وإنه ليجدر بنا في هذا الموضع من الحديث، أن نضع بين يدي القارئ حقيقة لا تخلو من دلالة، وهي أن رجال البحث العلمي، قبل القرن الماضي، عندما كانوا يقارنون بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، من حيث المنهج البحثي الذي يصلح لكل منهما، كانوا على ظن أحيانا، بأن الفارق الرئيسي بين المجموعتين، هو أنه بينما قوانين العلوم الطبيعية قطعية اليقين، فإن قوانين العلوم الإنسانية «إحصائية»، ومن ثم فهي لا تزيد على أن تكون «احتمالية»، أي إن كل قانون منها هو صحيح بنسبة مئوية معينة، ثم دار الزمان دورته، وجاءت الرؤية الجديدة إلى العلوم الطبيعية وقوانينها، وإذا ب «الطبيعة» ذاتها - في المنظور الجديد - لا تقدم ظواهرها المختلفة محددة بحدود قاطعة حاسمة، حتى يمكن أن تستخلص منها قوانين قاطعة حاسمة كذلك، بل إن كل ظاهرة طبيعية إنما تقدم نفسها إلى حواسنا، أو إلى الأجهزة التي تساعد حواسنا، في صورة مذبذبة، ابتداء من الذرة فصاعدا، فليس في وسع الباحث العلمي إلا أن يقيس بأجهزته الظاهرة المراد قياس سرعتها، أو تحولاتها، أو وزنها إلخ، عدة مرات، ليستخرج المتوسط فيكون هو أساس القانون العلمي، وإذا قلنا «متوسطا» حسابيا لعدة قياسات، فقد قلنا بالتالي إن القانون الذي يبنى عليها هو قانون «إحصائي»، فبعد أن كان الرأي فيما سبق هو أن العلوم الإنسانية تنتسب من حيث المنهج إلى العلوم الطبيعية مع فروق في درجة الدقة، أصبح الأصح هو أن نقول: إن العلوم الطبيعية باتت في هذا العصر القائم تنتسب من حيث المنهج إلى العلوم الإنسانية، في أن تكون «إحصائية» مثلها، مع بقاء الفرق في درجة الاحتمال قائما، فاحتمالية القانون الطبيعي تقترب من اليقين، في حين تتفاوت الدرجة الاحتمالية في العلوم الإنسانية، تفاوتا تبعد به أو تقرب من مكانة العلم الطبيعي.
وأيا ما كان الأمر، فالذي نريد للقارئ أن يخرج به من هذا كله، ليرسخ في ذهنه بعد ذلك رسوخا ثابتا يساعد على توجيهه في دروب حياته العملية، هو هاتان القضيتان؛ أولاهما: أن العلوم الطبيعية ومنهاجها في النظر، هو الذي يخلع على عصرنا القائم لونه الخاص، وثانيتهما: أن من أراد العيش متآلفا مع عصره، لا مندوحة له عن أن يجعل «رؤيته» العامة للحياة ومواقفها ومشاكلها، مؤسسة على ذلك المنهج، على أننا لا نقصد بذلك إلى الزعم بأن العلوم الطبيعية هي كل ما في العصر، إذ هو عصر كأي عصر آخر في تاريخ الإنسان، فيه إيمان ديني، وفيه فن وأدب، وفيه عواطف إنسانية بين الوالد وولده، والصديق وصديقه، والجار وجاره، وكل ما يربط أفراد الناس في تعاون وإخاء، كما أننا لا نقصد إلى الزعم بأن كل فرد من الناس ينبغي له أن يكون عالما من علماء العلوم الطبيعية لكي يصبح متآلفا مع عصره، كلا، ولا قصدنا إلى الزعم بأن التآلف مع روح العصر يقتضي بالضرورة قبول العصر بكل ما فيه، خيره وشره على السواء.
وأما عن الاستدراك الأول، وهو الذي أردنا أن نبعد به شبهة الظن بأننا ننفي أن يكون إلى جانب العلوم الطبيعية في عصرنا جوانب أخرى؛ لأن حياة الإنسان بغيرها، كالدين والفن والأدب والتقاليد والأعراف المرعية في الروابط بين أفراد الناس، فقد كان يمكن ألا نذكره وننبه إليه، لأنه بدهية يدركها كل إنسان، إلا أننا نعلم أن بعض المجادلين في مجتمعنا يكادون يحملونك بلجاجتهم، أن تقيم لهم البرهان على أن الضحى في إشراقه مختلف عن الليل إذا سجى، وأن ماء النهر في نقائه عذب وأما الماء في المحيط فملح أجاج؛ ولهذا أردنا أن نعيد - مؤكدين لما قد أسلفنا قوله مرة بعد مرة - بأننا ننظر إلى حياة الإنسان الإدراكية، فنراها منقسمة قسمين، لا يوجد بينهما إلا اجتماعهما في شخص إنساني واحد، تماما كما تجتمع فيه أعضاء السمع والبصر، فليس السمع بصرا ولا البصر سمعا، لكن الإنسان الواحد هو الذي يجمع في فؤاده بين القناتين، وهكذا تكون الحال - أو ينبغي أن تكون - في نظرتنا إلى العلم ومنهجه من ناحية، وإلى سائر القنوات الإدراكية الأخرى من ناحية أخرى، فليس ذلك هو هذا، ولا هذا هو ذلك، لكن الجانبين معا مقومان أساسيان في كل إنسان واحد، فإذا طالبنا الفرد من الناس، إذا أراد أن يتسق مع عصره، بأن يقيم «رؤيته» العامة على إطار العلوم الطبيعية ومنهاجها، فإنما نطالبه بأن يقيم موازين المنطق العقلي في كل بحث «موضوعي» دون أن يكون في ذلك أي مساس بحياته الوجدانية، من إيمان ديني وما يقتضيه إلى نشوة فنية، وعاطفة يشبعها في تعامله مع الآخرين.
وأما عن الاستدراك الثاني، الذي أردنا به أن نميز بين التزام المنهج العلمي عند رجال العلم أثناء قيامهم بالبحوث العلمية، وبين أن يتشرب الفرد العادي روح ذلك المنهج في «رؤية عامة» ينظر بها إلى أمور دنياه، فقد أردنا به أن نوضح ضرورة أن يعيش عامة الناس في مناخ تسوده النظرة التي تبرأ من الخرافة في تعليلها للحوادث، بأن تفسر الأحداث بأسبابها الحقيقية، فذلك هو الفرق بين عصور الظلمات وعصور النور، فإذا تعذر النور فليكن تنويرا يسير بالناس نحو النور، نعم، ذلك هو الفارق الرئيسي بين الحالتين: في عصور الظلام تعلل الظواهر بغير عللها، وفي عصور النور - أو التنوير - ينظر إلى العلاقة بين الأشياء في منظورها الصحيح، والرؤية العلمية للأشياء وتفريعاتها هي الوسيلة الموصلة إلى ذلك المنظور الصحيح.
وأما الاستدراك الثالث، فقد أردنا أن نؤكد به أن التآلف المطلوب بين الإنسان وعصره، ليس معناه أن يقف ذلك الإنسان موقفا سلبيا عاجزا يتلقى ما قد نسجه الآخرون، بل المقصود هو أن يحس الفرد إحساسا قويا بأنه هو عصره، فليس عصر الناس في فترة معينة ملكا لأحد دون آخر، بل يملكه كل من تقلهم أرضه وتغطيهم سماءه، ولأن العصر ملك لمن أراد أن يشارك فيه، قبولا ورفضا وتعويما، فقد استهدفنا أن نوقظ الوعي بهذه الحقيقة بين أبناء الأمة العربية، إذ نلحظ فيها ميلا نحو أن يتركوا العصر للغرب وأبنائه على أساس أن معظم ما فيه هو صنيعتهم، لكن هذه السلبية منا إزاء زماننا تزيد من رغبتنا وتردنا بدفعة أقوى نحو أن نلوذ بماضينا لنعتصم به ونحتمي، وكأنه لا حاضر لنا يعاش، فنحاسب على ما قدمناه وما قصرنا في تقديمه.
ومع ذلك، فلتكن منا عودة إلى ماضينا، لنستلهمه كيف نعيش عصرنا كما عاش سلفنا عصورهم، فهل خاف أسلافنا عواقب الرؤية العلمية كلما اقتضتها موضوعية النظر والرأي؟ بأي منهج أقام علماء اللغة علومهم إذا لم يكن بمنهج العلم في حدوده المعلومة يومئذ؟ وبأي منهج بحث الفقهاء؟ بأي منهج حقق المحدثون صحة الأحاديث؟ بأي منهج بحث جابر بن حيان في الكيمياء، وابن الهيثم في البصريات؟ إن طريق العلم ومنهجه في حياة السلف أوضح من أن يخفى على عين تبصر، وهو طريق لم يصادر على الطريق الآخر ليمنعه أو ليقلل من شأنه، وأعني طريق الإيمان، وطريق النشوة الفنية في عالم الإبداع، شعرا وفنا وموسيقى.
بهذه الرؤية الواضحة للوقفة الصحيحة التي ينبغي للعربي أن يقفها من عصره، عاد صاحبنا من غربته الدراسية إلى أرض الوطن، قلبه يملؤه الحنين، وعقله متأجج بعزم وتصميم ...
ولا تزال لهذا الحديث عن تلك الرؤية الواضحة بقية تأتي ...
رؤية واضحة «3»
كثيرة الدوران على ألسنة المتحدثين، تلك الحكمة التي تنسب إلى رجل من أهل الصين، قالها لسماك، حين هم السماك بأن يعطي سمكة صيده لفقير جاءه يستجدي، فقال الحكيم للسماك: خير له أن تعلمه صيد السمك من أن تتصدق إليه بسمكة. فالسمكة المعطاة هي وجبة واحدة، تأتي بعد زوالها حاجة متكررة إلى وجبات، فإذا تعلم الصيد وجد ما يشبعه كلما جاع ... وعلى منوال هذه الحكمة النافذة، أدرك صاحبنا، منذ كان في غربته الدراسية، أن تدريب المتعلم على منهج التفكر المنتج خير ألف مرة من مضاعفة المادة العلمية المحصلة؛ لأن مقدار ما يحصله الدارس من مادته العلمية مهما كثر فهو قليل، وأما من زود عقله بمنهج التفكير العلمي فهو قادر أبدا على أن يلتمس الطريق الصحيح، كلما أشكل عليه أمر يتطلب له حلا، على أننا لا نريد بهذا القول أن نجعل الاختيار بين طرفين: فإما تحصيل لمادة علمية ولا منهج، وإما تدريب على منهج ولا شيء على الإطلاق من مادة علمية، كلا بل أقرب إلى ما نريد أن نقوله، هو أن مزيدا من التدريب على منهج التفكير العلمي، مع قدر معقول من المادة العلمية، خير من شحن الذاكرة بمحصول كبير محفوظ، ومعه قدرة متواضعة من منهج التفكير، فالحصيلة العلمية المحفوظة في الذاكرة، شبيهة بالسمكة التي نتصدق بها على الجائع الفقير، فيشبع مرة واحدة؛ وذلك لأن تلك الحصيلة المحفوظة مهما بلغ مقدارها من الضخامة، فمشكلات الحياة الواقعة أكثر منها، وانظر إلى دارس الطب - مثلا - كم تتنوع أمامه الحالات في المرض الواحد، بحيث تكاد كل حالة فردية منها تتطلب معالجة تناسبها، تختلف عما يلائم سائر الحالات، فإذا لم يكن الطبيب بمنهجه العلمي أوسع من الحالات المفردة في المرض الواحد، وجد نفسه وقد استجاب لجميع الحالات بصورة واحدة، والذي يجعل الطبيب أوسع مما يعرض عليه، هو أنه - فوق مادته العلمية - مدرب على منهج للنظر والاستدلال في مجاله الطبي.
Page inconnue