Le Rêve de la raison : une histoire de la philosophie de l'âge grec à la Renaissance

Muhammad Talba Nassar d. 1450 AH
32

Le Rêve de la raison : une histoire de la philosophie de l'âge grec à la Renaissance

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

Genres

فأجابه الملك: «حقا لا يمكنه أن يفعل ذلك وإلا لسبقك إلى هنا.»

وهناك كثير من النكات التي كانت متداولة بين اليونانيين منذ عهد هوميروس؛ ففي الأوديسة مثلا يروى أن عملاقا وسيما وغبيا في آن واحد يدعى بوليفيموس قد أمسك بأوديسيوس وسأله عن اسمه - وكان أوديسيوس معروفا بحيله وألاعيبه الماكرة - فأجابه: «لا أحد.» ثم قام أوديسيوس بفقء عين هذا العملاق الذي لم يكن له إلا عين واحدة، فانتبه جيران بوليفيموس على صراخه من شدة الألم وهرعوا ليقدموا له يد العون فأخبرهم أن «لا أحد» قد تعرض له بالأذى، وهو ما أساء جيرانه فهمه فرجعوا عنه وتركوه وحيدا. ويسعنا القول هنا إن هذه القصة تنطوي على لب فلسفة بارمنيدس، ولكن استغلال بارمنيدس للتلاعب بالألفاظ في هذه القصة اتخذ شكلا جديدا.

كما أن الشكل الذي اختاره لكتابة أعماله لم يكن مألوفا على الأقل بالنسبة للفلاسفة؛ فقد استخدم الشعر سداسي التفعيلة وهو الشكل الذي كان شائعا منذ عهد هوميروس وهسيود وكثير من الشعراء الأقل شأنا. ولم يكتب بالشعر من فلاسفة ما قبل سقراط سوى زينوفانيس وإمبيدوكليس. وعلى عكس زينوفانيس يقلد بارمنيدس الأسلوب والخيال اللذين استخدمهما الشعراء الملحميون في مقدمة قصائده على الأقل. وتذكرنا رحلته برحلة أوديسيوس إلى هاديس، كما أن الإلهة التي ألقت عليه التحية تذكرنا بربات الشعر اللاتي كن يوحين بالرؤى الشعرية التقليدية. وهكذا تقول الإلهات اللاتي كن على جبل هيليكون - واللاتي ظهرن في مقدمة قصيدة «ميلاد الآلهة» لهسيود - للشاعر: «إننا لندري كيف نتحدث بالكذب كما لو كان صدقا، ولكننا كذلك ندري كيف نتحدث بالحق متى أردنا ذلك.» وبالمثل فإن إلهة بارمنيدس أخبرته أنها ستحدثه بحديث يختلط فيه الحق بالباطل فقالت: «كل من القلب الراسخ للحقيقة الكاملة وآراء الخالدين التي لا يعول عليها أبدا.»

ولحسن حظ بارمنيدس - أو بالأحرى لحسن حظ قرائه - ظلت كلمات الإلهة الصادقة بمنأى عن كلماتها الزائفة. وتتكون قصيدة بارمنيدس التي لم يتبق منها سوى 150 بيتا من ثلاثة أجزاء هي المقدمة التي كتبت على غرار مقدمات القصائد البطولية التي سبق أن اقتبسنا منها جزءا، والجزء الثاني الذي يتحدث عن «الطريق إلى الحقيقة» والذي يتسم بشيء من الكثافة والغموض والذي يقول فيه بارمنيدس إن العالم سرمدي جامد لا يتغير ولا يتبدل، ثم الجزء الأخير الذي قد يؤدي إلى خداع القارئ باعتراف بارمنيدس نفسه ويسمى «طريق التجلي» والذي لم يتبق منه سوى فقرات صغيرة. ويسهل فهم هذه الأسطر القليلة التي تأتي في نهاية القصيدة؛ فهي تقدم تفسيرا طبيعيا للعالم المادي المتغير. ويظل السبب الذي دعا لكتابتها مبهما، فلماذا تقدم الإلهة تفسيرات أقرت بنفسها أنها خادعة ومضللة وتتناقض مع ما ورد في الجزء السابق عليها «طريق الحقيقة»؟ وسأرجئ الإجابة على هذا السؤال قليلا؛ فالجزء الأهم من القصيدة هو «طريق الحقيقة» وبه يجب أن نستهل حديثنا. (ولكي يسهل فهم هذا التفسير سأتناول بعض أفكار ميليسيوس وهو أحد تلاميذ بارمنيدس المخلصين والبسطاء، ثم أشرح طريقة تفكير بارمنيدس بشكل يتلاءم مع فكره العام.) •••

لقد بدأ بارمنيدس بفكرة بسيطة حول الفكر واللغة ثم حول هذه الفكرة إلى فلسفة كاملة. لقد قال إنه ليس بوسع أي إنسان أن يفكر في شيء غير موجود أو يتحدث عنه؛ فهذا من وجهة نظره يعادل الحديث عن اللاشيء، والشخص الذي يتحدث عن اللاشيء أو يفكر فيه لن يستطيع أن يتحدث أو يفكر بشكل سوي بأي حال من الأحوال؛ ولذلك علينا أن نمحو الأشياء غير الموجودة أو اللاشيء تماما من فكرنا. وعجب عجاب أن نجد أن الأمر ليس بالسهولة التي يتحدث بها بارمنيدس، فهذه الأفكار السلبية موجودة في كل شيء حولنا. ويوضح ذلك على سبيل المثال أنه لا سبيل لنا للحديث عن أن شيئا ما قد خرج إلى الوجود؛ إذ يتضمن ذلك أنه لم يكن موجودا من قبل، وهذا بالنسبة لبارمنيدس ضرب من المستحيل فلا يمكننا أن نتحدث عن شيء غير موجود. وبالمثل لا سبيل لنا إلى الحديث عن شيء سينقطع يوما من الوجود؛ لأن هذا ينطوي على الفكرة المستحيلة أنه سيأتي عليه يوم يكون فيه لا وجود له، ولذلك فلا ينبغي أن ندعي أن هناك شيئا سيأتي إلى الوجود أو ينقطع عنه؛ ولذلك فكل الأشياء خالدة.

وهذه الفكرة في حد ذاتها كافية لإثارة الدهشة؛ فكلنا يرى أن الأشياء تولد وتموت وتأتي إلى الوجود ثم تنقطع عنه، ولكن الأسوأ لم يأت بعد، إذ يترتب على فكرة بارمنيدس بأنه لا يمكننا الحديث عن شيء غير موجود أو التفكير فيه أن لا شيء يتغير أبدا؛ لأنه إذا تغير أي شيء فإن هذا يعني أنه كان موجودا في وقت معين بشكل معين ثم أصبح غير موجود في وقت آخر، ولكننا لا نستطيع الحديث عن شيء غير موجود؛ ولذلك لا نستطيع الحديث عن التغيير. ويستتبع ذلك أيضا أنه ليس ثمة شيء يتحرك، فحركته تعني أنه في وقت ما كان موجودا في مكان معين ثم انتقل من مكانه ذاك إلى مكان آخر فأصبح غير موجود في مكانه الأول. ولا يسعنا أن نتحدث عن انعدام وجود الشيء في مكان معين؛ لأن هذا ينفي قدرته على الحركة. وإذا كان بارمنيدس مصيبا في تفكيره، فليس في اعتقاد هرقليطس بكون دائم الاضطراب إلا محض الخطأ.

يرى بارمنيدس أيضا أن وجود أي شيء يقتضي كونه في حالة من الكمال التام، فإذا افترضنا أن هذا الشيء ينقصه أو كان ينقصه جزء ما في وقت من الأوقات؛ فهذا يعني أن هناك جزءا منه ليس موجودا، وهو أمر لا يمكننا الحديث عنه أو التفكير فيه؛ ومن ثم فإن تفسيرات أناكسيماندر وأناكسيمينس لا بد أن تكون خاطئة إذا افترضنا صحة أقوال بارمنيدس، إذ لم يمر الكون بمراحل التطور التي قالوا بها أو بأي شكل آخر؛ لأنه وجد على حالته تلك من الكمال التام. وفي سياق الجدل حول الكون وعدم تطوره عبر الزمن يقدم لنا بارمنيدس سببا آخر على فكرة عدم انبثاق الكون من اللاشيء متسائلا: «ما الذي دفع الكون إلى الوجود من العدم لاحقا وليس سابقا؟» أي «لماذا نشأ الكون من العدم في تلك اللحظة دون غيرها؟» ويبدو أن هذا السؤال لم يحاول أحد قبل بارمنيدس الإجابة عليه.

وبما أن الكون أو «الموجود» كما يحب أن يسميه بارمنيدس لا يتغير في كل الأوقات فهو لا يتغير في أي مكان؛ فلا مكان فارغ في الكون لأن هذا يعني أنه لا يوجد شيء في هذا المكان، وهو ما يرفضه بارمنيدس تماما؛ إذ إن الوجود لا بد أن يوجد ممتلئا بكامله. وأخيرا، بما أن بارمنيدس يعتقد أن «الموجود» يتسم بالاتساق والوحدة فهو يرى أيضا أنه فريد لا مثيل له؛ أي إنه لا يوجد منه إلا شيء واحد، ولذلك قال مثلا: «إن الموجود يتسم بالكمال والتمام وانعدام المثيل.» ولأنه على ذلك الحال من الكمال (لأسباب أكثر تعقيدا قمت بحذفها ) ينهي بارمنيدس الجزء الخاص ب «طريق الحقيقة» بتشبيه غامض لذلك الشيء الواحد الموجود الفريد بالكرة، التي كان ينظر إليها اليونانيون على أنها الشكل الذي تتحقق فيه سمات الكمال. ويتميز هذا الشيء - كما يقول بارمنيدس - بأنه «متساو في بعده عن المركز من جميع الاتجاهات» وبهذا فنحن الآن نعلم الحقيقة أو بالأحرى حقيقة بارمنيدس التي لا تصدق؛ فليس ثمة ميلاد ولا موت ولا تغير ولا حركة ولا تنوع، فليس هناك سوى شيء واحد سرمدي لا يتحرك يتسم بالكمال وعدم القابلية للانقسام ويشبه الفلك. •••

من أهم سمات هذا الفكر أنه يتميز بالاتساق الذاتي؛ فبارمنيدس يعود مرارا وتكرارا لفكرة استحالة التفكير في شيء غير موجود، وهذا هو مصدر روعته. وانطلاقا من هذه الفكرة ينسج بارمنيدس شبكة عنكبوتية تمكنه من اصطياد أفكار التغيير والحركة والميلاد والموت والتنوع والنقص والتهامها جميعا، ولكنه لم يسلم من الخطأ الشديد في بعض الأمور التي علق عليها أرسطو قائلا: «رغم أن هذه الأفكار تبدو وكأنها تتبع نهجا منطقيا فالإيمان بصحتها يجعلنا على حافة الجنون إذا وضعنا في اعتبارنا الحقائق المعروفة.»

ولا تتناقض أفكار بارمنيدس مع المنطق السليم فحسب بل مع بعضها البعض وبطريقة جلية واضحة للعيان؛ فهو دائم الإنكار للأشياء، ومن ذلك على سبيل المثال أنه ينكر وجود الحركة أو الميلاد أو الموت، وهذا في حد ذاته يعد حديثا عن أشياء غير موجودة وتفكيرا فيها، وهذا وفقا لفكره وفلسفته ضرب من ضروب المستحيل. ومن الغريب أن تنكر كل هذا في حين أنك تتجنب الحديث عن الأفكار السلبية.

Page inconnue