Hikmat Gharb
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genres
وعلى الرغم مما تثيره هذه الآراء من إعجاب بوصفها قواعد لحياة كريمة، فإن في المذهب أخطاء خطيرة من حيث هو نظرية أخلاقية؛ وذلك لأنه إذا كان العالم يحكمه القانون، فلا جدوى من أن تعظ الناس بأن الفضيلة تعلو على كل شيء، إذ إن السبب الوحيد الذي جعل الفضلاء فضلاء هو أن الأمور كان ينبغي أن تكون على هذا النحو، وكذلك الحال في الأشرار، وماذا نقول عندئذ عن الألوهية التي تدبر للشر مقدما؟ إن الاقتراح الذي تقدم به أفلاطون في أحد مواضع «الجمهورية»، والقائل إن الله هو فاعل الخير وحده في العالم، لن يجدي هنا فتيلا. يمكننا أن نوجه اعتراضات مماثلة إلى اسبينوزا وليبنتس
6
اللذين يحاولان تجنب الصعوبة بالقول إن العقل البشري عاجز عن إدراك ضرورة الأشياء ككل، على حين أن كل شيء مرتب على أفضل نحو في أحسن عالم ممكن.
ولكن بغض النظر تماما عن الصعوبات المنطقية في النظرية، فيبدو أن هناك أخطاء واقعية واضحة؛ ذلك لأن من حقنا أن نخشى ألا يكون البؤس بوجه عام مؤديا إلى رفع شأن الفضيلة أو إعلاء الروح، وفضلا عن ذلك فإن من الاكتشافات الباعثة للأسى في هذا العصر التقدمي الذي نعيش فيه أن من الممكن باستخدام المهارة اللازمة تحطيم إرادة أي شخص تقريبا مهما كانت صلابة معدنه، ولكن الأمر الذي تصدق فيه الرواقية بحق هو إدراكها أن الفضيلة من حيث هي خير داخلي، أهم بمعنى ما من كل ما عداها. فمن الممكن دائما أن نعوض بقدر معين ما يضيع من الممتلكات المادية، أما إذا فقد المرء احترامه لذاته، فإنه ينحط إلى ما دون مستوى البشر.
أما أول عرض منهجي للمذهب الرواقي فيقال إنه يرجع إلى كريسبوس
Chrysippus
207-280ق.م، وإن كانت مؤلفاته لم يبق منها شيء. في هذه المرحلة كان الرواقيون يبدون اهتماما أكبر بالمنطق واللغة، فصاغوا نظرية القياس الشرطي والانفصالي، واكتشفوا علاقة منطقية هامة تسمى في المصطلح الحديث بالتضمن (أو اللزوم) المادي، تلك هي العلاقة بين القضيتين في الحالة التي لا تكون فيها الأولى صادقة والثانية كاذبة. فلنتأمل القضية: «إذا هبط البارومتر (مقياس الضغط الجوي) نزل المطر»، هنا نجد العلاقة بين عبارة «هبط البارومتر» وعبارة «نزل المطر» علاقة لزوم مادي.
كذلك اخترع الرواقيون مصطلحات للنحو الذي أصبح لأول مرة على أيديهم ميدانا للبحث العلمي المنظم؛ فأسماء الحالات النحوية اختراع رواقي، وقد وصلت الترجمات اللاتينية لهذه الحالات إلى اللغات الأجنبية الحديثة عن طريق النحويين الرومان، وما زالت تستخدم حتى اليوم.
ولقد اكتسبت التعاليم الرواقية مكانة قوية في روما بفضل الجهود الأدبية للفيلسوف شيشرون
Cicero
Page inconnue