Hérodote: Très courte introduction
هيرودوت: مقدمة قصيرة جدا
Genres
ومثلما يستخدم مؤلفو الخيال العلمي عوالمهم البديلة لطرح مقولات حول العالم الذي يعيشون فيه، تمثل غرض هيرودوت، في جزء منه، في تسليط الضوء على ما كان إغريقيا بشكل متمايز باستعراض العادات اللاإغريقية الواضحة. وعلى الرغم من إظهار هيرودوت انفتاحا عقليا غير معهود على عادات الشعوب غير الإغريقية، «المتحضرة» منها كالمصريين والفرس، و«غير المتحضرة» كالسكيث، على السواء، فإنه يميل إلى رؤيتها بأعين إغريقية، وإن لم يكن دائما؛ إذ إن خريطة هيرودوت الثقافية ليست متأصلة في مقابلة ثنائية بسيطة. فرجل لا يستطيع التفكير إلا من منظور إما هذا أو ذاك، ما كان بوسعه أن يؤلف «تاريخ هيرودوت».
كانت فكرة أن الأعراف الثقافية تختلف باختلاف الزمان والمكان محل خلاف شديد في عصر هيرودوت (على الرغم من أن قليلا من الإغريق ومنهم هيرودوت كانوا يرون أن بعض الطرق الأجنبية ربما تكون أفضل من طرقهم هم). وكان بعضهم يتساءل: هل الآلهة موجودة فعلا، أم أنها من اختلاق البشر؟ إذا كان قانون معين لا يروق لك، فهل يمكنك تغييره فحسب، أم أن هناك مبدأ طبيعيا أساسيا من نوع ما يعارض هذا بشدة؟ كان الأمر كله يختزل إلى الناموس مقابل الطبيعة، وكانت كلمة ناموس الإغريقية تنطوي على عدة أفكار مختلفة؛ كالتشريع والعرف المعزز اجتماعيا والقيمة والتقليد والعادة. كان أنصار الطبيعة يرون بعض الأشياء صحيحا وبعضها الآخر خاطئا، ويعتبرون هذا التفريق أزليا وغير قابل للتفاوض. أما أنصار الناموس، فكانوا يتبنون نظرة مختلفة؛ فالقواعد، بالنسبة لهم، من وضع البشر ويمكن تغييرها أو تجاهلها، ولا ريب أن النواميس هي بالضبط الأشياء التي تثير اهتمام الإثنوجرافيين. فمن يضع القواعد بين هؤلاء الناس؟ وما الجزاءات على انتهاكها؟ وما الذي يحترمونه؟ وكيف يقضون أيامهم؟ وماذا عن الجنس، والزواج، وتربية الأطفال؟ وكيف يتعاملون مع الموت؟ ومن يأكل ماذا؟ ولماذا؟ ربما تكون الطبيعة موضع بعض الاهتمام أيضا (فالمناخ على سبيل المثال قد يشكل الأفراد والثقافات)، لكن الناموس هو الأهم.
كان الناموس محل اهتمام خاص من جانب السوفسطائيين معاصري هيرودوت الذين كانوا يجدون متعتهم في كشف ما يعتبرونه عشوائية كل شيء، وكانوا يشجعون - مثل بعض محاوري سقراط المزعجين - أتباعهم على الاعتقاد أن القوانين وضعت لتخرق، لكن هيرودوت اعتنق وجهة النظر المقابلة، حيث يبين لنا في كتابه أولوية احترام مختلف النواميس. يستطيع المرء يقينا أن يتجاهل النواميس؛ فهي ليست قوانين كقوانين الطبيعة، لكن المرء يفعل هذا متحملا العاقبة. وأشهر حالة في «تاريخ هيرودوت» هي حالة ابن قوروش، قمبيز، الذي سخر من المصريين لعبادتهم عجلا يعرف باسم أبيس، وألحق في الواقع بأبيس إصابة قاتلة في الفخذ. هذه الفعلة لم تروع المصريين فحسب، بل روعت هيرودوت أيضا، ويتركنا المؤلف ولدينا اعتقاد أن موت قمبيز متأثرا بإصابة في الموضع ذاته تماما الذي أصاب فيه أبيس من قبل ليس من قبيل المصادفة. وفي سياق استخفاف قمبيز الأرعن بالنواميس المحلية، يحكي هيرودوت حكاية صارت الآن مشهورة عن تجربة أجراها دارا لإثبات تفضيل المرء عموما عاداته الأصلية:
دعا دارا بعض الإغريق الذين كانوا حاضرين إلى مؤتمر، وسألهم كم يرضون من المال ليأكلوا أجساد آبائهم الموتى، فأجابوا بقولهم إنهم لن يفعلوا ذلك مهما كان المقابل. وبعد ذلك استدعى الملك بعض أفراد قبيلة كالاتياي الهندية التي يأكل أبناؤها جثامين والديهم الموتى، وسألهم في حضور الإغريق (وكان هناك مترجم حتى يفهموا ما يقال) كم يرضون من المال كي يوافقوا على حرق جثامين آبائهم، فصرخوا مرتاعين وحرموا عليه أن يقول مثل هذه الأشياء الشنعاء. وهكذا صارت هذه الممارسات محفوظة كعادات باقية، وأعتقد أن بندار كان على حق أن قال في قصيدته إن العادة سيدة الجميع.
ومع ذلك فإن هيرودوت الإغريقي نفسه قلما يعبر عن اشمئزازه من أي من التشكيلة الهائلة من العادات غير الإغريقية التي يصادفها. فمثله مثل السفسطائيين، تعامل مع النواميس في أغلب الأحوال كما هي، وقد طمح - كباحث ميداني بكل معنى الكلمة - إلى دور المسجل لا القاضي. فإلى الشمال يوجد هؤلاء الناس الذين لديهم هذه العادات والنباتات والحيوانات، وعلى الجانب الآخر من الجبل يوجد هؤلاء الناس الذين لديهم تلك العادات والنباتات والحيوانات، وهم يقولون إن على الجهة الأخرى من الصحراء يوجد هؤلاء الناس الذين لديهم هذه العادات والنباتات والحيوانات. ومثل الأنثروبولوجيين في العصر الحديث، كان مؤمنا بالنسبية الثقافية، لكن إلى حد معين فحسب، فهو يتوقف دوريا للإشادة أو الاستهجان. وفي مرات الشجب القليلة، يظل أرفع مستوى من بعض من أتوا بعده، حتى إن باحثا ميدانيا يحظى باحترام شديد مثل برونيسلاف مالينوفسكي قال في مذكراته أشياء أشد قسوة بكثير عن الأشخاص موضوع بحثه، مقارنة بأي شيء نقرؤه في عمل هيرودوت.
وبالإضافة إلى فضوله تجاه النواميس المتنوعة، كان هيرودوت مهتما باختلاف النواميس بشأن النواميس؛ فهو يروي لنا أن الفرس يتبنون عادات أجنبية أكثر من أي شعب آخر. ولتقارن بينهم وبين المصريين، الذين يتمسكون بنواميس أسلافهم ولا يقبلون أبدا أي نواميس جديدة. وهناك قصتان طويلتان جدا تحكيان لنا عن أفراد لقوا حتفهم نتيجة حماسهم للعادات الأجنبية، وهما أناقارسيس السكيثي، الذي قتل من الواضح على يدي شقيقه عندما اكتشف انخراطه في طائفة دينية أجنبية، وسايلس، وهو الآخر سكيثي، الذي بدأ - بعد أن تيمته الثقافة الإغريقية - يتجول خلسة مرتديا ملابس الإغريق ويعبد آلهتهم، وعندما وشى به واش، أقدم شقيقه هو الآخر على قتله. ويختم هيرودوت بقوله: «شديدو المحافظة هم السكيث، حتى إنهم يعاملون من يعتنقون عادات أجنبية على هذا النحو.»
اعتبر هيرودوت - مثله مثل معظم الإثنوجرافيين - التفاصيل الثانوية للحياة اليومية جديرة كل الجدارة بالتسجيل، لكننا نجد في عمله أن محض غرابة عادات الآخرين وممارساتهم اليومية يحولها إلى شيء دخيل. وهيرودوت ها هنا يتميز عن إثنوجرافيي وأنثروبولوجيي العصر الحديث المدربين على كبح حماساتهم والاكتفاء بتسجيل ما يرون أو يسمعون، وما يفتقر إليه «تاريخ هيرودوت» هو موقف الباحث الميداني المحترف الواضح والمحكم؛ فملاحظات هيرودوت حول العوالم التي يزورها تتميز بمزجها بالعجب، فنحن نقرأ بين السطور ما مفاده: إنك لن تصدق هذا أبدا.
كان هيرودوت، الذي اتسم في بعض الأحيان بأنه كاتب رحلات أكثر منه إثنوجرافيا، منجذبا بشدة إلى الأشياء اللافتة للنظر والغريبة وغير المألوفة والعجيبة والمروعة؛ إلى أي شيء يختلف اختلافا مثيرا عما ألفه هو وإخوانه الإغريق. وكان يستمتع ب «القصي» - بالمعنيين الحرفي والمجازي للكلمة (لقد فتنه ما يوجد على أطراف العالم المعروف، كالنمل الهندي الذي يفوق الثعلب حجما وينقب عن الذهب في الأرض) - جزئيا بسبب افتتانه الشخصي بما هو غير عادي، وجزئيا بسبب التزامه بالدقة والشمولية فيما يرويه، لكن جزئيا أيضا، وبكل تأكيد، بسبب علمه أن تلك مادة كتابة مناسبة.
كان هيرودوت مولعا ولعا خاصا بالظواهر غير العادية التي كانت تجلي سعة حيلة البشرية. انظر مثلا إلى براعة السكيث؛ فعندما كانوا يضحون بثور، كانوا يواجهون صعوبة في طهيه؛ لعدم وجود حطب في سكيثيا يصنعون به نارا، ولعدم توافر القدور على الدوام؛ ومن ثم، فهم يضعون كل اللحم في بطن الثور ويخلطون به بعض الماء ويسلقونه على نار اتخذوها من العظام. عجبا؛ فيكون ثورا ذاتي الطهي! وفي شبه الجزيرة العربية، تأتي طيور كبيرة بعيدان القرفة إلى أعشاش على منحدرات جبلية شديدة الارتفاع، لدرجة أنه لا يستطيع إنسان التسلق والحصول عليها؛ لذا طور العرب استراتيجية، حيث يقطعون أجسام الدواب قطعا كبيرة جدا ويتركونها بالقرب من الأعشاش، وعندئذ تهبط الطيور لحمل قطع اللحم إلى أعشاشها، لكن الأعشاش ليست بالقوة الكافية لتحمل الوزن، فتنهار وتسقط على الأرض، وعندها يأتي العرب ويأخذون القرفة، التي يصدرونها بعدئذ إلى البلدان الأخرى. وهناك ما هو أكثر، فأحد أنواع الضأن في شبه الجزيرة العربية له ذيل مفرطح عرضه ثماني عشرة بوصة، وهو أمر مدهش لكنه لا يمثل مشكلة، وأما النوع الآخر فيشكل تحديا؛ لأن ذيله طويل جدا (أربعة أقدام ونصف القدم أو أكثر) لدرجة أنه سيتقرح لو تركت الشياه تجره على الأرض من ورائها وهي تسير، لكن الرعاة فيما يبدو يعرفون ما يكفي عن النجارة لصنع عربات صغيرة يثبتون الواحدة منها تحت ذيل الشاة. مشكلة وحلت!
ويسر هيرودوت سرورا واضحا بالنظام الذي وضعه رجال بابل لضمان تزويج كل نسائهم؛ فالبنات غير المتزوجات مشكلة أشد خطورة بكثير من الذيول الحساسة . ففي كل عام، كان البابليون يعقدون ملتقى تطرح فيه الشابات في مزاد بترتيب تنازلي حسب جمالهن، فيزايد الرجال الأعظم ثراء للفوز بأجمل النساء، ويستخدم المال الذي يجمع على هذا النحو لتوفير مهور للإناث الأقل جاذبية والمعوقات، إن وجدن، وبالتالي كان كل يعود إلى بيته متزوجا ولا يشكو من شيء. مشكلة أخرى وحلت! بل والأفضل من ذلك أن التوازن تحقق، وهو شيء بالغ الأهمية بالنسبة لهيرودوت.
Page inconnue