Le Rêve de la raison : une histoire de la philosophie de l'âge grec à la Renaissance
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
Genres
ولكن هذا الاعتراض لا ينفذ إلى صلب الموضوع؛ إذ إنه يبرهن على أنه ثمة خطأ فيما يقوله بارمنيدس - وهو أمر قد أدركناه على أية حال - ولكنه لا يحدد هذا الخطأ أو سببه، فنحن نحتاج إلى تشريح ما بعد الوفاة، لا مجرد شهادة وفاة. ولحسن حظنا، ليس علينا أن نتكلف عناء البحث الطويل حتى نصل إلى بغيتنا ونتعرف على مصدر الخطأ؛ فالخطأ ينبع من فكرته الأولى التي تقول إنه لا يمكننا الحديث عن شيء غير موجود أو التفكير فيه، فنحن بكل وضوح يمكننا أن نفعل ذلك مهما حاول بارمنيدس أن يخالفنا؛ فعلى سبيل المثال يمكننا أن نقول إن حيوانا خرافيا كالحصان وحيد القرن لا يوجد في أي مكان، وإن كريستوفر كولومبوس ليس على قيد الحياة الآن، وإن الطبشور ليس كالجبن، وإنني لا أمتلك أي رصيد في المصرف، والعديد من الأشياء الأخرى التي يعد الحديث عنها حديثا عن أشياء غير موجودة. وإذا كان هذا صحيحا - أي إذا أمكننا أن نتحدث عن أمور غير موجودة ونفكر فيها - فسيكون لنا أن ننكر النتائج التي توصل إليها بارمنيدس معتمدا على استنتاجاته الغريبة.
ولو كان بارمنيدس بين أظهرنا لما كان تحليلنا هذا ليقنعه، ولقال إن الناس يتوهمون قدرتهم على التفكير في أشياء غير موجودة والحديث عنها على خلاف الحقيقة؛ فهو يعتقد أن كل ما نفعله عند الحديث عن أشياء غير موجودة أو التفكير فيها ليس سوى «هراء لا طائل منه»، فكما تقول إلهته:
يجب أن تمسك بزمام فكرك وألا تدعه يتطرق إلى هذه الأمور، كما يتعين ألا تدع عادة الحديث عن هذه الأمور التي تمخضت عن كثير من التجارب تدفعك إلى ولوج هذا الطريق؛ فتجد نفسك تنظر إلى هراء لا طائل منه أو تسمع أو تتحدث عنه، ودع عقلك يحكم على كلماتي التي أثارت كثيرا من الجدل.
في هذه الفقرة تطلب الإلهة من الإنسان ألا يفكر إلا فيما يخبره به عقله، وأن ينظر في حديثها بعين الاستقصاء والعقل، وأن ينسى ما يمليه عليه المنطق السليم، وحينها سيرى الحقيقة جلية واضحة وضوح الشمس في كبد السماء.
كان من السهل علينا أن نفهم هذه النصيحة إذا أسهبت الإلهة في حديثها إلى بارمنيدس وأسهب هو في إيضاحها لنا؛ فأجزاء القصيدة التي تتناول تفسير فكرة استحالة الحديث عن شيء غير موجود والتفكير فيه معقدة ومبهمة وربما ليست كاملة، بالإضافة إلى أن بارمنيدس لم يكن من الشعراء المتمكنين؛ فكثيرا ما نجده يتعثر في إنشاء التفعيلة السداسية. بل وربما لو ناقش فكرته وعرض مبدأه هذا في قالب نثري مباشر لعجز كذلك عن تفسير ولعه الزائد بهذه الفكرة، للدرجة التي جعلت من الصعب أن يحاول شخص آخر فهمه وتفسيره من بعده. (ولعل ملك لويس كارول يزعم أنه ليس ثمة من هو أمهر من بارمنيدس أو أذكى منه). وعلى كل فما زال من الممكن أن نعيد بناء جزء من القصة حيث إن بارمنيدس لم يرتكب خطأ ساذجا فحسب في حديثه عما يمكن للمرء أن يفكر فيه ويتحدث عنه وما لا يمكن أن يفعل معه ذلك، بل على العكس يبدو أنه ارتكب خطأ ينم عن مهارة عالية.
لقد توصل بارمنيدس إلى أن عملية التفكير تتضمن اتصالا مباشرا مع الشيء الذي يفكر المرء فيه، وشبه عملية التفكير باللمس رغم عدم تصريحه بذلك، فكما يستحيل لمس شيء غير موجود فإن التفكير فيه أو الحديث عنه أمر مستحيل كذلك؛ فالتفكير في شيء غير موجود أشبه بمحاولة الإمساك بشبح، وهذا يوضح السبب وراء حذفه الأفكار السلبية مثل «اللاشيء» و«غير الموجود» مما قدمه من تفاسير للعالم.
ولعل مكمن المهارة في هذه الفكرة القائلة إن العقل يجب أن يكون على اتصال بما يفكر فيه هو أنها كانت جزءا من الإجابة على سؤال لم يشغل بال أحد قبله، ألا وهو: كيف للكلمات والأفكار داخل عقلك أن تصف الأشياء الموجودة في العالم الخارجي؟ أو بطريقة أخرى: كيف يتصل اللغة والفكر مع العالم الخارجي؟ والإجابة الوحيدة التي توصل لها بارمنيدس في هذا الشأن هي أن العقل لا بد له أن يتصل بالعالم الخارجي بطريقة ما، وإن كان هذا لا يفسر الأمور بوضوح ولكنه بداية لا بأس بها.
لا نستطيع الآن أن نفهم القضية بشكل أعمق من بارمنيدس، ولكن لا يزال هناك العديد من الأسئلة حول الفكر والمعنى لم نعثر لها على إجابات حتى الآن، وهي الأسئلة التي تشغل بال علماء النفس وعلماء اللغة النظريين والفلاسفة وعلماء الإدراك. ومنذ عهد بارمنيدس والسؤال الذي يؤرقهم جميعا هو معرفة كنه عملية التواصل بين العقل والعالم الخارجي والذي يفرز لنا الفكر واللغة. لقد صب كثير من الفلاسفة جم تركيزهم على هذه الأسئلة منذ مطلع القرن الماضي، وحمل كثير من إجاباتهم الأولى صبغة من فكر بارمنيدس، ولكن لم يذهب أحد منهم بعيدا رغم ذلك ويدعي أنه عند شروعك في الحديث عن شيء غير موجود أو التفكير فيه فإنك تقول هراء لا طائل منه. ويبدو أن هذه الفكرة لم يؤمن بها سوى بارمنيدس وتلاميذه.
كان أفلاطون هو أول من حاول أن يفكك شبكة بارمنيدس المعقدة بالاستفسار عما كان بارمنيدس يعنيه بفكرة «الحديث عن شيء غير موجود»، وأوضح أفلاطون العديد من الطرق المختلفة لاستخدام وصف «غير موجود»، وبين أن وضع هذه الحالات جميعا في سلة واحدة كما فعل بارمنيدس فعل فيه ما فيه من عدم النضج، وبين كذلك أنه حال إماطة لثام الغموض عن مفهومي «الموجود» و«غير الموجود» ستتلاشى أسباب الحيرة والتخبط عند الحديث عن «غير الموجود»، وسيكون من السهل أن ندرك أن استخدام مصطلحات سلبية أو إنكار الأشياء يختلف تمام الاختلاف عن التفوه بهراء لا طائل منه. ولم يقدم أفلاطون تصورا شاملا لعلاج هذه القضية، إلا أنه كان دافعا كافيا لتلميذه أرسطو أن يرفض فكر بارمنيدس وينحيه جانبا في قوله: «إن زعمه أن الحديث عن «الموجود» لا يكون إلا من طريق واحد لهو قول مغلوط وزائف؛ لأنه يمكن الحديث عنه بأشكال عدة.»
لكن قبل أن نحذف بارمنيدس من قاموس الفلاسفة بسبب ما قدمه من شعر رديء، ولعجزه حتى عن فهم لغته الأصلية، يجب أن نضع في اعتبارنا شيئا مهما وهو أن أدوات التحليل النحوي التي استعملها أفلاطون لتفسير مفهوم «الحديث عن شيء غير موجود» كانت قد استحدثها للتو الرحالة من المعلمين السفسطائيين الذين تجمعوا في أثينا في العصر الذي عاش فيه سقراط. ولم تكن هذه المصطلحات اللغوية شائعة في ريعان شباب بارمنيدس، ولعله لم يفكر فيها بشكل منهجي قط . ولعل أفلاطون وأرسطو لم يخطر بباليهما أن يفكرا في استخدام هذه المصطلحات أيضا لولا أن دفعتهما إلى ذلك كتابات بارمنيدس ومن سبقوه ، والتي تتميز بالغموض والتعقيد. ولم يكن بارمنيدس هو وحده من عجز عن إدراك بعض الحقائق حول اللغة والتي نعدها الآن واضحة بل تافهة. وفي الدفوعات التي قدمها بارمنيدس تجدر الإشارة إلى أن فكرة إيجاد وجه شبه بين التفكير واللمس التي يبدو أنها أعجبته ربما كانت مستعصية على الفهم في زمانه أكثر من الآن، فالفعل
Page inconnue