Hikmat Gharb
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genres
جعلت اليونان ومنطقة بحر إيجه بأكملها فريسة في أيدي قبائل همجية غازية شديدة البأس، وكان الآخيون قد استنفدوا طاقتهم قبل ذلك في حروب طروادة في أوائل القرن الثاني عشر ق.م، فلم يستطيعوا الصمود أمام تلك الهجمة، كما أصبح الفينيقيون هم أسياد البحر، ودخلت اليونان عندئذ مرحلة من الظلام. وفي هذه الفترة تقريبا اقتبس الإغريق الحروف التي كانت قد عرفت لدى التجار الفينيقيين من قبل، بإضافة حروف متحركة إليها.
والواقع أن اليونان الأصلية بلد خشن في مظهره وفي مناخه؛ إذ توجد سلاسل من الجبال القاحلة تقسم الأرض، مما يجعل الانتقال البري من واد إلى واد أمرا عسيرا .
ومن ثم فقد نمت في السهول الخصبة مجتمعات محلية منفصلة، وحين كانت الأرض تعجز عن إعاشة الجميع كان البعض منهم يشد عصا الترحال عبر البحر لإنشاء مستوطنات. وهكذا تناثرت المدن اليونانية على سواحل صقلية وجنوب إيطاليا والبحر الأسود منذ أواسط القرن الثامن حتى أواسط القرن السادس ق.م، ومع نشوء المستوطنات ازدهرت التجارة، وعاد اليونانيون إلى الاتصال بالشرق.
أما من الناحية السياسية، فقد مرت اليونان بعد غزو «الدوريين» بسلسلة من التغيرات، كان أولها سيادة النظام الملكي، ثم انتقلت السلطة تدريجا إلى أيدي الأرستقراطية، التي أعقبتها فترة من حكم الملوك غير الوارثين، أو الطغاة
Tyrants ، وفي النهاية انتقلت السلطة السياسية إلى المواطنين، وهذا هو المعنى الحرفي للفظ «الديمقراطية». ومنذ ذلك الحين أخذ حكم الطغاة والديمقراطية يتناوبان، وكان في استطاعة الديمقراطية المباشرة أن تظل قائمة ما دام المواطنون جميعا قادرين على التجمع في ساحة السوق، وهو نوع من الديمقراطية لم يعد له في عصرنا وجود إلا في بعض المقاطعات الصغيرة من سويسرا.
ولقد كان أقدم وأعظم أثر أدبي للعالم اليوناني هو أعمال هوميروس، وهو رجل لا نعرف عنه شيئا مؤكدا، بل إن البعض يعتقدون أنه كانت هناك مجموعة متعاقبة من الشعراء أطلق عليها هذا الاسم في وقت لاحق. وعلى أية حال، فإن ملحمتي هوميروس العظيمتين، الإلياذة والأوديسية، قد تم تأليفهما على ما يبدو حوالي عام 800ق.م، أما حرب طروادة، التيتدور حولها الملحمتان، فقد نشبت بعد عام 1200ق.م. بقليل، هكذا تقدم الملحمتان وصفا جاء بعد الغزو «الدوري
Dorian » لحدث وقع قبل الغزو الدوري، ومن هنا كانتا تنطويان على قدر من عدم الاتساق.
وترتد الملحمتان في صورتهما الراهنة إلى الصيغة المعدلة التي ترجع إلى عهد بيزستراتوس
، الطاغية الأثيني في القرن السادس ق.م، ولقد عمل هوميروس على تخفيف الكثير من وحشية العصر السابق، وإن كانت آثار من هذه الوحشية قد ظلت باقية، بل إن الملحمتين تعكسان الموقف العقلي لطبقة حاكمة متحررة؛ فالجثث فيها تحرق ولا تدفن، كما نعرف أنه كان يحدث في عصور الحضارة الميسينية (الكريتية). أما مجمع الآلهة في جبل أولمب فهو حشد صاخب من السادة الذين يعيشون حياة خشنة قاسية. والعقيدة الدينية في هاتين الملحمتين تكاد تكون بلا فاعلية، على حين تظهر فيها بوضوح عادات راقية، مثل إكرام الضيوف الغرباء. وقد تتسرب من آن لآخر عناصر أكثر بدائية، كالتضحية بالبشر على صورة قتل الأسرى في مواسم أو طقوس معينة، ولكن ذلك لا يحدث إلا في أوقات نادرة جدا، أي إن لهجة هاتين الملحمتين تخلو - على وجه الإجمال - من التطرف.
والحق أن هذا يرمز، على نحو ما، لتوتر الروح اليونانية؛ فهذه الروح يتنازعها عنصران؛ أحدهما: عقلي منظم، والآخر: غريزي أهوج. من الأول جاءت الفلسفة والفن والعلم، ومن الثاني العقيدة الأكثر بدائية، المرتبطة بطقوس الخصوبة. وعند هوميروس يبدو هذا العنصر خاضعا للسيطرة إلى حد بعيد، أما في العصور اللاحقة، وخاصة مع تجدد الاتصالات بالشرق، فإنه يعود فيحتل مكان الصدارة، وهو يرتبط بعبادة ديونيزوس أو باخوس، الذي كان في الأصل واحدا من آلهة تراقية، على أن هذا الضرب من الوحشية التي ترقى إلى مرتبة التقديس قد خضع لمؤثرات هذبته، وخففت من غلوائه بفضل شخصية أسطورية هي شخصية أورفيوس، الذي يقال إن جماعة من عباد باخوس السكارى قد مزقوه إربا. وتتجه التعاليم الأورفية إلى الزهد، وتؤكد النشوة العقلية، آملة بذلك أن تصل إلى حالة من «الوجد» أو الاتحاد بالإله، وبذلك تكتسب معرفة صوفية يستحيل التوصل إليها على أي نحو آخر. ولقد كان للعقيدة الأورفية - في صورتها الأرقى هذه - تأثير عميق في الفلسفة اليونانية، ويظهر هذا التأثير أولا عند فيثاغورس، الذي يوفق بينها وبين نزعته الصوفية الخاصة. ومن هذا المصدر الأول وجدت عناصر منها طريقها إلى أفلاطون، والجانب الأكبر من الفلسفة اليونانية، بقدر ما كانت هذه الفلسفة بعيدة عن الطابع العلمي البحت.
Page inconnue