أما الثاني فحسنت لديه الدنيا، فانطلق يجمع المال ويشيد القصور، ويؤسس دعائم العزة والسلطان، ويحشد الجنود والأعوان، حتى تمكن من دنياه، ونال منها مناه، فبنى الحصون والدساكر، وجمع الأعلاق والعساكر، فأذعنت مصر لبأسه وقوته، واستسلمت لبطشه وسلطته، فتفرد بالملك دون غيره، وخلا له الجو فباض وصفر، وطغى على أخيه واستكبر، فقال له يوما وهو يحاوره، وحوله وزراؤه وعساكره: لقد بلغت الذرى ونلت المنى، وأصبحت صاحب الحول والطول، فأعطتني مصر زمامها، وصيرتني أميرها وإمامها. أما أنت، فماذا صنعت بحكمتك وعلمك وفطنتك؟ ألا تزال أيها الغر حقيرا فقيرا؟ أعين أمثالك من الفقراء بفاضل ذيلي، وأعطيهم من نيلي، وهم في حاجتهم يقبلون الذرة، ولا يردون التمرة.
فاستخف الحكيم بقول ذلك الغشوم وقال له: الحمد لله الغفور الكريم؛ فقد قسم لي أن أرث الأنبياء المرسلين والحكماء الأخيار، واختار لك أن ترث الفراعنة العتاة الأشرار، واعلم يا أخي، أن مثلنا كمثل الأفعى والنحلة، فقد ركب السم في غريزتك، وأصبح الشر من طبيعتك، فأنت كالحشرة العمياء تلدغ من تشاء ومن لا تشاء، وكفاك شرا أنك كالعقرب تمس بأذاها ما تبغض وما تحب. أما أنا فكالنحلة الضعيفة الضئيلة، فليس لي حول ولا حيلة، ولئن قدحك الناس واستغاثوا من أذاك مرة مدحوني وحمدوا الله على خيري ألف مرة:
دع الحرص على الدنيا
وفي العيش فلا تطمع
ولا تجمع لك المال
فما تدري لمن تجمع
حكي أن وليا من أولياء الله لحقته الفاقة والحاجة، فأخلقت ثيابه، وتمزقت أهدابه، فجلس إلى جدار يرقع هدومه، ويرتق فتوقه، ويسد ثلومه، ويقول في نفسه: لئن بلغ مني السغب مبلغه، وعزت علي المضغة، وبدد الفقر شمل اللباس، فذلك أسهل لدي من بسط اليدين، وأخف علي من وطأة الدين. فمر به أبناء السبيل، ورآه أحدهم يخفي حاله بالانزواء في أركان الجدران، فقال له: أيها الفقير، كيف تبقى كذلك وفي هذا البلد الطيب محسن كريم الأخلاق، طاهر الأعراق، وله على المعوزين أمثالك يد بيضاء تقودها إلى فعل الخير شيم سمحاء؟!
فهو يسبغ على أهل الفاقة نعمته، ويطعمهم من جوع، ويؤمنهم من خوف، وينقذهم من الهوات، ويشد أزرهم إذا أصابهم الضيم والحيف، وإنه لو عرف حالك قتل فقرك، وفرج أزمتك، وستر عورتك، وخفف عنك ويلتك؛ فما عرفنا عنه أنه يخذل فاضلا قعد به الزمان، أو عالما لعبت به طوارئ الحدثان، فقال الزاهد: اعلم يا أخي، أن الزاهد يفضل أن يأوي إلى جحر اليربوع، وأن يموت من العري والجوع على أن يستجدي. وقد جاء في الحكم أن ترقيع الثياب خير من سؤال الأصحاب، وإحراق المرء بنار الوعيد سيدا أولى له من أن يدخل الجنة عبدا.
البرة العاجلة خير من الدرة الآجلة
سرت يوما في سوق بغداد، حيث يجتمع السائحون من رائح وغاد، فلقيت طائفة من تجار الجواهر قد التفت حول تاجر غريب، وهو يقص عليها من أخبار الأسفار كل مطرب وعجيب، فسمعته يقول: ضللت يوما سبيلي في صحراء متباعدة الأطراف، مترامية الأكناف، تضل في مفاوزها العواصف، وتتعثر في مهامهها الرياح القواصف، فلما أن استحكمت علي حلقات الضيق بعد أن ضللت الطريق، بقيت أخبط في الصحراء خبط عشواء، وأسير ذات الشمال وذات اليمين؛ علي أهتدي بعد حين.
Page inconnue