تحية التقدير، للرائد الكبير.
تمهيد
شعره صعب ...
وهو - كحياة صاحبه - يفيض بالألم والعذاب، وتحف به المخاطر والمتاعب والصعاب. هو كالطير الغريب الوحيد الذي يأتي من بلاد بعيدة ويسافر لبلاد مجهولة. وهو كالصوت الجليل المخيف الذي يعلن نبوءة الآلهة على لسان كاهن مذهول إلى إخوته من البشر الحيارى المذهولين. لكنه مع ذلك أو بسبب ذلك يلمس القلب ويهزه وينفذ إلى الأغوار. إنه ينقلك على الفور إلى الشاطئ البعيد، يبكيك شوقا إلى المثل العزيزة المستحيلة، يملؤك إحساسا بالبطولة والانكسار، بالنشوة والعذاب، بالانتصار والاستشهاد. ليس غريبا أن يسمى صاحبه «شاعر الشعر» و«شاعر الشعراء». وليس غريبا أن يتفق أهله وغير أهله على أنه من أعظم من أنشد الشعر في لغته وفي كل اللغات، ومن أعظم من تعذب به وجن بسببه. وكما تسكن جنيات البحر في الماء، سكن هذا الشاعر في نبع الشعر. لم يكتف بالشرب منه أو التطهر بمائه أو سقي الندامى والعطاش. بل سكن فيه طول حياته، حتى أصبحت الحياة عنده هي الشعر، والشعر هو الحياة.
لذلك كان الشعر بيته ولحده، نعمته ونقمته. كان قدره.
ذلك هو فريدريش هلدرلين (1770-1843م) الذي وهب الشعر كل شيء، فأعطاه كل شيء وأخذ منه كذلك كل شيء؛ أعطاه سره الخالص، وامتلك في مقابله كل حياته الواعية وغير الواعية، ثم هوى به في ليل الجنون الطويل فعاش نصف عمره الأخير في ظلامه. ولعله قد عرف أن الفن أشبه بإله أسطوري نهم للدماء، لا يرضى عن الضحية حتى يمتص آخر قطرة في عروقها ؛ عندئذ يمنحها البركة ويلقي عليها وشاح الخلود. وقد أخلص هلدرلين لفنه وخشع في محرابه وقدم حياته قربانا له. وأحس بفطرته النقية الورعة أن شجرة العبقرية تمد جذورها في أرض التعاسة والعذاب والمأساة، فلم تنم شجرته الطيبة حتى دفع الثمن بأكمله؛ تجاهله عصره، وانكسر قلبه، وضاع في المتاهة التي لا يرجع منها أحد.
كانت نفسه الحيية الوديعة تطل من نظرات عينيه الطيبتين الشاردتين اللامعتين ببريق غريب، كما كانت تطل من قسمات وجهه الجميل الرقيق، وكآبته ووحدته وعجزه عن التعامل مع الناس، وإخفاقه المستمر في الحب والحياة. ولكن هذه النفس الوديعة كانت تطوي في أعماقها شاعرية تتأجج بالشوق إلى مثال عال يبدو كالقمة المختفية وراء الغيوم، وتسعى لبعث الحياة في شرايين عالم أسطوري جميل كان يزهو في الزمن القديم بالآلهة والقديسين والأبطال الخالدين. وكانت هذه الشاعرية تنبع من حياة باطنية تائهة في رؤية دينية وأسطورية عميقة، مستغرقة في تجربة كونية محيطة بالقوانين الأبدية المتحكمة في النشوء والتغير والوجود، مستسلمة للقوى الإلهية المسيطرة على القدر؛ القدر الذي شاء له الوحدة والعذاب والجنون، ومع ذلك استسلم له في خشوع وانكسار، وظل يحييه في كل أشعاره وينتظره ويبشر بموكبه الرائع.
وهلدرلين شاعر متوحد ووحيد.
ولا نقصد بتوحده ووحدته أن نرسم له صورة رومانسية حالمة تنشر حولها ظلال الحزن؛ فهذا أبعد شيء عن بالنا وأبعد شيء عن الصواب. ألم يقل في مسرحيته التي سيأتي الحديث عنها إن التوحد هو الموت؟ ألم يقل إن الحالمين يندر ظهورهم في العهود الطيبة؟ ألم يضع الإنسان في قلب الشبكة التي تلتقي عندها خيوط الطبيعة والبشر والسماويين الخالدين؟ ألم يتغن «بالروح الذي يشارك فيه الجميع»، ويتحقق معه السلام بعد كل خصام، والانسجام والتجانس بعد كل نزاع وشقاق، ويرويه الإنسان بعرقه وجهده وجده ونشاطه؟ ألم يؤمن دائما بالفعل، وبأن الشعر يمكن في بعض الأوقات أن يهدي إلى الفعل، بل أن يصبح هو نفسه فعلا ويصبح الشاعر إذا اقتضى الأمر ودعت المحنة ثائرا «يحطم أوتاره التعيسة ويحقق ما كان يحلم به الفنانون»؟
نعم ! كان هلدرلين فردا وحيدا، وكذلك يكون كل فنان وينبغي أن يكون. ولكن الفنان الصادق يعرف أيضا أنه لن يكون فردا بحق إلا إذا كان فردا في مجتمع، ومن أجل مجتمع، يعطيه ويبذل له من نفسه، ويشقى لكي يسعد ويرقى. وها هو ذا هلدرلين يؤكد هذا المعنى في قصيدة له (شجر البلوط) فيقول: «كل واحد منكم عالم مستقل، أشبه بالنجوم في السماء، فعيشوا معا في اتحاد حر.»
Page inconnue