إنه سؤال إذا ما طرح في استفتاء عام، جاءتنا تصورات ينقض بعضها بعضا؛ لأننا - كما قلنا - لسنا على هدف واحد، وبالتالي فلسنا على ثقافة واحدة، وأسوق إلى القارئ مثلا لما بيننا من تباعد في وجهات النظر: فقد حدث أن دعي صاحبنا مع زميلين آخرين إلى ندوة إذاعية، أريد بها إبداء الرأي في قضية شاع الحديث عنها يومئذ، وتفرق الناس حيالها فرقا، وكان الأمل في ندوتنا الإذاعية أن نلتقي عند رأي رشيد يسمعه منا من يسمع، فلم يكد يبدأ التسجيل حتى برز بيننا نحن الثلاثة خلاف مبدئي عجيب، إذ قال منا قائل: إن الوضع الصحيح ليس هو أن نقول نحن أو أمثالنا من المثقفين ماذا نراه في كذا وكذا من شئون الحياة العامة، لتهتدي الجماهير بما نقوله، بل الوضع الصحيح هو أن يستمع المثقفون لما تقوله الجماهير ليهتدوا؛ لأن جماهيرنا لها من النضج ما ترشد به أمثالنا، وليس لدينا نحن ما نرشدهم به، تلك كانت البداية في الندوة الإذاعية التي دعي إليها الزملاء الثلاثة، واكتفى صاحبنا بقوله: إنه إذا كان الأمر كذلك، لوجب على المسئولين في الإذاعة أن يوجهوا دعوتهم إلى الجماهير لتلتف حول هذا الميكروفون، وكان علينا أن نجلس في ديارنا لنستمع، إلى هذا الحد يبلغ بيننا الخلاف، فماذا نحن صانعون؟
لم يتردد صاحبنا في اعتقاده - حيال هذا التنافر الظاهر - بأن علة العلل لا تكمن في «رأي» نتفق عليه أو نختلف، بل تكمن في غموض معتم يلف حياتنا الفكرية بأسرها، فإذا تحدث اثنان عن «الاشتراكية» أو عن «الديمقراطية» أو عن «نضج الجماهير» أو ما شئت من أمثال هذه المحاور الكبرى في حياة الفكر، كان عند كل منهما معنى لما يتحدثان عنه، غير المعنى الذي يتحدث عنه الآخر، نعم إن أمثال هذه المفهومات التي تدور حولها موجهات الحياة العملية، فيها من عدم التحديد ما يجعلها دائما محل خلاف لا ينتهي، في أي شعب أردت من شعوب العالم، لكن الفرق الجوهري بيننا في ذلك وبين الشعوب المستنيرة بثقافاتها، هو أنهم هناك إذ يختلفون بعضهم مع بعض، فإن موضع الاختلاف يرتكز أساسا على أصلح «تعريف» يحدد معنى هذا المفهوم أو ذاك، وبذلك يصبح المختلفان على وعي بما ينبغي عليهما الاتفاق عليه بادئ ذي بدء، وهو «التعريف» وإذا لم يتلاقيا عند تعريف واحد يرضيان عنه معا، تكونت في دنيا الفكر «تيارات» يستمد كل تيار ماءه من منبع ليس هو المنبع الذي تستقي منه التيارات الأخرى، وبهذا يمكن لمثل هذا الاختلاف أن يتحول إلى غنى تثرى به دنيا الثقافة، وليس إلى فقر يقعد تلك الثقافة فتعجز عن دفع الحياة إلى ما يراد لها أن تندفع.
وأما صورة التنافر عندنا فيغلب ألا تكون حول «التعريف» لأن هذه المرحلة هي في حد ذاتها درجة متقدمة من التثقيف، وأعني بها وعي الجمهور، أو جماعة المثقفين من ذلك الجمهور ، إن معاني تلك المفهومات الأساسية لم ينزل بها وحي من السماء فتتقيد به، وإنما هو من صناعة الفكر البشري؛ ولذلك فكل مفهوم منها ينمو معناه ويتسع مع نمو الخبرات البشرية واتساعها، لا ليس التنافر الفكري بيننا مؤسسا على اختلاف في تعريف الفكرة المختلف عليها، بل هو تنافر لا يستند إلى شيء عقلي على الإطلاق، فيصبح الأمر كله انفعالات تشتعل بين المتحاورين، يدخلها الطرفان صديقين، ويخرجان منها عدوين يكيد أحدهما للآخر بقية حياته، فلا الفكر قد أثري، ولا الصداقة دامت للأصدقاء!
وإذا كانت علة العلل كامنة في مثل هذا الغموض الفكري، فلماذا لا نعالج تلك العلة عند المنبع كما يقولون، ليستقيم الفكر فيستقيم السبيل لإرادة التغيير؟
في سبيل الوضوح «1»
لم تكن المراحل التي اجتازها صاحبنا خلال سنوات عمره، منفصلا بعضها عن بعض بخطوط حادة، بحيث جاءته المرحلة التالية بما وجده جديدا كل الجدة بالنسبة لما خبره في المرحلة التي سبقتها، كلا بل إن «الحياة» في أية صورة من صورها، لا تعرف تلك الفواصل الحادة بين مراحل النمو، ومن ذا يستطيع أن يحدد أمثال تلك الفواصل الحاسمة في شجرة تنمو، أو في فرخ الطير يتحول من عجز إلى قدرة على شق السماء بجناحيه، أو في رضيع بشري وهو يجتاز مراحل الزمن ليصبح ما يصبح: قوة جبارة من قوى الدفع بالأمة كلها، أو بالإنسانية جمعاء في مدارج الصعود الحضاري، أو من قوى الشد إلى الوراء، لعل شريط الزمن يعود على يديه فينطوي ليبعث الماضي وينشر حاضرا مرة أخرى، أو هو رضيع لن يظهر منه سوى إنسان من هؤلاء الملايين الذين يحيون حياة تتوالى فيها الأيام نسخات كربونية، أمسها كيومها، ويومها كغدها، وكأن العمر فيها يوم واحد كلما غربت عنه الشمس، عادت فأشرقت عليه هو نفسه لم يتغير منه شيء.
على أنه إذا كانت طبيعة الحياة، كائنة ما كانت صورتها، هي أن يتدرج فيها التغيير بحيث لا تظهر للعين المجردة فواصل تبين النقلة من حالة إلى الحالة التي تليها، إلا أن «الإنسان» ربما تميز عن سائر الكائنات الحية، في أن حياته ليست بيولوجية صرفا، بل هي تضيف إلى الهيكل البيولوجي امتدادات «ثقافية»، وفي هذه الامتدادات يختلف فرد من الناس عن فرد، بمعنى أنه قد تطرد القشرة الثقافية عند فرد اطرادا يمكث معه سنوات لا يتغير وكأن القشرة قد تحجرت ولم تعد تنمو، بينما تتغير بالنمو تلك القشرة الثقافية عاما بعد عام عند فرد آخر، بحيث يأتي العام اللاحقي باتجاه جديد يتوجه به ذلك الفرد في سيرة حياته، على خلاف حاد في ذلك مع اتجاه العام الذي سبقه، وبين هذين النوعين من أفراد الناس، فيما يختص بحركة النمو في حياتهم الثقافة، هنالك نوع ثالث، تتغير حياته تغيرات تجيء كل مرحلة منها بمثابة النبات الأخضر يخرج من بذور كانت مبذورة كامنة في مراحل العمر السابقة، ومن هذا النوع الثالث كان صاحبنا - على الأغلب - في تطوراته الثقافية بصفة عامة، والجانب الفكري منها بصفة خاصة، حتى لتراه يستطيع أن يرد ما قد ظهر عنده من أفكار تولدت في مرحلة لاحقة، إلى بذورها التي كانت لم تزل في حالة الكمون في مراحل سابقة.
وهذا هو ما نعنيه إذ نقول عنه إن مراحل حياته الفكرية لم تكن منفصلا بعضها عن بعض بفواصل حادة، ففي كل مرحلة يحدث أن تزهر وأن تظهر عناصر كانت في حقيقة أمرها موجودة كما توجد الأجنة في الأرحام، تولد عندما تتهيأ الظروف لولادتها، وكان الوليد الجديد الذي ظهر في أعوام الخمسينيات بعد أن اكتملت صورته، هو مبدأ «الوضوح» فيما يتبادله الناس من أفكار، إذ كان صاحبنا عندئذ على يقين - أو ما يقرب من اليقين - بأن الحياة العقلية، في الفرد الواحد، أو في الأمة بأسرها، إنما تزدهر وتبلغ نضجها، إذا ما غلب عليها «وضوح» الأفكار التي تدخل في دنيا التعامل والتبادل، فليست العبرة بكثرة المحصول الفكري، بل هي بوضوح ما قد حصله الإنسان من أفكار، والفرق بين الفكرة الواضحة والفكرة حين يلفها الغموض، هو أشبه بالفرق بين رحالة في حوزته خريطة واضحة التفصيلات، يستطيع السير على هداها فيصل آمنا إلى غايته المنشودة، ورحالة آخر كل ما في حوزته في هذا الصدد ورقة خطت عليها مجموعة مختلطة من خطوط، ولا ترسم شيئا ولا تدل على شيء، فيضل طريقه في تيه الفلاة.
ولعله كان من أهم ما كشفت عنه التحليلات الفلسفية في هذا القرن العشرين، كشفا لما يشهد تاريخ الفكر كله ما يقارن به دقة علمية، أقول: لعله كان من أهم ما كشف عنه عصرنا في تحليله «للفكر» وطبيعته، هو أن «الفكر» هو هو نفسه «اللغة» التي يظهر بها، وقد يتبادر إلى ظن القارئ، أن هذه النتيجة البسيطة لا يحق لها أن تتضخم في قيمتها بحيث نرتب عليها شيئا ذا خطر، لكنها في حقيقة أمرها نتيجة قلبت لنا الموقف البحثي نورا ظلام، لأننا لو بقينا نلف وندور حول مفهوم «الفكر» كما نتصوره بأذهاننا، لما وصلنا إلى نتيجة صحيحة حاسمة، ولو لبثنا نبدي في المشكلة ونعيد ألف ألف عام، أما وقد تبين لنا ذلك الدمج التام بين «الفكرة» و«لغتها» بمعنى أن تكون تلك هي هذه وهذه هي تلك، وليس أمرهما كما ألفنا أن نقرأ عنه ونسمعه، وأعني ما كان يقال عن الجانبين في تشبيهات تجعلها كالإناء وما يمتلئ به ذلك الإناء، أقول: أما وقد تبين لنا ذلك الدمج في هوية واحدة، فقد أصبحنا أمام تركيبة من رموز لغوية، أو رموز من أعداد أو حروف (كما هي الحال في الرياضة)، ننظر كيف ركبت حين وضح المعنى، وكيف ركبت حين غمض المعنى، وكيف ركبت حين خلت من المعنى، وحين ينصب البحث في ذلك على تركيب معين بين أيدينا نكون قد خلصنا أنفسنا من الضبابية الشبحية التي كانت تواجهنا عندما كنا ندير النظر فيما أسميناه «فكرا» خالصا ومجردا من جسد يخرجه من ظلمات الخفاء إلى ضوء النهار.
وعلى هذا الأساس البسيط الواضح، إذا أردنا الحكم على «فكر» فلان وضوحا وغموضا، لم يكن مرجع حكمنا سوى الرجوع إلى «قوله»، ففي الطريقة التي ركبت بها كلماته واتصلت بها عباراته بعضها ببعض - أو التي انفصلت بها بعضها عن بعض - وها هنا نجد المجال فسيحا أمام النظر العلمي الذي نؤسس عليه الحكم بالوضوح أو بالغموض أو بالخلو من أي معنى، فليست المعاني مرهونة بمفردات اللغة، أو الرموز الرياضية، بقدر ما هي مرهونة بمجموعة العلاقات التي ربطت تلك المفردات ربطا صارت به «فكرة»، ولو ارتبطت تلك المفردات ذاتها بمجموعة أخرى من العلاقات لتغير الموقف، بحيث صار الواضح غامضا، أو الغامض واضحا، أو اكتسب معنى ما لم يكن يدل على معنى، أو فقد معناه ما كان ذا دلالة تحدد معناه.
Page inconnue