Hikmat Gharb
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genres
catharsis (التطهير). فعن طريق تجربة الانفعالين البديلين؛ انفعالي الرهبة والشفقة، تزيح النفس عن ذاتها هذا الحمل، وعلى ذلك فإن للمأساة هدفا علاجيا، وهنا نجد المصطلح المستخدم مستمدا من الطب. أما الجانب الذي كانت فيه آراء أرسطو تتسم بالأصالة فهو اقتراح العلاج عن طريق جرعة بسيطة من الداء ذاته، وهو نوع من التحصين العلاجي النفسي، وبالطبع فلا بد أن يسلم المرء في هذا الوصف لغاية المأساة بأن الرهبة والشفقة يتملكاننا جميعا، وهو أمر صحيح على الأرجح.
وينتقل أرسطو إلى النظر في الجوانب المختلفة للعمل التراجيدي.
وأهم هذه الجوانب هو عقدة المسرحية، التي لولاها لما وجدت المسرحية أصلا، وبقدر ما تحقق الشخصيات ذاتها من خلال هذه العقدة، فإنها تعد تابعة لها، وتصبح الشخصية الموجودة بالقوة متحققة بالفعل في العقدة. أما الحدث فهناك نوعان من الأحداث لهما أهمية خاصة؛ أولهما: التحول المفاجئ في المصير، وثانيهما: اكتشاف طرف غير متوقع يؤثر في عقدة المسرحية. هذه الأحداث ينبغي أن تطرأ على شخص لا يتميز بفضائل أرفع مما ينبغي، ويكون انهياره ناتجا لا عن رذيلة، وإنما عن سوء تقديره الذي ينزل به من مكانته العليا، ويجعله منبوذا. ولهذا النوع من المواقف أمثلة كثيرة في المسرح اليوناني.
ويشترط أرسطو بالنسبة إلى مسألة معالجة الشخصية أن تكون قبل كل شيء مطابقة لنمط معين، فلا بد أن تظهر الشخصيات في صورة مشابهة لما يحدث في الحياة الفعلية، كما هي الحال في عقدة المسرحية، وهذا هو المعنى الذي ينبغي أن تفهم به تلك العبارة التي أدلى بها أرسطو في موضع آخر، والقائلة إن الشعر يتعامل مع مواقف كلية، على حين أن التاريخ يصف الجزئي؛ ففي المأساة نتعرف على السمات العامة للحياة البشرية اليت تضفي على العمل طابعا موحدا، ومن المهم أن نلاحظ أن أرسطو لا يقيم وزنا كبيرا لما قد نطلق عليه اسم جانب الإخراج المسرحي، على الرغم من أنه قد تحدث عنه، ومعنى ذلك أن اهتمامه يكاد ينحصر كله في القيمة الأدبية للعمل. ومن الجائز أنه نظر إلى التراجيديا على أنها تصلح للقراءة بقدر ما تصلح للتمثيل على المسرح.
وعلى أية حال، فإن كتاب «الشعر» لا يقدم إلينا نظرية شاملة في الفن والجمال، وإنما يعرض بوضوح عددا من المعايير التي كان لها تأثير ضخم على النقد الأدبي منذ ذلك الحين، وأهم ما فيه هو امتناعه عن الحديث عن مشاعر الكاتب ومقاصده، وتركيزه على الأعمال ذاتها، وهو أمر يحمد له.
لقد رأينا أن ظهور الفلسفة اليونانية قد اقترن بظهور العلم العقلي؛ ذلك لأن من طبيعة المشاكل الفلسفية أن تظهر عند الحدود القصوى للبحث العلمي. وهذا يصدق بوجه خاص على الرياضيات؛ فمنذ وقت فيثاغورس لعب الحساب والهندسة دورا أساسيا في الفلسفة اليونانية. وهناك أسباب متعددة تجعل للرياضيات أهمية خاصة في هذا الصدد؛ أولها: أن المشكلة الرياضية بسيطة واضحة المعالم، وهذا لا يعني أن حلها سهل دائما، بل إنها لا يتعين أن تكون بسيطة بهذا المعنى. غير أن المشاكل العادية في الرياضيات بسيطة إذا ما قورنت بمشاكل علم وظائف الأعضاء مثلا، ثانيا: فإن الرياضيات تتميز بأن لديها طريقة مستقرة للسير في البرهان، وبالطبع فلا بد أن يكون شخص ما قد اهتدى إلى هذه الطريقة في البدء. والواقع أن عمومية البرهان والإثبات هي اختراع يوناني على وجه التحديد، وفي الرياضة تظهر وظيفة البرهان بوضوح يفوق ما نجده في معظم العلوم الأخرى، حتى على الرغم من كل ما دار من مناقشات وما حدث من سوء فهم حول حقيقة ما يحدث في البرهان الرياضي، وثالثا: فإن نتائج أي برهان رياضي، بمجرد أن تفهم على النحو الصحيح، لا تقبل أي شك. وبطبيعة الحال فإن هذا يصدق أيضا على أي برهان سليم تكون مقدماته مقبولة، ولكن الشيء المميز للرياضيات هو أن قبولك للمقدمات جزء لا يتجزأ من عملية البرهان ذاتها، على حين أننا في الميادين الأخرى نقارن دائما بين النتائج والوقائع؛ خوفا من أن تكون إحدى المقدمات باطلة. فلا توجد في الرياضيات وقائع خارجها تحتاج إلى مقارنة، ونظرا إلى سمة اليقين هذه، فقد اعترف الفلاسفة في جميع العصور بأن الرياضيات تزودنا بمعرفة من نوع أرفع وأوثق مما يمكن اكتسابه في أي ميدان آخر. وقال الكثيرون إن الرياضيات هي المعرفة، بينما أنكروا هذا الوصف على أي مصدر آخر للمعلومات، ونستطيع أن نقول مستخدمين لغة محاورة «الجمهورية»: إن الرياضيات تنتمي إلى عالم الصور، ومن ثم فهي تزودنا بمعرفة، على حين أن الميادين الأخرى تختص بالجزئيات التي لا نملك عنها - على أحسن الفروض - إلا ظنا. والواقع أن نظرية المثل يرجع أصلها إلى الرياضيات الفيثاغورية، وقد توسع فيها سقراط بحيث جعلها نظرية عامة للكليات، على حين أنها انكمشت عند أفلاطون مرة أخرى إلى ميدان العلم الرياضي.
وقرب نهاية القرن الرابع انتقل مركز النشاط في الرياضيات إلى الإسكندرية، وكان الإسكندر الأكبر قد أسس هذه المدينة في عام 322ق.م، وأصبحت بسرعة من أهم المراكز التجارية في البحر المتوسط، ونظرا إلى أنها تقف على بوابة أقاليم الشرق، فإنها تشكل نقطة اتصال بين الغرب وبين المؤثرات الثقافية الآتية من بابل وبلاد الفرس. وبعد فترة قصيرة انتشرت فيها طائفة يهودية كبيرة، واكتسبت الطابع الهيني (اليوناني) بسرعة. وقد أسس الباحثون اليونانيون مدرسة ومكتبة اكتسبتا شهرة كبيرة في جميع أرجاء العالم القديم، ولم تكن تداني مكتبة الإسكندرية أية مجموعة أخرى من الكتب، ولكن من سوء الحظ أن هذا المصدر الفريد للعلم القديم والفلسفة القديمة قد التهمته النيران عندما استولت جحافل يوليوس قيصر على المدينة في عام 47ق.م، وبذلك ضاعت إلى الأبد مواد عظيمة الأهمية عن كبار الكتاب في العصر الكلاسيكي، ولا شك أن هناك أشياء أخرى أقل أهمية بكثير قد احترقت، وربما كان هذا الخاطر يقدم بعض العزاء عندما نسمع عن تدمير مكتبات.
كان أشهر رياضيي الإسكندرية هو إقليدس، الذي كان يلقي تعاليمه حوالي عام 300ق.م، وما زال كتابه «الأركان أو العناصر
Elements » واحدا من أعظم ما تركه لنا العلم اليوناني؛ فهو يجمع في هذا الكتاب بطريقة استنباطية كل المعارف الهندسية التي عرفت في عصره، وهكذا فإن الكثير مما يضمه كتاب إقليدس لم يكن من ابتكاره هو، غير أننا ندين له بالعرض المنهجي للموضوع، ولقد ظل هذا الكتاب طوال العصور نموذجا حاول أن يحتذيه الكثيرون.
فعندما عرض اسبينوزا كتابه «الأخلاق» طريقة هندسية، كان إقليدس هو النموذج الذي حاكاه، ومثل هذا يقال عن «مبادئ» نيوتن.
Page inconnue