Le Rêve de la raison : une histoire de la philosophie de l'âge grec à la Renaissance
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
Genres
عند المقارنة بين الطرق التي اتبعها الملطيون وتلك التي اتبعها الأطباء الأبقراطيون بعد ذلك بمائة عام - ناهيك عن أرشميدس وإقليدس في القرن الثالث قبل الميلاد - نجد أن الطرق التي اتبعها الملطيون كانت شديدة البساطة. ومن قبيل المفارقة أن هذا تحديدا ما يدخلهم في زمرة الفلاسفة؛ فقد كان التفكير العلمي حديث الولادة بين ظهرانيهم، ولكنهم امتلكوا الجرأة اللازمة للبحث عن أسباب الأمور حيث حاولوا التعمق في البحث أكثر مما كان متاحا وفقا للصورة التقليدية للعالم حينئذ مستخدمين في ذلك عقولهم، وهو ما يجعل منهم فلاسفة.
لقد كان استخدام العقل عملا إيمانيا خالصا؛ فلا فائدة ترجى من محاولة وصف القوانين الموضوعية التي تحكم الكون إذا لم تكن ثمة قوانين كهذه أو إذا كانت هذه القوانين خارج نطاق الإدراك. لقد افترض الملطيون ببساطة وجود تلك القوانين وقدرة العقل على إدراكها، وجنوا ثمار هذا الإيمان بوجود نمط واضح وجلي في الطبيعة عندما توصلوا إلى ما بدا لهم تفسيرات جيدة لبعض الظواهر مثل الحياة والكسوف والخسوف والرعد. ويوضح حديث أناكسيماندر عن «الضرورة» والعناصر التي «تعاقب بعضها بعضا على الظلم الذي تقترفه طبقا لتقييم الزمن» الإيمان الجديد لدى الملطيين بعالم تحكمه قوانين مفهومة، على الرغم من أن هذا الحديث جاء في ألفاظ شاعرية.
ولكن تلك المعتقدات لم يعلن عنها صراحة إلا في وقت لاحق؛ فقد أخذ الأطباء الذين أحاطوا بأبقراط الكوسي (حوالي 460-370ق.م.) يتباهون بالمذهب الطبيعي الجديد. وفي ذلك قالوا عن مرض الصرع الذي اشتهر باسم «المرض المقدس»:
ينشأ هذا المرض ذو الطابع المقدس عن الأسباب نفسها التي تسبب الأمراض الأخرى؛ عن الأشياء التي تدخل الجسم وتخرج منه وعن البرد والشمس واضطراب الرياح ... وليست هناك حاجة لوضع هذا المرض في فئة خاصة واعتباره أكثر قدسية من الأمراض الأخرى، فكلها إلهية وفي الوقت ذاته كلها بشرية، ولكل منها طبيعته وقوته الخاصة، ولا شيء منها مفقود فيه الأمل أو مستعص على العلاج.
ولم يقسم هؤلاء الأطباء العالم إلى أمور إلهية غامضة وأخرى قابلة للتفسير عن طريق الطبيعة؛ فيبدو أنهم ساروا على درب الملطيين وافترضوا أن كل شيء قابل للتفسير.
لقد كان الأطباء الأبقراطيون يتمتعون بقوة الملاحظة للحقائق ويساورهم شك كبير فيما لا يمكن إثباته. ويقال إن الملطيين كانوا على النقيض من الأطباء الأبقراطيين غير مهتمين بالتحقق من تأملاتهم، وهو ما انتقص من قيمتهم. وثمة جزء من الحقيقة في ذلك القول، رغم وجود دليل على أن أناكسيمينس على سبيل المثال قام بالفعل بإجراء تجارب من نوع ما. ورغم أنه أجرى التجربة بشكل أبعد ما يكون عن الصواب؛ فلا ينتقص هذا مما قام به. فقد ذكر (في توضيح لأحد التفسيرات المقبولة) أنك إذا زممت شفتيك واتخذ فمك شكل فتحة صغيرة ونفخت في يدك فسوف يخرج النفس من فمك باردا، ولكن إذا أخرجت زفيرا من فم مفتوح على مصراعيه فسوف يخرج النفس ساخنا. ويبدو أن تلك الحقيقة تدعم نظريته الخاصة بالتخلخل والتكثف والتي تقول إن الهواء المضغوط أكثر برودة والهواء المتخلخل أكثر سخونة. (وفي حقيقة الأمر، إن الهواء المضغوط أكثر سخونة ولكنه بمروره في اليد بشكل أسرع في تلك «التجربة» يجعل اليد تشعر بدرجة أعلى من البرودة.)
تعد محاولة أناكسيمينس لدعم نظريته عن الكون عن طريق تدفئة يديه هي الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. فبشكل عام ، لم يحمل الملطيون أنفسهم عناء التجارب. ولا يدهشنا ذلك لأن مجالات بحثهم المفضلة - وهي السماء والجو وأصل الأشياء - لم تكن ملائمة لها؛ فالعواصف الرعدية وغروب الشمس ظواهر لا يمكن التعامل معها أو تحليلها بسهولة. وعندما واجهتهم هذه الألغاز وسدت طريقهم لجأ الملطيون إلى ما يجيدونه بالفعل، ألا وهو محاولة التفكير المنطقي فيها عن طريق القياسات والملاحظات المتاحة. ومع وضع اهتماماتهم في الاعتبار، يصعب علينا الاعتقاد أنهم كانوا سيحرزون المزيد من التقدم إذا فكروا في إجراء المزيد من التجارب.
وثمة انتقاد أكثر خطورة موجه لكل من الملطيين والأطباء الأبقراطيين، وهو أن ادعاءاتهم بامتلاك معرفة أكثر رقيا لم يكن إلا خدعة. على سبيل المثال، كان مؤلف العمل الأبقراطي المستشهد به سابقا يعتقد أن مرض الصرع يعزى إلى البلغم الذي يتدفق من الرأس إلى الشرايين ويقطع تدفق الهواء. ورغم أنه كان يحتقر المشعوذين الذين يستخدمون السحر في محاولاتهم لعلاج الصرع، فإنه لم يكن بأوفر منهم حظا. وإجمالا يمكن القول إن أوائل المؤيدين للمذهب الطبيعي اشتهروا برفضهم الشديد للتفسيرات الخرافية للطبيعة أكثر من اشتهارهم بتفاصيل ما قدموه من بدائل.
ولم يستطع أكثر من أتى بعد ذلك من الأيونيين التمسك بالرؤية الجديدة للعالم؛ حيث كان هناك العديد من الأمور التي لم يتمكنوا من تفسيرها. ولنأخذ هيرودوت (حوالي 485-430ق.م.) على سبيل المثال؛ فهو عادة ما يلقب ب «أبو التاريخ» وأحيانا على نحو أقل لطفا ب «أبو الأكاذيب»، ويستشهد به كثيرا على نحو ملائم بوصفه باحثا واقعيا معبرا عن الملطيين. ولكن بالإضافة إلى أقواله التي تتسم بالواقعية والنزوع إلى الطبيعة مثل محاولته تفسير فيضان النيل وتشكيكه الشديد في بعض الروايات الخارقة للطبيعة؛ فثمة هفوات له تعود به إلى دروب اللاهوتيين صانعي الأساطير. فهو يقول على سبيل المثال إن زلزال ديلوس أرسلته الآلهة تحذيرا للناس، وليس مجرد ذكر الألوهية هو ما يبرز انحرافه عن المسار الضيق المتشكك لعلماء الطبيعة. ويقال إن كلا من أناكسيماندر وأناكسيمينس قد أشارا إلى «الأصل» الخاص بهما بوصفه إلهيا، إلا أن القارئ الحديث يجب ألا يقرأ كثيرا في مثل هذه الآراء . فلكي تضفي صفة الألوهية على أي شيء في تلك الأيام، لم يكن الأمر يلزم أكثر من أن يكون هذا الشيء حيا؛ أي قادرا على إحداث الحركة، ولكن لا يموت. وكما قال أحد المعلقين المحدثين: «يمكن أن نطلق على أية قوة نراها تعمل في العالم وجدت قبلنا وستستمر بعدنا لقب إله، ومعظمها كان كذلك بالفعل.» ولم تكن خطيئة هيرودوت أنه تحدث عن الألوهية ولكن أنه قدم لنا كائنات شخصية يلفها الغموض اللازم للتقوى الدينية على أنها السبب الأوحد للأحداث الطبيعية، وهو ما أصر كل من طاليس وأناكسيماندر وأناكسيمينس على رفضه رفضا مطلقا.
لكن ما الذي حدا بالملطيين والأطباء الأبقراطيين لأن ينظروا إلى الطبيعة بتلك الطريقة الجديدة، متحررين من قيود الأساطير والخرافات حول الأمراض المقدسة؟ في الحقيقة لا يعلم أحد الإجابة يقينا. وقد اعتقد أرسطو أن المهم بشأن الفلاسفة الأوائل هو أنهم كانوا يتمتعون بكثير من وقت الفراغ، ولكن ليس هذا كل ما في الأمر، إن كان له صلة به بالأساس. فثمة ثلاث حقائق أخرى حولهم أكثر صلة بالموضوع؛ أولها: أن الأيونيين (وخاصة الملطيين) كانوا رجالا عمليين يحرصون على تنمية مهاراتهم في علم الفلك والجغرافيا والملاحة ومسح الأراضي ولم يكن لديهم متسع من الوقت للأساطير الخيالية. وثانيها: أن العديد منهم بوصفهم تجارا مجتهدين كانوا رحالة يقابلون الكثير من الأجانب أو على الأقل يسمعون عنهم، وكان للأجانب أساطير وخرافات مختلفة مما شجع الأيونيين على التشكك في معتقداتهم الخاصة. وآخرها: تفكيرهم الذي يتحرر من الدين كما يتحرر الجمل من عقاله. كان للأيونيين آلهتهم التقليدية وهي آلهة جبل أولمبوس التي كتب عنها هوميروس وخصصت لها المعابد، ولكن إيمانهم بآلهتهم لم يكن إيمانا قويا. ومقارنة بأنصار الطوائف الدينية والأديان الشعبية المتعددة التي نشأت في شمال تراقيا وغربها، يبدو أن الملطيين كانوا مجموعة من اللاأدريين، ويصعب تخيل أن نشأة المذهب الطبيعي لأول مرة في تلك الظروف كان محض مصادفة.
Page inconnue