Hikmat Gharb
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genres
Ephesus ، والذي كانت فترة ازدهاره هي نهاية القرن السادس. ونحن لا نكاد نعرف عن حياته شيئا باستثناء انتمائه إلى أسرة أرستقراطية. غير أن بعض الشذرات من كتاباته ظلت باقية، ومنها ندرك بسهولة لماذا لقب بلقب «الغامض»؛ ففي أقواله نغمة الكلمات التنبئية، وشذرات مقتضبة رشيقة، حافلة بالمجازاة الحية. فهو يقول مثلا عن دورة الحياة والموت: «إن الزمن طفل يلعب النرد، والقوة الملكية إنما يتحكم فيها طفل.» وهو في هجماته المترفعة على الجهلاء يطلق العنان لازدرائه في عبارات لاذعة: «ما أشبه الحمقى حين يسمعون بالصم! وعليهم يصدق المثل القائل إنهم غائبون في حضورهم.» كما يقول: «الأعين والآذان شهود مضللون للناس إن كانت لهم نفوس لا تفهم لغتها».
ولكي يذكرنا بأن الإنجازات القيمة تكلف عملا وجهدا جما؛ يقول: «من يبحثون عن الذهب يحفرون من التراب الكثير، ولا يجدون إلا القليل.» أما أولئك الذين يجدون في ذلك صعوبة، فإنه يرفض موقفهم قائلا: «إن الحمير تفضل التبن على التبر.» ولكن حتى على الرغم من موقفه هذا، فإنه يستبق فكرة عبر عنها سقراط فيما بعد بكلمة مشهورة، هي الفكرة القائلة إننا لا ينبغي أن نفرط في التباهي بما نعلم «أن الإنسان أمام الله وليد رضيع، كالطفل في عين الرجل.»
ولو تأمل المرء آراء هرقليطس عن كثب لاستطاع فهمها على نحو أوضح؛ فعلى الرغم من أن هرقليطس لم تكن لديه الميول العملية التي اتسم بها الأيونيون السابقون له، فإن جذور تفكيره النظري كانت ترجع إلى تعاليم الأيونيين وفيثاغورس معا؛ فقد سبق أن قال أنكسيمندر إن الأضداد المتنافسة تعود إلى اللامحدود، كيما تكفر عن تعدياتها كل على الآخر، ومن جهة أخرى قال فيثاغورس بفكرة الانسجام. ومن هذين العنصرين وضع هرقليطس نظرية جديدة، هي أهم كشف وإسهام له في الفلسفة، وهي النظرية القائلة إن قوام العالم الحقيقي هو التآلف المتوازن بين الأضداد؛ فمن وراء صراع الأضداد، وفقا لمقادير محسوبة، يكمن انسجام خفي أو تناغم، هو جوهر العالم.
على أن هذه الفكرة الكونية لا تظهر للعيان في كثير من الأحيان؛ لأن الطبيعة تحب الاختفاء، بل يبدو أن رأيه هو أن التناغم ينبغي، بمعنى ما، أن يكون شيئا لا تدركه العين على الفور؛ «فالتناغم الخفي أفضل من الواضح»، بل إن الناس كثيرا ما يتغافلون عن وجود الانسجام، «إن الناس لا يعرفون كيف يتفق ما هو متباين مع ذاته، إنه تناغم لتوترات متضادة، كتناغم القوس والقيثارة.»
وهكذا، فإن الخلاف والصراع هو المبدأ المحرك الذي يحفظ للعالم حياته؛ «لقد كان هوميروس على خطأ حين قال: ليت الصراع يختفي من بين الآلهة والناس! إذ إنه لم يدرك أنه كان يدعو بذلك لدمار العالم، فلو استجيب لدعائه هذا، لفنيت الأشياء جميعا.» وبهذا المعنى المنطقي، لا بالمعنى العسكري، ينبغي أن نفهم عبارته القائلة إن «الحرب أبو الأشياء جميعا.»
3
هذا الرأي يحتاج إلى مادة أساسية جديدة تنطوي على تأكيد لأهمية الفاعلية والنشاط. وهكذا سار هرقليطس في طريق الفلاسفة الملطيين من حيث المبدأ، لا من حيث التفاصيل، فاختار النار؛ «الأشياء جميعا تتبادل مع النار، والنار مع الأشياء جميعا، كما تتبادل السلع مع الذهب، والذهب مع السلع.» هذا التشبيه التجاري يكشف عن مغزى النظرية؛ فلهب المصباح الزيتي يبدو كما لو كان شيئا ثابتا، مع أن الذي يحدث طوال الوقت هو أن الزيت يستهلك بالتدريج، والوقود يتحول إلى لهب، والسناج يترسب من احتراقه، وهكذا فإن كل ما يحدث في العالم إنما هو عملية تنطوي على مبادلات من هذا النوع، ولا شيء يظل على حاله أبدا، «إنك لا تستطيع أبدا أن تنزل في النهر نفسه مرتين؛ لأن مياها جديدة تتدفق عليك بلا انقطاع.» ومن أجل هذا النوع من التشبيه نسب الكتاب المتأخرون إلى هرقليطس تلك الكلمة المشهورة: «كل الأشياء في صيرورة.» كما كان سقراط يلقب أتباع هرقليطس بلقب «المتدفقين».
ومن المهم أن نضع العبارة السابقة في مقابل شذرة أخرى لهرقليطس تقول: «إننا ننزل في النهر نفسه، ولا ننزل فيه، إننا نكون ولا نكون»؛ إذ يبدو للوهلة الأولى أن من المستحيل التوفيق بين هذه العبارة الأخيرة وبين سابقتها، غير أن القول الأخير ينتمي إلى جانب آخر من النظرية؛ فمفتاحها يكمن في نصفها الثاني؛ إذ إن عبارة: «إننا نكون ولا نكون» إنما هي تعبير غامض عن القول إن أساس وحدة وجودها هو التغير الدائم، أو إذا استخدمنا اللغة التي اصطنعها أفلاطون فيما بعد، إن وجودنا صيرورة دائمة. وكذلك الحال في مثال النهر؛ فإذا نزلت اليوم في نهر التيمز، ثم نزلت مرة أخرى غدا، فإنني أنزل في النهر نفسه، ومع ذلك فإن النهر الذي أنزل فيه ليس نفس النهر. وأعتقد أن النقطة التي أرمي إليها هي من الوضوح بحيث لا يحتاج القارئ إلى أن يمارس التجربة بنفسه. وهناك عبارة أخرى تتضمن هذا المعنى نفسه، وهي «الطريق الصاعد هو نفسه الطريق الهابط»، فهذا شيء لاحظناه من قبل في حالة اللهب، إذ إن الزيت يصعد، والسناج يهبط، وكلاهما جزء من عملية الاحتراق، ومن الجائز جدا أن العبارة ينبغي أن تؤخذ أولا وقبل كل شيء بمعناها الحرفي، فالطريق المنحدر يتجه إلى أعلى وإلى أسفل، تبعا للاتجاه الذي تسير فيه، وهنا تذكرنا نظرية الأضداد عند هرقليطس بأن السمات التي تبدو متعارضة هي في واقع الأمر أجزاء أساسية من موقف ما. ولقد كان من أقوى العبارات التي استخدمها هرقليطس للتعبير عن هذه الفكرة قوله: «الخير والشر واحد»، وهي عبارة لا تعني بالطبع أن الخير والشر هما نفس الشيء، بل تعني عكس ذلك؛ فكما أن المرء لا يستطيع تصور طريق صاعد بدون طريق هابط، فكذلك لا يستطيع المرء أن يفهم فكرة الخير من غير أن يفهم فكرة الشر في الوقت ذاته. والواقع أنك لو أزلت الطريق الصاعد، بإزالة المنحدر مثلا، فإنك بذلك تقضي أيضا على الطريق الهابط، وكذلك الحال في الخير والشر.
وإلى هذا الحد يمكن القول إن النظرية القائلة إن الأشياء كلها في صيرورة ليست جديدة حقا؛ فقد كانت لأنكسيمندر آراء مماثلة تماما، ولكن تفسير هرقليطس للسبب الذي من أجله تظل الأشياء كلها، رغم هذه الصيرورة على ما هي عليه، يمثل تقدما بالقياس إلى الفلاسفة الملطيين. ولقد استمدت الفكرة الرئيسية عن التناسب من فيثاغورس، فعن طريق المحافظة على النسب الصحيحة يعمل التغير الدائم على الاحتفاظ بالأشياء كما هي. وهذا يصدق على الإنسان مثلما يصدق على العالم؛ ففي الطبيعة تتحول الأشياء وفقا لنسب، وكذلك الحال في النفس البشرية التي تحدث فيها تحولات بين الجاف والرطب. فالنفس الرطبة تتدهور وتتعرض لخطر الانحلال إن لم تمنع النار ذلك، وهي ملاحظة لا تخلو من الصواب حين يكون الأمر متعلقا بإنسان لا يكف عن الشراب. ومن جهة أخرى فإن «النفس الجافة هي الأحكم والأفضل»، وإن كان من الواجب ألا نفرط في جانب الفضيلة بدوره؛ لأن النار الزائدة قد تقتل النفس كما تقتلها الرطوبة الجامحة. ومع ذلك يبدو أن الفناء بالنار قد اعتبر نهاية أعظم، ما دامت «الميتات الأعظم تنال حظوظا أعظم»؛ وعلة ذلك هي - على الأرجح - أن النار هي الجوهر الأزلي. «هذا العالم الذي هو واحد بالنسبة للجميع، لم يصنعه واحد من الآلهة أو البشر، وإنما كان منذ الأزل، وهو الآن، وسيكون دائما نارا لا تخبو أبدا، تشتغل بقدر، وتنطفئ بقدر».
أما عن عمليات الطبيعة، فإنها كلها تجري وفقا للنسب الخاصة بها، فليس من الواجب أن ننظر إلى الصراع بين الأضداد على أنه ظلم، كما اعتقد أنكسيمندر، بل إن الظلم يكمن في تجاهل النسب، «إن الشمس لن تتجاوز نسبها»، ولو فعلت للاحقتها أيدي ربات العدالة (إرينييس
Page inconnue