Hikmat Gharb
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genres
نظام مركزية الشمس على يد كبرنيكوس، وقد طبع الكتاب الذي عرض فيه هذا الكشف عام 1543م. ومنذ القرن السابع عشر، أحرزت العلوم الفيزيائية والرياضية تقدما سريعا، واستطاعت عن طريق تطويرها الهائل للتكنولوجيا أن تضمن السيادة للغرب. والواقع أن التراث العلمي، إلى جانب ما يضفيه من مكاسب مادية، هو ذاته من أكبر العوامل المشجعة على الفكر المستقل. وفي كل مكان امتدت إليه الحضارة الغربية، كانت مثلها العليا السياسية تأتي في أعقاب توسعها المادي.
3
ولقد كانت النظرة العامة التي تولدت عن نمو البحث العلمي هي في أساسها نظرة اليونانيين وقد بعثت من جديد؛ فممارسة العلم هي إنقاذ للمظاهر (أي تفسير للظواهر). ولقد كانت السلطة التي يكتسبها التراث العلمي مختلفة كل الاختلاف عن تلك الأحكام القطعية التي كانت الكنيسة في العصور الوسطى تحاول عن طريقها أن تفرض سيطرتها على الناس. صحيح أن الجماعة ذات التكوين المتدرج، التي تعيش وفقا لمجموعة جامدة من المعتقدات، يمكنها إلى حد بعيد أن تتكلم بصوت واحد في جميع المسائل التي تختلف فيها آراء الباحثين العلميين. ويتصور البعض أن هذا الإجماع الموحد الاتجاه علامة على التفوق، وإن لم يكن أحد من أصحاب هذا الرأي قد أوضح السبب الذي يوجب ذلك. وليس من شك في أن هذا الإجماع قد يضفي على أنصاره شعورا بالقوة، غير أن هذا لا يؤدي على الإطلاق إلى جعل موقفهم أصح، مثلما أن القضية لا تصبح أصدق لمجرد كونها تعلن بصوت أعلى. فالشيء الوحيد الذي يتعين على البحث العلمي احترامه هو قوانين اللغة العقلية الشاملة أو بتعبير سقراط، الجدل (الديالكتيك).
على أن النجاح الباهر للعلم في تطبيقاته التكنولوجية قد جلب خطرا من نوع آخر؛ إذ أصبح الكثيرون يعتقدون أنه لا يكاد يوجد شيء يعجز الإنسان عن تحقيقه لو وجهت إليه جهوده ومورست بالطريقة المناسبة. والواقع أن الكشوف الكبرى في التكنولوجيا الحديثة تعتمد على تضافر عقول وأيد كثيرة، ولا بد أن يبدو لأولئك الذين يأخذون على عاتقهم البدء في مشاريع جديدة، أن قدراتهم لا حدود لها، غير أنهم يغفلون هنا حقيقة هامة، هي أن هذه المشاريع كلها تقتضي جهدا إنسانيا، وينبغي أن تخدم أهدافا إنسانية. وفي هذه الناحية بالذات نجد عالمنا المعاصر يحمل في طياته تهديدا يتجاوز كافة حدود الاعتدال.
أما في الميدان الفلسفي، فإن التركيز على الإنسان يضفي ميلا داخليا إلى النظر التأملي، وهذا يولد وجهة نظر تتعارض كلية مع تلك التي تستلهمها فلسفات القوة؛ إذ يصبح الإنسان في هذه الحالة ناقدا لقدراته وملكاته الخاصة، ويتعرض كل شيء للتساؤل والتحدي، فيما عدا بعض التجارب الشخصية المباشرة. وتؤدي هذه النظرة الذاتية إلى شكل متطرف من أشكال الشك هو في ذاته شيء لا يقل مبالغة وتكلفا عن الميل إلى تجاهل الفرد كلية. وهكذا تظهر بوضوح ضرورة البحث عن حل وسط.
وينبغي أن نلاحظ أن فترة الانتقال التي نتحدث عنها تتميز بتطورين لهما أهمية خاصة. أولهما اختراع المطبعة التي تستخدم حروفا منفصلة يمكن تحريكها، ويرجع هذا الاختراع إلى القرن الخامس عشر، بقدر ما يتعلق الأمر بالغرب على أية حال؛ ذلك لأن الصينيين كانوا قد استخدموا هذه الطريقة قبل خمسة قرون، ولكنها لم تكن معروفة في أوروبا. وبظهور الطباعة اتسع نطاق تداول الأفكار الجديدة إلى حد هائل، وهذا هو الذي ساعد في النهاية على هدم السلطات القديمة. ذلك لأن توافر الكتاب المقدس مطبوعا بين أيدي الناس، ومترجما إلى لغات محلية، قد أفسد على الكنيسة ادعاءها الوصاية على أمور العقيدة. أما عن المعرفة بوجه عام، فإن هذه الأسباب ذاتها قد عجلت بالعودة إلى العلمانية. ولم يقتصر تأثير الطباعة على نشر نظريات سياسية جديدة كانت ناقدة للنظام القديم، بل إنه أتاح لعلماء الحركة الإنسانية أيضا أن ينشروا طبعات لمؤلفات القدماء. وهذا بدوره شجع على التعمق في دراسة المصادر الكلاسيكية، وأدى إلى رفع مستوى التعليم بوجه عام.
ولعل من المفيد أن نشير إلى أن اختراع الطباعة لن يكون نعمة مؤكدة ما لم تصحبه ضمانات لحرية المناقشة؛ ذلك لأن الزيف يمكن طبعه بنفس السهولة التي تطبع بها الحقيقة، ويمكن أن ينتشر بنفس القدر من اليسر. ولن يفيد الإنسان كثيرا من القدرة على القراءة لو كان من المحتم عليه أن يقبل المادة المطروحة أمامه بلا مناقشة. فالتداول الواسع للكلمة المطبوعة لا يساعد على تقدم البحث العلمي إلا حيث تتوافر حرية الكلام والنقد. وبغير هذه الحرية يكون الأفضل لنا أن نظل أميين. ولقد أصبحت هذه المشكلة أشد حدة في أيامنا هذه لأن الطباعة لم تعد هي الوسيط القوي الوحيد للاتصال والإعلام الجماهيري. فمنذ اختراع اللاسلكي والتليفزيون ازدادت أهمية ممارسة هذه اليقظة الدائمة التي بدونها تبدأ الحرية بأعم معانيها في الاختفاء.
وبانتشار المعلومات على نطاق أوسع، بدأ الناس يكونون فكرة أصح عن الأرض التي يعيشون عليها، وقد تحقق ذلك عن طريق سلسلة من رحلات الاستكشاف فتحت مجالات جديدة لاندفاع الغرب وجهوده التوسعية. وكان ما أتاح تحقيق هذه الكشوف المعاصرة، التحسينات الفنية في صناعة السفن والملاحة، وكذلك العودة إلى علم الفلك القديم. فحتى القرن الخامس عشر لم تكن السفن تغامر بالابتعاد عن الخطوط الساحلية للمحيط الأطلسي، وذلك لأسباب منها أنه لم يكن هناك جدوى من ذلك، ولكن السبب الأهم هو أنه لم يكن من المأمون المغامرة بدخول مناطق لم تكن فيها أية معالم توجه الملاح. ومن هنا فإن استخدام البوصلة فتح آفاق البحار البعيدة، ومنذ ذلك الحين أصبح في استطاعة المستكشفين عبور المحيطات بحثا عن أراض وطرق بحرية جديدة.
لقد كان العالم بالنسبة لإنسان العصور الوسطى حيزا ساكنا، متناهيا، محكم التنظيم؛ فلكل شيء فيه وظيفته المقدرة؛ بدءا من النجوم التي ينبغي أن تسير في فلكها، حتى الإنسان الذي يتعين عليه أن يعيش ملتزما المركز الاجتماعي الذي ولد فيه. غير أن عصر النهضة قد زعزع بجرأة أركان هذه الصورة الهادئة المسالمة.
وظهر اتجاهان متعارضان كانت نتيجتهما تكوين نظرة جديدة إلى العالم. فمن جهة، أصبحت هناك ثقة أكبر بقدرة الإنسان وسعة حيلته ، بحيث أصبح الإنسان يحتل الآن المكانة الرئيسية على المسرح. ولكن في الوقت ذاته أصبح مركز الإنسان في الكون أقل سيطرة، لأن المكان اللانهائي بدأ يمارس تأثيره في خيال الفلاسفة، وتظهر بوادر هذه الآراء في كتابات الكردينال الألماني نيكولاس كوزانوس
Page inconnue