وأيا ما كان الأمر في هذا الصدد فقد كانت الدعوة إلى النظرة المنهجية في المسائل العامة أبرز خيط فكري في جملة خيوط شغل صاحبنا بغزلها خلال الخمسينيات ليجدها في آخر العقد قد تلاقت بين يديه في نسيج واحد.
وأما الخيط الفكري الثاني فهو ذلك الحرص الشديد عند صاحبنا على أن يتبين الفواصل الفارقة بين أنواع القول المختلفة يقينا منه بأن الخلط بين تلك الأنواع مؤد حتما إلى فكر مهوش؛ إذ يجعل الإنسان في موقف يتطلب من نوع معين أن يلتزم ما تلزمه أنواع أخرى، ومن هنا ينتج الاضطراب والخطأ، ولعل أظهر ما تظهر فيه هذه الحالة تلك الحيرة التي كثيرا ما أحدثت فجوة تلتها جفوة بين الناس، وأعني الحيرة في تحديد العلاقة بين العلم والدين، فأحيانا يتنكر رجل الدين للعلم، كما يحدث أحيانا كذلك أن يتنكر رجل العلم للدين، وأحيانا أخرى يزعم لنا رجل الدين أن الدين علم، بل هو العلم بأداة التعريف، أو يزعم بأن كل ما جاء به العلم وما سوف يجيء به قد سبقه إليه الدين، وهكذا وهكذا مما قد سمع كل قارئ طرفا منه.
كل هذا الاضطراب الفكري يختفي إذا عرفت الفوارق الدقيقة بين جملة ترد في الدين وجملة أخرى ترد في العلم، إنهما نوعان من القول مختلفان من حيث القناة الإدراكية التي يعتمد عليها في كل من الحالتين، ومن حيث الصياغة التي يصاغ بها المضمون، وأخيرا من حيث موقف المتلقي، فالإدراك في حالة الحقيقة الدينية إنما يكون قبولا إيمانيا يتقبله الوجدان دون أن يطلب منذ البداية إقامة برهان على صحته، وأما الإدراك في حالة العلم فيكون دائما على مرحلتين يختلفان في العلوم الطبيعية عنهما في العلوم الرياضية، وأما الأولى: فتجعل أساسها الأولي معلومات جمعت عن الظاهرة المبحوثة، حتى إذا ما أوحت تلك المعطيات إلى الباحث بفكرة تفسرها كان المحك للرفض أو القبول بعد ذلك هو انطباق تلك الفكرة المقترحة على الواقع، وأما في الثانية أعني العلوم الرياضية: فالمرحلة الأساسية الأولى ليست معطيات تجمعت من وقائع العالم الفعلي، بل هي مجموعة من الفروض تؤخذ مأخذ التسليم، لا لأنها بالفعل مقطوع بصحتها بمقاييس الواقع الوجودي، ولكن لأنه لا بد للعقل من عتبة يقفز منها إلى ما ينتج عنها، وإذا ما وصل العالم الرياضي إلى نتائجه عرضها كما تعرض قطع الثياب الجاهزة، قد تجد من تلائمه من أفراد الناس وقد لا تجد، لكنها في كلتا الحالتين صحيحة من وجهة النظر الرياضية؛ لأنها استدلت من الفروض المسلم بها استدلالا صحيحا.
ذلك هو الفرق بين الدين والعلم في طريقة الإدراك عند كل منهما، وأما الفرق في صياغة المضمون، حتى ولو كان المضمون واردا في كليهما، فهو أن الدين يستخدم بالطريقة التي تؤثر في وجدان المتلقي، فتجيء عبارته دائما على ضرب من ضروب البلاغة، وأما الصياغة في الحقيقة العلمية فمثلها الأعلى أن تساق في تركيبة رياضية أو تركيبة من أحرف الهجاء «كما في الكيمياء»، وإذا لم يكن ذلك ممكنا، كما يحدث في العلوم الإنسانية غالبا، يلجأ الباحثون إلى دقة التعريف في تحديدهم للمعاني المقصورة فيما يستخدمونه من مصطلحات، والهدف في جميع هذه الحالات هو أن يصل البحث العلمي إلى جملة لا تعني إلا شيئا واحدا، وذلك الشيء الواحد لا يمكن تمثيله في جملة أخرى غير هذه الجملة، فلئن كانت العبارة البليغة تزداد بلاغة كلما حملت في تركيبها قابلية تعدد المعاني عند مختلف الدارسين، لكل تفسيره الخاص أو تأويله الخاص، بشرط ألا يخرج عن طاقة التركيب اللغوي الذي بين يديه، فإن الجملة العلمية لا تجعل جوهرها مرهونا بالغنى في جوانب التأويل، بل تجعله في الدقة التي لا تدع مجالا إلا لمعنى واحد، وبشرط مضاف هو أن ذلك المعنى الواحد لا يجد دقة صياغته إلا في تلك الجملة.
وأخيرا تختلف الجملة في الدين عن الجملة في العلم في موقف المتلقي، فهو في حالة الدين يؤمن أي إنه يصدق ما قد تلقاه، وقد يجيء بعد ذلك أو لا يجيء من يبين بالبحث العلمي في مضمون ذلك الإيمان أنه مضمون يمكن إقامة البرهان الفعلي على صحته من الناحية الموضوعية، إلا أن ذلك لا يزيد شيئا في إيمان المؤمن ولا ينقص منه شيئا، فإيمان المؤمن بما آمن به موقف فردي خاص لا يتغير إن آمنت الإنسانية بأسرها أو لم يؤمن منها إنسان واحد سواه، وأما النتيجة العلمية فعلى خلاف ذلك؛ لأنها حقيقة «عامة» وليست خاصة بصاحبها، وهي اجتماعية وليست فردية، بمعنى أن مكتشف الحقيقة العلمية مطالب بأن يقيم على صحتها البراهين أمام مجموعة العلماء المتخصصين، فهي اجتماعية بهذا المعنى تقوم قائمتها أو لا تقوم بناء على مراجعة المشتغلين في ميدانها لها، للتأكد من صحتها، فإن لم تثبت لهذه المراجعة سقطت من الحساب.
إنه ليتعذر علينا أن نتصور إمكان الخلط بين الجملة الإيمانية والجملة العلمية إذا كنا على بينة من تلك الفواصل الفارقة بين النوعين، وكثيرا جدا ما يحدث للموقف الفكري الواحد جانب ديني إيماني وجانب علمي منهجي في آن واحد، ومع ذلك فلا يصعب علينا أن نرجع كلا من الجانبين إلى مجاله إذا أردنا ذلك، فافرض، مثلا، أن عالم التفسير أو عالم الفقه الديني قد نظر في آية كريمة لتفسيرها أو لاستخراج ما تتضمنه من أحكام شرعية، ففي هذه الحالة تظل الآية الكريمة منتمية إلى دائرة الإيمان الديني، وتظل العملية التفسيرية أو العملية الفقهية منتمية إلى دائرة التفكير العلمي، فبينما تبقى الآية الكريمة موضع إيمان من كل مسلم لا اختلاف عليها بين مؤمن ومؤمن، يجوز أن يختلف المفسرون في طريقة تفسيرها أو أن يختلف الفقهاء فيما يستخرج منها في مجال الأحكام الشرعية.
لكن الذي قد يحدث بين نصوص الدين ونتائج البحوث العلمية هو أن تخرج علينا بحوث العلم بنتائج نجد تناقضا ظاهرا بينها وبين نص من نصوص الدين، كما حدث مثلا عندنا وعند غيرنا من أصحاب الديانات الأحرى حيال النظرية الدارونية في تطور الحيوان تطورا جعل الإنسان حلقة أخيرة من حلقات السلسلة، بينما يرد في النص القرآني الكريم «وكذلك في التوراة والإنجيل» ما يدل على أن كل كائن حي بصفة عامة والإنسان بصفة خاصة قد خلق على نحو ما خلق منذ لحظة خلقه بأمر إلهي قضي له بأن يكون فكان، فها هنا يتطلب الأمر مخرجا لا ينتقص من الإيمان شيئا، ثم يحاول أن يرى الحقيقة العلمية في ضوء يتسق مع ما يقتضيه إيمان المؤمن، إذا كان مثل ذلك المخرج مستطاعا، فقد يكون العلم أخطأ جوهر الحقيقة، وكذلك قد يكون في مستطاعنا أن ننظر إلى الفارق النوعي الذي طرأ على ضروب الحيوان عامة وعلى الإنسان خاصة فجعله نوعا قائما بذاته، على أنه أي الفارق النوعي هو المقصود في عملية الخلق بالنسبة إلى كل نوع، على حدة على أننا لا نقدم هذا القول ليكون رأيا نتمسك بصحته.
فمهمتنا في هذا السياق من الحديث أن نبين الخطوط الفكرية التي امتدت مع صاحبنا خلال الخمسينيات ليراها في آخر ذلك العقد وقد تلاقت كلها في نسيج واحد.
خيوط تلاقت «2»
لم يكن نسج الخيوط المتفرقة في نسيج فكري واحد عن عمد سابق وتدبير، فما اجترأ صاحبنا يوما أن يدعي لنفسه مثل ذلك الفكر النافذ والنظر البعيد، ربما كانت هذه الخصائص النادرة مقصورة على أفراد عمالقة من أسرة «عبقر»، وأعني أن تلوح الفكرة الكبرى أول ما تلوح في ذهن العبقري وهو في بواكير عمره، وما هو بعد ذلك إلا أن تراه ناسلا من فكرته الجبارة تلك، خيوطا من محتواها الفني، تجيء فرادى ومع مناسباتها وظروفها على مراحل حياته بعد ذلك ... وهي - بالطبع - إذ تجيء متفرقة بين الأعوام المتوالية، فإنما تجيء متسقا بعضها مع بعض، بحكم أنها جميعا بنات فكرة كبرى واحدة، ولدتها القريحة العبقرية بادئ ذي بدء، ثم أخذ صاحب القريحة يقطف للناس ثمارها المختلفة كلما وجدهم في حاجة منها إلى ثمرة، لكن ما هكذا الحال بالنسبة إلى من هم دون تلك الذروة العالية؛ إذ الأنوال عند هؤلاء تغزل الخيوط خيطا خيطا بما تستوجبه الظروف، فقد تغزل رأيا في حق من حقوق الإنسان في فترة زمنية معينة، ورأيا آخر عن أهمية النظرة العلمية في مواجهة المشكلات العامة في فترة زمنية أخرى، ورأيا ثالثا عن التعليم في فترة زمنية ثالثة، وهكذا، حتى ليخيل للمتعقب، بل ربما يخيل لصاحب تلك الآراء نفسه، أنها أفكار تناثرت متباعدة، مستجيبة لمناسبات ظهورها، دون أن يكون فيها ما يضمن لها أن تكون في حقيقتها عناصر من كيان فكري موحد، إلا أن طبيعة الشخصية السوية - على الأرجح - أن تصدر في طرائق تفكيرها، وفي أنماط سلوكها، بل وفي استجاباتها العاطفية لمختلف العوامل الخارجية، عن أسلوب واحد، أو متقارب في جميع تلك الحالات.
Page inconnue