لكن ما الذي أردناه بهذا الذي عرضناه، في حديث نجريه عن الرؤية الموحدة التي تكاملت لصاحبنا منذ أن بدأ الزمن رحلته في عقد الستينيات؟ الذي أردناه متصل بجانب أساسي في تلك الرؤية الموحدة، وهو وجوب المشاركة بين أفراد الأمة الواحدة في العصر المعين، في «هدف» واحد، ليكون الاختلاف بين الأفراد بعد ذلك مقصورا على الوسائل المقترحة لتحقيق ذلك الهدف، على أن هذا الذي رآه صاحبنا شرطا لا مفر منه لإقامة حياة ثقافية سوية هو أبعد ما يكون عن الحالة الواقعة، فقد كنا يومئذ - وما زلنا - من الناحية الثقافية عدة شعوب في شعب واحد، ثم تزداد الصورة تمزقا إذا ألقينا نظرة إلى الأمة العربية وشعوبها، ويكفي أن نقول إننا لم نتفق على متجه نتجه إليه: أنتجه نحو الماضي لنعيده حيا من جديد؟ أم نتجه نحو حاضر عصري نهتدي به إلى صورة مستقبلية مشرقة؟ أنتجه في السياسة والاقتصاد نحو ما يسمونه يمينا أم نحو ما يسمونه يسارا؟ وإذا كان هذا ذاك فماذا يا ترى يعني «اليمين» أو «اليسار» في تفصيلاته، هل يضمن مجرد الاسم بيان مسماه؟ ومن هم الأصلح لتولي زمام الحكم من بين فئات المجتمع؟ وهكذا وهكذا كانت الأسئلة مطروحة في الجو الثقافي، إما لتجد الأجوبة الصريحة عند القادرين على الجواب، وإما ليجوز إعلان بعضها وليمتنع ظهور بعضها الآخر، لكن الذي يعنينا من هذا كله أن حياتنا الثقافية افتقدت وحدة الغاية، فاستحال عليها السير في متجه يوحدها ويجمع روافدها في نهر عظيم واحد.
إن وحدة الهدف هي التي تميز العصر المعين بأبرز ما يميزه من سمات ليمكن وصفه بأنه عصر العقل، أو عصر الإيمان، أو عصر التنوير، وغير ذلك مما ألفناه في التفرقة بين عصور التاريخ، وإذا ما تحقق للشعب إجماعه على هدف، رأيت فروع الإبداع الثقافي قد اتجهت كلها في اتجاه واحد كل منها بوسيلته الوسيطة، فهذه موسيقى وألحانها، وهذا أدب وكلماته، وذلك تصوير وألوانه وهكذا، لكن هذه الوسائل الوسيطة على بعد ما بينها يمكن أن تتشابه كلها تشابه «النظائر»، كالتشابه الذي يكون بين دوران القمر حول الأرض وحركة المد والجزر في البحار والمحيطات، فكلتا الظاهرتين - وبرغم الاختلاف البعيد بينهما في طبيعة كل منهما - متشابهتان في كونهما معا نتيجة «الجاذبية»، فبفعل جذب الأرض للقمر يدور حولها كما يدور، وبفعل جذب القمر لماء البحار والمحيطات يرتفع الماء مدا ثم ينحسر جزرا، فإلى أي حد - يا ترى - يوجد مثل هذا التشابه بين مبدعاتنا في الفن وفي الأدب وفي الفكر وفي التعليم وفي السياسة وفي الاقتصاد؟ إنه لو كان بين هذه الفروع في حياتنا تشابه يذكر لما شهدنا كل فرع ينتقل على أيدي مبدعيه من النقيض إلى النقيض بين عشية وضحاها، فالأمر - فيما يبدو - مرهون عندنا بأفراد وما يتقبلون به في أمزجتهم كما يشاء لهم الهوى أكثر منه ارتباطا بأمة متجانسة وهدفها الواحد، ومن أجل هذا جاء حديثنا الذي أسلفناه عن وضوح الأفكار وأهميته في إقامة الحدود التي تحدد المعاني وتقيم بالفواصل الفارقة بين ما اختلف منها، لنكون جميعا على بينة بما نريده بالقول وما نقصد إليه من عمل.
والتزام الشعب بهدف واحد، يكون بمثابة الأمل المرتجى عند الجماهير وبمثابة البوصلة المنظمة لاتجاه السير عند المبدعين وسائر المشتغلين في شتى الميادين، لا يتنافى مع تعدد الآراء واختلاف وجهات النظر، فحقيقة الأمر في ذلك - كما يصورها صاحبنا ذات يوم - تشبه أن يجلس جماعة من الرسامين حول مائدة مستديرة وضع عليها تمثال وطلب إليهم أن يرسموه، فها هنا يتحد الرسامون في الهدف، لكنهم بطبيعة الحال يختلفون في زوايا المنظور، فلكل منهم زاويته التي ينظر منها، اللهم إلا إذا شذ أحدهم وأبى إلا أن يجلس وظهره إلى المائدة فلا تمثال أمام بصره ليرسمه، وقد يختار لنفسه شيئا آخر مما يقع عليه بصره، ومثل هذا الاختلاف الأساسي هو بالفعل ما يسود حياتنا الفكرية؛ إذ لو كان بعضنا يوجه نظره نحو الحاضر ومشكلاته ونحو المستقبل الذي يراد لهذا الحاجز أن يمهد له، فإن بعضنا الآخر يدير ظهره لهذا الحاضر وما يؤدي إليه ليوجه البصر نحو صور من الحياة ذهب زمانها.
وليس تشبيه الوقفة المطلوبة بجماعة الرسامين حول ما يراد لهم أن يرسموه، وبذلك فهم يشتركون في الهدف ويختلفون في وجهة النظر (بالمعنى الحرفي لهذه العبارة) أقول: ليس هذا التشبيه بعيدا عن حقيقة ما نطالب به للحياة الثقافية؛ إذ كيف يتاح لنا أن نتصور الهدف المطلوب إلا إذا جسدناه لأنفسنا في صورة واضحة السمات والقسمات والحدود، إننا لو تركنا فكرة الهدف مجردة بغير قسمات وملامح تحدد بعض تفصيلاتها لتعذر على الذهن وعلى الخيال معا، أن يتبينا الهدف الذي يراد استحداثه ليتحقق وجوده بعد أن كان أملا يرتجى، ومهما يكن من أمر الهدف المنشود فهو بالضرورة أمل يتضمن تصورا معينا للمواطن كيف نريد له أن يكون؟ والشأن في ذلك لا يختلف كثيرا عن شأن والد يحلم لوالده أن تنتهي به التربية إلى أن يكون طبيبا مثل فلان، أو مهندسا أو ما شاء لولده، وهكذا الحال بالنسبة إلينا إذا ما حلمنا لأمتنا أن تجيء مواطنوها في المستقبل المأمول بحيث يتحقق في أشخاصهم كذا وكذا من الشمائل والصفات، وهنا حقا ينشأ السؤال الصعب الذي قد طرح نفسه علينا بالفعل منذ أوائل القرن الماضي وتفرقنا - وما زلنا متفرقين - في الإجابة، فالصورة المرجوة عند بعضنا، كما أسماها، هي أن نعد شخصيات أسلافنا لتسكن جلودنا، وهي عند بعضنا الآخر أن نحاكي أبناء العرب ما استطعنا، ثم هي عند جماعة ثالثة أن ننشئ مواطنا عربيا جديدا، لا يحاكي الأولين ولا يحاكي الآخرين ولا يحاكي أحدا؛ لأن مجرد المحاكاة تتضمن نسخا لوجودنا الخاص، وهو وجود يتمنى له هذا الفريق الثالث أن يعمل على ديمومة الهوية العربية في أخص خصائصها، التي هي أن تستلهم الوحي، وأن تجعل الأولوية للخلود على الزوال، وأن تقرأ الكون قراءة من يكشف قوانينه، شريطة أن يكون التطبيق لتلك القوانين العلمية على شئون الإنسان مكوما بضوابط الأخلاق، وغير ذلك مما أسهمنا فيه القول في مناسبات كثيرة سلفت، وكان صاحبنا من هذا الفريق الثالث، بل أفاض فيه القول والتحليل إفاضة جاوز بها عشرين كتابا معا جعله غير مسبوق في أنصار الفريق الثالث بنظير ينافسه، على أن صورة المواطن العربي الجديد لا ينبغي لها أن تقف عند ديمومة الهوية العربية في عناصرها الأساسية، وإلا فلا جديد، بل لا بد لها من إضافة تغرسها في تلك الهوية غرسا لتنمو شخصية العربي مع الزمن، وهي إضافة تمكن العربي المعاصر من مشاركة عصره همومه وآماله، فمجرد مواجهة العصر لا يكفي، بل هي مشاركة إيجابية في إقامة بنيانه وفي تخليصه مما قد شابه أو يشوبه من نكسات، هو ما يحلم به صاحبنا مع سائر أقرانه من أعلام الفريق الثالث منذ رفاعة الطهطاوي وإلى يومنا هذا.
ولم يكن صاحبنا ينظر إلى استحداث المواطن العربي الجديد نظرته إلى أحلام البطالة التي يسترسل بها الحالم استرسالا حرا غير مقيد بواقع يحدده، شأن من يطمع في نيل المطالب بالتمني، بل كان الأمر عنده مرهونا بتربية وتعليم وتثقيف على منهج يؤدي إلى إخراج المواطن الجديد، لقد قال الفيلسوف الفرنسي «لليبنتز» (القرن 17) ذات يوم لأميره ما معناه: «سلمني قياد التربية جيلا واحدا من الزمان أغير لك وجه الحياة.» وقد أصاب القول إلى حد كبير، وربما كان استخراج المواطن الجديد ضربا من أحلام لو أن الخاصة الثقافية التاريخية للعربي، فيها ما يستعصى على هذا التحول، لكن حقيقة الأمر غير ذلك، فالثقافة العربية التقليدية - كما أسلفنا القول مرارا - منطوية على نظرة مرغبة من جانب إيماني يتمثل في مقدمات بين يديه وهو يفكر، ومن جانب علمي يعمل به على إجراء عمليات استدلالية يلتزم فيها منطق العقل، ولسنا نطالب العربي الذي يبقى على هويته التاريخية، ثم يضيف إليها ما يعاصر به حاضره الراهن بأكثر من استخدامه لهذين الجانبين في شخصيته.
كان صاحبنا ينظر إلى مكونات الشخصية العربية نظرة والد سقراط كلما أراد أن ينحت قطعة من المرمر ليشكلها على أية صورة أراد، وقد سأله ابنه سقراط مرة، بعد أن وقف برهة ينظر إلى أبيه وهو ينحت المرمر ليخرج منه تمثال أسد: على أي اساس يا أبت تضرب الإزميل في الحجر ليخرج لك منه الأسد الذي أردت إخراجه؟ فأجابه أبوه قائلا: إني أرى بعين الخيال ذلك الأسد رابضا داخل الحجر، فأضرب الإزميل ضربات تشتد أو تضعف مهتديا بالصورة التي يراها خيالي كامنة.
وعلى هذا النهج نفسه ينظر صاحبنا إلى خواص النفس العربية فيرى كامنا في ثناياها ذلك المواطن العربي الجديد الذي يوقظ كوامن فطرته، فإذا هو أمام عربي جاء استمرارا لآبائه في وقفتهم الدينية العلمية من الكون، وجزءا حيا نشيطا فعالا في حضارة عصره الراهن، مزودا بكلتا خاصيتيه من دين وعلم.
رؤية موحدة «3»
وقعت الواقعة في اليوم الخامس من شهر يونيو سنة 1967، فأصابنا الذهول ولم نكد نصدق ما وقع، لكننا شعب لم يولد بالأمس، بل هو الشعب الذي شهد مطلع الفجر من تاريخ الإنسان وهو يقيم للحضارة قوائمها، فإذا لم يكن هذا الشعب العريق قد تعلم من تاريخه إلا درسا واحدا، فذلك الدرس هو أن يعرف كيف يسرع إلى الوقوف على قدميه إذا كبا، وذلك ما قد كان بعد الهزيمة، إذ ارتد كل فرد إلى نفسه يسائلها أين كان موضع الخطأ؟ ثم ما هو أهم من ذلك: كيف يستقيم بنا السير من هنا والآن؟ وبالطبع كان لكل منا جوابه الخاص الذي يتلاءم مع طبيعة موقعه وما يؤديه، وما موقف الأمة من حيث هي أسرة كبرى، في أمثال هذه الظروف التاريخية، إلا حاصل جمع الأفراد من أبنائها الراشدين، كيف يفكرون وماذا يصنعون.
وصاحبنا فرد من هؤلاء الأفراد، صناعته التعليم داخل أسوار الجامعة، لكنه دأب منذ شبابه الباكر، على أن يضيف إلى واجبه في قاعات التدريس، واجبا آخر يشارك به في الحركة الثقافية خارج تلك الأسوار، ومع ذلك فلم تكن الشقة بعيدة بين ما يؤديه داخل الأسوار وما يضطلع به خارجها؛ لأنه إذا كان التعليم مهنته، فالتثقيف مشغلته، وبين التعليم والتثقيف صلة كصلة الرحم التي تربط الشقيقين، لا سيما وموضوعه الذي تعلمه ويعلمه، ضارب في بنية الفكر من نهايات فروعها العليا إلى أطراف جذورها السفلى، وتلك هي طبيعة الدراسة الفلسفية.
Page inconnue