن تمضي في حزنك هذا حتى يصرفك عن ما لا بد لك منه.
هلم يا ابنتي إن الحياة لا بد من أن تحتمل، وإن فيها الحزن وإن فيها الفرح، إن فيها الوفاء للموتى وإن فيها الوفاء للأحياء. لم يكن بد يا ابنتي من أن نخرجك من هذا الحزن المتصل الذي ألح عليك أعواما إلى ما ينبغي لشبابك من الحياة الباسمة المبتهجة. إن اتصال الحزن قد يليق بالشيوخ الذين قضوا الآراب من حياتهم، وقد ينبغي أن نهون عليهم الآلام ونعينهم على احتمال الخطوب، حتى يخرجوا من هذه الحياة وقد ذاقوا من آلامها أقل ما يمكن أن يذاق، ولكنا لا نطمع لهم في السلو المطلق والعزاء الخالص، فليس لهم إلى ذلك سبيل.
فأما أنت وأترابك من الشباب، فإن لكم على الحياة حقا يجب أن يؤدى إليكم في هذا الطور من أطوار شبابكم، وللحياة عليكم حقوقا ستؤدونها حين تتقدم بكم السن. انظري إلى أبويك، لقد نعما بالشباب وذاقا لذاته كلها، واستمتعا بما فيه من فنون الترف وألوان الغبطة، وإني لأشاركهما يا ابنتي في الحزن وأشفق عليهما منه، وأود لو استطعت أن أحط عنهما بعض أثقاله، ولكنني لم أطق ولن أطيق أن يتسلط الحزن على الشباب وتثقل عليهم وطأته؛ فإن الشباب لم يخلقوا للحزن، ومن الظلم أن يتعجلوا نصيبهم من مرارة الحياة.
هلم يا ابنتي خذي بحظك من النشاط لهذه الليلة التي لم تهيأ إلا لك، والتي يجب أن تظهري فيها جميلة رائعة كأجمل ما كنت، وكأروع ما يمكن أن تكوني. يجب أن تكوني زينة المائدة، وزينة المرقص، ويجب أن يكون لك السبق والتفوق. هلم أصلحي من شأنك، وسأرسل الخادم لتعينك على ما تحتاجين إلى المعونة فيه، وسأعود لأراك قبل أن تهبطي إلى غرفة المائدة، ويجب أن أرضى عن زينتك وإلا فستستأنفين من أمرك كل شيء.»
ثم تقبلني وتنصرف، ثم تعود بعد ساعة فتنظر إلي مقبلة مدبرة مستعرضة، وترضى عن كل شيء إلا عن وجهي هذا الذي ينقصه الابتسام والإشراق. ولكنها مطمئنة إلى أن أبناء عمتي سيفيضون عليه من ذلك ما ينقصه، ثم يكون العشاء والسمر والرقص، وقد كان بين المدعوين والسامرين والراقصين فتى نظرت إلى شخصه فامتلأ به قلبي، وسمعت صوته ففتنت به نفسي، وراقصته ساعة فصرفت إليه عن كل شيء.
يا للعجب أكنت مهيأة لهذا الفتى؟ أكان هذا الفتى مهيأ لي؟ أكانت خطبتي إلى هذا الفتى موضوع الحديث الغامض بين أبوي وأخي؟ ما أدري، ولكن الفتى تردد على دار عمتي أياما، ثم تسألني عمتي ذات صباح: ما رأيك في مكسيم جيرو؟ فلا أدري كيف أجيب، وإنما أحس كأنما دمي كله قد صعد إلى وجهي، وأرى ابتسامة حلوة على ثغر عمتي وأسمعها وهي تسعى إلي لتقبلني: إنه قد صعد مع أبويه إلى القرية ليزور أبويك.
10
ما أشد حيائي منك ومن نفسي، أيها الدفتر العزيز! لست أدري أين وجدت القوة التي مددت بها إليك يدي لأستخرجك من مستقرك، الذي وجدت فيه وحيدا مهملا منسيا أكثر من ثلاثة أعوام. ولست أدري كيف فكرت فيك، وأقبلت عليك بعد اطراحي لك وإعراضي عنك. ولست أدري كيف أجد القدرة على التحدث إليك الآن بعد أن وجدت القدرة على أن أطوي عنك الأحاديث طول هذه الأوقات المتصلة، التي لا أقدر طولها ولا اتصالها إلا الآن.
ما أشد حيائي منك ومن نفسي، فإن إقبالي عليك الآن وإفضائي إليك ببعض الحديث، لا يدلان إلا على أني امرأة كسائر النساء فيها ضعفهن وقصورهن وغرورهن، وإلا على أني كائن من هذه الكائنات التي تزعم أنها مميزة بالثقافة والحضارة وما خصت به الحضارة من ترقية العقل وتصفية الطبع وتنقية الضمير، ورفع النفوس عن الصغائر والدنيات، وما هي في حقيقة الأمر إلا كائنات وضيعة قد اتخذت من الثقافة والحضارة طلاء يخدعها من عيوبها الراسخة التي لا تكاد تفرق بينها وبين غيرها من أنواع الكائنات التي لا حظ لها من ثقافة أو حضارة أو تهذيب.
ما أشد حيائي منك ومن نفسي، وما أشد اختلاط الأمر علي! إني لا أريد أن أستأنف الصلة بينك وبيني بعد أن انقطعت فطال انقطاعها، فلا أجد السبيل إلى ذلك ميسرة ولا ممهدة، فأتردد وأضطرب وأقدم بين يدي ويديك مقدمات ومعاذير لا تغني عن الحق شيئا، ولا تزيد على أن تصور خجلي واستخذائي من هذه الحقيقة البشعة التي أواجهها، فتنقبض لها نفسي أشد الانقباض، ويشمئز منها قلبي أعظم الاشمئزاز، وأنظر مع ذلك كارهة فأطيل النظر وأفكر فيها مع ذلك راغمة فأطيل التفكير، كأني أجد فيما أحس من الألم لذة، وفيما أشعر به من العذاب غبطة وسرورا، وهي أني خائنة غادرة أثرة عاجزة، نسيتك حين كنت سعيدة، وذكرتك حين أخذت تتراءى لي أشباح الشقاء.
ليتك أنسيت كل ما أفضيت به إليك من الأحاديث، فإني قد أنسيتها أو كدت أنساها، ولكنك قوي الذاكرة، لا تنسى شيئا، شديد الأمانة لا تضيع شيئا. ولقد نظرت فيك فرأيت صورة نفسي المضطربة التي ائتمنتك عليها منذ أعوام، والتي لجأت بها إليك ألتمس لها عندك العزاء والمعونة والتسلية. ورأيت ما قدمت إليك من العهود المؤكدة على أن أكون وفية لك مقيمة على الوفاء لما أهديت إليك من مودة، ولما بادلتك من ثقة، وإذا أنا أستخذي، وإذا أنا أضيق بنفسي حتى أزدريها أشد الازدراء.
لقد وفيت لي فأعرضت عنك أكثر من ثلاثة أعوام، لا لشيء إلا لأني كنت مشغولة عنك بهذه السعادة التي غمرتني فصرفتني عن الحياة والأحياء، وأنستني الناس والأشياء، ووقفت قلبي وعقلي وحسي وشعوري وعواطفي وأهوائي على نفسي، وعلى هذا الفتى الذي اختطفني من الحياة ذات مساء، وارتفع بي إلى جو بعيد في السماء، فعاش معي فيه تلك العيشة الراضية التي كانت خليقة أن تطهر نفسي من كل رجس وتبرئها من كل عيب، وتنقيها من كل وضر، وتسبغ عليها من الفضائل ومكارم الأخلاق ما ينزهها عن الشر والنقص تنزيها. ولكنها لم تزد على أن نمت فيها هذه الغرائز البغيضة، غرائز الأثرة والخيانة والغدر والجحود. أليس صحيحا إذن ما كان يقال من أن السعادة تطهر النفوس، ومن أن الحب يذكي القلوب؟ لقد كنت سعيدة، فلم تثر في السعادة إلا الرغبة في الاستزادة منها، ولقد كنت محبة فلم يثر في الحب إلا الرغبة في الاستئثار بمن كنت أهوى.
هون عليك أيها الدفتر العزيز، إني لم أهملك وحدك ولم أختصك بالإعراض والنسيان، ولكني أهملت معك قوما ما كنت أقدر في يوم من الأيام أني سأهملهم أو أقصر في ذاتهم أو أسوءهم بالجحود والعقوق. لقد احتفظت بمظاهر الحب والود بيني وبين أسرتي، فزرتها واستزرتها وأقمت معها الأيام والليالي، واضطربت معها في الحياة وخضت معها في ألوان الحديث. ولكن الله وحده يعلم كم آلم الآن حين أذكر ما أثرت في قلب أمي من ألم، وما بعثت في نفسها من حزن، وما أفضت على قلب أبي من هذا الشعور الواضح الكئيب، بأن الأثرة قوام الحياة، وبأن الأبناء يحيون لأنفسهم قبل أن يحيوا لآبائهم، وبأن السعادة تغري بالقسوة وتدفع إلى الأثرة وتصرف القلوب في أكثر الأحيان عن البر والرحمة والحنان.
لم أسئ إلى أسرتي باللفظ، ولم أسئ إليها بالعمل، وما أراها تعتد علي بظاهر من التقصير أو الإهمال، ولكني مع ذلك أسأت إليها فأسرفت وآلمتها فغلوت! انصرفت عنها إلى نفسي، وشغلت عنها بحياتي، وأظهرت لها ذلك مئات من المرات في نبرات الصوت، وفي حركات الجسم، وفي لحظات الطرف، وفي الإبطاء حين كان يحسن الإسراع، وفي الإسراع حين كان يحسن الإبطاء، وفي الفتور حين كان يجب النشاط، وفي النشاط حين كانت تستحب الأناة.
في هذه الأشياء اليسيرة التي تحس وتلحظ ولكنها لا تكاد تثبت للتصوير والتعبير. هي أيسر من ذلك وأدق، هي تنفذ من أعماق النفوس إلى أعماق النفوس، لا تكاد تمر على الألسنة ولا تكاد تستقر في العقول، ولا في مظاهر الحس والشعور، وهي من أجل ذلك مؤذية مهلكة شديدة الخطر على الحب والود، وعلى ما بين الناس من صلات. هي أشبه شيء بهذه الجراثيم التي كانت تفتك بحياة الناس، وتذيع فيهم ألوان الوباء والموت دون أن يحس لها الناس وجودا، أو يستطيعوا منها احتياطا. ولكن العلم قد كشف هذه الجراثيم وأخذ يعلم الناس كيف يعرفونها، وكيف يدرسونها وكيف يتقونها. فمتى يستكشف العلم هذه الجراثيم المعنوية التي تفسد الود، وتفتك بالحب، وتقطع أمتن ما يكون بين الناس من صلات؟
لا يشتد وجدك علي ولومك لي، أيها الصديق العزيز؛ فإني لم أختصك بالخيانة، ولم أوثرك بالغدر، وإنما أشركت معك في الخيانة والغدر قوما آخرين لهم علي أكثر مما لك علي من الحق، وهم بعد ذلك يشعرون أكثر مما تشعر، ويألمون أكثر مما تألم، ويشقون بعقوق الأبناء أكثر مما تشقى بتقصير الصديق.
لقد أحببت أبوي حبا ما كنت أعرف له حدا ولا أمدا، ثم لم يمنعني ذلك من أن أقصر في ذاتهما، ومن أن أوذيهما بالإهمال والإعراض حين أتيحت لي السعادة واستأثر بي الحب. ولقد عاهدتك على الود الدائم والوفاء المقيم، ثم لم يمنعني ذلك من أن أعرض عنك وأنساك حين أتيحت لي السعادة واستأثر بي الحب. أمن الحق إذن أن الحب يقاس بالحاجة، وأني إنما أحببت أبوي لأني كنت محتاجة إليهما، متصلة بهما مدينة لهما بكل شيء، فلما جاءتني السعادة من مصدر غير مصدرهما، ولما أحسست الحاجة إلى شخص غيرهما تحول عنهما حبي وقصر في ذاتهما قلبي؟
أفكنت محبة لك لأني كنت محتاجة إليك أبثك همي وأتخفف إليك مما كان يثقلني من الآلام والأحزان؟ فلما صرفت عني الهموم ورفعت عني الآلام والأحزان لم أحتج إليك، فلم أحفل بك ولم أفكر فيك، وتركتك في مكانك هذا الذي استقررت فيه أكثر من ثلاثة أعوام، يوشك أن يكون هذا حقا، وهو مؤلم وهو مخجل، ولكن، ما لي لا أتشجع وما لي لا أواجه الحق وما لي لا أسجل على نفسي هذا الاعتراف بالخزي؟
ما الذي حملني على أن أفكر فيك وأخرجك من عزلتك الطويلة وأشق عليك بهذا الحديث الطويل الثقيل؟ وما الذي حملني على أن أكتب إلى أبوي منذ ساعة كتابا طويلا يفيض رقة وحبا وحنانا، ويطلب إليهما إما أن يزوراني وإما أن يأذنا بزيارتي لهما؟ ما هذا الحنان المفاجئ الذي يدفع بي إلى أحضان أبوي؟ وما هذا الوفاء المفاجئ الذي يدفع بي إلى استئناف ما بينك وبيني من صلات الود؟ هو الأثرة، والأثرة وحدها.
هو الأثرة التي تظهر في مظهر الضعف والعجز والحاجة إلى التسلية والعزاء. لقد صرفتني عنك وعن أبوي الأثرة التي كانت تظهرها السعادة قوية طاغية باغية عنيفة، ولقد ردتني إليك وإلى أبوي الأثرة التي تظهرني ضعيفة عاجزة يائسة أشد اليأس شقية أشد الشقاء.
لقد جرى القلم إذن بما لم أكن أحب أن يجري به، ولقد سجلت على نفسي إذن ما كنت أكره أن أسجله، وما منعت نفسي من تسجيله منذ أسابيع، لقد اعترفت بأني ضعيفة، وبأني عاجزة، وبأني بائسة شقية.
ولقد آثرتك أنت بهذا الاعتراف، ولم أوثر أبوي منه بشيء؛ لأنك أقدر على احتمال الشكوى، ولأنك أحفظ للسر وأملك للعزاء، ولم أحتج إليك في يوم من الأيام كما أحتاج إليك الآن أيها الصديق، إليك وحدك أستطيع أن أشكو، وعليك وحدك أستطيع أن أعول، سأصدقك لأنك تحتمل الصدق، وسأكذب على أبوي لأن الصدق يقتلهما لو سمعاه.
أترى إليهما وقد ضحيا في تربيتي وتنشئتي بما ضحيا، واحتملا في سبيل سعادتي ما احتملا، وسعدا حين ظنا أنهما قد أتاحا لي هذه السعادة، وتعزيا بذلك عن كثير من آلامهما، بل تعزيا بذلك عن هذه الآلام التي صبها عليهما ما كان من التفريق بيننا؟!
أترى إليهما وهما يألمان لهذا الفراق ويشقيان بعزلتهما ويستلذان الألم ويستعذبان الشقاء لأنهما يظنانني سعيدة؟
أترى إليهما لو عرفا أني شقية بائسة، وأني قد استنفدت حظي من السعادة في عام وبعض عام، ثم أخذت هذه السعادة تكدر شيئا فشيئا ويمازجها البؤس قليلا قليلا، ثم أخذت تضؤل وتهون وتمحى، حتى صارت حياتي كلها ألما وشقاء؟! أترى إليهما لو عرفا هذا كله؟ أيثبتان له؟ أيتعزيان عنه؟ أيصبران عليه؟ كلاهما أضعف من ذلك. لقد قسوت عليهما حين كنت سعيدة، فلأرقن لهما ولأرفقن بهما حين استقبلت الشقاء.
أما أنت أيها الصديق العزيز فقد خلقت لغير هذا، خلقت لتحتمل قسوتي عليك بالشكاة والأنين، حين أشقى وأبتئس. وقد أخذت بحظك من قسوتي عليك أثناء السعادة والنعيم، فأما حظك من قسوتي عليك بالشكاة والأنين فسيتصل ما اتصلت بك وبي الحياة.
11
الآن نستطيع أن نتحدث في يسر وإسماح، أيها الصديق العزيز، فقد عدنا إلى البيئة الهادئة الحلوة التي نشأت فيها مودتنا هادئة منذ أعوام، حين تحدثت إليك لأول مرة بما كان يساور نفسي من اضطراب غامض عميق، فوجدت في الحديث إليك لذة وراحة وأمنا ودعة.
عدنا إلى هذه الغرفى التي عرفت صباي، وعرفت شبابي، والتي رأتني أنشأ وأتغير وأستقبل الحياة وما فيها من لذة وألم، والتي رأيتها أنا ثابتة باقية، وإن تغير ما يختلف عليها من الصور، وما ينتظم فيها من الأداة والأثاث. عدنا إلى هذه الغرفة الصديقة التي نشأت بينها وبيني مودة قديمة، لا أكاد أذكر متى ابتدأت ولا أكاد أعرف متى تنتهي، ولا أشك في أني قد نسيت أشياء كثيرة، أثناء الغيبة، ولكني لم أنسها ولم أنس مكاني أو أمكنتي منها، وإنما كنت أرى نفسي فيها مضطربة وساكنة، عاملة ومطمئنة إلى الكسل، مفكرة ومسترسلة في الأحلام، مستيقظة ونائمة، آوية إليها بما كان يملأ نفسي من الابتهاج حينا والابتئاس حينا آخر، مرسلة نفسي على سجيتها حين كانت تبتهج وتبتئس فمستمتعة بأقصى حظي من حريتي في الفرح والحزن وفي الأمل والقنوط.
عدنا إلى هذه الغرفة التي تعارفنا فيها، ولو أنك تمثلت لي الآن شخصا لضممتك إلي ولمنحتك قبلة تصور فرحي بلقائك في هذا المكان الأمين الوفي، أشبه بهذه القبل التي أمنحها لأعضاء الأسرة حين ألقاهم في هذه الدار، بعد أن تطول الغيبة ويبعد الأمد ويشتد الشوق.
لست أدري، أتفهم عني؟ بل لست أدري أيفهم الناس عني إن تحدثت إليهم بأني أجد القبلة التي أتلقاها من أمي وأبي، وأضع في القبلة التي أمنحها لأمي وأبي في هذه الدار حرارة لا أجدها، ولا أضعها فيما أتلقى منهما وما أمنحهما من القبل في مكان آخر؟ إن نفوسنا لغريبة الأطوار، وإنها لشديدة التأثر بما يكتنفها من الظروف، وما يحيط بها من الزمان والمكان.
لقد حاولت منذ أيام أن أتحدث إليك بدخيلة نفسي، وأن أفضي إليك بهذه الآلام التي أخذت أحسها منذ حين، وبهذا الشقاء الذي أخذ يسعى إلي شيئا فشيئا، فلم أجد من نفسي نشاطا لذلك، ولا قدرة عليه، وإنما جعلت أدور حوله ولا أتعمقه، كأن شيئا كان يصدني عنه صدا ويصرفني عنه صرفا.
وكأن هذا الشيء لم يكن إلا تلك البيئة التي كنا فيها، فإنها لم تكن بيئة شكاة وتبسط في الإفضاء بالسر والتخفف من الحياء. كنت أنظر إلى غرفتي تلك فأشعر أني طارئة عليها لا ناشئة فيها، فأستحي منها وأستحي مما فيها من الأدوات والأثاث أن تظهر على مكنون سري أو دخيلة أمري؛ لأني كنت أراها غريبة لم تظفر مني بعد بهذه الثقة التي تبيح إذاعة السر والإفضاء بدخائل النفوس. ومع ذلك فقد ظهرت تلك الغرفة على كثير من أسرار نفسي ودخائل أمري، حين كنت أسعد بالحب، وأنعم بتلك الحياة الرائعة في غير تحفظ ولا تحرج ولا احتياط. لقد ائتمنتها على حبي وسعادتي وأظهرتها على فرحي ومرحي واغتباطي بالحياة.
ولكني لا أخفي عليك. كنت أحس شيئا من الحياء دائما، مهما خرجت بي السعادة عن طور الوقار والأناة، ولا أخفي عليك أني لم أنس بعد ما أحسست من الألم اللاذع حين تمنيت شيئا فلم أظفر به ولم أقدر عليه، فقد كنت أحب أن أعرف زوجي وأواجه حبي في هذه الغرفة التي عرفت صباي وشبابي، والتي ألفتني وألفتها، لا في تلك الغرفة الغريبة من ذلك الفندق الغريب في مدينة البندقية، ولا في تلك الغرفة الغريبة من تلك الدار الغريبة التي أقمت فيها مع زوجي في المدينة، ولكن ذلك لم يتح لي؛ لأن تقاليد الناس وأوضاعهم تريد أن يتعارف الزوجان في الغربة، وأن تبتدئ سعادة الحياة الزوجية في أماكن ليست بينها وبينهما صلات أو عهود.
ولست أخفي عليك أيضا أني لم أستطع أن أبثك حزني وألمي في تلك الغرفة من دار زوجي؛ لأنها قد عرفتني سعيدة مغتبطة فلم تعرف من نفسي إلا هذه الناحية، ووجدت المشقة كل المشقة والجهد كل الجهد في أن أظهرها من نفسي على الناحية الحزينة المبتئسة. بخلت بها على ذلك، وبخلت بذلك عليها، آثرتها بمظاهر السعادة والغبطة، وآثرت نفسي بحقائق الحزن والشقاء.
ما أشد ما أخدع نفسي وأعبث بها! وهل حياتنا إلا خداع وعبث؟ لقد رأتني تلك الغرفة سعيدة ناعمة البال، ولكنها رأتني مؤرقة مفرقة النفس، رأتني كئيبا ورأت دموعي تنهل وسمعتني أمانع صوتي أن يجهش بالبكاء، ورأتني أكظم الغيظ وأحبس الغضب في نفسي أن ينفجر، وأرد نفسي بالعنف عن الثورة العنيفة، وأكرهها على الصبر والاحتمال، وأكلف ثغري الابتسام ووجهي الإشراق، وإن قلبي ليدمى وإن في نفسي لكلوما لا تؤسى.
وأرفع رأسي عزيزا أبيا، وإن في نفسي لذلة وانكسارا. وأنا مع ذلك أزعم أني قد أخفيت على تلك الغرفة أسرار حزني وشقائي، لا لشيء إلا لأني لم أتحدث بهذه الأسرار جهرة، ولم أصورها في الألفاظ والجمل، كأن تلك الغرفة في حاجة إلى الألفاظ والجمل لتعرف هذا الشقاء الذي نشأ فيها منذ حين يسيرا ضئيلا، ثم أخذ ينمو ويشع حتى كاد يستأثر بها استئثارا.
إن نفسي لغريبة الأطوار، وإني لأجد بينها وبين نفوس الأطفال شبها قويا، فأنا كالأطفال أفيض الحياة على الأشياء الجامدة من حولي، وأشيع فيها العقل والحس والشعور ويخيل إلي أنها تراني، وتلحظني وتسمع مني وتفهم عني. ثم أتحدث إليها وأنتظر منها رجع الحديث كما يتحدث الأطفال إلى لعبهم، وكما ينتظرون منها رجع الحديث.
وماذا أصنع الآن؟ إنما أفيض عليك، أيها الدفتر العزيز، حياة وأشيع فيك حسا وعقلا وشعورا، وأشكو إليك وأنتظر منك العزاء. لا أتكلف ذلك تكلف الأديب، ولكني أجد في ذلك جد الطفل؛ ذلك لأني ضعيفة عاجزة وحيدة، لا أستطيع أن أتحدث إلى الناس بما أتحدث به إليك؛ لأن الذين أنتظر منهم المعونة والعزاء لا يحتملون هذا الحديث، ولا يقدرون لي على شيء، بل لا يقدرون لأنفسهم على شيء، ولأني فقدت الثقة بغيرهم من الناس، وكيف أستطيع أن أثق بالغريب وقد وجدت الخيانة من الغريب؟ وكيف أستطيع أن أشكو إلى هذا الصديق أو ذاك وأنتظر منه تعزية أو تسلية أو نصحا أو إخلاصا، وقد التمست النصح والإخلاص عند أحب الناس إلي وأكرمهم علي، وعند أشد الناس لي حبا وأعظمهم لي إيثارا فلم أجد منه إلا خيانة وغدرا؟
لك الله، أيها الزوج العزيز التعس، لو تعلم إلى أي حد انتهى بك الإثم، وإلى أي طور أخرجك النزق، لو تعلم أنك قتلت نفسا وسحقت قلبا ومزقت ضميرا، لو ينفذ هذا الشعور إلى نفسك، لو يستقر هذا الخاطر في عقلك؛ إذن لكنت أشقى الناس، وأضيقهم بالحياة وأزهدهم فيما تضطرب فيه من لذة، وما تتهالك عليه من نعيم. لقد وثقت بك ثقة الطفل بأمه، ولقد أمنت إليك كما يأمن الطفل إلى أمه، فأضعت تلك الثقة وأزلت هذا الأمن، ووطئت بقدميك نفسا أنت تحبها وتؤثرها، وعرضت للشقاء والبؤس شخصا هو أكرم عليك من نفسك وسعادته آثر عندك من سعادتك.
ولكنك غافل لا تدري. لقد هممت منذ أيام أن أرد عنك هذه الغفلة، وأذود عنك هذا الجهل، وأزيل عن بصيرتك الغطاء، وأظهرك على هذا القلب الذي تدميه، وعلى هذا الضمير الذي تؤذيه، وعلى هذه النفس التي تمزقها تمزيقا. ولكني لم أجرؤ لأني أحبك وأعلم أنك تحبني وأخشى أن تكون المصارحة بما بينك وبيني من هذا السوء خطرا على هذا الحب الذي أريد أن أحوطه وأصونه وأحميه من الموت. لقد هممت بهذه المصارحة في تلك الليلة التي جعلت تناقش فيها صديقك فيليب فيما ينبغي من احترام الأوضاع الاجتماعية، لقد كنت لبقا قوي الحجة في ذلك الجدال، ولكن صديقك قد أفحمك واضطرك إلى الصمت، واضطرني أنا إلى أن أترك غرفة الاستقبال حينا لأكظم حزنا كاد ينفجر وأكفكف دموعا كادت تنهل، وأستعير من الصبر والجلد وقوة الإرادة وجها مشرقا يمكن إظهاره لأضيافنا.
كنت تقول لصديقك إن الخير في ألا يستطيع أحد أن يباديك من أمرك بما يخجلك، فأجابك: خير من ذلك ألا تبادي أنت نفسك بما يخجلها. فصدمتك هذه الجملة، واضطرب لها لسانك، واحمر لها وجهك شيئا، واضطررت أنا إلى أن أتحول عنكما حتى لا يظهر من أمري مثل ما ظهر من أمرك.
أنت إذن عاجز عن أن تبلغ بنفسك هذا الطور، وأنت إذن تعرف من أمر نفسك ما لا تستطيع أن تباديها به لأنه يخجلها. فلو عرفت أن غيرك يستطيع أن يباديها بهذا المخجل، ولو عرفت أني أستطيع أن أقص عليك قصتك كلها مع صديقتنا لورنس. فماذا أنت صانع؟
12
ربما كان ابننا هذا العزيز البريء مصدر هذه الآلام التي تملأ قلبي، وهذا الشقاء الذي يغمر نفسي، وهذا اليأس الذي أحاول أن أخفيه فلا أكاد أظفر من ذلك بما أريد إلا مع الجهد العنيف الذي احتملته إلى الآن، والذي لا أدري أأستطيع أن أمضي في احتماله والصبر عليه. وكم يؤذيني ويضنيني ويمزق نفسي البائسة أن أقرن ابني هذا العزيز البريء إلى ما أحس من ألم، وما أجد من شقاء، وما أتعرض له من يأس، على حين أنه قرة عيني ونعمة بالي ومصدر سعادتي، والقيمة لحياتي منذ عرفت نفسي إلى أن عرفته، والغاية الصحيحة لحياتي منذ عرفته إلى الوقت الذي لا أقدر له فيه على شيء.
ولكن الشجاعة إنما هي مواجهة الحق كما هو، والاعتراف بالواقع كما وقع، وأمور الحياة كلها متناقضة على هذا النحو؛ فيها الخير والشر، وفيها النعيم والبؤس، وعنها تصدر السعادة ويصدر الشقاء. فلو أني خيرت بين ابني هذا العزيز البريء وبين أي لون من ألوان السعادة، لما ترددت في الاختيار؛ فهو حياتي بل هو آثر إلي من حياتي، ولكنه مع هذا كله كان مصدر ما أحس من ألم وما أجد من شقاء.
كنت قبل مقدمه فارغة لزوجي مشغولة به مصروفة إليه موقوفة الجهد على حبه وإمتاعه بهذا الحب. وكان هو قبل مقدم هذا الصبي يحبني كما تعود الأزواج العشاق أن يحبوا نساءهم، يمنحني خلاصة نفسه وصفوة ضميره، ولكنه لا يمنحني نفسه كلها ولا ضميره كله كما كنت أمنحه نفسي كلها وضميري كله. كان يصرف عني بين حين وحين إلى أعمال الحياة وأعراضها، وإلى أسباب العيش وشواغله.
ومن الحق أنه كان يضطرب في هذا كله مفكرا في، محبا لي، مؤثرا لي بخير ما يستطيع أن يؤثرني به من الحب والإخلاص، ولكنه كان على كل حال يضطرب في الحياة ويعنى بأعراضها وأسبابها، ويصرف عني بعض الشيء في أثناء ذلك. ولم أكن أنا أفكر إلا فيه، ولم أكن أعيش إلا له، بل لم أكن أعيش إلا به، فكان حبي يحوطه وكان حبي يغمره، وكان حبي يأخذ عليه كل سبيل، وكان حبي يشتد حتى يثقل عليه أحيانا، وكنت أحس هذا وآلم له وألوم نفسي عليه وأرفه على صديقي فأعفيه من بعض ما كان يدفعني إليه الحب الجامح من الكلف والهيام ومن البر والحنان.
ولكن ابننا، هذا العزيز البريء، أقبل ذات يوم فسعدنا بمقدمه وما زلنا سعيدين، ونعمنا بتنشئته وما زلنا ناعمين، ونشأت بيننا صلة جديدة هو قوامها، وشغلت أنا بهذا الصبي شيئا وأصبحت لي في الحياة غاية جديدة لم تكن لي من قبل. والله يشهد ما أضعفت هذه الغاية من حبي، ولا خفقت من وجدي، ولا صرفت قلبي عن زوجي قليلا ولا كثيرا، فإن لقلوب النساء سعة لا تعرفها قلوب الرجال؛ فهي تستطيع أن تحب الولد إلى أقصى غاية الحب، وأن تحب الزوج إلى أقصى غاية الحب؛ وهي تستطيع أن تجمع بين هذين النوعين من الحب، وأن تلائم بينهما وأن تخلص فيهما دون تهاون أو تقصير.
هي أوسع من الزمان، وهي أوسع من المكان، وهي أوسع من هذه الجهود المادية التي يبذلها الناس في الزمان والمكان، هي تسع حب الزوج وحب الولد، ولكن الزمان لا يستطيع أن يسعهما في حيز واحد، أو نحن لا نستطيع أن نؤدي حقوق الزوج ، ولا حقوق الولد معا، في لحظة واحدة وفي حيز واحد وفي جهد واحد.
فنحن إذا فرغنا للصبي وعنينا به صرفنا عن الزوج، ونحن إذا فرغنا للزوج وعنينا به صرفنا عن الولد. والرجال أثرون لا يحتملون التقصير، ولا يصبرون على التفريط، وهم بعد هذا قلقون لا يرضون عن شيء، ولا يطمئنون إلى شيء، وهم بعد هذا وذاك جشعون ليس لهم حظ من قناعة، فمهما نعطهم فنحن دون ما يطلبون.
وكذلك أخذت من الوقت الذي كنت أفرغ فيه لزوجي ما منحته للصبي، ولم يضق زوجي بذلك في ظاهر الأمر ولا خفيه، وإنما رآه حقا وملائما لطبيعة الأشياء، وملائما كذلك لما كان يملأ قلبه من حب الصبي، ولكنه على كل حال قد وجد من الوقت فراغا لم أكن أشغله، ووجد حرية لم يكن يجدها، واستطاع أن يخلو إلى نفسه وأن يتصرف في وقته، وأن يشغل بغيري حين كنت أنا أشغل بالصبي، وكذلك هيئت له أسباب لم تكن مهيأة له من قبل، وكذلك أحس فراغا فأراد أن يملأه، وكذلك انتهت به الحياة شيئا فشيئا إلى ما لم يكن يريد، وإلى ما لم أكن أقدر أنه سينتهي إليه.
وكانت لورانس إلفا لنا قد رفع بينها وبيننا الحجاب، وزالت بينها وبيننا الكلفة، تزورنا في كل وقت ونزورها في كل لحظة، ونلتقي على العلات لا نضرب للقاء موعدا ولا نهيئ له أسبابا. كانت فارغة مثرية، وكانت جميلة رائعة الجمال. ردت الحرب إليها زوجها مريضا قد أثقلته العلة، وقامت على تمريضه والعناية به جادة في ذلك كل الجد، مخلصة له كل الإخلاص.
ولكن العلة كانت أقوى من جدها، وأنفذ من إخلاصها؛ فقضى ذلك الشاب المسكين شهيدا من شهداء الحرب، وما أكثر هؤلاء الشهداء الذين عادوا إلى أوطانهم يحملون الموت في ناحية من حياتهم، يجاهدونه ويجاهدهم! فقليل منهم يطول به الجهاد فيحيا حياة قد استأثر الموت بأعظمها، وكثير منهم يصرعون فيفارقون هذه الدنيا وفي نفوسهم من الآلام والحسرات ما لا سبيل إلى وصفه؛ آلام الأمل الذي ينقطع وقد كان خليقا أن يتصل، وآلام الرجاء الذي ينبت وقد كان حريا أن يدوم، وحسرات الشهيد الذي كان خليقا أن يتجرع لذة الشهادة وشرفها في ميدان القتال، فإذا هو يموت في فراشه، حزينا كئيبا بعد أن صارع الموت ألف مرة ومرة.
وقد احتملت لورنس خطبها جلدة، وصبرت عليه عزيزة النفس عميقة الحزن، وصرفت عن الحياة ولذاتها أعواما، ولكن في شيء مؤثر حقا من الاحتفاظ بالكرامة، والاعتداد بالنفس، وادخار الحزن لخلوتها حين لا ترى أحدا، ولا يراها أحد. وكنا نجد ذلك منها، فنعجب به ونعجب له، ونرفق بها أشد الرفق، ونكبرها أعظم الإكبار، ونصرف ما نبذل من جهد لنصرفها عن هذه الخلوة التي كان الحزن ينتظرها فيها، ومن هنا كثر اتصالنا بها واشتد اتصالها بنا. فقلما كان يمضي يوم لا أراها فيه مصبحة وممسية، وقلما كنا نخرج لرياضة لا تشاركنا فيها. كانت ثالثتنا إن خرجنا منفردين، وكانت واحدة منا إن خرجنا في جمع من الأصحاب والأصدقاء.
وما خطر لي قط وما خطر لها وما خطر لمكسيم أن هذا الصفو الجميل يمكن أن تشوبه شائبة، أو تعدو عليه عادية، ويكدره خاطر سوء. ومع ذلك فقد كان جمالها خليقا أن يفتن ويروع. ولكنها كانت واثقة بنفسها، مشغولة بحزنها لا تتعزى عنه إلا في ظاهر الأمر، وكان مكسيم واثقا بنفسه مشغولا بحبه وأعماله منصرفا إليهما عن كل شيء وعن كل إنسان. وكنت أنا مطمئنة إلى الصداقة والحب، حتى تكشفت لي الأيام عما تكشفت عنه، وإذا الحياة كلها غرور، وإذا الضعف الإنساني أقوى من كل عاطفة، إن صح أن يوصف الضعف بالقوة، فهو الذي يسيطر على حياتنا ويدبر أمورنا ويسخرنا لغرائزنا ويصرفنا كما تريد لا كما نريد.
ولا بد من أن أصدقك الحديث، أيها الصديق العزيز، ومن أن أصور لك الأمر كما كان، ومن أن أشهد بين يديك بأن صديقتنا لورنس قد وفت لنفسها، ووفت لزوجها الشهيد، ووفت لحزنها المتصل ولصديقها الوفية. فلم تشارك في إثم ولم تغر به، ولم تدع إليه، وإنما اضطرت إلى المقاومة، وإلى المقاومة الطويلة المتصلة، وكانت البائسة تجاهد الحزن والثكل، فاضطرت إلى أن تجاهد هذا الحب الذي طرأ عليها فأفسد أمرها ونغص حياتها تنغيصا. لا ألوم أحدا ولا أتجنى على أحد؛ فإن أمور الحب لا تخضع للإرادة ولا يستطيع العقل أن ينظمها ويدبرها، وإنما هي خطوب تطرأ فيستجيب لها من يستجيب، ويعنو لها من يعنو، ويمتنع عليها من يمتنع. ويختلف ذلك باختلاف طبائع الناس وحظوظهم من القوة والضعف، ومن الشدة على نفوسهم واللين لها.
وما أرتاب في أن مكسيم قد كان طاهر القلب صافي النفس فيما كان بينه وبين صديقتنا من صلة أول الأمر، ولكن إعجابنا وعطفنا عليها قد أخذا - فيما أظن - يتحولان قليلا قليلا في نفسه إلى شيء من الحنان، كان يجد راحة إليه وكان يمعن فيه شيئا فشيئا. وقد كان ارتفاع الحجاب وزوال الكلفة وما كنا فيه من حياة بسيطة يسيرة طلقة، خليقا أن يضاعف هذا الحنان، وأن ينحرف به شيئا عن طريقه الأولى إلى طريق أخرى.
وما أرتاب في أن مكسيم قد أنكر ذلك حين أحسه وقد جد في مقاومته، ولكن غرائز نفسه كانت أقوى من عقله، وظروف الحياة كانت أدعى له إلى الضعف وأحرى أن تورطه فيه. فهأنا هذه أصرف عن زوجي بعض الشيء بالحمل وأعراضه، ثم بمقدم الصبي وتنشيئه، والزيارات بيننا وبين لورنس متصلة تسعى إلينا إذا لم نسع إليها. وما أكثر ما حال ثقل الحمل وعنايتي بالصبي بيني وبين الخروج للرياضة! وما أكثر ما كنت ألح على زوجي وصديقي في أن يخرجا منفردين، ومع الأصحاب والأصدقاء! وما أكثر ما كانت تزورنا لورنس، فأصرف عنها إلى بعض شأني، أو يضطرني المرض إلى الانفراد في غرفتي، ويتاح لها من لقاء مكسيم والحديث إليه منفردا ما لم يكن يتاح لها من قبل!
وما خطر لي قط أن ذلك قد يتعرض لريبة، أو يدعو إلى شبهة، أو يثير بين الصديقين عاطفة سوء، وما لاحظت قط في حياة مكسيم أو حياة لورنس شيئا جديدا يدعو إلى التفكير، أو يثير في نفسي من سوء الظن قليلا أو كثيرا. ولكني صدمت بذلك فجأة وعلى غير تقدير. وما أدري كيف احتملت الصدمة؟ وما أدري كيف ثبت لها؟ وما أدري كيف أخفيت آثارها في نفسي على الناس جميعا وعلى مكسيم قبل الناس جميعا؟
لا تسخر مني، أيها الدفتر العزيز، حين أثني على نفسي، وحين أحمد هذه الشجاعة النادرة التي تلقيت بها هذا الخطب العظيم؛ فقد تلقيت النبأ فانحطم له قلبي، واندكت له آمالي كلها، ومع ذلك لم أظهر من هذا شيئا. تلقيت النبأ وكان ابني هذا العزيز البريء، هو الذي حمله إلي في بعض عبثه. ولست أدري كيف انسل إلى مكتب أبيه، ولست أدري كيف خلص إلى بعض ما كان فيه من أوراق، ولست أدري كيف استخلص منها هذا الكتاب الذي حمله إلي فرحا مبتهجا، وظافرا منتصرا، كأنه الجندي يحمل بعض الأسلاب إلى قائده مبتهجا فخورا.
13
تلقيت الكتاب من يد بيير مبتسمة مشفقة، مبتسمة لعبث الصبي ومرحه ودعابته، ومشفقة أن يكون لهذه الصحف التي يحملها إلي بعض الخطر، وأن يكون قد أفسد النظام في مكتب أبيه، وهو حريص أشد الحرص على أن يكون النظام في مكتبه دقيقا، وعلى أن تترك الأشياء فيه كما وضعها هو، لا يحول منها شيء عن موضعه، يغلو في هذا الحرص حتى يوشك أن يكون علة من علل نفسه، وحتى يؤذيه أن يدخل أحد مكتبه في غيبته أو يمس منه شيئا.
ولقد هممت غير مرة أن أرتب له مكتبه على نحو كنت أراه ملائما جميلا، فردني عن ذلك ردا لم يخل من عنف، ولعله ترك في نفسي آثارا لم أكن أحبها حتى انتهى الأمر بيننا إلى اتفاق صامت على أن كل ما في البيت طوع يدي ورهن أمري أناله بما شئت من تغيير وتبديل إلا هذه الغرفة، فإنها حرام ما ينبغي لي أن أمسها، أو أن أغير من نظامها شيئا، فلما وقعت في يدي هذه الصحف تلقيتها مشفقة مذعورة، ثم نظرت فيها فرأيت، ويا هول ما رأيت! وكنت خليقة أن أفقد الصواب، وأن أخرج عن طور الرشد، وكنت خليقة أن أجد الدوار وأن أسفح الدمع، وكنت خليقة أن أتعرض لأزمة من هذه الأزمات العنيفة الحادة التي تتعرض لها المرأة حين تهان في حبها، وحين تخيب آمالها وحين تظهر لها الخيانة ماثلة، وقد كانت ترى نفسها بمأمن من الشك والريب.
ولكني رأيت بعض جمل الكتاب فقرأته مستقصية، ونهضت بعد قراءته هادئة النفس مستقرة القلب، فسعيت إلى مكتب زوجي ورأيت درجا من أدراجه قد فتح شيئا، فعرفت أن يد الصبي قد امتدت إليه فأخرجت ما كان فيه من أوراق، ونثرتها في أرض الغرفة نثرا، ثم صنعت بغيره هذا الصنع، ثم ألقيت الكتاب الذي حمله الصبي إلي بين هذه الأوراق المنثورة، ثم خرجت فأغلقت الغرفة وأخذت مفتاحها ثم آويت إلى غرفتي وأغلقت بابها من دوني، ثم انتظرت الأزمة ولكنها لم تأت، ثم دعوت الأزمة ولكنها لم تستجب، وإنما انحدرت من عيني دموع يسيرة جدا، لم ألبث أن جففتها، وظللت في غرفتي هادئة واجمة بعض الشيء محزونة أشد الحزن وأمضه، عاجزة كل العجز عن أن أجد من هياج الأعصاب أو انهمال الدمع ما يخفف وطأة هذا الحزن على هذا القلب الكسير.
فلما استيأست من ذلك نهضت متثاقلة، وخرجت من الغرفة فلقيت الصبي في بعض عبثه، فأخذت بيده وهبطت به إلى الحديقة، وجعلت ألاعبه وأداعبه. وأقبل مكسيم بعد ساعة، فتلقيته ساخطة صاخبة ألومه أعنف اللوم؛ لأنه يحرص على النظام في مكتبه، ثم لا يحتاط لهذا النظام فيترك بابه مفتوحا، ويعرض مكتبه بذلك لعبث الخادم، ولعبث هذا الصبي العفريت خاصة.
ثم أزعم له أن الصبي قد انسل إلى مكتبه، فأحدث فيه فسادا عظيما وأنه سيجد مشقة في رده إلى ما يحب ويألف من النظام، وهو خليق بهذه المشقة، فلعلها تعلمه أن يأخذ مفتاح مكتبه معه منذ اليوم. ثم أدفع إليه مفتاحه فيتلقاه هادئا مبتسما، ويرفع الصبي بين ذراعيه مبتهجا، فيقبله ويهنئه، أو يهنئ نفسه بهذا الطور الجديد من حياة ابنه الذي أصبح قادرا على أن ينسل إلى الغرف، ويفسد ما فيها من نظام. ثم يصعد متثاقلا إلى مكتبه فيلقي عليه نظرة ثم يعود مغرقا في ضحك متصل، وهو يقول إن إصلاح هذا الفساد أطول من أن آخذ فيه قبل الغداء.
ثم تمضي أمور الدار على ما تعودت أن تمضي عليه كأن لم يحدث شيء. ولكن في الدار قلبا محطما قد ذاق خيبة الأمل وعرف مرارة اليأس، ولن يبرأ من هذه العلة التي مزقته تمزيقا.
14
ولكني لم أحدثك بشيء من هذا الكتاب، أيها الدفتر العزيز. وما أشد أسفي لأني لم أحفظه عن ظهر قلب، أو لم أتخذ منه نسخة أعاود النظر فيها بين حين وحين. فهو خليق أن يحفظ وأن يسجل؛ لأنه يصور الضعف والقوة معا، كأقصى ما يكون الضعف وكأقصى ما تكون القوة، ولأنه يصور الوفاء للصديق والاستسلام للحب، والصراع العنيف بين هذا الاستسلام وذلك الوفاء، والانتهاء إلى اليأس من المقاومة والفرار آخر الأمر إلى حيث يمكن الانفراد مع الحزن اللاذع والألم الممض، وإلى حيث يمكن الانتظار لروح الله الذي قد يريح من آلام الحياة بما يفيض من السلوى والعزاء، وقد يريح من الحياة نفسها إذا لم تكن سبيل إلى السلوى والعزاء.
كل هذا كان مصورا في ذلك الكتاب تصويرا يسيرا ساذجا، لا تصنع فيه ولا تكلف، حتى لقد كان يخيل إلي أن هذه الصديق المسكينة إنما أفاضت فيه نفسها البائسة، وأودعته قلبها الكئيب. وكانت لورنس قد ودعتنا منذ أيام، وزعمت لنا أنها مسافرة إلى باريس لتنفق فيها أسابيع، ثم عائدة إلينا بعد ذلك وقد جددت العهد بالعاصمة وما فيها ومن فيها، مما تحب من المعالم، ومن تألف من الأصدقاء. وكنت قد أنكرت هذا السفر وضقت به، ورأيت أنها تقدم عليه في غير إبانة، ولكني رأيت منها إلحاحا فيه وتصميما عليه، ولم أجد إلى صرفها عنه سبيلا فودعتها كارهة واستكتبتها وجعلت أنتظر كتبها دون أن أتلقى منها شيئا حتى قرأت هذا الكتاب، فعرفت منه أنها لم ترحل إلى باريس، وإنما خدعتنا عن نفسها، وعبرت البحر إلى حيث لا ندري من الشرق الأدنى، أو من الشرق البعيد، وأنها لن تعود إلا حين تستيقن بقدرتها على العودة، وعلى أن تعيش معنا كما كانت تعيش منذ حين، نقية القلب والنفس والضمير، قادرة على الوفاء لصديقها بما ينبغي من الود الخالص الذي لا إثم فيه ولا ريب.
وجدت في هذا الكتاب قصة نفسين قد لقيتا من قوة الإرادة وضعف الغريزة أشد العذاب. وكانت نفس لورنس أقواهما وأمضاهما وأشدهما احتمالا وأقدرهما على المقاومة. فهي قد أحست عطف مكسيم عليها ورعايته لها، ثم أحست تحول هذا العطف والرعاية إلى شيء من الحب والحنان، ثم أحست قوة هذا الحب وشدة هذا الحنان فتلقت هذا كله لقاء حسنا نقيا.
ولكن حب مكسيم ألح عليها وجعل يتتبعها ويقفو آثارها، ثم جعل يمسها مسا رفيقا، ثم جعل يحيط بها ويغمرها، وهي تقاومه وتدافعه وتحاول النجاة منه كما يحاول الغريق أن ينجو من الماء الذي يطغى عليه، وقد نجحت مقاومتها مرة ومرة، وأفلتت من شباك الحب تلك التي كان ينصبها لها مكسيم، وكانت تنصبها هي لنفسها، ولكن مكسيم غلا في الإلحاح، وأسرف في التتبع، وظهر من أمرها على ما كانت تخفي، واستيقن أنها تلقى حبه بحب مثله، وأن نقاء الضمير وحده هو الذي يحول بينها وبين الاستجابة له والانقياد لهواه، فاضطهدها مصبحا واضطهدها ممسيا، واضطهدها حين كانت تزورنا، وجعل يزورها حين كانت تقعد عن زيارتنا، وتنتحل لذلك ما كانت تنتحل من معاذير.
وكانت المسكينة ترى هذا الإلحاح العنيف، وتجد في نفسها إلحاحا مثله، وكانت ترى مكسيم يدفع إليها دفعا وترى نفسها تدفع إليه دفعا. ولكن صورتين اثنتين كانتا تنتظرانها دائما عند الهوة، فتردانها عنها وتعصمانها من السقوط.
فأما إحدى هاتين الصورتين فكانت مخيفة منذرة، تبعث الخوف وترسل النذير في صمت مزعج رهيب، وهي صورة زوجها الفقيد الشهيد الذي وفى لها في حياته، وشقي بالدفاع عنها أثناء الحرب ومات في سبيل هذا الدفاع. وأما الصورة الأخرى فكانت مشجعة في حزن، ومتوسلة في ابتسام وهي صورة صديقتها مدلين، تحمل بين يديها ابنها بيير، تبسم له وتبسم لها وتنظر إلى مكسيم نظرة فيها تساؤل واستغراب!
كانت المسكينة كلما بلغت الهوة وأوشكت أن تسقط بين ذراعي مكسيم، رأت هاتين الصورتين تكتنفانها فارتدت فزعة مذعورة، ثم كانت المسكينة تخلو إلى نفسها بعد ذلك فتلقى من الحب العنيف ومن الوفاء العنيف، تلقى من الغرائز الضعيفة والإرادة القوية عذابا ينغص عليها الحياة تنغيصا، حتى أنكرت نفسها وأشفقت أن يلم بها طارق من جنون.
هنالك لم تر المسكينة بدا من أن تفر منا جميعا إلى حيث لا ترى هذا الحب الآثم الذي لا تكاد تفلت منه، وإلى حيث لا ترى هذا الزوج الشهيد مخوفا منذرا، وإلى حيث لا ترى هذه الصديق الوفية باسمة منكرة متسائلة، وبين ذراعيها طفلها هذا الوادع البريء.
إن في الرحلة إلى الشرق، والنظر إلى ما فيه ومن فيه لعزاء عن مثل هذا الحزن الملح والألم المقيم والعذاب المتصل، إن كانت إلى العزاء عن ذلك سبيل. فإن لم أجد العزاء فسأجد من بعد الشقة بينك وبيني أيها الحبيب البغيض، ما يعصمك ويعصمني من هذا الخزي الذي إن كنت تطيقه الآن فستضيق به غدا، والذي لا أستطيع أن أرى نفسي متورطة فيه.
وداعا أيها الحبيب إلي وإن كنت أبغض حبك وأضيق به.
وداعا أيتها الصديق البائسة الأمينة. لن أراكما ولن أرى طفلكما حتى أستيقن بأني أصبحت لرؤيتكم أهلا.
وداعا، وإن كان في الحياة ما يعزيني ويسليني، فهو أني هممت بالإثم ولم أتورط فيه، وكدت أخونك يا مدلين ولكني آثرت اتصال العذاب والحرمان والغربة على أن أنظر إليك فأستحي منك، وعلى أن يكون في قلبي شيء لا تستطيعين أن تظهري عليه.
بذلك ختمت المسكينة كتابها وقد استقرت كلماتها هذه في نفسي كأنما نقشت في قلبي نقشا.
أين أنت الآن يا لورنس! كم أحب أن ألقاك وأن أضمك إلي، وأن نمزج دموعنا التي تصور ما يملأ نفسينا من اليأس والحب والوفاء معا؟
15
أقبل الصبي فرحا كالمرتاع، يكلف ساقيه الضعيفتين من العدو فوق ما تطيقان، ويدير في فمه الصغير لسانا لا يكاد ينطق بهذه الألفاظ: «أماه أماه انظري هذه السيارة.» ولم أستطع أن أقاومه ولا أن أمتنع عليه، حين أخذت يده الصغيرة بيدي الكبيرة تجرني إلى حيث أرى ما كان يريد أن يظهرني عليه.
ولو استطعت لأعرضت عنه وعن سيارته التي كان يريد أن يظهرني عليها، ولمضيت فيما كنت فيه من القراءة؛ لأني كنت مشغوفة بما كنت أقرأ، ولأن ألفاظه وقعت من نفسي موقع النذير. فقد عرفت السيارة حين ذكرها وعرفت من فيها، فلما رأيتها ورأيت من كان فيها لم أزدد علما، ولم أعرف جديدا.
وما من شك في أن قلبي قد خفق لألفاظ الصبي، ولكن الشيء الذي هو موضع الشك والريب والتردد الشديد هو تفسير هذه الخفقات التي اضطرب بها قلبي، أكانت خفقات بالرضا والغبطة أم كانت خفقات بالغضب والضيق؟ فقد كانت السيارة سيارتنا، وكان الذي يقودها مكسيم، وكان فراقنا قد طال أمده شيئا، وإن لم تنقطع بيننا الرسائل، ولم يعرف مني حين ودعته ولا حين كنت أكتب إليه أني كنت مغاضبة له أو واجدة عليه.
ولكني في حقيقة الأمر كنت غاضبة بل أكثر من غاضبة، وكنت واجدة بل أكثر من واجدة. كنت محطمة القلب خائبة الأمل، ملتاعة النفس محزونة الضمير. وكنت أدافع نفسي أشد الدفاع عن مصارحة زوجي بهذا كله أو بعضه أريد أن أثأر للكرامة التي أهينت، والحرمة التي انتهكت والحب الذي أضيع، وأخشى إن فعلت أن يكون الفساد الذي لا سبيل إلى إصلاحه والصدع الذي لا سبيل إلى رأبه.
ثم طال هذا التردد، وطال حتى تغلب العقل أو تغلبت العاطفة أو اتفق العقل والعاطفة، فأغمضت عيني على القذى، وطويت قلبي على ألمه واحتفظت لنفسي، ولك أيها الدفتر العزيز بهذا السر الأليم. فلم يعلم زوجي أني قد ظهرت على إمره، وأني قد تأثرت منه بقليل أو كثير، وفي سبيل الحب ما تكلفت في ذلك من عناء، وفي سبيل الحب أيضا ما أرقت في ذلك من ليل طويل، وأعنف نفسي أشد التعنيف وأصفها بالجبن مرة ، وبالضعة والذلة مرة أخرى.
في سبيل الحب هذا كله، فإن هذه المحنة القاسية لم تتكشف لي إلا عن شيء واحد، هو أني أحب مكسيم إلى أبعد ما يمكن أن ينتهي إليه الحب، وأحتمل في سبيله أقسى ما يمكن أن تحتمل المرأة من مشقة وجهد وتضحية. ظهرت على خيانته فلم أحس ثورة جامحة وإنما أحسست ألما لاذعا، وتبينت إثمه فلم تتحدث إلي نفسي بالقطيعة، وإنما تحدثت إلي بالفرار إلى حيث أستريح وأستجم، ثم أستأنف الجهاد لاكتساب هذا القلب الذي أخذ يفلت مني ويهيم بغيري.
وكنت أثناء هذه الأسابيع التي خلوت فيها إلى أبوي، وإليك أيها الدفتر العزيز، أغالب الشوق إلى مكسيم، فأغلبه حينا ويغلبني حينا، وأغالب الغضب على مكسيم فيقهرني حينا وأقهره حينا. ولولا أني وجدت منهما ومنك، ومن القراءة، ومن هذه الطبيعة المشرقة الباسمة المتألقة، ما كان يشغلني عن نفسي ويصرفني عما كان يتنازعني من العواطف والأهواء، لانتهى بي الأمر إلى ما لا أحب.
ولكني تمالكت حتى كان هذا اليوم الذي أقبل فيه الصبي ينبئني بمقدم السيارة، فأحسست هذا التردد بين الابتهاج والابتئاس، وبين الرضا والسخط، ثم نهضت مع الصبي فماشيته إلى حيث أراد، وإلى حيث ألقى نفسه بين ذراعي أبيه، وقد أخرجه الفرح عن طوره، وإلى حيث استقبلت أنا مكسيم بابتسام فاتر، ونشاط متكلف، وشهد الله لقد تصنعت هذا الفتور وتعملت هذا التكلف، ولو أرسلت نفسي على سجيتها وأطعت غريزتي لألقيت نفسي بين ذراعي زوجي ضاحكة باكية، ومغرقة في الحزن والفرح معا. ولكني تكلفت الأناة والوقار ونجحت فيما تكلفت، فأرسلت إلى نفس مكسيم شيئا من الفتور وخيبة الأمل.
قبلته متثاقلة فقبلني متثاقلا، واتصلت بيننا لحظات صامتة لم نعرف فيها كيف نقول، ثم قطع الصمت بصوت متهدج مضطرب وهو يقول في ألفاظ متقطعة شيئا: لقد كنت أظن أن مقدمي سيشيع في نفسك من السرور أكثر مما رأيت!
فلم أعرف كيف أجيبه، ولكنني انحنيت إليه فقبلته في رفق، وقلت له في حنان: هلم نسلم على أبوي فإنهما من غير شك قد أحسا مقدمك.
16
ولم يطل مقام مكسيم في بيت أبوي، ولم أستطع أن أتخلف عنه؛ لأني خشيت إن فعلت أن يظهر أبواي على أن بيننا شيئا. وكنت أكره ما أكون لإظهارهما على هذه الكارثة، ولعلي لا أصدق إن زعمت أن هذا وحده هو الذي منعني من التخلف عن مكسيم، وما تعودت أن أكذبك أيها الدفتر العزيز، ولا أن أستحي منك؛ فلأقل الحق، ولأسجل مستخذية منك، ومن نفسي، أني رجعت مع مكسيم، مستسلمة لحبه مذعنة لسلطانه، عائدة إلى طاعته متجافية عن خيانته، وإن كنت لم أنسها ولم أعف عنها في قرارة نفسي.
ولكني اتخذت لها من قلبي زاوية أقررتها فيها، وألقيت بيني وبينها ستارا، واستجبت لدعاء الحب، فألقيت نفسي في ناره المضطرمة، ووجدت في الاحتراق بهذا الجحيم نعيما أي نعيم! وقد أنسى أشياء كثيرة قبل أن أنسى عودتنا إلى المدينة، في ضحى ذلك اليوم الذي أشرقت فيه الشمس، وصفت فيه السماء، ورق فيه الجو وخف فيه الهواء، وظهرت فيه الطبيعة هادئة باسمة، تستقبل حياة هادئة باسمة، وتغري الناس بأن يأخذوا بحظوظهم من الهدوء والابتسام. وقد استجبنا لهذا الدعاء، وخضعنا لهذا الإغراء، وظهر على وجهينا هدوء مطمئن، وابتسام يصور الرضا، وميل إلى الدعة واستسلام إلى الأمن، وانصراف عن الجهد. وقد أسلم مكسيم قياد السيارة إلى السائق، وآثر السكون والهدوء، وجلس إلى جانبي ينظر إلي في وداعة وحنان، وأنظر إليه في رفق وعطف، والصبي أمامنا منطلق في أحاديث لا نفهم إلا أقلها، قد انصرفنا عنه إلى أنفسنا، وقد ألقيت رأسي على كتف مكسيم وجعلت أنعم بهذه الساعة الحلوة، وإذا دموع تنحدر من عيني، لا أدري لماذا انحدرت، فلم أكن في حاجة إلى البكاء، ولم أشعر بدافع إليه، ولكن هذه الدموع انحدرت في صمت، ولم يسألني عنها مكسيم. وإنما مسحها في رفق، وضمني إليه ضما خفيفا.
ثم مال إلي فقبلني في هدوء ودعة، لم يقل شيئا ولم أقل شيئا، وإنما لبثت كما كنت، وظل كما كان، حتى أشرفت بنا السيارة على المدينة، ونبهنا الصبي إلى مكاننا منها بما كان يدلنا عليه من المعالم والعمارات، فاعتدلت في مجلسي واستقبلت المدينة والحياة فيها استقبال الجد والطمأنينة والإذعان.
ولقد استأنفت حياة جديدة فيها حب شديد النشاط، وكلف بعيد الأثر في النفس يوشك أن يكون هياما. وفيها ترقب لكل ما يصدر عن مكسيم من لفظ وحركة، وما يضطرب على وجهه من المظاهر، وفيها تفهم لنبرات الصوت وخلجات العين. وما أكثر ما كنت ألوم نفسي على ذلك، وأحذرها الإسراف في تتبع مكسيم، ومضايقته بهذا الحب الملح، وإغراقه بهذا السيل الجارف من العواطف. فقد يؤذيه ذلك وقد يحرجه وقد يغيظه وقد يخرجه عن طوره.
وكنت أنجح أحيانا فأخفف من هذا الإلحاح، وأقلل من هذا التتبع، وأظهر كأني معرضة عنه بعض الإعراض. ولكنه كان يلحظ ذلك في سرعة وينبهني إليه في خفة، ويظهر الألم لإعراضي عنه والتبرم بتقصيري في ذاته، فأعود إلى أكثر مما كنت فيه من عناية ورعاية، ومن ترقب وتتبع، وينعم هو بهذا الحب الملح وبهذا السيل الجارف الذي يندفع، فلا يكاد يبقي على شيء. وكان يقول لي إنه يجد اللذة كل اللذة والنعيم كل النعيم في أن يغمره هذا الحب حتى يغرقه، وأحب شيء إليه أن يؤذيه الحب، وأن يشق عليه، وأن يعذبه في جسمه ونفسه، وكنت أسأل نفسي عن مصدر هذا الهيام الطارئ والشغف الجديد، فلا أجد لسؤالي جوابا.
وربما عللت ذلك بما كان من افتراقنا أسابيع، وربما أعدت على نفسي ما قرأت في غير كتاب: إن من الخير للعاشقين أن يفترقا بين حين وحين، ذلك أجدى على حبهما وأحرى أن يجدد منه ما بلي ويقوي منه ما ضعف. ولكنا لم نفترق لأول مرة وقد افترقنا في العام الماضي والعام الذي قبله، فلم نجد من الحب والكلف والهيام مثل ما نجد الآن.
أف للشيطان! إنه لقريب من الإنسان دائما، وإنه لنافذ البصيرة قوي الحجة بالغ الأثر في النفوس. ها هو ذا يدنو مني خفيفا متلطفا، قبيح المنظر مع ذلك سمج المحضر. ويقول لي في غير صوت مسموع، ولا لفظ مبين، لا تعجلي بالرضا ولا تسرعي إلى الأمن، ولا تنسي أنك مدينة بهذه النعمة لصديق غائبة تطوف في الشرق القريب أو الشرق البعيد. اذكري لورنس فهي التي سافرت، فأخلت لك قلب زوجك الضعيف، ولو أنها بقيت، ولو أنها عادت؛ لكان لك شأن غير هذا الشأن، ولاضطربت في قلبك عواطف غير العواطف التي تضطرب فيه.
ثم ينصرف الشيطان خفيفا متلطفا وقد ترك أمامي في الهواء صورة لورنس يشيع في وجهها ابتسام غريب.
واحسرتاه! أحق هذا؟ أحق أني مدينة بهذه السعادة الطارئة لهذه الصديق الشقية، التي تطوف في الشرق القريب أو البعيد.
ليتني أعرف أين هي، ليتني أستطيع أن أكتب إليها، إذن لتحديت هذا الشيطان، ولدعوتها وألححت في دعائها لأعلم أعاد مكسيم إلى حبي لأنه ما زال يحبني، أم عاد مكسيم إلى حبي ليتسلى به عن غيبة لورنس؟
17
كذب الشيطان، وصدق وحي الضمير. لست مدينة بهذا الحب المجدد لغيبة لورنس، وإنما هي عواطف فترت وقتا ثم استأنفت النشاط، وإنما هو حبنا القديم قد عاد سيرته الأولى بعد أن اعترضته مصاعب لم تلبث أن أزيلت، وعقاب لم تلبث أن ذللت. وقد كانت لورنس إحدى هذه المصاعب والعقاب، فقد ذهبت لورنس وخلا لي بذهابها وجه مكسيم. وكانت طفولة الصبي إحدى هذه المصاعب والعقاب، فقد نما الصبي وربا وأصبح يستيطع أن يشغل نفسه من جهة، وأصبحت أستطيع أن آمن عليه المربية والخادم من جهة أخرى، واسترددت كثيرا من الوقت والجهد اللذين كنت أنفقهما في تنشيئه والقيام عليه، ورددت هذا الوقت والجهد إلى مكسيم صاحب الحق الطبيعي فيهما.
فرغت له وفرغ لي فاستأنفنا حياتنا كما كنا نحياها في أول عهدنا بالزواج. ومالي أسأل نفسي عما عسى أن يكون لو عادت لورنس ولا أسألها عما عسى أن يكون لو أتيح لي طفل آخر؟! لقد كنت غافلة ثم تنبهت، وكنت جاهلة ثم علمت، فتستطيع لورنس أن تعود أو لا تعود، فقد عرفت كيف أحوط زوجي وأحمي قلبه، وأرد عنه عاديات الحب من لورنس أو من غيرها. وما أشك في أن نفسي راغبة أشد الرغبة في ألا نقف عند هذا الصبي الوحيد، وفي أن نمنحه أخا أو أختا.
ولكني لست متعجلة وقد أستطيع أن أنعم بالفراغ لزوجي عاما أو عامين، وقد أتيح لنا من حسن الحال وسعة العيش ما يمكننا من أن نربي طفلنا الجديد، إن أقبل، على غير ما ربينا عليه أخاه، فلا أمنحه وقتي كله وجهدي كله، ولا أنصرف إليه عن زوجي ولا أنصرف إليه عن حقي في الحياة، فلأرد عن نفسي كل هذه الخواطر المظلمة، ولأستقبل الحياة راضية باسمة ولأنعم بما تحمل إلي من أسباب الأمن والنعيم، ولأغلق دون الشيطان باب قلبي وسمعي؛ فإنه لا يوسوس إلا بالشر ولا يلقي في النفوس إلا اليأس والقنوط.
وقد فعلت، فمضت أمورنا على خير ما كنت أحب وعلى أحسن ما كنت أتمنى وقتا ما أدري أطال أم قصر، لولا أني أرجع إلى الذاكرة فأحصيه فإذا هو أشهر، وأرجع إليك أنت أيها الدفتر العزيز، فأرى آخر عهدي بالتحدث إليك، فيصدق الإحصاء، وأتبين أني قد أعرضت عنك ستة أشهر كاملة؛ لأني لم أكن فيها محتاجة إليك، وما حاجتي إليك وقد استأثر مكسيم بكل وقتي، وكل نفسي، وشغلني عن كل شيء وعن كل إنسان ومنعني حتى من أن أخلو إلى نفسي خلوة متصلة فأفكر فيما أستقبل من الحياة. يا لله! أيمكن أن ينحط الناس من هذه السعادة التي لا توصف إلى هذا الشقاء الذي لا يطاق؟
ألم تحدث نفسك، أيها الدفتر العزيز، حين أحسست يدي وهي تأخذك وتقلب صفحاتك بأني شقية بائسة، وأن الشقاء والبؤس هما اللذان ألجآني إليك وذكراني بمكانك من غرفتي؟ كلا لم تحدث نفسك بشيء؛ لأنك لم تحس شيئا، وأين أنت من النفس والحس؟ وإنما أنا التي تحدث نفسها بهذا كله، ولا تستطيع أن تخلو بهذا كله إلى نفسها، ولا أن تبثه أحدا غيرها، فهي تلقيه إليك، بعد أن تفيض عليك من الحياة ما يخيل إليها أنك شخص مثلها، تسمع وتعقل، وتستطيع أن تمنحها السلو والعزاء.
وأي سلو وأي عزاء؟ وعم أريد أن أسلو وعم أريد أن أتعزى؟ أولا يزال لي في شيء من ذلك أمل؟ ما أدري! لقد وقفت عن الكتابة حين بلغت هذه الجملة من الحديث؛ لأني وقفت عن التفكير، بل وقفت عن الشعور، وأحسست كأن عارضا من الذهول قد عرض لي، وكأن كل شيء من حولي يضطرب أشد الاضطراب، وكأن أصواتا من حولي ترتفع، فتملأ الجو وتفعم الفضاء. وما أدري أبقيت على هذه الحال ساعة أو دقائق؟ ولكني رجعت إلى نفسي متعبة مكدودة، لا أكاد أتمالك.
ثم أخذ الهدوء يثوب إلي شيئا فشيئا والقوة تعود إلي قليلا قليلا، وإذا أنا جالسة حيث كنت أنظر إليك ولا أكاد أراك. ثم أسأل نفسي عما أنا فيه، أسألها عما كنت أفعل، وعما عرض لي، وعما أريد أن أفعل، فلا أجد من نفسي إلا جوابا واحدا: وهو أني مقبلة على أشياء خطيرة وأمور ذات بال.
18
أتصدقني، أيها الدفتر العزيز؟ أما أنا فلا أكاد أصدق نفسي، بل أنا لا أصدقها، وإنما أنا في ريب من أمري واختلاط، لا أدري أعاقلة أنا أم مجنونة؟ أمحتفظة أنا بملكاتي كلها كما عهدتها ثابتة هادئة منظمة لا تقدم إلا على بصيرة ولا تدبر إلا على روية وتفكير، بعيدة كل البعد عن هذه الأوهام التي تعبث بعقول الدهماء، وتؤثر في نفوس الشذاذ من الناس؟ ما أدري! ولكني أنكر نفسي أشد الإنكار.
منذ أيام تخطر لي الخواطر الغريبة فأذودها هازئة بها، فتعاودني فأعاود ذيادها، ثم يتصل الليل بالنهار فإذا الخواطر التي كانت تعرض لي أثناء اليقظة تلح علي أثناء النوم. وإذا أنا أفيق مذعورة مرة ومرتابة مرة أخرى. كل ذلك وأنا أتهم نفسي وأنكرها، وألوم نفسي وأعنفها، وأزعم أن الحب قد أخرجني عن طوري، وأن الغيرة قد أفقدتني رشدي، وأذهلتني عن صوابي، وربما تساءلت: أليس من الخير أن أعود إلى أبوي فأقيم معهما أسابيع لأستريح من الحب كما عدت إليهما فأقمت معهما أسابيع لأستريح من الهجر؟ وأكاد أرجح هذا الميل، وأكاد أعزم على الرحلة، وأكاد أفر من نفسي، ولكن النذر تبلغني فأقيم.
قلت لك: إنك لن تصدقني، وإني لا أصدق نفسي، ولكني لم أنبئك بهذه الأنباء التي أعتقد أنك سترفضها وتأبى أن تؤمن لها. لم أنبئك بهذه الأنباء؛ لأني أكبرها وأنكرها، وأستحي أن أقصها عليك، ولأني أجد كثيرا من المشقة والجهد في جمع نفسي هذه المشردة، وتأليف خواطري هذه المتفرقة، وصوغ هذه الأنباء الغريبة في جمل قريبة أستطيع أن ألقيها إليك. ومع ذلك فلأجتهد ولأجاهد فما ينبغي أن أخفي عليك سرا، وما ينبغي أن نفترق ولما أظهرك على هذه الأحداث الجسام.
ما كنت أظن أن حرصي على حب مكسيم سينتهي بي إلى هذا الطور الذي انتهيت إليه منذ شهرين من الإشفاق والخوف ومن التطير والخضوع للأوهام.
ولكني قد انتهيت إلى هذا الطور سواء أردت ذلك أم لم أرده، وقد جعلت ألتمس التأويل والتعليل لكل كلمة من كلمات زوجي، ولكل نبرة من نبرات صوته، ولكل حركة من حركاته، ولكل هذه المظاهر التي تختلف على وجوه الناس حين يبتسمون ويعبسون، وحين يهدءون ويضطربون، وأسرفت في ذلك حتى ضقت به، وحتى جعلت أروض نفسي على أن أنفق الأوقات القصيرة غير مفكرة في مكسيم ولا حافلة به، فلا أبلغ من ذلك شيئا. وقد ألقى الشيطان في روعي أني مدينة لغيبة لورنس بنشاط حبنا بعد فتوره، فأحاول أن أدفع وسوسة الشيطان هذه عن نفسي، فأوفق حينا ثم يعود إلي هذا الوسواس ملحا مسرفا في الإلحاح، وإذا أنا أفكر في لورنس كلما فكرت في زوجي.
وأكاد أسأل نفسي، كلما وقعت من نفسي أحاديث مكسيم وأعماله موقع الإعجاب والحب: ما عسى أن يكون موقع هذه الأحاديث والأعمال من نفس لورنس لو أنها شهدتها أو ظهرت عليها؟ وإني لضيقة باقتحام لورنس علينا حياتنا وقيامها بين زوجي وبيني في كل لحظة، وإذا صورة أخرى تقتحم علينا هذه الحياة، وتقوم بيننا مع صورة لورنس، وهي صورة زوجها الفقيد الشهيد. فقد أخذت هذه الصورة تتراءى لي بين حين وحين، وأخذت أنكر إلمامها بي وظهورها لي، ولكنها أخذت تكثر من الزيارة وتطيل المقام، وأكبر الظن أني أنا التي دعت هذه الصورة لكثرة ما فكرت في لورنس، ولكثرة ما أعجبت بوفائها لزوجها، ولكثرة ما أعدت على نفسي كتابها الذي أنبأت فيه مكسيم بعزمها على الاغتراب.
ولكني أفيق ذات ليلة مذعورة أشد الذعر، قد ملئ قلبي روعا، واستأثر الهلع بنفسي حتى تصبب جسمي كله عرقا. وقد كان أول خاطر خطر لي حين انجلت عني سحائب هذا الذعر أنها خواطر اليقظة قد ألحت علي في النوم. وقد جعلت أرد الأمن إلى نفسي قليلا قليلا، ولكنه لا يعود إلا ليزول. فقد رأيت فيما يرى النائم صورة ذلك الزوج الفقيد تدعوني بالإشارة فأمتنع عليها، فتلح في الإشارة وألح في الامتناع، فتضيف الصوت إلى الإشارة، فأسمع زوج لورنس يدعوني بصوت هادئ ولفظ واضح صريح: إلي، إلي، فإن مكانك ليس بين هذين الآثمين، ولكنه إلى جانبي أنا المظلوم.
وأفيق مذعورة لا أدري أأيقظني الذعر أم أيقظني الصوت الذي سمعته؟ وأحاول أن أخلص من هذه الصورة، ولكنها تملأ عيني والغرفة مظلمة. وأحاول أن أخلص من هذا الصوت، ولكنه يملأ أذني والليل من حولي شديد الهدوء، فأعمد إلى النور فأذود به الصورة، ثم أنهض من سريري، وأضطرب في غرفتي، وأحدث من الحركات ما أذود به الصوت عن أذني، ولكني لا أعود إلى الظلمة إلا عادت الصورة إلى عيني، ولا أعود إلى السكون إلا عاد الصوت إلى أذني، حتى ظننت بنفسي الظنون، وأشفقت على عقلي من أعراض الخبال، ولم ينقذني من هذه الآلام المتصلة والأخطار المحدقة إلا ضوء الصبح حين أقبل بعد انتظار طويل.
قل، أيها الدفتر العزيز، ما قلته لنفسي من أن هذا عرض من أعراض المرض، ومظهر من مظاهر ضعف الأعصاب، واضطراب المزاج، ونتيجة من نتائج التفكير المتصل في حب مكسيم والإشفاق من لورنس، فقد قلت هذا كله لنفسي واستيقنته، وفكرت في أن أطب له بالرحلة إلى أبوي أو بالإبعاد في السفر. وما يمنعني أن ألم بباريس فألهو بحياتها الصاخبة المتنوعة، عن هذه الحياة الهادئة المتشابهة في الأقاليم.
ولكن ما رأيك في أني لست مريضة ولا ضعيفة الأعصاب، ولا مضطربة المزاج؟ ما رأيك في أن هذه الصورة لم تخدعني؟ وفي أن هذا الصوت لم يكذبني، وفي أن زوج لورنس قد أنبأني بالحق الذي لا شك فيه؟ فقد عادت لورنس من سفرها البعيد، وتورطت في الإثم الذي فرت منه، ولم تستطع أن تمضي في المقاومة.
عادت لورنس لا إلى هذه المدينة التي نقيم فيها، ولكن إلى مدينة أخرى ليس بيننا وبينها إلا ساعتان في القطار. عادت لورنس واتصلت بمكسيم، واتصلت الزيارات بينهما، وكان ما خفت أن يكون.
أتصدقني، أيها الدفتر العزيز؟ إني لا أصدق نفسي، وما تعودت من قبل أن أصدق أحلام الليل، ولكن لورنس قد عادت، ومكسيم قد عاد إليها. ولكن قلب زوجي لم يعد خالصا لي، ولكن الأمر بين زوجي وبيني لم يقف عند هذا الحد؛ فقد عرف الناس من إمره ما كنت أجهل، ولم أعرف حقيقة هذا الأمر إلا بعد أن عرفه الناس، وقد عرضني ما ظهر من أمره إلى أكثر من ألم المرأة التي يخونها زوجها. عرضني لطمع الطامعين، وأغرى بي الذين ينتهزون الفرص من الأصدقاء الأوفياء. عرضني لألم المرأة التي تهان في حبها، ولخزي المرأة التي تهان في كرامتها. أأصدق أحلام الليل أم أكذبها؟ أأستجيب لهذه الدعوة التي وجهها إلي زوج لورنس أم أمتنع عليها؟
19
ما أشد شوقي أيتها الصديق العزيزة لورنس، وددت لو استطعت أن أطير إليك لأضمك بين ذراعي، ولأقبلك قبلات تنقل إلى قلبك بعض ما في قلبي من حب ووفاء، ومن إكبار وإجلال، ومن شكر للصنيعة واعتراف بالجميل، ولأذرف على كتفك دموعا تصور الحزن لفراقك، والفرح بلقائك، والإكبار لتضحيتك، والشكر لبعض فضلك، والأسى لما احتملت من حرمان، والإعجاب بما أظهرت من شجاعة وحسن احتمال. وكنت خليقة أن أفعل هذا كله لو أن نبأ عودتك إلى الوطن قد ألقى إلي ساذجا يسيرا كما تلقى الأنباء، فقد كنت مدينة لك بحبي، وكنت مدينة لك بسعادتي، وكنت مدينة لك بحياتي. وما أدري أفهمتني كما أنا أم لم تفهميني، ولكن المحقق أني بعد أن أحببت مكسيم وبلوت السعادة بحبه لا أتصور الحياة بدون هذا الحب، ولا أطيق لها احتمالا.
ألعلك عرفت هذا كله وقدرته حين هاجرت من أرض الوطن، وضحيت بلذاتك وآمالك، وبعواطفك وشعورك؛ ضنا بي على اليأس، وحرصا على أن أتجنب آثاره الوبيلة وعواقبه المهلكة؟ أم لعلك إنما هاجرت من أرض الوطن ضنا بنفسك على الإثم، وارتفاعا بها عن النقيصة، وفرارا من الخيانة للأحياء والأموات؛ هذه الخيانة التي لا تليق بالنفس الكريمة، ولا تلائم القلب الذكي النقي؟
أم لعلك قدرت الأمرين جيمعا فنصحت لي ونصحت لنفسك، وأبقيت على حياتي، وأبقيت على كرامتك، حين أزمعت ذلك الرحيل. مهما يكن من شيء، فإنك قد منحتني الحياة مرة ثانية حين تركت لي قلب مكسيم وحبه. فأنا مدينة لك بهذه الحياة، ولو قد اطلعت على قلبي من مهاجرك ذلك البعيد لرأيت أني كنت قد اتخذت لك فيه معبدا خاصا أسميته معبد الوفاء، ولعلمت أني كلما أحسست لذة وغبطة أو سعادة أو ألما أو حسرة - وما أكثر ما كنت أحس هذا كله - قدمت إليك بعض ما كنت أجد قربانا لوفائك وعرفانا لجميلك، وإيمانا بما لك علي من فضل ليس إلى وصفه ولا إلى تقديره من سبيل.
ليت النبأ الذي حمل إلي عودتك إلى أرض الوطن ألقي إلي سمحا سهلا نقيا. إذن لأسرعت إليك، ولأديت بين يديك بعض ما كان ينبغي أن أؤدي من الشكر والوفاء. ولكني عرفت عودتك مصادفة. وأي مصادفة؟! إني لأذكرها فتقف نفسي عن التفكير، ويقف قلبي عن الشعور، ويقف قلمي عن الكتابة، وتنحدر من عيني دموع غزيرة حارة، ولكنها لا تخفف هذه النار المضطرمة بين جوانحي؛ نار اليأس والحسرة وخيبة الأمل وكذب الظنون.
هذا المعبد الذي كنت أقمته في قلبي قد تهدم، وهذه الصورة الجميلة التي رسمتها لنفسك في أعماق ضميري قد درسها المسخ والتشويه، واستحالت إلى صورة مخيفة بشعة، تروعني وتملأ نفسي هلعا وجزعا ...
ماذا؟ أيستطيع الناس أن يرتفعوا من البر والطهر والنقاء إلى حيث ارتفعت يا لورنس، ثم يهبطوا من الخزي والإثم والعقوق إلى حيث هبطت يا لورنس؟ أشهد أن الإنسان مستقر المتناقضات، وأن الشهوة أقوى من العقل، وأن الشر أعظم على نفوس الناس سلطانا من الخير. أتعرفين كيف انتهى إلي نبأ عودتك؟! في حديث من هذه الأحاديث المألوفة التي تجري بين الأصدقاء في غير تكلف لها ولا احتفال بها.
كنا نسمر في بيتنا كما تعودنا أن نفعل مع جماعة من الأصدقاء الذين تعرفينهم، وكنا نتجاذب الحوار في موضوعات مختلفة كما تعودنا أن نفعل، فانتهينا إلى الحب وانتهينا إلى الوفاء، وأفضنا في ذلك حتى عرض مكسيم لعادة تقرها بعض الجماعات المتحضرة؛ عادة تعدد الزوجات.
وإذا مكسيم يدافع عن هذه العادة دفاعا حارا، ويذود عنها ذيادا عنيفا، ويزعم أن قلب الإنسان أوسع من أن يضيق بحب شخصين، أو حب أشخاص. والأصدقاء من حولنا يجادلونه في ذلك جدالا عنيفا، وأنا أسمع ذلك ضاحكة منه أول الأمر، ثم منكرة للغلو فيه، ثم دهشة لهذه الحماسة التي يظهرها مكسيم. ثم متنبهة لما كان يرد به فيليب من ألفاظ لا تخلو من تلميح وتعريض.
ثم نتفرق، وقد وقر في نفسي من هذا الحوار شيء لم يخل من تنغيص لما كان بيني وبين مكسيم من صفو. وأكاد أنسى هذا الحوار وأعرض عنه بعد أيام. ولكن فيليب الذي يتردد علينا، ويكثر التردد، والذي يتودد إلي ويسرف في التودد، يزورني ذات يوم، وقد عرف أن مكسيم غائب في بعض أسفاره القصيرة التي كثرت واتصلت في هذه الأيام، فنأخذ في أطراف من الحديث، وما أسرع ما يبلغ بحديثه نجوى الحب التي أرده عنها كلما ألم بها ساخرة منه في رفق ومودة. ولكنه في هذه المرة لم يرتد، ولم يثب إلى وقاره ورعاية ما كان يرعى من الحق، وإنما تمرد واحتد وثار ثائره، واندفع في ألفاظ مختلطة، عرفت منها بعد دقائق كل شيء.
عرفت منها أن الرسائل اتصلت بينك وبين مكسيم بعد أن عجزت عن احتمال الفراق الطويل. وعرفت منها عودتك إلى فرنسا واستمرارك في جرينوبل، واستئناف الأمر بينك وبين زوجي. وعرفت منها أمر هذه الأسفار القصيرة المتصلة التي كانت تدعو إليها الأعمال فيما كان ينبئني، والتي إنما كان يدعو إليها الحب وما استتبع من لهفة بعد طول الفراق، ومن ظمأ بعد طول الحرمان.
ولله قلب فيليب هذا الفتى البائس المسكين، الذي ثاب إلى رشده بعد أن فضح السر وخان الأمانة، وأظهرني على ما كنت أجهل، فقد تولى كئيبا يائسا مستخذيا، ثم انقطعت عني أخباره. أما أنا فقد ثبت لهذه الصدمة كما ثبت لصدمة أخرى تعرفينها، فلم أثر ولم أجزع، ولم أصل إلى الأزمة كما لم أصل إليها من قبل. ولكني لم أقاوم حب الاستطلاع، بل لم أفكر في المقاومة، وإنما وازنت بين خيانة مكسيم لحبنا وبين ما سأقدم عليه حين أخونه في ما يحفظ من الرسائل. وما هي إلا أن أقتنع بأن هذه الرسائل من حقي.
ويقبل الليل وتهدأ الحركة، وتستقر الأشياء، وأذهب أنا إلى مكتب مكسيم، فأنفق الليل فيه مع رسائلك يا لورنس، على حين كان ينفق مكسيم ليله في حبك في غرفة من الغرفات في مدينة جرينوبل. ولست أدري كيف أصف ما كنت أجد من شعور حين كنت أقرأ رسائلك الرائعة وحين كنت أتصور الخاتمة التي انتهى إليها هذا الجهاد المجيد. ولكنه لم يكن شعور ثورة ولا غضب ولم يكن شعور سخط عليك أو لوم لك، وإنما كان شعورا حزينا هادئا مطمئنا. وكان شعورا حزينا يائسا مصمما مع ذلك. وكان فيه كثير من الرحمة لك، والاعتذار عنك، والإشفاق على طفلنا هذا البائس التعس الذي لن يستقبل الحياة كما كنت أتمنى أن يستقبلها سعيدا بين أبوين سعيدين. وأنا أكتب إليك الآن، ولست أدري لماذا أكتب إليك! ولكني دفعت إلى ذلك دفعا.
أكتب إليك، وقد ارتفع الضحى، وأظن مكسيم يوشك أن يودعك؛ فقد ينبغي أن يبلغنا نحو الساعة الثانية. وقد يصل إليك هذا الكتاب مساء اليوم، أو صباح الغد، فاقرئيه واذكري كاتبته! واعلمي أنها لا تضمر لك بغضا ولا تحفظ لك موجدة، وإنما تسدي إليك الشكر، وتهدي إليك التحية، وتتمنى لك ما لم يتح لها من السعادة، وما لم يقدر لها من النعيم.
20
كلا لم أكن صادقة أيها الدفتر العزيز حين زعمت للورنس أني لست ثائرة ولا محنقة، ففيم كتبت إليها هذا الكتاب؟ ولم أرسلته في غير تردد، ودون أن أسأل نفسي عما يمكن أن يكون له من عاقبة، وعما يمكن أن يحدث من أثر في نفس هذه الصديق البائسة، وفي نفس مكسيم الذي سيظهر على كل شيء؟
لم أكن صادقة فيما زعمت، وإن كنت صادقة فيما عملت. فقد استجبت لغريزتي، وأذعنت لعواطفي، ولم أفكر ولم أرو، ولو استطعت الآن لاسترجعت هذا الكتاب، ولتركت هذين الآثمين البائسين ينعمان أو يشقيان بما قضي عليهما من إثم وبؤس. وما عسى أن ينفعني هذا الكتاب؟ أتراه يرد إلي هذا الحب الضائع الذي لا سبيل إلى أن يعود؟ واحسرتاه، إني لأفكر وأقدر كما يفكر الناس ويقدرون برغم ما أشعر به في أعماق نفسي من انقطاع الصلة بيني وبين الناس، ومن أني قد انتقلت إلى عالم آخر يجب أن أفكر فيه على نحو جديد، بل يجب أن أستريح فيه من التفكير.
ما أشد شوقي إليك أيتها الأم العزيزة! ما أشد شوقي إليك أيها الأب الرحيم! ما أشد شوقي إليك أيها الأخ الكريم! لقد كنتم أجدر الناس بلقائي وشفائي من هذا الذي أشقى به، ولا أعرف كيف أسميه، ولكني لا أستطيع أن أسعى إليكم، ولا أن أبلغكم، ولا أن أحملكم من أثقالي أكثر مما احتملتم إلى الآن.
وأنت أيها الدفتر العزيز، ما أشد صبرك علي، واحتمالك لي، ومواساتك لهذا القلب الكسير! أتراني سأعرض عنك كما عودت الإعراض عنك، ثم أعود إليك كما تعودت العودة إليك، مشغوفة بك، لاجئة إليك، مستخذية منك؟
وداعا على كل حال. ومكسيم ...؟ كلا، ما ينبغي أن أفكر في مكسيم. وأنت أيها الطفل العزيز؟ كلا، ما ينبغي أن أفكر فيك الآن، وإن كنت لا أجد إلى الانصراف عنك سبيلا ...
وأصبح الناس ذات يوم وقد قرءوا في صحف الإقليم نعي سيدتين أهدت كل واحدة منهما نفسها إلى الموت، وجعل الناس في المدينة إذا لقي بعضهم بعضا يلمون بهذا النبأ، ويقول بعضهم لبعض: يا عجبا، كأنما كانتا على ميعاد.
الحب اليائس
قال القسيس وهو يضحك للراهبة وهي تبكي: على رسلك أيتها الأخت العزيزة؛ فإن الله يكره الإسراف لعباده حتى في حبه والإنابة إليه، واحذري أن يكون إغراقك في هذا الندم وإلحاحك في هذا الحزن الذي يوشك أن ينتهي بك إلى اليأس من روح الله الذي لا ييأس منه المؤمنون؛ احذري أن يكون هذا مظنة للريبة، وثقي - وأنت واثقة طبعا - بأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فاجتهدي في ألا يظهر الله منك على سر تكرهين أن يظهر عليه.
وكان ضحك القسيس هادئا، حتى إذا انتهى إلى هذه الجملة قوي وظهر فيه العنف حتى وجمت له الراهبة لحظة، ثم ثابت إلى نفسها وجففت دمعها ونهضت متثاقلة، وخرجت صامتة لم تحي الشيخ ولم تقل له حرفا، وإنما مضت أمامها لا تلوي على شيء كأنما أوذيت في ضميرها، فلم تر دفعا لهذا الأذى إلا أن تفر من مصدره فرارا.
وما أظنك فهمت من هذا الحديث كله شيئا، وأي غرابة في ذلك؟ فأنت لم توكل بحل الألغاز ولا بتأويل المشكلات، وإنما أنت قارئ أو قارئة - أستغفر الله - قارئة أو قارئ، يعرض عليه الفصل، فإن استقبله فاهما لأوله مضى فيه حتى يبلغ آخره، وإن أعياه أول ما يستقبل منه تجلد إن كان من أولي العزم ومضى في القراءة، لعله إن تقدم بعض الشيء كشفت عنه الحجب، وذللت له الصعاب، وفهم ما لم يكن يفهم، وإن لم يكن من أولي العزم أعرض عن القراءة وألقى الصحيفة أو الكتاب إلقاء.
وأنا أرجو لك أن تكون جلدا صبورا وأن تمضي في القراءة شيئا، فلعلك تفهم عاقبة هذه الألغاز والرموز. والحق أني لم أكن لألغز ولا لأوثر الرمز والإيماء، ولا لأقدم في أول هذا الفصل ما حقه أن يكون في آخره. لكن الكتاب المحدثين يذهبون هذا المذهب حين يريدون أن يقصوا عليك أقصوصة لها حظ من قيمة، أو نصيب من طرافة، وهم فيما يظهر إنما يذهبون هذا المذهب تشويقا للقارئ وإيقاظا لحبه الاستطلاع وميله إلى تعرف الأنباء.
وأنا أظن أن القصة التي أريد أن أقصها عليك خليقة أن أشوقك إليها وأنبهك إلى دقائقها، ومن هنا ذهبت في أولها مذهب الكتاب المحدثين. ومن يدري؟ لعلي لم أفعل ذلك إلا تقليدا لهم واقتفاء لآثارهم، وتكلفا لبعض فنهم الطريف. وسواء أكان هذا أم ذاك، فقد أفرغ بعد كلام قليل أو كثير من هذه المقدمات، وأنتهي بك إلى القصة نفسها؛ لترى أنت أخليقة هي بالعناية، أم ليس لها خطر ولا شأن؟
ولا ينبغي أن تسألني فيم هذه المقدمات، أو فيم هذا التعليل والتحليل، والإبعاد عن الموضوع والتكلف الذي يزهق النفس ويثقل على القلب! لا تسألني هذا السؤال؛ فإن جوابه حاضر: وهو أني أريد أن أذهب في هذا أيضا مذهب جماعة من الكتاب المحدثين الذين يريدون أن يظهروك لا على القصة التي يحبون أن يقصوها عليك فحسب، بل على مذهبهم في القصص وطريقتهم في التفكير أثناء القصص، يريدون أن يظهروك على أنفسهم حين يتحدثون إليك؛ لتراها واضحة جلية، ولترى أنهم يصدقونك ويكبرونك كل الإكبار، فلا يعبثون بك ولا يتكلفون لك، ولا يكذبون عليك.
وأنا أعترف بأني لا أحدثك عن هذه الراهبة التي كانت تبكي بين يدي القسيس، والتي كان القسيس يضحك لها ليردها إلى الأمن والطمأنينة، فأساءت به الظن وقدرت أنه يضحك منها ويهزأ بها، فانصرفت عنه كئيبا محزونة الفؤاد يكاد يملأ نفسها اليأس - لم أحدثك عن هذه الراهبة البائسة السعيدة، إلا لأن حديثها أعجبني وراقني وأثر في نفسي أبلغ التأثير، وإياك أن تظن أنه حديث مصطنع قد ابتكره الخيال ابتكارا، فلو كان الأمر خيالا لأنبأتك بذلك، ولكنه حديث كله حق وصدق. ولا لك من أن تقبل مني ذلك، لا لشيء إلا لأني أنبئك به، والأصل في الكاتب أنه صديق القارئ، ينصح له ولا ينبئه إلا بالحق، أليس كذلك ؟
كانت هذه الراهبة في الوقت الذي بكت فيه بين يدي القسيس وضحك لها فيه، أو ضحك منها القسيس، قد بلغت الخمسين من عمرها أو كادت تبلغها، وكانت قد أنفقت في الدير أعواما طوالا لا تقل عن ربع قرن، متكلفة ما تتكلفه الراهبات في صدق واقتناع وإيمان من حياة الزهد والنسك، ومن خشونة العيش وتكلف الجهد الثقيل، وكانت قد خصصت نفسها بعد أعوامها الأولى في الدير لخدمة الفقراء والبائسين، وللعناية بالمرضى والذين مسهم الضر وألح عليهم الشقاء.
وكانت تجد فيما تعاني من ذلك لذة لا تعدلها لذة، وسعادة نفسية لا تبلغها سعادة، وكانت كلما بلغ منها الجهد وثقل عليها العناء ازداد نصيبها من الغبطة وحظها من الرضا. ولم تكن تؤثر من المرضى وأصحاب العلل إلا أسوأهم حالا، وأخبثهم علة، وأقبحهم مرضا؛ لتبتلي نفسها في العناية بهم بأشد أنواع الابتلاء، ولترى الألم الإنساني في أقبح صوره وأبشعها، ولتروض نفسها على شر ما تراض عليه النفوس، ولتثبت في قلبها أن الحياة الدنيا لعب ولهو وباطل آخر الأمر.
ومع هذا كله فقد كانت على حظ من جمال أدركه شيء من الذبول والذواء، ولكنه لم يستطع أن يغير من معالمه، ولا أن يمحو مظاهره على ما كانت تحرص عليه هذه الراهبة من أن ترد نفسها إلى شر ما تستطيع امرأة أن تبلغه من سوء الحال. ومصدر ذلك أن هذه الراهبة كانت من بيت عظيم بعيد النسب في الشرف الفرنسي، رفيع المكانة في الحياة الفرنسية منذ قرون، توارث أهله المجد والثروة والرفعة والنعمة على اختلاف العصور والظروف، وألمت بهم المحن فاحتملوها كراما، وخرجوا منها ظافرين، وما أكثر ما كانوا يمتحنون في مكانتهم وثروتهم، ثم يخرجون من المحن محتفظين بالمكانة والثروة جميعا.
وكانت راهبتنا في أول عمرها صبية رائعة الجمال، قوية الحس، دقيقة الشعور، زكية القلب، مرهفة العقل، وكانت فتنة أبويها. كانا يؤثرانها على أخيها الذي كان يشغف بحياة العنف والمخاطرة، على حين لم تكن هي تصبو إلا إلى حياة الحب والعطف والحنان. ذهب أخوها مذهب أمثاله من شبان الأشراف، فطلب العلم، ثم اتصل بمدارس الحرب، ثم انتظم في الجيش، ثم كانت الحرب الكبرى، فكان في مقدمة هذا الشباب الذي استقبل العدو. وقد اتخذ للموت في سبيل الوطن زينة الأشراف، فلم يعد إلى أهله ولم يطل انتظارهم لأنبائه، وإنما انتهى إليهم نعيه في الأشهر الأولى لهذه الحرب.
ولما انتهى نعيه إلى أبويه كان إيذانا لهما بأن حظهما من هذه الحياة قد انقضى، وعملهما فيها قد انتهى؛ فقد كان هذا الفتى بقية آمالهما بعد أن ذهبت أخته إلى الدير ذات يوم فلم تعد منه إليهما، لسبب لم يعرفاه ولم يستطيعا أن يهتديا إليه. ومع أنهما قد جهدا في صرف الفتاة عن الدير أقصى الجهد، وبذلا فيه ما يستطيعان وما لا يستطيعان من السعي، واستعانا عليه بالأصدقاء من خاصتهما وبذوي المكانة والمنزلة من معارفهما؛ فإن الفتاة لم تستجب لهما ولم تسمع لما كانا يلقيان إليها من حديث، ولم ترق لما كانا يسفحان من دموع!
ثم تنقضي سنة المران والامتحان والاستعداد، وتدنو الساعة التي تهب الفتاة فيها نفسها لله هبة حازمة قاطعة لا رجعة فيها ولا انصراف عنها، وتعود الأسرة إلى ابنتها ضارعة مستعطفة ملحة في الضراعة والاستعطاف، فلا تزداد الفتاة إلا إباء وإصرارا.
ثم ينفذ القضاء وتعطى الكلمة الحاسمة، وتصبح الفتاة وقد انقطعت الأسباب بينها وبين ما وراء الدير، ومن وراءه من الحياة والأحياء، ثم تنقطع الصلة بين الفتاة وبين أسرتها فجأة، وتجهل الأسرة من أمر ابنتها كل شيء، قد نقلت من ديرها الذي كانت فيه إلى دير غير معروف، ثم أخذت الأدير تتقاذفها في أرض الوطن، وفي أرض الغربة في القارة الأوروبية، وفي الشرق القريب وفي الشرق البعيد، وفي تلك الجزر النائية التي تكثر فيها العلل المهلكة والأوبئة القذرة، ثم ترد الراهبة في عام من الأعوام إلى فرنسا، لتعمل فيها مثلما كانت تعمل في جميع المواطن التي تقاذفتها أعواما وأعواما، ولكن لتجد في وطنها بعض الراحة من هذا العناء الطويل الثقيل، الذي احتملته، ومن هذا الجهد العنيف المهلك الذي بذلته.
وكانت الراهبة قد استحقت هذه الراحة لأنها كانت قد أبلت فأحسنت البلاء. وحمل أنت هذه الكلمات ما تستطيع أن تحملها من المعنى، فلن تؤدي إلا بعض ما أريد أن أقول؛ لأني مضطر إلى أن أوجز، راغب عن الإطالة كل الرغبة!
عادت الراهبة إلى وطنها إذن لتعمل فيه وتستريح. وهذا مريض سيئ الحال قد أدركه السل وانتهى به إلى غايته، وهو مشرف على الموت، وهو فقير بائس، ينفق ما بقي من أيامه البائسة في بيت حقير قذر. وهذه الراهبة تمرضه وتقوم بأمره، وتعينه بما تمنحه من الرحمة والعطف والحنان والعناية المادية، على أن يخطو هذه الخطوات القليلة الضئيلة التي تلقيه بين ذراعي الموت، وتستنقذه من مخالب العلة والمرض. وقد خطا المريض أكثر هذه الخطوات، ولم يبق بينه وبين الراحة إلا سبب ضئيل، ضئيل جدا، تقطعه أيسر وطأة للمرض، فليدع القسيس إذن ليهيئ هذا المريض للقاء ربه.
وهذا القسيس يقبل، وهذه الراهبة تفتح له الباب وتلقي عليه النظرة الأولى، وإذا قلبها يخفق خفقة تكاد أن تهوي بها إلى الأرض، لولا أن تملك البائسة نفسها وتعتمد على بعض الأثاث. وقد دخل القسيس فأدى واجبه، وأبرأ المريض من آثامه وإن لم يبرئه من علته. ثم انصرف، ولكن الراهبة تستوقفه عند الباب، وتسأله في صوت خافت مرتجف: ألم تعرفني يا أبت؟ فيجيبها: كلا أيتها الأخت، من عسى أن تكوني؟ فتقول: ومع ذلك فلم أكد أراك حتى عرفتك، ولم أكد أسمع صوتك حتى انهدم له قلبي انهداما! فيسألها القسيس ملحا: من تكونين؟ تجيبه: أنا فلانة بنت فلان وأخت فلان. قال القسيس وقد اضطرب صوته اضطرابا يسيرا: «سلام عليك أيتها الأخت، وبارك الله لك في حياتك وفي عملك.» ثم انصرف مهرولا. ولما أمسى كان قد طلب إلى رئيسه أن ينقله إلى مدينة أخرى.
وعادت الراهبة إلى مريضها فأبلغته مأمنه، حتى إذا انتهت مهمتها ذهبت إلى القسيس الشيخ، الذي كان يضحك لها أو يضحك منها في أول هذا الفصل، تعترف له وتعتذر بين يديه، وتعلن إليه ندمها؛ لأنها ذكرت بعد هذه الأعوام الطوال حبا قديما استيأست من غايته، فذهبت إلى الدير وانقطعت لعبادة الله والبر بالبائسين، وخيل إليها أنها قد انصرفت عن الحب الإنساني، وتعزت عنه بهذا الحب الإلهي.
ولكنها رأت فذكرت، فعاودها الأسى، فهي نادمة وهي مشفقة من الخطيئة. وهي تلح في هذا الندم، وتغرق في هذا الإشفاق، وتطلب إلى القسيس الشيخ أن يرد إلى قلبها الأمن، وأن يستنقذ نفسها من هذا الخوف، وأن يذود عنها هذه الصور المزعجة التي يثيرها الندم أمام عينيها. والقسيس الشيخ لا يشفق عليها من ذكر هذا الحب القديم والحزن له والتأثر به، فأي شيء في هذا كله؟ إنها امرأة، إنها ابنة الإنسان، والإنسان ضعيف. إنما يشفق عليها من إطالة الندم والإغراق في التفكير، فمن يدري؟ لعل إطالة الندم على بعض الخطيئة شر من الخطيئة نفسها؛ لأنه استبقاء لها واحتفاظ بها، وحنين إليها، وادخار لهذا السبب الذي يصل بين الإنسان وبينها.
كان القسيس الشيخ رفيقا بالراهبة، ولكنها لم تفهم منه هذا الرفق، فلما انصرفت لم تفكر إلا في أن تطلب إلى رئيستها في الدير رحلة بعيدة إلى جزيرة من تلك الجزر النائية التي يكثر فيها المجذومون، ويحتاج فيها المرضى إلى عناية الراهبات.
الحب المكره
كانت تلم بالبيت ساعات في كل يوم فتملؤه بصوتها العذب، ووجهها المشرق، ونشاطها العجيب؛ غناء وجمالا وحياة. وكان صوتها في ذلك اليوم أكثر عذوبة، وكان وجهها أعظم إشراقا وابتهاجا، وكان نشاطها أشد حدة من كل يوم آخر. حتى اضطررت إلى أن أسألها عن أمرها، وشعرت بالحاجة إلى أن أتبين مصدر هذا المرح الذي ملك نفسها وجسمها معا. فقلت لها: «ما أرى إلا أنك أسعد منك فيما مضى من الأيام.» قالت وهي تضحك: «نعم يا سيدي وما يمنعني أن أكون أسعد الناس، وقد نجح ابني في امتحانه، وظفرت بنتي بالشهادة الابتدائية، وربح زوجي ورقة لا بأس بها من أوراق النصيب.»
ولكنك لم تعرف هذه السيدة التي أحدثك عنها، ويظهر أني أنسيت أن أقدمها إليك كما يقولون، فلأصلح هذا الخطأ ولأستدرك هذا النسيان: هي امرأة فرنسية من هؤلاء الخادمات اللاتي لا يقصرن خدمتهن على بيت واحد يلزمنه ويقمن فيه. وإنما يتنقلن بخدمتهن بين طائفة من البيوت يعملن في كل واحد منها ساعات ويقتضين أجورهن آخر الأسبوع على الساعات، لا على الأيام، ولا على الشهور. وهن يعملن في هذا البيت أو ذاك ما أحببن العمل فيه وما استقامت أمورهن مع صاحبته، فإن ضقن به أو ضاق بهن تركنه وعملن في بيت غيره.
وما أكثر البيوت التي تحتاج إلى هؤلاء الخادمات تجد في استخدامهن اقتصادا في النفقة وتوفيرا لما يحتجن إليه من طعام ومسكن إن لزمن البيت أو قصرن خدمتهن عليه! وهن يجدن في هذه الخدمة الموزعة على البيوت لذات مختلفة، ويجنين منها منافع شتى هي أربح لهن وأجدى عليهن، يكسبن منها في الأسبوع ما يكسبنه في الشهر من الخدمة المقصورة على بيت واحد، ويجدن في تنويع هذه البيوت لذة التنقل، واختلاف العمل، واختلاف الحديث، واختلاف الناس الذين يكون إليهم الحديث، واختلاف البوابات التي تكون الخدمة في بيوتهن، واختلاف الشوارع والأحياء التي تقوم فيها البيوت أحيانا. ولهن بعد ذلك حرية يحرصن عليها أشد الحرص فيما يحتجن إليه من طعام وما يتخذن من سيرة في الحياة. ولهن الليل بعد ذلك ينفقنه مع أزواجهن وأبنائهن أو مع أخلائهن إن لم يكن لهن أزواج ولا أبناء.
وهن يعملن ما أحببن العمل، ويكسلن ما أحببن الكسل، وينقلن أشخاصهن من بيت إلى بيت، وينقلن مع هذه الأشخاص ما في نفوسهن من لذة وألم، ومن مرح وخمود، ومن حزن وابتهاج. وينقلن أحاديث البيوت والأسر من دار إلى دار، فينبئن هذه بأحاديث تلك، وينبئن تلك بأحاديث هذه، وينبئن البوابات بأحاديث الناس جميعا. ويكون على هذا النحو طبقة خاصة من النساء ما أرى إلا أنها تصلح موضوعا قيما لبحث اجتماعي نفيس.
وكانت مدام ليونتين هذه التي أتحدث عنها امرأة من إقليم بريتانيا الفرنسية، قد بلغت الأربعين أو جاوزتها قليلا، ولكن من يراها لا يشك في أنها لم تبلغ الثلاثين بعد. قصيرة القامة، ولكنها معتدلة القد، كثيرة الحركة سريعتها، كأنها النحلة لا تستقر، مشرقة الوجه قوية اللحظ، عذبة الحديث رشيقته، لا يكاد لغوها ينقطع، كما أن نشاطها لا يكاد يقف. وكان البيت هادئا مطمئنا يستقبل الصباح في سكون لا تكاد تحس فيه اليقظة، فإذا دخلته استحال البيت كله إلى حركة ونشاط وغناء وحديث. وكانت خفيفة الروح لا يستثقل منها هذا الاضطراب العنيف الذي تدفع البيت إليه دفعا وتغرقه فيه إغراقا. وربما أحس أهل البيت شيئا من الفراغ والضيق بالفراغ حين تتم عملها، وتلقي تحيتها وتمضي مسرعة لتستأنف عملا جديدا في بيت آخر.
وقد اتصل الحديث بينها وبيني في ذلك اليوم الذي لفتني إليها فيه نشاطها غير المألوف، فعرفت أنها لم تكن خادما ماهرة، ولا امرأة جميلة، ولا مغنية بارعة، ولا متحدثة لا يشق لها غبار، وإنما كانت هذا كله، وكانت شيئا أكثر من هذا كله. كانت فيلسوفة، وفيلسوفة بأوسع معاني الكلمة، لا بأدق هذه المعاني؛ فهي لم تكن تحسن المنطق وعلم النفس، ولا تجيد الأخلاق وما بعد الطبيعة، وماذا تصنع بهذه الثرثرة التي يفني الفلاسفة فيها أعمارهم؟
إنما كانت تفلسف في الحياة الواقعة وفيما يملأ هذه الحياة الواقعة من الأحداث. وكانت تفلسف في حياتها الخاصة فتحسن الفلسفة، والحق أن حياتها الخاصة كانت خليقة بالروية والتفكير. وأهم ما كان يعنيها من حياتها هي هذه الصلة التي كانت بينها وبين زوجها؛ فهي كانت تحبه ولكنها تحبه كارهة له، خائفة منه أشد الخوف. وقد ترى أنت وقد أرى أنا في هذا الكلام تناقضا وفسادا، ولكن مصدر هذا في أكبر الظن أننا لا نحسن الفلسفة كما كانت تحسنها مدام ليونتين.
فهي كانت ترى - ويظهر أنها لم تكن مخطئة - أن الحب يكون مع البغض، وأن الأمن يكون مع الخوف، وأن الافتتان يكون مع الاشمئزاز، وأن السعادة بعد هذا كله تكون مع الشقاء. وهي كانت تعلن هذا كله، وتقيم من نفسها ومن حياتها الدليل عليه، وهي كانت تقنع الناس وتقنعني أنا، فإذا لم أستطع إقناعك بما كانت تقنعني به، فمصدر ذلك أني لم أحسن النقل عنها ولا الإعراب عما كانت تقول؛ لأني لا أجد مثل ما تجد ولا أحس مثل ما تحس. ولن يحسن المترجم فنه فيما يظهر إلا إذا استعار شخصية من يترجم عنه، فخلطها بشخصيته خلطا، أو مزجها بشخصيته مزجا كما يقول أصحاب الكيمياء.
نشأت مدام ليونتين في قرية ساحلية من قرى المحيط، وكانت نفسها مستوحشة كالبيئة التي نشأت فيها بين هذا المحيط المصطخب دائما، وهذه الصخور المنعزلة الشاهقة، وفي هذه الحياة التي لا تخلو من خشونة وشظف، وكانت كغيرها من الفتيات الحسان وغير الحسان، تنظر إلى الشباب وتداعب الأحلام حين تنظر إلى الشباب، وكان الشباب ينظرون إليها وإلى غيرها من الفتيات أمثالها، فيداعبون الأحلام وغير الأحلام، ولعلها قد أطالت النظر إلى فتى بعينه، ولعلها فكرت فيه فأطالت التفكير، ولعلها عرضت إليه غير مرة ثم لم تستطع أن تدنو منه ولا أن تتحدث إليه، ولعلها كانت تنتظر أن يلقي إليها النظرة الأولى وأن يدعوها إلى الرقص مساء السبت أو مساء الأحد، وأن يأخذ معها في بعض الحديث.
ولكن الغريب أن هذا الفتى أو غيره من الذين كانوا يمثلون أحلام الفتاة وآمالها لم يعرض لها ولم يسع إليها، ولعله كان ينتظر الوقت الملائم والفرصة السانحة، فسبقه إلى هذا الوقت وانتهز من دونه هذه الفرصة فتى آخر ليس بينه وبين أحلام الفتاة وآمالها صلة ولا سبب، لا يروقها منظره، ولا يعجبها حديثه، ولا تميل إلى الرقص معه. ولعلها إن رأته كرهت الدنو منه وآثرت الانصراف عنه، ولعلها إن رأته أشفقت أن يدنو منها أو يبسم لها أو يلقي إليها بالا أو يرمي إليها بلحظ أو لفظ. ولكنه مع ذلك أقبل عليها واضطرها إلى أن تراه، وتسمع له، وترفع بصرها إليه، وتذعن لحديثه الذي كان يلقيه إليها، كما يلقى الأمر الحازم إلى المذعن المطيع.
دعاها فنفرت، فألح في الدعاء، فاضطرت إلى أن تستجيب، وأحب أن يداعبها فجمحت، ولكنه أغلظ الصوت وحدد اللحظ، فاضطرت إلى أن تسمع لمداعبته وإلى أن تذعن لطلبه حين سألها أن ترقص معه. ثم عرض عليها أن يصحبها في طريقها إلى الدار بعد أن انتهى الرقص، فهمت أن تعتذر وأن تشكر، ولكن لحظة حادة من عينه تلك التي كانت تنفذ إلى أعماق نفسها، فتملأ قلبها رعبا وتهز جسمها هزا عنيفا، أكرهتها على أن تقبل منه شاكرة له ما عرض عليها.
وفي أثناء الطريق ألقى إليها حبه إلقاء، لم يتلطف في لفظ ولم يتظرف في إشارة، ولم يصطنع رقة ولا لينا، ولم يظهر تأثرا ولا افتتانا، ولم يسلك إلى قلبها طريق الغزل التي تعود أن يسلكها العاشقون، وإنما أنبأها في لهجة عسكرية بأنه يحبها ويريدها على أن تكون له زوجا.
وقد ثارت نفسها لهذا الحب الذي يلقى إلقاء، ولهذا الزواج الذي يصدر به الأمر، ولكنها خافت، فلم تعلن ثورتها، ولم تظهر جموحها، وإنما آثرت الصمت، فخرجت به عن لا ونعم كما يقول بشار. ووجد الرفق إلى قلب هذا الفتى سبيلا، فلم يلح في هذا اليوم ولم يراجع، وإنما اكتفى بإلقاء الحب وعرض الزواج، وانتظر أن تثمر هذه الحبة التي ألقاها في هذا القلب الخصب الجديد.
ولم تره الفتاة أسبوعا كاملا، ولم تفكر فيه إلا يوما أو يومين ضائقة به نافرة منه، ثم انقطعت الأسباب بينه وبين نفسها حتى كان آخر الأسبوع، وهمت أن تخرج مع المساء إلى حيث يلهو الفتيان والفتيات بالرقص واستماع الموسيقى في ميدان غير بعيد من شجرات الصنوبر تلك التي يأوي إلى ظلها العاشقون إذا آثروا أن يخلص بعضهم لبعض نجيا. على أنها لم تكد تفكر في الخروج حتى خطرت لها صورة هذا الفتى البغيض، فترددت ثم أخذت نفسها بالبقاء، ثم ترددت ثم غالبها مرح الشباب.
فخرجت تسعى على خوف واستحياء، ولم تكد تبعد عن دارها خطوات حتى رأت هذا الفتى يسعى إليها بطيئا متثاقلا، ويلقي عليها لحظه كأنه الصخر يلقى على الجسم الضعيف، فهمت أن تعود أدراجها. ولكنها سمعت صوتا وقفها في مكانها لا تتقدم ولا تتأخر حتى انتهى الفتى إليها، فأخذ بذراعها وقادها إلى الميدان ورقص معها ما أحب الرقص، ولم يستطع فتى أن يدنو منها أو يسألها رقصة من الرقصات، حتى إذا بلغ الفتى أربه من الرقص قال لها في صوته الهادئ الحازم المخيف: «ستعودين الآن وسأصحبك إلى الدار.» ولم تستطع إلا أن تذعن وتعود كما أراد أن تعود.
وفي أثناء الطريق لم يلق إليها حبا، ولم يعرض زواجا، وإنما أنبأها بأنه سيخطبها إلى أسرتها إذا كان الغد، وأنها ستقبل الخطبة إذا سئلت، وقد استقبلت الفتاة هذا الكلام بثورة عنيفة لم تستطع لها إخفاء، فقالت لصاحبها في صراحة حازمة إنها لا تحبه ولا ترضاه لها زوجا وتود لو خلى بينها وبين الطريق.
وهمت أن تسترسل في هذا الزجر والتأنيب، ولكنه عدل بها عن طريقها في حركة عنيفة خفيفة معا، وحول وجهها نحو المحيط العريض المضطرب المصطخب، وقال لها في صوت حازم رقيق: «أترين إلى هذا البحر الذي لا حد له ولا قرار؟ فإنه سيتزوجك إذا لم أتزوجك أنا، فاختاري أحبنا إليك وآثرنا عندك وموعدك الغد.» ثم ردها إلى دارها لم يلق إليها حديثا ولم يسألها عن شيء.
وأنفقت الفتاة ليلتها ووجه نهارها من الغد، تروعها صورة البحر العريض العميق، وتروعها صورة هذا الفتى الغليظ العنيف. والغريب أنها لم تتحدث إلى أمها بشيء من حديث هذا الفتى، لم تفزع إليها، ولم تستعن بها. وإنما كاتمت سرها كتمانا شديدا، كأنما كانت تخاف إن استعانت بأمها أن تعينها وترفض الخطبة، فيحمل الفتى عليها هذا الرفض ويزوجها من البحر بدل أن يزوجها من نفسه.
وأقبل الفتى مع المساء فخطب الفتاة إلى أهلها، وعرضت الخطبة على الفتاة فلم تستطع لها رفضا، ولم تمض أسابيع حتى أمنت الفتاة شر البحر واحتملت شر هذا الزواج الغريب.
على أن هذا كله ليس شيئا بالقياس إلى غرابة ما كانت تجده هذه الفتاة بعد أن أصبحت زوجا لهذا الرجل الذي غصبها غصبا، فهي كانت - وما زالت إلى هذا الوقت الذي تحدثني فيه - تبغض زوجها أشد البغض إذا نأت عنه أو قربت منه. لا تستطيع أن تراه ولا أن تسمعه دون أن تنقبض نفسها أشد الانقباض، فإذا دنا منها متلطفا في اعتدال وأخذ معها في دعابته الهادئة، لانت له ودانت في خوف وإشفاق.
ثم لا يزال بها حتى يسحرها سحرا، ويختلب قلبها ولبها اختلابا، ويرقى بها إلى أقصى ما تستطيع أن ترقى من السعادة والبهجة والنعيم. ثم تنقضي هذه الساعات، وينقضي معها هذا الحلم الغريب، وتفيق الفتاة مبغضة لزوجها أشد البغض نافرة منه أشد النفور. وهو لا يغيظه منها بغض ولا يؤذيه منها نفور، وإنما هو راض عن طاعتها له وعنايتها به واستسلامها إليه، وسعادتها حين يريد لها أن تكون سعيدة.
ثم كانت الحرب ودعي الرجال إلى الميدان، وكان أسرع من استجاب إلى الدعاء، وقد ودع امرأته متجهما لها، ولم يزد على أن أشار إلى المحيط وقال لها بصوته الهادئ المطمئن: انظري إليه، إنه أحسن زوج للخائنات.
وانقضت أعوام الحرب كلها ومدام ليونتين وفية لزوجها عن حب له، أو عن خوف منه، أو عن خوف من هذا المحيط الذي لا حد له ولا قرار.
وكان هذا الرجل يلم بأهله من حين إلى حين أثناء الحرب، فيلقى امرأته راضيا وينصرف عنها مطمئنا، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها نقلها إلى باريس واستقر في هذه المدينة يعمل هو خادما في إحدى القهوات، وتعمل هي خادما في بعض البيوت، يفترقان إذا أشرق الصبح ويلتقيان إذا أقبل الليل.
يفترقان وهي سعيدة بهذا الفراق ويلتقيان وهي شقية بهذا اللقاء، ويذوقان معا السعادة الغريبة النادرة في ساعات قصار، حتى تم تكوين الأسرة فكان الولد، وكان تنشيء الولد وكانت العناية بالتربية والتعليم. وها هي هذه اليوم تنبئني بأن ابنها قد نجح في الامتحان، وأن ابنتها قد ظفرت بالشهادة الابتدائية وأن زوجها قد ربح ورقة من أوراق النصيب. وهي سعيدة بهذا كله، هي سعيدة بأنها قد جمعت شيئا من مال، وأن زوجها مثلها قد جمع شيئا من مال، وأن هذه الورقة التي ربحها زوجها أمس قد ضخمت كنزهما وعظمت ثروتهما، فأصبحا غنيين عن الخدمة في القهوات والبيوت.
وهي تحب باريس وتريد أن تعيش فيها، ولكن زوجها يحب بريتانيا ويريد أن يعود إليها، وسيشتري فيها دارا يشرف منها على المحيط، وهي مضطرة إلى أن تتبعه لأنها تخافه في باريس كما كانت تخافه في بريتانيا. وهي لا تكره أن تنفق ما بقي لها من الحياة بين هذين العدوين؛ عدوها الذي يمنحها السعادة لحظات من حين إلى حين، وعدوها الذي يدخر لها الموت إن خالفت قوانين الحب والوفاء للزوج.
وكانت مدام ليونتين وهي تلقي إلي أحاديثها هذه تفلسف في سذاجة حلوة فتسأل: كيف توجد السعادة في غير شقاء؟ وتسخر من هؤلاء الذين لا يرضون عن الحياة إلا أن تكون حرة طلقة، وتسأل: أحق أن الحرية تكفل السعادة للناس، وأن الاستبداد لا يعقب الناس إلا شقاء؟
ولست أدري أين قرأت مدام ليونتين أن موسوليني قد أصلح إيطاليا، وأن هتلر قد قوم ألمانيا؛ فهي تقول لي: انظر يا سيدي إلينا إننا أحرار في بلادنا، ولكن أمورنا مضطربة فاسدة أشد الفساد، وإن الإيطاليين والألمانيين بعيدون عن الحرية إلى أقصى غايات البعد، ولكن أمورهم منظمة صالحة، فأنا يا سيدي كإيطاليا وألمانيا سعيدة برغم أنفي وغيري من النساء كفرنسا يؤثرون الحرية على السعادة. قلت ضاحكا: ولكن لو خيرت الآن فماذا تختارين؟ فسكتت غير طويل ثم قالت: أظن أني أختار حرية الفرنسيات.
بين الحب والإثم
أصبحت مبتهجة القلب، راضية النفس، ناعمة البال، مبتسمة للنهار المشرق كما كان يبتسم لها النهار المشرق.
وكانت مع ذلك تخفي شيئا طالما تعودت إخفاءه من اضطراب النفس، وقلق الضمير. وكان هذا الاضطراب والقلق، يعتادانها من حين إلى حين، في مواعيد معينة معروفة هي التي كانت تضرب بينها وبين صاحبها للقاء مرتين في الأسبوع أو مرات. فكانت تهتم لهذه المواعيد قبل أن يحين حينها، تهيئ لها وتستعد لاستقبالها. ولم يكن هذا شيئا يسيرا ولا هينا، ولا محببا إلى نفسها، ولكنه كان من هذه الآلام الثقال التي يحتملها الناس؛ لأنهم يلقون من ورائها لذات عذابا.
فقد كانت هذه المواعيد آثمة لا يقرها الخلق، ولا يرضاها الدين، ولا تطمئن إليها أوضاع الناس فيما ألفوا من سنة وتقليد. وكانت صاحبتنا هذه على ذلك تحيا في أسرة كريمة معروفة لا ترقى إليها ظنة ولا يبلغها ريب، فكان ذلك يشق عليها ويؤذيها، وربما أرقها ليلة كاملة بما كان يثير في نفسها من عواطف الألم والندم، والخوف والإشفاق. ومن عواطف الحرص مع ذلك على هذه المواعيد التي امتزج حبها بنفس هذه البائسة وقلبها، أشد الامتزاج وأقواه، فأصبحت لا تستطيع الحياة إلا لهذه المواعيد، وأصبحت لا تستقبل يوما من أيام الأسبوع ولا ساعة من ساعات اليوم إلا فكرت فيما بين هذا اليوم أو هذه الساعة، وبين يوم الموعد أو ساعته من أمد.
وكانت من أجل هذا كله قد انتهت إلى ما ينتهي إليه أمثالها من هذه الحياة الغريبة التي يتم فيها الاتفاق والائتلاف بين الخوف والرجاء، وبين الألم والأمل، وبين السعادة والشقاء. كانت أسعد الناس بهذه المواعيد تنعم بالتفكير فيها، والسعي إليها، والاستمتاع بما تدخره من لذة وبهجة وأمل، وكانت أشقى الناس بهذه المواعيد تألم أشد الألم وألذعه حين تفكر فيما تضطرها إليه من خروج على السنة المألوفة، وإعراض عن الخلق الكريم، ونقض للعهد المسئول.
وقد طالت عشرتها لهذا الشقاء وتلك السعادة التي أصبحت تنتقل بينهما هادئة مطمئنة كما تتنقل في غرفات بيتها وحجراته. تضيق بالألم والشقاء فتتركها إلى السعادة والرجاء، تتمثل صاحبها وقد أقبل عليها باسما مشرق الوجه يسعى إليها في هدوء ظاهر متكلف، وهيام خفي مكظوم، حتى إذا لقيها طوف معها في هذه الحديقة أو تلك أو أوغل بها في هذا الريف أو ذاك، أو أمعن بها في الصحراء من شرقي الوادي أو غربيه، ثم يعود بها إلى حيث ألفا أن يعودا حين يتقدم المساء. ثم يودعها بعد حين طويل أو قصير، وقد ضربا للقائهما موعدا آخر يضمر لهما مثل ما أظهر لهما هذا الموعد من حياة كلها ابتهاج ونعيم.
فإذا قضت حظها من هذا التفكير الحلو انتقلت منه إلى تفكير مر شديد المرارة، فرأت زوجها الكريم النبيل، وأبناءها الأغرار الأطهار، وتمثلت حبهم لها وثقتهم بها واطمئنانهم إليها، وانصراف هذا الزوج إلى ما ينصرف إليه من عمل، واحتماله ما يحتمل من جهد، وإقبال هؤلاء الأبناء على ما يقبلون عليه من درس في نشاط حلو يحبب الحياة إلى الأحياء. ثم تمثلت مع هذا كله مكانها من الإثم، وأنها ليست أهلا لهذا الحب ولا جديرة بهذه الثقة ولا خليقة بهذا الاطمئنان. وكانت كذلك قد ألفت الاضطراب بين هذه العواطف المختلفة، فكانت ترى راضية ناعمة مشرقة الوجه، وإن في قلبها لألما لاذعا وحزنا عميقا. وكانت ترى أحيانا كئيبا كاسفة البال مظلمة اللحظ، وإن من وراء هذا كله لسعادة وغبطة وابتهاجا.
وقد أصبحت في هذا اليوم ظاهرة الرضا واضحة الابتهاج تستقبل ساعات النهار مبتسمة للأمل متهيئة للنعيم، متعجلة حركة الفلك مشفقة مع ذلك من طارئ يطرأ أو حادث يلم، مشفقة أيضا من هذه العيون الخفية التي ترى الناس ولا يراها الناس، ومن هذه الآذان الخفية التي تسمع الناس ولا يعلم الناس بمكانها، ومن هذه الألسنة الخفية التي تتلقى عن أعين الغيب وآذانه صورا وألفاظا، فما أسرع ما تسعى بها أو ترسلها في الهواء إرسالا. على أن صاحبتنا أرادت أن تنصرف في هذا اليوم عن كل ما يحزن أو يسوء، وأن تسبق الموعد إلى الاستمتاع بجمال الربيع وبهجة الحدائق والجنات.
وما يمنعها أن تقضي وجه النهار في مكان من هذه الأمكنة الجميلة الهادئة التي يبسم فيها الزهر النضر، ويرق فيها النسيم، ويسعى من تحتها النيل هادئا مطمئنا كأنه ساع إلى الرياضة والنزهة لا يلتمس غرضا ولا يدفعه دافع إلى الإسراف في الحركة والنشاط. ما يمنعها أن تخلو إلى سعادتها وشقائها في مكان من هذه الأماكن الهادئة تعكف على نفسها الراضية حينا وعلى نفسها الساخطة حينا، فإذا ضاقت بهذه أو تعبت من تلك خلت إلى هذا الزهر الباسم، وإلى هذا النسيم الهادئ، وإلى هذا النهر المطمئن، فناجتها في دعة وأمن واطمئنان.
ليس ما يمنعها من ذلك وقد مضى زوجها إلى عمله المألوف، ينفق فيه أكثر النهار. ومضى أبناؤها إلى مدرستهم أو إلى مدارسهم، لا يعودون منها إلا مع المساء. واستقل الخدم بأعباء البيت بعد أن تلقوا أمرها فيما يحتاج إلى أن تأمر فيه. وأتيح لها ما يتاح لأمثالها من هذا الفراغ الذي قلما يملؤه الخير وكثيرا ما يملؤه الشر.
خرجت إذن مع الضحى يرافقها صديقاها: السعادة من يمين والشقاء من شمال، ويسعى بين يديها أمل هادئ مطمئن يبسم لها عن اللذة حينا وعن التعزية والتسلية حينا آخر. ولم تكره أن تأخذ صحيفة من هذه الصحف التي تعرض على الناس، لتنظر فيها قبل أن تنظر في نفسها، أو قبل أن تنظر في الطبيعة حين تخلو إلى الطبيعة. فقد يكون الإنسان سعيدا كأقصى ما يسعد الناس، وقد يكون شقيا كأقصى ما يشقى الناس، ولكن هذا لا يمنعه، وما ينبغي أن يمنعه من أن ينظر في الصحف نظرة قصيرة عجلة ليعرف أنباء أمثاله، وما يلم بهم من خير وشر، فيعطف عليهم بابتسامة أو شيء من البر، فما يحسن بالإنسان أن يكون أثرا، تشغله سعادته أو شقاؤه وآماله أو آلامه عما يلم بمعاصريه من الحوادث والخطوب.
وكذلك انتهت إلى حيث أرادت أن تقضي ساعات من الوقت خالية إلى نفسها، وإلى الطبيعة، وأنفذت برنامجها أو أخذت في إنفاذه، فردت نفسها إلى حيث ينبغي أن تكون مستترة مستخفية حتى تفرغ لها بعد حين، وأعرضت عن الزهر والشجر، وعن النسيم والعشب، وعن النيل الهادئ المطمئن، وأخذت تنظر في هذه الصحيفة التي اشترتها والتي كانت تقدر أنها لن تنفق معها إلا لحظات معدودات.
وهي لم تنفق معها إلا لحظات معدودات حقا، ولكنها مع هذا لم تفرغ لنفسها ولم تناج سعادتها ولا شقاءها ولم تناغ هذا الزهر النضر ولا هذا الشجر الملتف ولا هذا النيل الرزين، ولم تسمع غناء هذه الطيور التي لم تكن تنفك تغرد، ولم تكن مع ذلك نائمة ولا مغشيا عليها، وإنما كانت مستقرة في مكانها الذي اختارته، وكان الذين يمرون بها - لو أن أحدا مر بها في هذا المكان الذي اختارته بعيدا عن طريق المارة - يرون امرأة قد جلست كأنها التمثال لا تأتي حركة، ولا تنطق بكلمة، وإنما هي دموع غزار تنهل في صمت على وجه كان جميلا ناضرا، فأدركه هذا الذبول المؤلم الذي يدرك وجوه الناس، حين يعصف بقلوبهم خطب أليم.
ولست أدري أقضت في مجلسها هذا ساعة أم ساعات! ولكنها كانت في بيتها قبل أن يعود زوجها من عمله، ولم تكد تبلغ هذا البيت حتى أسرعت إلى غرفتها فأصلحت من أمرها، وردت إلى وجهها شيئا من الجمال المصنوع، وأخذت نفسها أخذا عنيفا حتى اضطرتها إلى شيء من الهدوء واعتدال المزاج. ثم خرجت إلى حيث يلقاها زوجها حين يعود من عمله كل يوم.
ولم يلاحظ زوجها، ولم يلاحظ أبناؤها - حين عادوا مع المساء - إلا أنها لم تكن مسرفة في النشاط ولا غالية في الابتهاج. وليس هذا بالشيء الغريب؛ فقد ألفوا منها هذه الكآبة الخفيفة تغشى وجهها من حين إلى حين. وليس من الطبيعي أن يكون الإنسان فرحا دائما مبتهجا دائما شديد النشاط في كل يوم.
ولو أنها استمعت لضميرها واستجابت لما كانت تدعوها إليه طبيعة الأشياء، والمألوف من سيرة الناس؛ للزمت بيتها هذا المساء ولانتهزت أول فرصة تتاح لها، فخلت إلى نفسها في غرفتها واستسلمت لهذا الحزن العميق الذي كان يجاهدها جهادا عنيفا ليظهر وينفجر، والذي كانت تجاهده جهادا عنيفا ليكمن ويستخفي.
نعم لو أنها استجابت لما كانت تدعوها إليه طبيعة الأشياء أو المألوف من سيرة الناس، لفعلت هذا أو لاندفعت في شيء من هذه الحركات التي ينفق الناس فيها وقتهم، وينسى الناس بها أنفسهم من لقاء الأصدقاء وزيارتهم أو استزارتهم والتحدث إليهم بما لا يفيد، والاستماع منهم لما لا يغني، واصطناع هذا النوع من النفاق الاجتماعي الشائع الذي يخفي علينا أنفسنا ويخفي أنفسنا على الناس.
ولكنها كانت في هذا المساء جامحة النفس، ثائرة الضمير، هائجة الغريزة، شاردة الإرادة، فلم تستمع لطبيعة الأشياء، ولم تستجب للمألوف من سيرة الناس، ولم تخل إلى نفسها في غرفتها، ولم تفر من نفسها إلى صديقاتها، وإنما استجابت لشيء واحد: هو هذه العاطفة التي كانت تلح عليها أشد الإلحاح في ألا تخلف الموعد الذي ضربته لصاحبها مهما تكن النتائج ومهما تكن الظروف. فإن المواعيد لا تضرب لتنقض، وإنما تضرب ليوفي بها أصحابها. وهي تعلم حق العلم أنها إن ذهبت للقاء صاحبها حيث اتفقا أن يكون بينهما اللقاء، فلن تجده، وأنها قد تنتظره ساعة وساعة، وقد تنتظره الليل كله، وقد تنتظره الدهر كله؛ فلن تراه لأنها قرأت نعيه في تلك الصحيفة التي اشترتها صباح اليوم.
ولكن هذا لا يعفيها من الوفاء بالوعد والسعي إلى اللقاء والجد فيه. وهل كان هذا النعي الذي قرأته في الصحيفة صباح اليوم إلا كتابا من صاحبها ينبئها فيه بأن مكان اللقاء قد تغير لظروف طارئة أقوى منه ومنها، فلن يكون اللقاء في هذه الحديقة الجميلة على الضفة الغربية للنيل، ولكنه سيكون إن أرادت في ناحية من نواحي الصحراء هناك حيث يستقر الناس بعد أن ينفضوا عن أنفسهم أوزار الحياة، أو بعد أن تنفيهم الحياة منها نفيا.
أليس قد بين لها صاحبها في هذا الكتاب مكان اللقاء في الصحراء؟! لقد كان دقيقا في كتابه فبين الطريق التي سيسلكها منذ يخرج من داره مع المساء إلى أن ينتهي إلى موعده مع الليل. سيسلك هذا الطريق هادئا رزينا حتى إذا انتهى إلى مسجد من مساجد الله، عطف عليه فقدم نفسه الآثمة النادمة إلى الله تائبة مستخزية تلتمس فضلا من عفوه الذي لا حد له وحظا من رحمته التي وسعت كل شيء.
ثم يخرج من المسجد فيتخذ سيارة ويمضي مسرعا إلى موعده من الصحراء. وكان عقل هذه البائسة يحاول أن يتسلط على نفسها الجامحة وضميرها الثائر وعواطفها المضطربة، وأن يبين لها أن لا بد مما ليس منه بد، وأن هذه الأسباب الآثمة قد انقطعت بينها وبين صاحبها منذ عدا عليه الموت أمس، ولكنه لم يكن يبلغ مما يريد شيئا. وهذا الليل قد ألقى ظلماته على الصحراء، فجللها برداء قاتم كثيف، وهذه امرأة ماثلة وحدها غير بعيد من هذا القبر الذي لم تفرغ الأيدي من تسويته إلا منذ وقت قصير. هي قائمة واجمة لا تدنو من القبر ولا تنأى عنه، تود لو استطاعت أن تسعى حتى تنتهي إليه فتجثو عنده وتبثه ما يملأ قلبها ونفسها من حزن وحب، ومن ألم ويأس، ومن رغبة قوية في أن تلحق بصاحبه الذي استقر فيه.
ولكنها لا تستطيع أن تخطو خطوة إلى أمام كأنما أخذت رجلاها بقيد عنيف ثقيل. وقد يخطر لها في لحظة قصيرة أن تعود أدراجها، فقد أتت لموعدها، ووفت لصاحبها، كما يستطيع الناس أن يأخذوا بحظهم من الوفاء. ولكنها لا تستطيع أن تخطو خطوة إلى وراء كأنما أخذت بقيد عنيف ثقيل. ما هذا القيد الذي وقفها في هذا المكان ومنعها أن تتقدم أو تتأخر؟ إنها مع ذلك لا تحس شيئا، إنها لتجد ساقيها حرتين، ولكنها مع هذا لا تستطيع أن تسعى نحو القبر ولا تستطيع أن تعود من حيث جاءت.
إن قوة هائلة مخيفة مروعة قد قامت بينها وبين القبر، هي لا تراها ولا تحسها إلا حين تحاول الخطو إلى أمام، فهي حينئذ ترى ما يخيفها ويروعها، ويملأ قلبها هولا ورعبا، ويعقد لسانها فلا تقول، ويطبق فمها فلا تصيح.
وإن قوة أخرى ليست هائلة ولا مروعة ولا مخيفة، ولكنها حزينة ملحة في الحزن، شاحبة ملحة في الشحوب، نحيلة ضئيلة، ولكنها مع ذلك قوية لا تراها هذه المرأة إذا التفتت أو تحولت، ولكنها إذا همت أن تخطو إلى وراء أحست صوتا يمزق القلوب ويفرق النفوس؛ يقول لها في حزن: «إلى أين تذهبين؟! وحبك ماذا تصنعين به؟! وهل بقي لك أمل في الحياة؟» والوقت يمضي، والليل يتقدم، والسكون من حول هذه المرأة يتصل ملحا ثقيلا، وهي في مكانها قائمة واجمة يثوب إليها عقلها بين حين وحين، فتحاول الحركة فلا تستطيع، وتحاول الصياح فلا تستطيع، وتحاول النجوى فلا تستطيع، وإنما هي تمثال قد حيل بينه وبين الحركة والقول ، ولم يحل بينه وبين الحس والشعور والتفكير.
ثم تضطرب في هذا التمثال الشاعر المحس المفكر رعدة قوية، تظهر في أصل نفسه، ثم تنتشر مسرعة في جسمه كله. وإذا المرأة قد انطلق لسانها المعقود، وفتح فمها المطبق، ووجدت القدرة على الحركة، واستطاعت إن أرادت أن تخطو إلى أمام، وأن تخطو إلى وراء، كأنما رفعت عنها قيود وأغلال كانت قد فرضت عليها فرضا. ولكنها مع ذلك لا تسعى إلى القبر، كأنها تحس أنها إثم كلها، وأن هذا القبر قد أصبح بمنجاة من الإثم الجديد.
كم كانت تحب لو سقت هذا القبر بهذا الدمع الغزير الذي ينهل على وجهها، ولكنها مع ذلك لا تفعل، كأنها تحس أن هذا الدمع إثم كله، وأنه سيستحيل نارا محرقة إن بلغ هذا القبر، وما ينبغي لهذا القبر أن تمسه منها النار.
كلا، لقد حيل بينها وبين صاحبها حيا حين قطع الموت ما كان بينهما من الأسباب، ولقد حيل بينها وبين صاحبها ميتا، حين قام تمثال الإثم بينها وبين هذا القبر. إن الطريق حرة مطلقة من ورائها تستطيع أن تسلكها متى شاءت، لن تجد من يردها، ولن تجد ما يعوقها. إن هذه القوة الحزينة التي كانت قائمة من ورائها تمنعها من الرجوع، قد تحولت عن موقفها شيئا وخلت بينها وبين الطريق، واتخذت صورة الرفيق الحزين المستخزي الذي يريد أن يرافقها وألا يفارقها ما وجد إلى مرافقتها سبيلا.
وهذا شخص آخر يظهر في وجهه الحزم والصرامة، ولا يخلو وجهه مع ذلك من رفق ولين، قد أقبل حتى قام عن يمين هذه المرأة هادئا رفيقا تجري في وجهه ابتسامة حلوة لا تخلو من كآبة وحزن، وهو يظهر الاستعداد لمرافقة هذه المرأة وأخذها بالتعزية الحلوة الحازمة ما وجد إلى ذلك سبيلا.
والمرأة تتحول عن موقفها وتسعى بين هذين الرفيقين في طريقها عائد إلى بيتها. وهما يسعيان معها عن يمين وشمال صامتين لا يقولان شيئا. ولكنها تفهم عنهما كل شيء؛ فأما أحدهما فيحدثها عن زوجها الوفي وأبنائها الأغرار الأطهار، وأما الآخر فيحدثها عن هذا القبر الذي حال بينها وبين من كانت تحب، والذي احتوى حبها وأملها ولذتها وسعادتها جميعا.
وتمضي أيام وأيام، وتمضي أشهر وأشهر، وتمضي أعوام وأعوام، وتتقدم السن بهذه المرأة. ولكنها دائما لا تنظر إلى يمين إلا رأت شخص الواجب هائلا يظهر في وجهه الحزم الحلو، وتجري في وجهه الابتسامة الحزينة. ولا تنظر عن شمال إلا رأت شخص الحب هائلا يظهر في وجهه حزن وخزي، ويظهر في وجهه كذلك تصميم على ألا يفارق هذه المرأة حتى تفارق الحياة.
نفس معلقة
مضوا مصعدين في طريق وعرة مدرجة ضيقة قد التوت حول الجبل، كأنما كانت تريد أن تأخذه أخذ السوار للمعصم. وكانت عن يمينهم - وهم يمضون في هذه الطريق الضيقة بطاء ثقالا متعثرين - هوة عميقة سحيقة ملتوية التواء الطريق نفسها، يتدفق في قرارها سيل عنيف غزير له هدير يملأ الجو صخبا وضوضاء، حتى لا يكاد الإنسان يسمع صوت صاحبه إلا في شيء من الجهد والعناء. وكان على السفحين عن يمين القوم وشمالهم شجر كثيف ملتف، متصل صفيق الظل، قد علق في السفحين تعليقا، وقام بعضه من فوق بعض حتى لا يكاد البصر يبلغ أعلاه، كما لا يكاد البصر يبلغ آخره طولا، وقد امتدت أغصانه من هنا ومن هناك، وتكاثف بعضها فوق بعض حتى التقت وتناصت كما كان يقول القدماء، أو اعتنقت كما يحب أن يقول المحدثون، وانعقدت من هذه الأغصان الملتقية الملتوية، سقوف ضخام لا تنفذ من أثنائها أشعة الشمس إلا في مشقة وعناء.
وكان القوم يمضون بطاء ثقالا كما قلت يصعدون في هذا الدرج الوعر، وتتزلق أقدامهم على هذه الحجارة الملس، لولا أن عصيهم ذات الأطراف المحددة كانت تسبقهم شيئا إلى أمام تتحسس لهم أخبار الطريق، وتبين لهم مواضع الخطو وتتثبت لهم من الأمن. وكان النهار قد تقدم حتى أدركته هذه الشيخوخة التي يسبغ الأصيل عليها رداء شاحبا حزينا يبعث في النفوس شحوبا وحزنا. وكان القوم متعبين، ولكن التعب لم يستطع أن يفل من عزائمهم، ولا أن يثبط من هممهم، ولا أن يردهم عما قصدوا إليه أول النهار من أن يبلغوا منحدر السيل، وينتهوا إلى هذه الصخور العظام التي يتفجر منها الماء في منظر رائع رهيب، ثم ينحدر عنها في هدير يملأ النفوس هلعا ورعبا وشعورا قويا بالجمال.
وكان صاحبي يسايرهم متابعا لهم في الرأي على كره منه، نشيطا للحركة والرياضة أول الأمر، ثم ضيقا بهذا الحر الثقيل وهذه الطريق الوعرة، وهذه الخطى المتعثرة. فلما قرب القوم من هذه الصخور العظام ولم يبق بينهم وبين بلوغها إلا ساعة أو بعض ساعة، وقفوا يستريحون ويستجمعون ما بقي لهم من نشاط وقوة؛ ليهجموا بهما على هذا الشوط الأخير، ثم تم لهم ذلك فهموا بالتصعيد. ولكن صاحبي أبى عليهم وأقسم لا يبلغ تلك الصخور، ولا يبرح مكانه الذي انتهى إليه، وطال بينه وبينهم جدال مؤلم، لم يخل من ألفاظ لاذعة، ولكنه صمم، وكان حسن التصميم، لا يتحول عن رأي إذا اطمأنت نفسه إليه، فتم بينه وبين القوم اتفاق مؤلم مظلم، على أن يظل في مكانه منتظرا لهم حتى يصعدوا إلى منبع السيل فيرضوا منه حاجتهم، ثم يصاحبهم بعد ذلك في العودة حين ينحدرون إليه.
ولم يكن صاحبي قد فقد نشاطه كله، ولم يكن قد استيأس من القدرة على التصعيد، ولعل نفسه كانت تنازعه إلى المضي مع القوم فيما مضوا فيه، ولعله لم يبق في مكانه إلا بعد أن جاهد نفسه جهادا غير قليل. ولكن ماذا تريد؟ لقد عرض له عارض حال بينه وبين المضي واضطره إلى البقاء، وقد ظل أصحابه بعد ذلك ينكرون عليه عناده، يحسن بعضهم به الظن فيقول إنه قد أدركه التعب وبلغ منه الجهد، وقيده الإعياء.
ويسيء بعضهم به الظن فيقول: إنما هو عارض من سوء الخلق، عرض له فصرفه عن هم أصحابه، وإنما هي خنزوانته التي تعرض له من حين إلى حين، فتفسد رأيه في الناس، وتفسد رأي الناس فيه، وتدفعه إلى شذوذ منكر، يحمل أصحابه على أن يتواصوا بأن يتركوه حتى يثوب إلى رشده أو يثوب رشده إليه. وقد أقسم لي صاحبي ما أثقله جهد ولا قيده إعياء ولا ألمت به خنزوانته. ولكنه صوت تردد في الغابة، فلم يكد يبلغ أذنه حتى انتهى إلى نفسه فمس منها موضعا دقيق الحس سريع التأثر، وإذا هو يعنى بهذا الصوت ويلتفت إليه، فيزداد تأثره به، وإذا هو يحول نفسه كلها نحوه ويقف حسه كله عليه، وإذا هو يتبين مصدر هذا الصوت ويسأل أصحابه: أيسمعون؟ وماذا يسمعون؟ فلا يجد منهم إلا إهمالا وفتورا، وإعجابا بهذين السفحين عن يمين وشمال، وبهذه الهوة ينحدر فيها السيل العنيف، وبهذه الطريق تلتوي حول الجبل كأنما تريد أن تطوقه، ثم بهذه الصخور العظام التي خرجوا مع الصبح يلتمسونها.
فأما هذا الصوت فقد أنبئوه فاترين بأنهم يسمعونه ويظنون أنه صوت حشرة من حشرات الغابة. ولما رأى فتورهم وإعراضهم كره أن يلح عليهم واستحيا أن يظهر نشاطه لما لا ينشطون له، وعنايته بما لا يعنون به. ولكنه ازداد إقبالا على الصوت وفراغا له، وتحليلا لدقائقه، واقتنع بأنه إن طال الاستماع له، فقد يفهم عنه شيئا ذا بال. وكان سعيدا حقا حين تخفف من أصحابه، وحين تركهم يصعدون نحو صخورهم العظام، وحين انقطعت عنه أصواتهم، وحين خلا إلى نفسه فلم يسمع إلا هذا الصوت الملح المتصل في شيء من التقطع كأنه نداء، وكأنه نداء حزين فيه شكاة حزينة، يملؤها ألم لا يكاد يحد. وقد كلف نفسه كثيرا من البحث لعله يتبين مصدر الصوت فلم ير شيئا. ولم يتبين شيئا، وإنما استيقن أن الصوت يأتي من يمين، واستيقن أنه ليس صوت طائر معروف، وليس صوت حشرة معروفة من حشرات الغابة، وكاد يقطع بأنه ليس صوت حيوان، وأخذت تصعد من قلبه إلى رأسه في أناة وهدوء فكرة غريبة لم يكن يقدر أن تخطر له، ولكنها مع ذلك عرضت له فاضطرب لها اضطرابا شديدا أول الأمر، وهم أن يصعد في الجبل لاحقا بأصحابه، أو أن ينحدر من الجبل عائدا أدراجه.
ولكنه لم يستطع أن يتقدم ولا أن يتأخر، وإنما وجد نفسه مقيدا مغلولا، وكان هذا الصوت المتصل الحزين الشاكي هو الذي قيده وغله واضطره إلى البقاء. على أنه أخذ يطمئن بعد دقائق قليلا قليلا؛ لأن شيئا لم يسع إليه عن يمين، ولأن شيئا لم يسع إليه عن شمال، ولأن شيئا لم يخرج له من الأرض ولا من هذه الهوة العميقة التي يتحدر فيها الماء عنيفا صاخبا، ولأن شيئا لم يهبط عليه من السماء، بل ما زالت الأغصان كشأنها متناصية ملتفة متكاثفة تتخللها أشعة مضطربة ضئيلة.
كل شيء هادئ مطمئن كعهده به حين أخذ يصعد في هذه الطريق لولا هذا الصوت المتصل الحزين الشاكي. فما يمنعه أن يطمئن إلى هذا الصوت، وأن يمزج بما ينبعث فيه من الحزن؛ حزنا ينبعث من قلبه، وبما يفيض فيه من الشكاة؛ شكاة تفيض من نفسه التي أثقلها الحزن والسأم والملل. ولكن الفكرة التي صعدت من قلبه قد انتهت إلى عقله فاستأثرت به، وملكت عليه أمره، وصرفته عن كل جمال وعن كل حزن وعن كل ألم أو لذة، وأخذته بالبحث عن هذه النفس التي كان هذا الصوت يعرب عنها.
ولا تضحك أيها القارئ العزيز من صاحبي، فلم تكن قصته تثير ضحكا أو تعرضه لقليل من السخرية أو كثير. وقع في قلبه أن هذا الصوت ليس صوت طائر ولا حشرة ولا حيوان، وإنما هو صوت نفس إنسانية متألمة تعرب عن ألمها، معذبة تعلن ما تحمل من عذاب، مستغيثة لا يغيثها أحد، مستنجدة لا تجد لها منجدا.
أنكر هذا الخاطر أول الأمر، وظنه أثرا من آثار الاضطراب، ثم ألح في إنكاره، ولكن هذا الخاطر قوي في قلبه لأنه نبت في قلبه، وصدر عن قلبه، ثم أخذ يصعد وقوته تزداد وتشتد، حتى انتهى إلى العقل فملكه وسيطر عليه. ولم يستطع صاحبي أن يشك في أنه يسمع نفسا إنسانية تشكو ألما وحزنا وحرمانا. وما هي إلا أن أخذ يبحث عن هذه النفس، ويلتمس في هذا الصوت في طبيعته وفي حجمه وفي نبراته ما يدله على صاحب هذه النفس. والغريب أنه لم يشك في أنها نفس شخص من ذوي معرفته، والذين كانت بينهم وبينه صلة في قديم أيامه أو حديثها، فأخذ يستعرض صور أصحابه وأصدقائه وذوي معرفته الذين تصرمت عنهم الحياة وتقطعت بهم أسباب العيش، وأدركهم الموت شبانا أو كهولا أو شيبا. وأغرب من هذا أنه لم يفكر في أن هذه النفس، إن كانت هناك نفس، يمكن أن تكون نفسا إنسانية ما، لم يعرفها ولم تعرفه من قبل.
وما أكثر الذين يموتون في كل لحظة من لحظات الدهر وفي كل مكان من الأرض! وما أكثر النفوس التي تفارق الأجسام مع كل دقة من دقات الساعة أو حركة من حركات الزمان! ولكنه لاحظ أن هذا الصوت لم يلفت أحدا من أصحابه، ولم يؤثر في أحد من هؤلاء الناس الذين يصعدون في هذه الطريق، ولم يبلغ إلا قلبه هو، ولم يؤثر إلا في نفسه هو. فيجب أن تكون هناك صلة بينه وبين مصدر هذا الصوت، ويجب أن تكون الأقدار قد دبرت الأمر تدبيرا محكما، وهيأت له هذه النزهة ليقصد إلى هذا المكان وليسمع فيه هذا الصوت، وليعلم فيه علم هذه النفس، ويجب أن يكون هناك شيء ذو بال سينتهي إليه. ومن يدري لعل لهذه النفس رسالة تريد أن تبلغها إلى أحد من الأحياء.
كذلك خرج صاحبي عن طوره خروجا تاما، كان هادئ الجسم كل الهدوء مضطرب النفس كل الاضطراب، أو قل: كان عاقل الجسم كل العقل، لا يظهر عليه شيء ينكره الناس، وكان مجنون العقل كل الجنون لو اطلع الناس على ضميره لأنكروه أشد الإنكار.
أأقام صاحبي طويلا على هذه الحال؟ أأقام صاحبي قصيرا على هذه الحال؟ أنبأني أنه لم يدر، ولكنه أحس يدا توضع على كتفه، وصوتا يصيح به في عذوبة لا توصف: أنائم أنت؟ فالتفت، فإذا زوجه قد أقبلت منحدرة مع أصحابه وإذا هي تدعوه إلى النهوض.
قال وقد سمع صوتها وفهم عنها: «لا لست نائما، ولكني كنت مغرقا في الاستماع لهذه النفس.» قالت زوجه في شيء من العجب: «أي نفس؟» قال: «ألا تسمعين هذا الصوت؟ لقد سألتك عنه آنفا فلم تحفلي بسؤالي، ولقد بقيت لأعلم علمه، وما أشك في أنه صوت إنساني يصدر عن نفس إنسانية معذبة شاكية ...» قالت زوجه: «ويلي عليك يا صاحبي! ما أرى إلا أن قراءتك المتصلة ستمضي بما بقي من عقلك. هلم فقد أقبل الليل ولا ينبغي أن يفوتنا القطار.»
ونهض صاحبي فمضى مع القوم كارها، وهم يسخرون منه ويتندرون عليه، ويصفون له جمال ما رأوا، وروعة ما شهدوا، وهو يسمع لهم حينا ويذهل عنهم حينا. ثم كانت العودة وكان الاضطراب فيما يضطرب فيه المصطافون في مدينة فرنسية من مدن الجبل إذا أقبل الليل.
ثم أصبح صاحبي حائرا لا يدري، أيتحدث بحديثه إلى زوجه أم يكتمها إياه؟ ذلك أنه كان يشفق أن يروعها إن تحدث إليها بهذا الحديث، وكان يشفق أن يسوء ظنها به أو أن يسوء رأيها فيه، أو أن تنتهي من أمره إلى أنه مجنون قد فقد الرشد وأضاع الصواب. على أنه آثر أن يخفي هذا الحديث، وأن يفارق هذه المدينة التي كان كل شيء فيها يدفعه إلى الجبل وطريقه الملتوية وأغصانه المتناصية، وهذا الصوت الذي يتردد متصلا معلنا للحزن معربا عن الشكاة.
وما هي إلا أن يظهر الضجر بالمقام في هذه المدينة، ويزين الانتقال إلى مدينة أخرى، ويبذل الوعود والأماني، ويتلطف في السيرة والحديث، وينثر المغريات من حوله نثرا، حتى انتهى إلى ما أحب وفارق هذه المدينة التي كره المقام فيها كرها شديدا ...
قصد مع أسرته إلى قرية هادئة من قرى المحيط، ولقيني في تلك القرية وحدثني فيها بهذا الحديث. ولما انتهى منه إلى حيث انتهيت، لاحظ في وجهي إنكارا وسخرية، فرابه ذلك بعض الشيء، وقال: إنك لتذهب مذهب القوم وتتهمني في عقلي، وما تشك في أني مجنون أو مقبل على الجنون. وهممت أن أرد عليه وأن أزيل ارتيابه، فلم يحفل بي، ولكنه مضى في حديثه قائلا: «يجب أن تستمع لآخر الحديث، وأن تجعل بيننا عهدا لنحققه، فإن انتهينا إلى صدقه اعترفت معي بأني سمعت نفسا إنسانية تتكلم، وإن انتهينا إلى كذبه اعترفت معك بأني كنت مريضا مجنونا أو مشرفا على الجنون.»
قلت: وكيف ذاك؟ قال: «إن هذه النفس التي سمعت صوتها في الغابة عرضت لي بعد ذلك في النوم وحملتني رسالة إلى صديق تعرفه وأعرفه.» قلت، وقد ازداد إنكاري لصاحبي، ولكني مع ذلك أظهرت العناية والدهش: «ماذا تقول؟» قال: «أقول إن هذه النفس تراءت لي في النوم، وأنبأتني بأني لم أخطئ فيما قدرت حين استمعت لها وبأنها نفس إنسانية وبأنها نفس فلانة، أتعرفها؟» قلت: «نعم أعرفها، لقد شيعناها إلى القبر منذ أشهر.» قال: «فهل تعرف أن بينها وبين فلان صلة؟» قلت: لا، وما كان ينبغي أن توجد بينهما صلة. قال: «فإنها أنبأتني بأنها قد كانت له خليلة، وبأن أول أمرهما كان منذ أعوام في هذا المكان الذي سمعتها فيه، وبأنها بعد أن فارقت الحياة ومضت في طريقها المجهولة، إلى غايتها المجهولة، انقطعت بها الطريق في هذا المكان، وألقي إليها أنها ستبقى هنا وحيدة تنتظر صاحبها حتى إذا أدركتها نفسه بعد وقت طويل أو قصير مضتا معا في طريقهما المجهولة إلى غايتهما المجهولة، ولكنهما يجب على كل حال أن يستأنفا سفرهما من هذا المكان الذي استكشفا فيه قلبيهما.»
وقلت وقد أدركني من حديث صاحبي شيء يشبه الذعر، إن لم يكن هو الذعر: «ما رأيت كاليوم حديثا عجبا.» قال: «بل قل: ما رأيت كاليوم جنونا عجبا، فهذا أصدق في الإعراب عما تريد. ولكنا سنلقى صاحبنا إذا عدنا إلى أرض الوطن، وسنتلطف له لنعلم أكان بينه وبين هذه السيدة شيء، وسنتبين أكان حديثي هذا عرضا من أعراض الجنون أو أثرا من آثار الأعصاب المريضة المكدودة.» قلت: ولكنك لم تحدثني بهذه الرسالة التي تحملها إلى صاحبنا عن هذه النفس. قال: «وبماذا تريد أن أحدثك؟ إنها تتعجل مقدمه عليها، وماذا يملك المسكين من أمره؟ ومتى استجاب الأحياء لدعاء الموتى؟ ومتى هانت الحياة على أصحابها، وإن استحلفهم الموتى بأصدق الحب وأبلغه في القلوب أثرا؟»
ثم عدنا بعد أسابيع إلى أرض الوطن، ولست أشك في أن صاحبي قد كان حدثني ببعض الهذيان، ولم أفكر قط في أن أحقق حديثه، ولكنه هو فكر في ذلك وسعى إلي وألح علي وسار معي إلى صاحبنا. ولكن ماذا؟ إن صاحبنا مريض، وإن مرضه ثقيل، وإن الأطباء يشفقون عليه أشد الإشفاق. قال صاحبي وقد خرجنا من عنده دون أن نتحدث إليه في شيء: ما أرى إلا أن الرسالة قد انتهت إليه من طريق غير طريقي، ومع ذلك فسنعوده إذا كان الغد. ثم عدناه مرة ومرة ومرة، وعرض له صاحبي ببعض الحديث، فما شككنا في أنه قد كان من تلك السيدة على أمر. ثم استحال التعريض إلى تصريح، فما شككنا في أن صاحبي قد قال حقا، ولكن صاحبي لم يبلغه الرسالة؛ لأن الرسالة كانت قد سبقت إليه، ولأنه لم يكن في حاجة إلى من يستعجله، ولأننا لم نلبث إلا أياما حتى شيعناه إلى مستقره الأخير.
ليت شعري، أكان لغوا ما قال صاحبي؟ ليت شعري، أكان جدا ما قال صاحبي؟ ليت شعري، أأدركت نفس صاحبنا تلك النفس المعلقة في غابة من غابات فرنسا على جبل من الجبال حول ذلك السيل الذي ينهمر في قوة وعنف، فيملأ الجو ضجيجا وعجيجا واصطخابا، ويتميز منه على ذلك الصوت المتصل الحزين الذي يعلن عن اللوعة ويعرب عن الشكاة.
ثأر بيرينيس
لست أدري كيف وصلت أخبار الدنيا إلى دار الموتى، ولا كيف وصلت أخبار الموتى إلى أهل الدنيا. ولكن صاحبي حدثني حديثا عجبا، ولم يرد أن ينبئني كيف استقام له هذا الحديث؛ زعم لي أن خلافا عنيفا أليما ثار بين حبيبين في دار الموتى فأفسد الأمر بينهما إفسادا عظيما كاد يستحيل إصلاحه، لولا أن أديبا دخل بينهما فردهما إلى شيء من الصلح القلق والتوافق الموقوت.
وكان ذلك في اليوم العاشر من هذا الشهر، بعد أن نزل إدوار الثامن عن ملك إنجلترا وما وراء البحار وإمبراطورية الهند لأخيه الملك الجديد. كان ذلك في الصباح أو في المساء، وفي أي لحظة من لحظات النهار أو من لحظات الليل، فقد زعموا أن ليس في دار الموتى ليل ولا نهار، وإنما الزمان عندهم فكرة تجيلها النفس ويتمثلها العقل ولا تصورها حركة الأرض ولا حركة الشمس، ولا اضطراب كوكب من الكواكب ولا دوران فلك من الأفلاك.
كان هذا الخلاف بين هذين الحبيبين في لحظة من ذلك اليوم حين انتهى نبأ انحلال الأزمة البريطانية إلى دار الموتى، وحين علم به تيتوس القيصر الإمبراطور وصاحبته بيرينيس ملكة فلسطين!
وأنت تعلم من غير شك أنهما هبطا إلى مستقرهما الأخير منذ تسعة عشر قرنا أو ما يقرب من تسعة عشر قرنا. فقد مات تيتوس القيصر الإمبراطور في أواخر القرن الأول للمسيح سنة إحدى وثمانين، وماتت بيرينيس بعده بقليل. وإذا جارينا الشاعر الفرنسي العظيم راسين فقد ماتت حزنا عليه، أو تعمدت الموت لتلحق به. لا يخبرنا الشاعر بذلك، ولكنه ينبئنا في قصته الخالدة بأن بيرينيس كانت تريد الموت استجابة لليأس، فعزم عليها عاشقها القيصر الإمبراطور لتبقين، وأنذرها أنه لاحق بها إن ماتت وقاتل نفسه إن قتلت نفسها.
وكانت الملكة الفلسطينية مؤثرة لحبيبها العظيم على نفسها، فآثرت البقاء لا حبا في البقاء، بل إيثارا لعاشقها به، وعاشت لا لتنعم بالعيش، بل لينعم الرومانيون بحياة قيصرهم الإمبراطور. وأكبر الظن أن موت الإمبراطور قد يسر الأمر على حبيبته وأحلها مما قطعت على نفسها من العهود والمواثيق، فأسرعت إلى الموت لا حبا في الموت، ولكن رغبة في لقاء خليلها، حيث لا تثار الاعتراضات على حبهما في مجلس الشيوخ الروماني، ولا في ملاعب التمثيل ولا في أسواق المدينة الخالدة. وأكبر الظن أن العاشقين التقيا مبتهجين بهذا اللقاء، فرحين بهذه السعادة الباقية التي لا تتاح للناس في هذه الحياة الفانية. وأكبر الظن أيضا أنهما شغلا بحبهما عن كل شيء وعن كل إنسان، وشغلا بحبهما عن شئون الناس خاصة، لم يصرفا عنه لحدث من الأحداث، ولا عظيمة من العظائم، بل لم يصرفا عنه لما كان يكتب عنهما المؤرخون في العصور القديمة أو العصور الحديثة. ولعلهما لم يصرفا عنه إلا مرة واحدة في القرن السابع عشر، حين كتب راسين قصته الرائعة وقدمها إلى الملعب، وحين كتب كورني قصته البارعة وعرضها على النظارة، وحين اختلف الناس في أمر هذين الشاعرين وفي أمر هاتين القصتين كما كانوا يختلفون في أمرهما وفي آثارهما دائما.
وقد كان تيتوس القيصر الإمبراطور أديبا ظريفا ومثقفا مترفا، وكان يحب الفن ويشغف بالأدب ويفتن بالفلسفة، وكانت بيرينيس من أذكى بنات إسرائيل وأعظمهن حظا من ثقافة ودقة ورقة وترف، وقدرة على استئثار بعقول الرجال والاختلاب لألباب الملوك. فجائز أن يكون اختلاف الناس في راسين وكورني وفي قصتيهما قد شغلهما لحظة عن حبهما الخالد وسعادتهما المتصلة، ولكن المحقق - فيما يقول صاحبي - أنهما لم يلبثا أن عادا إلى ما كانا فيه من الغزل والدعابة، ومن الاستمتاع بنعيم الحب الذي لا ينغصه الصد ولا يفسده الهجر ولا تكدره وشاية الوشاة.
وقد كانت الثورة الفرنسية، وكانت حروب نابليون، وكانت الأحداث الجسام التي اتصلت بين الناس. وكانت الحرب الكبرى، وكان ما كان بعد هذه الحرب، والعاشقان لا يحفلان بشيء من ذلك ولا يأبهان له ولا يفكران فيه، حتى كان يوم الخميس الماضي، وإذا هما يردان إلى أمور الناس ويشغلان بها ويتأثران بأنبائها أشد التأثر، حتى تكاد الأسباب بينهما أن تنقطع، وحتى توشك المودة بينهما أن تزول لولا أن تدخل هذا الأديب فاضطرهما إلى خطة، هي إلى الهدنة أقرب منها إلى الصلح، وهي إلى الموادعة والانتظار أقرب منها إلى المودة والصفاء.
وأنت بالطبع تعلم أن تيتوس قد عرف صاحبته الجميلة الخلابة في فلسطين حين كان مع أبيه يحاربان اليهود ويعيدانهم إلى طاعة روما، فأحبها وأحبته وهام بها وهامت به، وكانت بينهما صلات لهج بها الجند، وكثر فيها كلام أهل الشرق في فلسطين والشام ومصر. ولم يحفل العاشقان بلوم اللائمين ولا سخط الساخطين، وإنما مضى كل منهما في حبه لا يلوي على شيء ولا يقف عند غاية، واجتهدت بيرينيس في أن تجيب سلطان الرومان إلى أهل مدينة القدس الثائرين فلم تفلح، وأخطأها التوفيق كما أخطأ أخاها. فانحازت إلى الفاتحين وآثرت الحب على الوطن، وابتهجت بظفر الرومان وعادت مع الظافرين إلى روما وسكنت دار تيتوس أثناء ولايته للعهد، ولهج بذلك أهل روما وكثر فيه حديثهم واشتد له إنكارهم. فاضطر الإمبراطور إلى أن يأمر تيتوس ولي عهده بقطع هذه الصلة ونفي هذه العاشقة عن الأرض الإيطالية، وأذعن ولي العهد لأمر أبيه وأخرج صاحبته إلى الشرق، وأذعن لسلطان روما وقوانينها. فلما مات أبوه وارتقى هو إلى العرش وظنت الملكة أن قد زالت المصاعب ومهدت الطريق، عادت إلى روما، ولكنها لم تظفر من عاشقها الإمبراطور بشيء.
وقد كتب أحد المؤرخين الرومانيين يقول: «إن تيتوس الذي كان يحب بيرينيس كما كانت تحبه، والذي كان قد أطمعها في الزواج، قد أخرجها من روما برغمه وبرغمها أيضا.»
ومن هذه الجملة القصيرة التي كتبها المؤرخ الروماني، بل من آخر هذه الجملة استقى راسين قصته الرائعة. فصور الصراع بين الحب والواجب أبرع تصوير وأروعه، ونصر الواجب الوطني في القصة كما نصره التاريخ أيضا؛ فقد كان القيصر الإمبراطور محبا لملكة فلسطين حبا ملأ قلبه وملك نفسه واستأثر بأهوائه وعواطفه، ولكنه على ذلك لم يستطع أن يتخذها له زوجا؛ لأن قوانين روما لم تكن تسمح بهذا الزواج.
ولم يكن حب الملكة للإمبراطور هينا ولا فاترا ولا يسيرا، ولكنها على ذلك قد أذعنت لسلطان الواجب وخضعت لقوانين روما، وانصرفت عن هذا الزواج الذي عملت له وعاشت بالتفكير فيه والطموح إليه أعواما طوالا. وكان القيصر الإمبراطور يقدر حق القدر أنه يضحي في سبيل القانون والواجب تضحية خطيرة لن يهملها التاريخ، ولن تقصر الأجيال في الانتفاع بها والإكبار لها واتخاذها موضوعا للموعظة والاعتبار. وكانت الملكة في حقيقة الأمر لا تفكر إلا في نفسها وفي حبها، ولا تحفل بالقانون ولا بالواجب ولا بالتاريخ. ولكنها انتهت آخر الأمر إلى مثل ما انتهى إليه قيصر، فضحت بالحب في سبيل الواجب والقانون، وضربت للناس مثلا قويا في تصوير التضحية والإيثار.
قال صاحبي: فلما انتهت إلى العاشقين في دار الموتى أنباء الأحداث الجسام التي حدثت في وندره، نسيت بيرينيس روما وقوانينها، وواجبات القيصر الإمبراطور وكل ما كان بينها وبين صاحبها من الحوار الرائع الذي صوره راسين، ولم تذكر إلا شيئا واحدا: وهو أنها امرأة عاشقة ضحى بها خليلها في سبيل شيء آخر غير العشق. وأنت تعرف الغيرة إذا اضطرمت نارها في قلوب النساء كيف تلتهم كل شيء، وكيف تمتنع على كل روية وتستعصي على كل تفكير. فقد ثارت إذن بيرينيس ثورة هائلة، وجحدت كل ما كان بينها وبين صاحبها من حقائق الود ووثائقه، وزعمت أن القيصر الإمبراطور لم يكن إلا جاحدا خائنا غادرا لا يرعى للحب حرمة ولا يرجو للوفاء وقارا.
وكانت من قبل تظن أن الواجب الاجتماعي فوق الواجب الفردي، أو أن إخلاص الرجل لوطنه يجب أن يكون فوق إخلاصه لنفسه ولمن يحب، وأن الرجل الذي يضحي في سبيل الوطن بحياته خليق أن يضحي في سبيل الوطن بعواطفه وميوله وأهوائه. فقبلت من عاشقها ما قبلت، وآمنت بمثل ما كان يؤمن به من أن الوطن فوق الأشخاص، وأن الطاعة لقوانين روما فوق الطاعة لقوانين الحب والغرام. ولكنها رأت أن امرأة أخرى لم تكن ملكة ولا قريبة من الملكة قد صارعت دولة فغلبتها. وقارنت بيرينيس بين الإمبراطورية الرومانية التي ضحى بها في سبيلها منذ تسعة عشر قرنا وبين الإمبراطورية البريطانية، فراعتها المقارنة وملأت قلبها غيظا وحنقا. فأين تقع الإمبراطورية الرومانية وملك قيصر من الإمبراطورية البريطانية وملك إدوارد الثامن؟
ومع ذلك فقد ضحى إدوارد الثامن بالملك ونزل عن العرش، وآثر صاحبته على ملك لم يتح لأحد مثله. فقد كان إدوارد الثامن إذن أصدق حبا وأخلص وفاء من تيتوس القيصر الإمبراطور، وكانت صاحبته أعظم حظا وأسعد طالعا من بيرينيس ذات الحسن الرائع والجمال البارع. ومع ذلك فقد كانت بيرينيس أدنى إلى الشباب وأعظم حظا من الجمال، وكانت صاحبة عرش لا من عامة الناس ولا من أوساطهم! فترى إلى نتيجة هذه المقارنة وإلى أثرها في قلب امرأة عاشقة غالية في العشق، لا تعرف في الحب هوادة ولا لينا، ولا تقبل فيه موادعة ولا مصانعة.
وقد لقي القيصر الإمبراطور كثيرا من الهول، وبذل كثيرا من الجهد، واحتمل كثيرا من العناء، ولم يستطع أن يوفق إلى إرضاء صاحبته ولا إلى استعطافها عليه واجتذابها إليه؛ فقد صور لها أن حاجة البريطانيين إلى ملكهم ليست كحاجة الرومانيين إلى إمبراطورهم؛ لأن الملك في هذه العصور الحديثة رمز للسلطان، يملك ولا يحكم، فهو يستطيع أن يتخلى عن العرش إذا عجز عن النهوض بأثقاله دون أن يسيء إلى الوطن أو يعرض مصالحه للخطر والضياع. على حين كان الإمبراطور الروماني يملك ويحكم ويدبر الأمر كله تدبيرا في دقائقه وجلائله؛ فكان نزوله عن العرش أبعد أثرا في حياة الدولة من نزول الملوك المحدثين عن عروشهم.
وقد صور تيتوس لصاحبته أن فكرة الواجب فكرة مرنة تتغير مع الزمن وتتشكل بأشكال البيئات المختلفة، وأن تصور المحدثين للواجب ليس كتصور القدماء له.
وقد عرض تيتوس على صاحبته أن تسعة عشر قرنا تكفي لتغيير آراء الناس في كل شيء، ولتغيير ما يكون بين الفرد والجماعة من الصلات. فقد كانت الجماعة في العصور الأولى كل شيء ولم يكن الفرد شيئا. فأما الآن فقد أخذ الأفراد يوجدون ويؤمنون بأنفسهم، ويرون أن عليهم واجبات ويرون أيضا أن لهم حقوقا، وهم مستعدون لأداء الواجبات ولكنهم غير مستعدين للنزول عن حقوقهم.
وقد عرض تيتوس على صاحبته أشياء أخرى لا نكاد نفرغ من إجمالها فضلا عن تفصيلها، ولكنه لم يستطع أن يقنعها ولا أن يردها إلى الرضا والهدوء؛ فهي كانت تسخر من هذا كله، بل تسخط على هذا كله، وترى أنه تحكيم للعقل فيما لا ينبغي أن يحكم فيه العقل. تحكيم العقل فيما هو من شئون القلب وحده. وكان يزيد سخطها وثورتها ويملؤها غيظا إلى غيظ وحنقا إلى حنق، أنها قد انخدعت بهذا الحب الكاذب نحو عشرة أعوام في الحياة الدنيا وتسعة عشر قرنا في الحياة الآخرة، لم تشك فيه ولم ترتب بصاحبه، فمنحته حبها وقلبها وأخلصت له في الدنيا والآخرة، وفي السر وفي الجهر، ثم تبين لها في لحظة قصيرة جدا أنه لم يكن عاشقا ولا صادقا في الحب، وإنما كان خادعا ومخدوعا في وقت واحد. وما هذا الحب الذي لا يضحى في سبيله بالممالك والعروش؟ بل ما هذا الحب الذي يضحى به في سبيل الممالك والعروش؟
ولست أدري أتذكر ذلك المنظر الرائع الذي يصور فيه راسين ثورة الملكة وغضبها وانصرافها عن القيصر الإمبراطور بعد أن استيأست منه ومن حبه، وهي تعلن إليه أنها تفارقه لتلقى الموت. فقد أعادت بيرينيس هذا المنظر نفسه في دار الموتى، وأعلنت إلى تيتوس مثل ما أعلنت إليه في روما، وارتاع قيصر له كما ارتاع في الحياة الأولى، لولا أن قهقهة عالية ردت العاشقين إلى صوابهما بعض الشيء، سمعاها فالتفتا فإذا فيلسوف أديب كان يسمع لهما ويعجب بهما، وليس يدري صاحبي من أمر هذا الفيلسوف إلا أنه فرنسي محدث عاش بعد قصة راسين. وقد دهش العاشقان، لمكانه منهما ودهشا لضحكه المتصل وقهقهته المستمرة، ونظرا إليه في شيء من الوجوم، ولكنه قال للملكة وهو يمضي في ضحكه: بم تنذرينه يا مولاتي؟ أتنذرينه بالموت فإنك ميتة، أم تنذرينه بالحياة! فكيف السبيل لك إلى استئناف الحياة؟
هنالك سقط في أيدي العاشقين، ولكن الفيلسوف لم يمهلهما ولم يخل بينهما وبين التفكير، وإنما مضى في حديثه وضحكه معا وهو يقول: «ولن تستطيعي يا مولاتي أن تهجريه ولا أن تطيلي الإعراض عنه؛ فقد اتصلت أسباب الحب بينكما في الحياة الأولى، واستقبلتما هذه الحياة الثانية عاشقين، فستظلان على ما كنتما عليه إلى آخر الدهر إن كان لدهر الموتى آخر. ستلتقيان فتختصمان حينا ويصفو كلاكما لصاحبه حينا آخر، ولن ينفعكما ولن يضركما ما يختلف على الأحياء من الأحداث والخطوب.
فالأحياء وحدهم هم الذين يتطورون ويتغيرون، فأما نحن فقد قضي علينا ألا نتطور ولا نتغير؛ لأننا استنفدنا حظنا من التطور والتغير قبل أن نصل إلى هذه الدار. ولو أني ملكت أمور الأموات والأحياء لقطعت الصلة بيننا وبين أهل الدنيا قطعا. فما أكثر ما نعلم من أخبارهم فنحزن حين لا ينفع الحزن، ونفرح حين لا يغني الفرح. ما أكثر ما أعلم من أخبار الفلاسفة والأدباء، فأفرح لأنهم بلغوا ما لم أبلغ واستحدثوا ما لم أحدث واستكشفوا ما لم أستكشف. وأحزن لأني عاجز عن أن أشارك فيما يشاركون فيه وآتي بعض ما يأتون، وأضيف إلى بعض ما يستحدثون.
حقا لست أدري كيف السبيل إلى ما نحن في حاجة إليه من الراحة التي لن نظفر بها ما دامت أخبار الأرض تهبط إلينا أو تصعد، فلست أدري أين نحن بالقياس إلى الأرض؛ أمرتفعون في مكان شاهق، أم منخفضون في مكان سحيق؟ ومع ذلك فما يحزنك يا مولاتي. لقد كنت تبتغين حب قيصر، فقد ظفرت به في الحياة، وقد ظفرت به بعد الموت، فرق الدهر بينكما عامين ثم جمعكما الموت إلى الأبد.
أفتعلمين ما خطب العاشقين الذين جمعت الحياة بينهما الآن؟ أواثقة أنت بأنهما سعيدان بهذا الحب؟ أمطمئنة أنت إلى أن حياتهما لن تتعرض لسأم ولا ندم ولا اختلاف ولا افتراق؟ كلا يا سيدتي، انتظري وتمهلي ولا تغاضبي صديقك ولا تتنكري له، حتى إذا أقبل هذان العاشقان بعد حياة طويلة ورأيتهما هنا ينعمان بمثل ما تنعمان به من الحب، ويسعدان بمثل ما تسعدان به من الود، فهنالك وهناك فحسب، تستطيعين أن تغبطيهما وتحسديهما. وهنالك، وهنالك فحسب، تستطيعين أن تظني أنهما كانا أحسن منكما حظا. ومع ذلك فلم لا تقدرين أن ظفر هذه السيدة بما لم تظفري به وانتصارها على قلب صاحبها واستئثارها به من دون العرش، إنما هو انتصار لك وأخذ بثأرك من الرجل الذي غالبك فغلبك، وطاولك فكان له عليك الطول.
لم تفكرين في نفسك وحدك، وفي خليلك وحده، ولا تفكرين في نفسك على أنك رمز للمرأة، وفي خليلك على أنه رمز للرجل. فكري على هذا النحو يا مولاتي يهن عليك الخطب ويسهل عليك الأمر، ويكن ظفر هذه السيدة المحدثة ظفرا لك أنت، وانتصارها انتصارا لك أنت، ويتحول حزنك سرورا وغضبك رضا. فكري على هذا النحو تري أن هذه السيدة إنما ثأرت لك ولم تستأثر دونك بالانتصار. ثم فكري آخر الأمر في أن انتصار هذه السيدة في عرف الأحياء لا يتم حتى يسجله التاريخ ويتناوله الأدب شعرا ونثرا، فيصوغه المؤرخون كما صاغ المؤرخ الروماني قصتكما في هذه الجملة القصيرة الرائعة، ويصوغه الأدباء كما صاغه راسين في آيته البيانية الخالدة، وكما صاغه كورني في قصته البائسة التعسة. ويختلف الناس في أمر الأدباء الذين يصوغونه كما اختلفوا في أمر الشاعرين الفرنسيين، ويتناقل الناس شعر الأدباء فيهما فيدرسونه في المدارس ويعرضونه في الملاعب كما يدرسون قصة راسين، وكما يعرضونها على النظارة مرات في كل عام وفي جميع أقطار الأرض، وبلغات مختلفة وعلى أنحاء متباينة.
إن خلودكما يا سيدتي محقق واقع، ضمنه التاريخ، وضمنه الشعر، وضمنه الأدب عامة، وأصبح جزءا من تراث الإنسانية، فانعمي بذلك واطمئني إليه ولا تغضبي ولا تثوري إلا يوم ترين البطلين الجديدين قد ظفرا بمثل ما ظفرتما به من الخلود.» قالت بيرينيس، وقد سكت عنها الغضب، وثابت إليها دعابتها القديمة، فتضاحكت متهالكة. قالت: «فكم من الأعوام تريد أن أنتظر؟» قال الأديب الفيلسوف: «بل كم من القرون يا سيدتي، فقد مثلت قصة راسين بعد أن حدثت لكما الحادثة بأكثر من ستة عشر قرنا.» قالت بيرينيس: فتريدني على أن أصبر على هذا الإثم ستة عشر قرنا؟ قال تيتوس القيصر الإمبراطور: وأين تقع ستة عشر قرنا من الأبد الذي لا يفنى؟
ثم أقبل نحو صاحبته مبتسما وتلقته صاحبته مبتسمة مبتهجة، وقد عفت عنه وأسمحت له، وشملهما الفيلسوف الأديب بنظرة ساخرة يملؤها الإشفاق والحنان وهو يقول: «حقا إن الإنسان لسخيف حيا وميتا.»
قلت لصاحبي: ما أظن فيلسوفك هذا إلا فولتير أو أناتول فرانس.
الخيال الطارق
أقبل صاحبي وجه النهار مرتاعا حائل اللون، شاحب الوجه، حائر الطرف، طائر اللب، كأنما ألم به طائف من الجن فروعه ترويعا، وأخرجه عن ذلك الطور الهادئ الرزين الذي كنت أعرفه منه إذا لقيته فتحدثت إليه، واستمعت لأحاديثه المطمئنة العذبة الخصبة.
أقبل مرتاعا لا يكاد يبين إذا تحدث أو هم بالحديث، بل لا يكاد يستقر في مجلس، بل لا يكاد يمسك جسمه من رعدة كانت تلم به من حين إلى حين فتهزه هزا عنيفا، وتذكر بقول ذلك الشاعر القديم:
وإني لتعروني لذكراك هزة
كما انتفض العصفور بلله القطر
وأشهد لقد أنفقت كثيرا من الجهد، واصطنعت فنونا من الحيلة، لأرده إلى ما ألفت فيه من دعة وأمن وهدوء. ولقد افتقدت في تلك الساعة بعض هؤلاء الشيوخ الذين يتلون العزائم والرقى، بعد أن أخفقت أو كدت أخفق فيما كنت أحاول من رده إلى الوقار والصواب. ولكني ظفرت آخر الأمر بما كنت أحاول، واستطعت أن أتحدث إلى صاحبي، وأن أسأله عن مصدر هذا الاضطراب العنيف الذي أصابه وما عرفته عرضة لاضطراب يصيب العقل أو يصيب الجسم.
قال وهو ذاهل أو كالذاهل: إثم هذا على أبي العلاء أيها الصديق، فلولا أني نظرت في كتاب من كتبه آخر الليل، لأذود به هذا الأرق الذي ألح علي إلحاحا لما أصابني ما ترى، بل لما أصابني ما لم تر من تلك الأهوال التي ألمت بي، واصطلحت علي حتى نفرتني من داري وأزعجتني عن أهلي، ودفعتني إليك في هذه الساعة التي لم أتعود أن أسعى فيها إليك. وثق بأني قد خرجت من داري معتزما ألا أعود إليها، وقد أمرت أهلي أن يلتمسوا لنا دارا أخرى، وأزمعت الرحلة عن القاهرة أياما، حتى إذا تم لهم ما أريد من التحول عن هذه الدار الموبوءة، عدت إليهم في دارنا الجديدة، لعلي أن أجد فيها ما أنا في حاجة إليه من الدعة وراحة البال.
قلت: «ما أراك إلا مريضا تحمل مرضك على أبي العلاء وتكلفه من ذلك ما لم يقترف، وتكلف أهلك من آثار هذا المرض شططا. ومع أني لم أعرف بعد هذه الأهوال التي ألمت بك فأزعجتك عن دارك ودفعتك إلى ما تحاول من فراق القاهرة، فلست أرى بأسا بهذا الرحيل، فقد طال مقامك في مدينتنا، وقد احتملت من الجهد والعناء في عملك ما يضني الأصحاء الأقوياء، فكيف برجل عليل ضئيل مثلك؟!
فارحل مصاحبا ولكن حدثني عما ألم بك من الهول.» قال: «مصدره رسالة الغفران يا سيدي، فليت أبا العلاء لم يكتب رسالة الغفران.» قلت: «لا تقل هذا ولا تكن أثرا فإن لغيرك في رسالة الغفران لذة ومتاعا، وإذا كانت قد سلطت عليك الهول الذي لم أعرفه بعد؛ فإنها قد أتاحت لقوم آخرين في الشرق والغرب من الشهرة وبعد الصوت ما لم يسلط عليهم هولا من الأهوال، ولم يغر بهم خطبا من الخطوب. ولكن هات حديثك.» قال: «ما أشك في أن أبا العلاء كان مجنونا حين كتب هذه الرسالة.» قلت: «رب جنون خير من العقل، ولكن هات حديثك.» قال: أتذكر هذا السخف الذي أغرق فيه إغراقا حين ذكر هذين البيتين القديمين من شعر النمر بن تولب:
ألم بصحبتي وهم هجوع
خيال طارق من أم حصن
لها ما تشتهي عسلا مصفى
إذا شاءت وحواري بسمن
قلت: «هذا من خير ما في الرسالة، وأي بأس عليه من أن يفترض أن الشاعر قد وضع مكان حصن في البيت الأول اسما آخر كجزء أو حفص أو عمرو، ثم يلائم بين هذا الاسم وبين القافية في البيت الثاني، فهذا نوع من العبث المباح الذي لا يسوء أحدا، وهو مع ذلك يدرب الذاكرة ويظهر شيئا من المقدرة اللغوية التي يحرص العلماء والأدباء على إظهارها.» قال: أنت الذي يزعم أن هذا العبث لا يسوء أحدا، وما رأيك في أنه قد ساءني وجشمني ما رأيت وما لم تر من الأهوال والخطوب.
فقد أراد سوء الحظ أن أنظر في هذا الكتاب، وأن أقف عند هذا العبث، فأفكر في هذه الخيالات التي كانت تطرق المحبين والشعراء منهم بنوع خاص، والتي كانت إذا طرقت هؤلاء الشعراء أنطقتهم بما تعرف وما لا تعرف من رائع الشعر وبارع الكلام. وأغرقت في هذا التفكير وجعلت أستعين بالذاكرة على استحضار شيء من الشعر القديم الذي قاله الشعراء في الخيال الطارق والطيف الملم. ثم جعلت أسخر من أبي العلاء ومن جفاء طبعه وخشونة مزاجه، وجعلت أرثي لأم حصن هذه التي عبث الشاعر بها هذا العبث ، فلم يترك اسمها حيث وضعه النمر بن تولب، وإنما حذفه وأخذ يضع مكانه أسماء أخرى بعدد حروف المعجم. ولو أنه كان رقيق القلب دقيق الحس ممتاز الشعور رفيقا بالغانيات، لما أزعج أم حصن عن مكانها، ولما أقلقها عن موضعها، ولكنه رجل غليظ لا علم له بالحب، ولا حظ له من الرقة، ولا معرفة له بحسن معاشرة النساء.
وإني لفي ذلك وإذا أنا أحس كأن الأرض تدور تحت قدمي، وكأن كل شيء يضطرب من حولي، ولا أكاد ألتفت إلى ذلك وأفكر فيه حتى يهدأ من حولي كل شيء، وإذا شخص جميل قد قام مني غير بعيد وهو ينظر إلي نظرة عطف، وعلى وجهه غشاء من كآبة حلوة، وعلى ثغره ابتسامة كأنها ابتسامة الرضا.
ولكني لا أعرف شيئا أصدق منها تصويرا للحزن والأسى، وتمثيلا للوعة والحسرة، ولست أدري كيف لم يرعني مقام هذا الشخص الجميل، فلم أظهر فزعا ولا اضطرابا؛ وإنما أنست إليه، وحققت النظر فيه، فتبينت فتاة غضة الشباب، رائعة الجمال، لولا أن شبابها يوشك أن يكون وهما، ولولا أن جمالها يوشك أن يكون خيالا، تبينت شخصا حيا متحركا نضيرا، ولكنه على ذلك لا يخلو من شيء يشبه الموت، ومن شيء يشبه السكون، ومن شيء يشبه الذبول. وهو على هذا كله يذكرني بشخص كنت آلفه ويألفني، وكنت أكبره ويكبرني، وقد فقدته منذ حين، فجزعت عليه جزعا شديدا، وكثيرا ما سألت نفسي أتراها قد ذكرتني قبل أن تلج باب الموت.
وإني لأنظر إلى هذا الشخص الماثل، وإن هذه الخواطر لتمر أمام نفسي وادعة كأنها السحاب الرقيق، وإذا أنا أسمع صوتا رقيقا خافتا حلوا يسعى إلي سعيا خفيا من ناحية هذا الشخص الماثل غير بعيد. وإذا هذا الصوت يحمل إلي تحية عذبة هي التي كنت أسمعها من صديقتي حين كنت ألقاها وجه النهار، وما أكثر ما كنت ألقاها وجه النهار: أصبح بخير يا سيدي. فأجيب: أصبحي بخير يا سيدتي. إنك تعرفني أو تكاد تعرفني، إنك تذكرني وتسأل نفسك الآن كما كنت تسألها من قبل، أذكرتك حين فارقت الحياة وودعت الأحياء؟
نعم يا سيدي قد ذكرتك وألححت في ذكرك، وكلفت من يقرأ تحيتي عليك، ولولا الحياء لكلفت من يدعوك لزيارتي قبل أن أموت ولكني لم أفعل، ولم يعرض علي ذلك أحد من الذين كانوا يحيطون بسرير الموت، على أني لست آسفة فإني لم أخسر شيئا؛ لأني لم أفارق أحدا ممن كنت أحب لقاءهم في تلك الحياة، إنما أنا أراهم وأسعى بينهم وأتحدث إلى نفوسهم وأسمع منها، وكل ما فقدته إنما هي هذه الأصوات التي كنت أسمعها، وهذه الأيدي التي كنت أصافحها. وثق بأنها لا تعدل شيئا حين أقيسها إلى ما أسمع الآن من أحاديث الضمائر ونجوى النفوس. وما كنت لأتراءى لك الآن لولا أنك أغرقت في ذكر الخيال واستحضار الخيالات. ولست أخفي عليك أني كنت أريد حين تراءيت لك أن أداعبك بعض الشيء، فلا تظن أن الدعابة مقصورة على الأحياء، فقد يأخذ الموتى من الدعابة بنصيب أيضا.
كنت أريد أن أتراءى لك على أني أم حصن صاحبة النمر بن تولب، وأن أشكر لك عطفك علي، ورفقك بي، ولومك لأبي العلاء. ولكني لم أستطع أن أخدعك لأني لم أتعود خداعك أثناء الحياة، ثم لأني إنما أقبلت إلى هذا المكان لألقي في روعك رسالة كنت أريد أن تبلغها عني، وكنت أريد أن ألقيها إليك كما تلقى الرسائل إلى الناس في الأحلام. ولكني رأيتك يقظان تنظر في هذا الكتاب، فانتظرت لعل النوم أن يسعى إليك، ثم رأيتك تذكر الخيال وتستحضر الأطياف فتراءيت لك.
وهل أنا إلا خيال أو طيف؟ لا تطل النظر إلي ولا تقل شيئا، فإن نظر الأحياء يؤذيني، وإن أصوات الأحياء تثقل علي، ولكن اسمع مني ولتتحدث نفسك إلي إذا لم يكن لك بد من حديث. وإني لأعلم أنك تريد أن تسألني كيف أتحدث إليك بصوت يشبه صوت الأحياء، وأشفق مع ذلك من سماع صوتك، فأنا لا أتحدث إليك بصوت يستطيع غيرك أن يسمعه، إنما أنت الذي يمنح هذا الصوت قوته وتشخيصه، ولو أن في هذه الغرفة قوما غيرك لما رأوا من شخصي ما ترى، ولما سمعوا من صوتي ما تسمع. ولكن أصغ إلي فإني أحس مقدم النهار، وإني أكره هذا الضوء الذي يغمر الكون حين تشرق الشمس، والذي كنت أحبه أشد الحب أثناء الحياة، والذي لم أحزن على شيء حزني على فراقه قبل أن أموت، والذي لم أتسل عن شيء كما تسليت عنه الآن.
أصغ إلي فإني أريد أن ألقي إليك رسالتي، وأن أنصرف عنك قبل أن يهجم ضوء النهار فيبدد ظلمة الليل، وإني لحريصة على أن ألقاك، فإن كان لقائي يرضيك الآن كما كان يرضيك من قبل، فانتهز فرصة كهذه الفرصة، في ساعة كهذه الساعة، وانظر في الكتاب وأطل التفكير فيه، فقد أستجيب لدعائك حينئذ. ثم سكت هذا الصوت قليلا، واستأنف حديثه الحلو المر فقال: ليس السل وحده هو الذي قتلني، وإنما قتلني معه الحب أيضا، فقد تذكر أن زوجي فارقني قبل أن أموت بأشهر؛ لأن مرضي المتصل قد ثقل عليه، وقد تذكر أني كنت أظهر تجلدا وعزاء، وقد تعلم أني كنت أخفي من ذلك غير ما أضمر، وأنك كنت تشفق علي مما كنت أخفيه.
وكنت تود لو استطعت أن تسليني عن بعض ما أجد، فاعلم الآن أني حين ثقلت علي العلة، وتورمت أطرافي، ورأى الطبيب أن ينزع ذلك الخاتم الذي كان آخر ما بقي من زوجي، لم أشك في أنه سينزع معه الحياة من هذا الجسم المريض، ولم أكره ذلك، وأي بأس من مفارقة العلة واليأس. فأبلغ زوجي أني فارقت الحياة وأنا أحبه، وأن مقامي في هذه الأرض بعد الموت لن يطول، وأنه خليق أن يعلم أني أراه وأرافقه، وأنه خليق أن يرعى ذلك، وأن يذكرني في شيء من الخير والرفق والوفاء.
حتى إذا آن لهذا الخيال أن يصعد في طبقات الجو، وأن يمضي إلى ذلك العالم الذي تعيش فيه خيالات الموتى، وأن تنقطع الصلة بينه وبين هذه الأرض؛ فلزوجي أن ينسى، ولزوجي أن يقطع ما بين نفسه وبيني من الأسباب.
قالت ذلك ثم نظرت إلي نظرة قوية حادة، لم أستطع أن أثبت لها، وإنما أطرقت برأسي إلى الأرض خائفا وجلا، ثم رفعت رأسي بعد ذلك ونظرت فلم أر شيئا، وتسمعت فلم ينته إلي صوت وإنما هي رسالة الغفران مبسوطة أمامي أرى فيها عبث أبي العلاء حول شعر النمر بن تولب. هنالك أخذني هلع ما أعرف أني أحسست مثله من قبل، وملكني روع كاد يدفعني إلى الصياح لولا بقية من عقل، وفضل من حياء، ففارقت غرفتي وهبطت إلى الحديقة أهيم فيها أنتظر مطلع النهار، حتى إذا ارتفعت الشمس قليلا أوصيت أهلي بما أوصيت وأسرعت إليك.
أترى بعد ذلك أن سخف أبي العلاء لم يسؤ أحدا؟ قال ذلك ثم أخذته رعدة غريبة أشفقت أن ترده إلى مثل ما كان عليه من الوجل والاضطراب، فما زلت به حتى رددت إليه الأمن والهدوء وقلت مداعبا: ويحك! ألم تقرأ كتاب أناتول فرانس ذلك الذي سماه جريمة سلفستر بونار؟ إن فيه قصة إن لم تكن تشبه قصتك هذه من كل وجه، فإنها قريبة منها إلى حد ما، وما أرى إلا أنك قد ذكرت صاحبتك هذه في ضوء النهار أو في ظلمة الليل، حتى إذا أخذت تنظر كتابك أخذك هذا النوم الخفيف الذي تتراءى فيه الأشباح والخيالات. قال مغضبا: أقسم لك ما كنت نائما ولا قريبا من النائم، وإنما كنت يقظان أشد ما يكون الناس يقظة وانتباها، ولكن ما نفع الحديث معك في هذا وأنت لا تؤمن بعالم الخيال؟
قلت: فإني أشفق عليك من إيمانك هذا، فقد تستطيع أن تتحول عن دارك، وأن تفارق القاهرة، وأن تنزل من الأرض أي منزل شئت، فسيتراءى لك هذا الخيال كلما خطر له أن يتحدث إليك، أو أن يحملك رسالة إلى الأحياء. وماذا تريد الآن أن تصنع برسالته هذه؟ أتحملها إلى من أنت مكلف أن تحملها إليه أم تكتمها؟ فإن تكن الأولى فماذا تصنع إن لقيك باللوم لأنك تعرض لما لا ينبغي لك أن تدخل فيه؟! وإن تكن الثانية فماذا تصنع إن ألم بك الخيال وسألك عن تبليغ الرسالة وتأدية الأمانة والوفاء بالعهد؟ هنالك نهض صاحبي مغاضبا وهو يقول: ما أشد بغضي للذين يمزحون في غير أوقات المزاح.
ثم انصرف عني وأنا شديد الإشفاق عليه وعلى كثير من أمثاله الذين تطرقهم هذه الخيالات فتملأ قلوب بعضهم أمنا ورضا، وتملأ قلوب بعضهم الآخر خوفا وروعا.
طيف
ما كان أعذب هذا الصوت الذي كان يبلغ أذنيها من بعيد، من بعيد جدا، فيملأ قلبها الثائر المضطرب راحة وأمنا وهدوءا، ويملأ نفسها المفجوعة الجزعة طمأنينة ودعة واستقرارا.
وما كان أجمل هذا الطيف الضئيل الذي كان يتراءى لها ثم لا يلبث أن يستخفي ليعود فيتراءى لها مرة أخرى. ولا تكاد تحقق النظر فيه حتى ترى صورة كانت أحب إليها من كل صورة، وتتبين شخصا كان آثر عندها من كل شخص، وتحس كأنها وجدت شيئا عزيزا فقدته منذ حين قريب، وما كان أغرب هذا الشعور الذي كانت تجده في أثناء ذلك؛ فقد كانت تحس حزنا يشتد على قلبها حتى يوشك أن يفطره، ثم تجد نعمة وراحة تردان عنها هذا الحزن ردا، ثم تجد بشرا يغمر قلبها ونفسها وعقلها، ويكاد يخرجها عن طورها، ويبلغ بها شيئا يشبه الجنون، ثم تحس كأنها تفيق من سكرات لا عهد لها بها، وإذا دموع غزار تنهال من عينين لم تتعودا البكاء.
وكانت تجاهد لتسترد صوابها الذي شرد عنها، ورشدها الذي لم يبعد عهدها به، ولكنها لم تكن تبلغ من ذلك ما تريد، إنما هو الصوت العذب يأتيها من بعيد، من بعيد جدا، فيملأ أذنيها، والطيف الجميل يتراءى لها من بعيد، من بعيد جدا، فيملأ عينيها، وإذا قلبها يضطرب بين الثورة والهدوء، ونفسها تضطرب بين الجزع والبشر، وعقلها يضطرب بين الاستقرار والجنون. وفي الحق إنها لم تعلم أكانت يقظة أم نائمة حين تبدل من حولها كل شيء فجاءة ومن غير تمهيد ولا إعداد، فانجابت تلك الظلمات الكثاف التي كانت تملأ غرفتها، وطردت تلك الوحدة المطلقة التي كانت تحيط بشخصها وغرفتها وبيتها، وتملأ الطبيعة من حولها سكونا مخيفا وروعة مثيرة للقلق، وغمر نفسها وغرفتها نور لا سبيل إلى حده ولا الإحاطة به.
ثم نظرت فإذا غرفتها نفسها تتبدل، وإذا هي ترى كأنها في مكان لم تر نفسها فيه من قبل، ولكن يخيل إليها أن لها به عهدا ما، بعيد الأرجاء لا يبلغ الطرف له آخر مهما يدر في نواحيه، قد قامت فيه ألوان مختلفة أشد الاختلاف من الشجر، ونسقت فيه ضروب متباينة أشد التباين من الزهر، وترقرق فيه نسيم هادئ خفيف كأنما تملؤه الحياة، وجرت فيه غدران دقاق شديدة الصفاء، كثيرة الالتواء، وانطلقت فيه أصوات الطير بغناء جميل يملؤه السحر والبهجة، ويتردد فيه من حين إلى حين حنان حزين.
رأت نفسها فجاءة في هذا المكان، وأحاط بها فجاءة هذا الجمال الغريب الذي لا يحد ولا يوصف، ولو قد خلى بينها وبين نفسها وعقلها لاجتهدت في أن تتعرفه وتتبين أمره، وفي أن تبحث وتفكر لتعرف أين هي، وماذا ترى، وماذا تجد. ولكنها لم تفرغ لنفسها لحظة، ولا بعض لحظة، وإنما كان يشغلها عن نفسها هذا الصوت العذب البعيد الذي كان يملأ أذنيها، وهذا الطيف الحلو البعيد الذي كان يملأ عينيها، وهذه الألوان المختلفة من الشعور التي كانت تملك قلبها ونفسها وعقلها حين تسمع الصوت العذب وترى الطيف الجميل.
وكان أشد ما يؤثر في نفسها مما يحمل الصوت إلى أذنيها، هذا اللفظ الذي ظنت أنها لن تسمعه من مصدره منذ انتزع الموت منها في أشد قسوة وعنف ابنتها العزيزة، لفظ «أماه»!
وكان أشد ما يؤثر في نفسها حين كانت ترى ذلك الطيف، هذه الابتسامة الحلوة التي عرفتها في أثناء مرض ابنتها، والتي كانت تظهر على ذلك الوجه الشاحب الكئيب، فتصور الحب والبر وتصور الدعابة والتعزية معا.
كانت المسكينة تظن أنها لن تسمع ذلك الصوت ولن ترى هذه الابتسامة، فسل عن حزنها العميق، وعن سرورها الفياض، حين كانت تسمع وترى ما ظنت أن قد قطعت بينها وبينه الأسباب.
وكان صوت ابنتها يحمل إليها من بعيد، من بعيد جدا ، ألفاظا حلوة فيها تسلية وتعزية، ويحدثها أحاديث تصور البهجة والدعة والنعيم. وكانت ابتسامات ابنتها تحمل إلى نفسها هذه المعاني التي أشرت إليها آنفا، ومعاني أخرى جديدة تدل على أن ابنتها راضية ناعمة مطمئنة، وكأنما كانت تسمع وترى من ابنتها ما يلقى في نفسها أن الفتاة سعيدة مبتهجة لا تريد مهما يكن من شيء أن تخرج من سعادتها وابتهاجها، وكأنما كانت تقول لأمها: لا تحدثيني عن العودة إليكم ولا تطلبيها إلي، فلو قد خيرت لما اخترتها، ولو قد خلى بيني وبينها لما رغبت فيها، ولا ملت إليها، بل لكان انصرافي عنها ونفوري منها أعظم جدا مما تقدرين.
وكان هذا الحديث يلذع قلب الأم المسكينة أشد اللذع ويؤذيه أعظم الإيذاء، ويثير فيه شيئا من الغيظ، فكانت تهم بأن تعاتب ابنتها، ولكن الفتاة لم تكن تمهلها، وإنما كانت ترسل إليها في صوتها العذب وابتسامها الحلو معاني تصور التعزية والتسلية والتشجيع، وتصور فوق ذلك الحب والعطف والرثاء. وكأن الفتاة كانت تقول لأمها إني أرثي لك مما تجدين، ولو استطعت لمحوت الحزن من قلبك محوا، ولرددت إليه حظا من أمن ونصيبا من دعة، ولكني لا أستطيع، فلا بد للكتاب من أن يبلغ أجله، ولا بد لقوانين الحياة والموت من أن تنتهي إلى غايتها، فقد قضي على الناس أن يموت منهم من يموت، ويحيا منهم من يحيا، وأن تكون الذكرى هي الصلة بين أولئك وهؤلاء، وأن يكون في الذكرى كثير من الحزن والألم، وقليل من الراحة والدعة، وأن تعمل الأيام عملها على كر النهار ومر الليل، فيسعى العزاء إلى النفوس شيئا فشيئا، فيقرها ويهدئها ولعله ينتهي بها إلى النسيان.
وكانت الفتاة ترسل إلى أمها في صوتها العذب وابتسامها الحلو أحاديث أخرى تقول فيها: إني لم أزرك الليلة معزية عن فقدي، فأنا أعلم أن أوان هذا العزاء لم يأن بعد، وأنا أعلم أن للحزن أجلا يجب أن يبلغه، وأن للموتى على الأحياء حقوقا يجب أن تؤدى إليهم، ولكن رأيتك صباح اليوم مولهة مدلهة، مهدمة محطمة، قد فطر الجزع قلبك تفطيرا، وفرق الهلع نفسك تفريقا، فأشفقت عليك ورثيت لك، وأقبلت أرد على قلبك المكلوم بعض الدعة وعلى نفسك الثائرة بعض الهدوء.
رأيتك صباح اليوم حين أقبلت على قبري تزورينه، فراعك ما رأيت أو راعك ما لم تري.
وارحمتاه لك أيتها الأم التعسة! ماذا كنت تظنين أنك سترين؟ ألم تسمعي أحاديث الموتى؟ ألم تسمعي أحاديث القبور؟ ألم تعلمي أن الأجسام بعد أن تفارقها النفوس توارى في التراب، فيهون منها ما كان عزيزا، ويهمل منها ما كان مصونا كريما؟ ألم تعلمي أن قبور المصريين تنبث في الصحراء مهملة شعثا في أكثر الأحيان؟ لأن أصحاب القبور من الموتى لا يحفلون بقبورهم ولا يعنيهم أن تقوم في الصحراء الغبراء أو في الحديقة الغناء، إنما هم عن هذا كله في شغل بما ادخر الله لهم وبما ادخروا هم لأنفسهم من وراء القبور.
ولأن نظرة الأحياء إلى القبور ليست أدنى إلى الابتسام والبهجة من نظرة الموتى، وإنما هي نظرة حزينة كئيبة تلائم حزن الصحراء وكآبتها. فهم لا يريدون أن يزينوا الموت ولا أن يسبغوا عليه ظلا من جمال الدنيا. وإنما هم يفهمون الموت فهما قاسيا كالموت نفسه.
ولو أني عرفت أنك ستسعين لزياراتي حيث تظنين أني أقيم من هذا القبر المهمل في الصحراء لخذلتك عن هذه الزيارة تخذيلا، فأنا أعلم أن قلبك لا يقوى عليها ولا يستطيع أن ينهض بأثقالها وأثقال ما تثير من الحزن والأسى. ولأني أعلم ما لا تعلمين، أعلم أن الموتى لا يزارون في القبور، فليس منهم في القبور إلا أقلهم استحقاقا للزيارة، إنما يزارون حيث عاشوا وحيث عملوا وحيث اضطربوا للحياة ومشاغل الحياة. إنما يزارون حيث يذكرون، إنما يزارون في نفوس الذين يحبونهم من الأحياء، فهم يؤثرون أن يتخذوا من نفوس المحبين الأحياء مقاما. إذا أحببت أن تزوريني أيتها الأم العزيزة الحزينة البائسة، فلا تسعي إلى الصحراء، ولا تقفي عند هذا القبر، ولا تظني أنك ستلقينني هناك.
ولكن اذكريني فسأحضرك كلما ذكرتني، وسترين مني في الذكرى أكثر ألف مرة ومرة مما ترين عند القبر؛ لأنك لا ترين عند القبر إلا أحجارا ورمالا. وأنا أعلم أن حياة الأحياء غرور، وأن للظواهر فيها تأثيرا عميقا بعيد المدى، وأنهم لا يستطيعون أن يفهموا الوفاء لنا إلا أن يزوروا قبورنا. فافعلي إن لم تستطيعي أن تخلصي من تأثير هذه الظواهر، ولكن اتخذي مكان قلبك الضعيف الرحيم قلبا جلدا قويا صبورا. فإنك لا تعلمين وما أحب لك أن تعلمي ما وراء هذه الأحجار وما تحت هذه الرمال.
صدقيني أيتها الأم العزيزة الحزينة لست أحب لك هذه الزيارة، وإنما أحب لك ولنفسي هذه الذكرى الحلوة الهادئة. وإذا لم يكن بد من ساعات تشتد فيها الصلة بينك وبيني، وإذا لم يكن بد من أن تحسي كأني قريبة منك وكأنك قريبة مني؛ فليدعني قلبك الضعيف الرحيم إذا تقدم الليل شيئا. فإنا نحن الموتى نستجيب مسرعين لدعوة القلوب الضعيفة الرحيمة ولا سيما قلوب الأمهات.
ليدعني قلبك إذا تقدم الليل كما دعاني حين تقدمت هذه الليلة. ألم تري كيف استجبت لدعائه؟ ألا تحسين قربي منك؟ ألا تجدين امتلاء قلبك ونفسك بي؟ أنعمت بقربي في الحياة كما تنعمين به الآن وقد فرق بيننا الموت؟ ولكن دعاء آخر يبلغني أيتها الأم العزيزة، وإنه دعاء لا تفهمينه ولا تستطيعين أن تعلمي من أين يأتيني ولا كيف يأتيني.
انظري. إن النجوم تسرع إلى الأفول، ويجب أن أسرع معها إلى حيث لا تعلمين. إن نفوسنا لا تحسن مناجاة الأحياء حين تشرق الأرض بنور الشمس، فهي تغيب عنها الذكرى في هذه المناجاة.
إلى اللقاء أيتها الأم العزيزة الحزينة، فسأستجيب لك كلما دعاني قلبك؛ ولكن أيدعوني قلبك كثيرا.
وتنظر الأم الحزينة فإذا الطيف ينأى حتى ينمحي، وتسمع فإذا الصوت ينأى حتى ينقطع، ثم تلتفت فإذا كل شيء من حولها قد عاد كهيئته حين أقبلت على غرفتها وقد تقدم الليل، إلا أن نور الصبح قد دخل الغرفة فأفاض على جدرانها وعلى ما فيها من الأثاث كآبة لا يعلم أجاءت منه أم جاءت من هذه النفس الحزينة التي ترى به ما حولها من الأشياء.
وكذلك أنفقت هذه الأم ليلتها حائرة، ذاهلة مضطربة بين ما كانت تسمع وما كانت تفكر. ولعلها لم تر شيئا ولم تسمع شيئا، ولم تفكر إلا في أنها زارت قبر ابنتها حين ارتفع الضحى من الأمس، فرأته كما ينبغي عندنا أن تكون القبور مهملة في الصحراء. ولم تتعود أن ترى القبور مهملة، ومن يدري لعل هذا الطيف الذي رأته لم يكن خيالا، ولعل هذا الصوت الذي سمعته لم يكن صدى، ولعل هذه المعاني التي ألقيت في نفسها لم تصدر عن نفسها، وإنما ألقيت إليها من عالم آخر، ألقاها إليها هذا الصوت الرقيق العذب الذي كان يأتيها من بعيد، من بعيد جدا، وكان يشبه صوت ابنتها.
Page inconnue