وقد يفوت هؤلاء المئات من الألوف أمر ذو أهمية كبرى في التصور الصحيح «للثقافة» و«المثقف»، فليس لهاتين الكلمتين مدلول واحد بعينه يثبت على مر القرون من حيث الاتفاق العام على طبيعة الموضوعات التي يجب توافرها ليستقيم للثقافة كيانها في العصر المعين، وليمكن الحكم على أفراد الناس في ذلك العصر المعين: أيهم يستحق أن يوصف بهذه الصحة وأيهم لا يستحق، ربما مر عصر من عصور الأمة العربية كان يشترط فيه للمثقف أن يجيد الفروسية مع الإلمام التفصيلي بأجود ما قيل من شعر! ثم تبعه عصر كان من أوجب الضرورات فيه لمن ينعتونه بالثقافة، أن يضيف إلى أي علم آخر يتخصص فيه موضوعين: النحو والمنطق! وتبعه عصر آخر - وذلك في مرحلة الركود - كان المتوقع من المثقف أن يكون حافظا لقدر كبير من فقه الفقهاء، وشعر الشعراء وقواعد اللغة، وهكذا تتغير «شارات» المثقفين مع العصور، فلا عجب أن رأينا جانب الغرابة في شخصية «دون كيخوتة» أنه بمثابة من وضع على صدره شارة عصر كان قد ذهب وانقضى، وأصبح الناس يحيون في ظروف أخرى تستوجب من المثقف شارة أخرى تنم عن طبيعة تلك الظروف، وهذا هو نفسه ما بث القلق في صاحبنا من أن تكون أغلبية غالبة من جماعات المثقفين في حاضر الأمة العربية قد زينت صدورها بشارات عصور ذهب زمانها.
فلعصرنا هذا ما يميزه بغير شك، بحيث لا يتعذر على المتعقب أن يلتقط الفوارق، التي على أساسها يحكم على فرد ما بأنه متجانس مع عصره هذا، وعلى فرد آخر بأنه قد ارتد إلى ماض ليعيش فيه روحا وفكرا وتصورا للمثل الأعلى، والحق أن ما يميز عصرنا هذا قد كثرت مفرداته وتعددت: فإذا قلت إنه عصر العلم المستعين بالتقنية كنت على صواب، وإذا قلت إنه عصر غزا الفضاء وسار بقدميه على سطح القمر كنت على صواب، وإذا قلت إنه عصر الحاسبات الإلكترونية (الكمبيوتر) أو عصر الإنسان الآلي (الروبوت) كنت على صواب، وإذا قلت إنه عصر السرعة في المواصلات وفي التواصل بالأقمار الصناعية والتلكس والراديو والتليفزيون إلخ كنت على صواب، وإذا قلت إنه عصر «المعلومات» وتنسيقها وتخزينها ثم إقامة الحياة الفكرية والعملية على أساسها كنت على صواب، وغني عن الذكر أن نقول إنه عصر القوة النووية في الحرب وفي السلم على السواء، ولك أن تضيف إلى هذه القائمة ما تراه واردا من ألوان الفن الجديد، والأدب الجديد، والتجمعات الدولية، وزوال الاستعمار زوالا شبه تام، إذا قصد به معناه القديم الذي كان سائدا خلال القرن الماضي والنصف الأول من هذا القرن، وغير ذلك كثير.
لكن صاحبنا عهد في نفسه عادة فكرية لا يستطيع ولا يريد التخلص منها، وهي أنه كلما أراد أن يحدد أخص الخصائص التي تميز عصرا بعينه بحث عن «فلسفته» فإذا وجدها استدل بها على الصفات المميزة المطلوبة، وإذا لم يجدها رجح أن يكون العصر الخالي من رؤية فلسفية تميزه معدوم الوجود إذا قيس وجود الإنسان بدرجة وعيه، وليس هذا تعصبا من صاحبنا لموضوع تخصصه الأكاديمي، كلا بل هو اتجاه مؤسس على حقيقة الحياة الثقافية السوية أينما كانت، إذ يستحيل على مثل هذه الحياة أن تتحقق ما لم يجتمع الرأي على «رؤية» واضحة المعالم تستقطب أبناء العصر، وكيف يكون ذلك؟ إنه يكون بتوحد الهدف الذي يضمره كل أفراد الأمة، بدرجات من الوعي تتفاوت، فقد يضمره أحد الأفراد مبهما، بحيث لا يزيد الأمر عنده على أن يكون «حالة» يحسها كلما خلا لنفسه دون أن يتبين أسبابها، إذ تراه يحس - مثلا - بشيء من القلق ولا يدري ماذا يقلقه على وجه التحديد، أو يشعر ب «العزلة» بالرغم من وجوده وسط جموع الناس، أو يشعر بتفاهة قدره، وهكذا أمثال هذه «الحالات» تغشاه كما تغشى من هو أكبر منه وعيا، لكن هذا الذي وعى يستطيع ما لم يستطعه عامة الناس، وهو أن يدرك العلة التي قد تكون مسئولة عن إيجاد تلك الحالات النفسية الغامضة، فربما كانت العلة حرمان الإنسان العادي من حقوقه الفطرية والاجتماعية لأي سبب من الأسباب، ومع ذلك فهذا الواعي الذي أدرك العلة قد لا يكون ذا قدرة على التعبير عنها تعبيرا يفصح عن عناصرها وكوامنها ومراميها، فإذا قيض الله سبحانه للناس من يستطيع ذلك نشأت الفرصة للتنوير؛ إذ يتاح لمن لم يكن يعلم الحق أن يقرأ أو أن يسمع فيعلم.
ومن هو ذلك الذي غشيته الغاشيات التي لحقت سواه ثم أمكنه أن يقع لها على مصدر نشأتها، كما استطاع بعد ذلك وفوق ذلك أن يصوغ الحقيقة لغة يقرؤها الآخرون فيعلمون ما يكشف لهم غوامض سرائرهم؟ إنه هو الرجل القادر على النفاذ ببصيرته خلال تحليلات يصبها على أهم ما أنتجه المنتجون وما أبدعه المبدعون من أبناء عصره، فينكشف له موضوع الالتقاء الذي يجمع كل ذي شأن وأهميته في أنشطة العلماء ومبدعات الفنانين والأدباء، فضلا عن تيارات الحكم والسياسة والتفاعلات الاجتماعية في أي موقع حدثت.
فأهم ما يعرف به ذلك الضرب من فاعلية العقل، الذي جرى الاصطلاح على أن يسمى ب «الفلسفة»، هو على وجه التخصيص والتحديد محاولة إرجاع هذا الخضم الهائل من معطيات الحياة النظرية والإبداعية والعلمية إلى ينبوع أصلي واحد يخفى على الأعين، لكنه مبثوث في الضمائر يحرك الأفراد والجماعات على نحو ما يتحركون ويفكرون ويبدعون ويقاتلون أو يسالمون، وبعد تشابه الفلاسفة في التنقيب عن الجذور تتفاوت أقدارهم من درجات العظمة، بتفاوت قدراتهم على تشخيص «المبدأ» الذي يجمع بين جناحيه أكبر قدر ممكن من ظواهر الحياة في عصر معين.
من أجل هذا حرص صاحبنا دائما على الرجوع إلى ما قاله فلاسفة عصر معين كلما أراد العلم بما يفسر أوجه نشاطه، فماذا عسانا واجدين عند فلاسفة عصرنا هذا مما يعين على تشخيص طبيعته؟ إننا واجدون - أول ما نجد - أن ثمة خلافات إقليمية واضحة في مذاهب الفلاسفة المعاصرين، فلكل إقليم من أقاليم الغرب متجه فكري ينفرد به، ونقول «أقاليم الغرب» لأن الغرب في هذا الزمان هو صانع العصر، وعلى بقية الدنيا أن تتبعه حتى ولو أجريت تعديلات وإضافات هنا وهناك، ففي الشمال الغربي من أوروبا - وبريطانيا بصفة خاصة - اتجه الفكر أساسا نحو تحليل العلوم إلى ما أسموه بالقضايا الأساسية، وهو اتجاه يتطلب منطقا رياضيا من نوع يختلف في دقته اختلافا بعيدا عن المنطق الأرسطي الموروث عن اليونان، والذي كانت له السيادة شبه المطلقة منذ نشأ على يدي أرسطو وإلى النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر، وهناك أضيف إليه - مع بقائه على حالته الموروثة تقريبا - منطق يصلح للبحوث العلمية في مجال العلم الطبيعي منذ القرن السابع عشر وعلى يدي «ليبنتز» تعلق الأمل بمنطق رياضي يضمن للفكر العلمي دقته، وبمثل ذلك المنطق الرياضي بعد تطويره وتهذيبه شغل فلاسفة التحليل بالوصول إلى الوحدات الذرية الصغرى التي من مركباتها تتكون العلوم في صورتها المألوفة، وأرجو أن يتنبه القارئ هنا إلى أن هذه الرغبة في تحليل الفكر تحليلا «ذريا» قد جاء تجاوبا مع العلم الذري الجديد في مجال الفيزياء، مما يدل على ذلك التجانس الذي يرجح حدوثه في كل عصر بين فروع العلم والمعرفة والأدب والفن، والشذوذ هو ألا يحدث هذا التجانس الذي يوحد العصر في نظرة مشتركة، فإذا لم يتحقق علمنا بأن خللا ما يدب في بنية الحياة الثقافية.
وفي الغرب الأوروبي يغلب الاهتمام ب «الإنسان» فينصب معظم الفكر الفلسفي على تحليل الوجود الإنساني لمعرفة جوهره الذي يدلنا على حقيقة الإنسان، وبرغم تفرع المذاهب في هذا الاتجاه ففكرة الإرادة وحريتها في اتخاذ الإنسان الفرد لقراره كلما احتاج الموقف إلى قرار حاسم قد كان لها رجحان، على أن اهتمام الغرب الأوروبي بالإنسان قد اتجه بفرع من فروع الفكر الفلسفي إلى تعقب الحاضر الثقافي في حياة شعب بعينه إلى جذورها الأسطورية الأولى؛ إذ وجد أن الحاضر الثقافي لا يأتي من عدم، بل هو امتداد لا يخلو من أصداء الماضي السحيق، ومن هذه الرابطة الوثيقة بين حاضره وماضيه تكمن الخصوصية الثقافية للشعب المعين.
ولا نترك الجانب الغربي من أوروبا - بما فيه وسط القارة - دون أن نذكر صيحة كان لها دويها وأثرها الباقي، وذلك أيضا فيما يتصل بحقيقة الإنسان، فبعد أن كانت الفكرة الشائعة المتوارثة عن سقراط في قولته: أيها الإنسان اعرف نفسك، والمتوارثة كذلك من ديكارت حين جعل سنده الأول متمثلا فيما يراه من نفسه رؤية مباشرة لا سبيل إلى دحضها وعبر عن ذلك بقوله: «أنا أفكر إذن أنا موجود.» أقول إنه بعد أن كانت الفكرة الشائعة المتوارثة هي أن الفرد الإنساني وحدة مستقلة بذاتها، لدرجة أن فيلسوفا هو «ليبتز» قد صور الفرد برجا مغلقا على نفسه وليس له نوافذ يطل منها على الآخرين، نودي برؤية جديدة أقرب إلى الصواب، وصاحبها الأول هو «هوسرل» أقامها على أساس أن «الوعي الذي هو جزء لا يتجزأ من فطرة الإنسان» يتضمن في صلبه توجها بالانتباه نحو الخارج أعني خارج الإنسان، فقد كان محالا على الإنسان أن يعرف نفسه بنفسه كما أراد له سقراط، إذ لا بد له من «الآخر» وسيلة يعرف نفسه عن طريقها، وكان محالا كذلك على ديكارت أن يؤكد وجود نفسه من مجرد رؤيته الباطنية لنفسه وهي تفكر؛ لأن عملية التفكير لا تكتمل في جوف صاحبها ، بل تتطلب «خارجا» فيه آخرون وفيه أشياء هي التي يتعلق بها ذلك التفكير، ومعنى ذلك هو أن فردية الفرد ليست مطلقة، بل هي فردية موصولة بالعالم يحتويها.
وفي الشرق الأوروبي اتجه الميل نحو رؤية الإنسان الفرد من حيث هو جزء في مجموع، وكأن فرديته لا تعني شيئا، لأنه إذا كان أي فرد كأي فرد آخر، والمهم هو البناء الشامل الذي يقام على هؤلاء الأفراد، فقد ضاعت خصوصية الفردية، على أن ذلك البناء الشامل نفسه قد جاءت به حتمية تاريخية نتجت عن عوامل متفاعلة متصارعة في اقتصاديات الإنتاج.
وفي أمريكا الشمالية نزع الفكر نحو رؤية مستقبلية؛ فصحة فكرة صحيحة لا تستمد من أصول ماضية، بل تستند إلى ما عساه ينتج عنها من منافع يتقدم بها الإنسان في غده.
Page inconnue