وهكذا كان، فأبو راجي ودع البلاد إلى بلاد الناس، غير آسف على هجره الوطن، معللا نفسه بالآمال وطالبا الوصول إلى أميركا؛ ليندمج بين شعبها المتمدن، أما شعب سوريا فلم يكن بنظر أبي راجي إلا كما ذكرنا ذليلا خاملا، فلا الوطن ولا آله ولا تاريخه أو تاريخهم مما يملك ولو ذرة من اعتباره وحبه.
ولكنه ما كاد يصل إلى نيويورك ويقطع شهرا واحدا حتى انقلبت الآية معه، فصارت أميركا عنده عبدا أسود، ومدنيتها في نظره دون مقام البربرية الأفريقية، وشعبها أقل شعوب الأرض ذوقا وذكاء.
والسبب في ذلك، أنه لم ير في نيويورك ما راق لخاطره وما انطبق على ذوقه وعاداته أو وافق ما تصوره قبلا بأميركا؛ فإنه سكن لدى وصوله بيتا لا تدخله الشمس مرة في السنة، وصدف أنه في الشهر الأول لوصوله إلى نيويورك كان الطقس رديئا جدا، فلم تنقطع خيوط المطر يوما واحدا؛ ولهذا انقبضت نفسه، وصار بغضه لأميركا يزداد سريعا يوما عن يوم، وقد أدمى أصابعه ندما، ولكن لات حين ندامة.
كل شيء رآه في أميركا لم يعجبه، حتى أقاربه لم يستأنس بقربهم، فكان كلما تطلع إلى أحدهم ورآه حليق الشاربين ينفر عن محادثته، ويأنف من النظر في وجهه، وإذا بالصدفة بدرت من أحدهم كلمة إنكليزية كان أبو راجي يهينه ويغلظ له بالكلام، ظنا منه أن ذلك المخطئ أراد الهزء به؛ لأنه لا يعرف حرفا من اللغة الإنكليزية.
وقد حدث لأبي راجي شئون كثيرة أدت إلى كرهه الكثير لأميركا، وصارت بلاده عنده آنئذ بلاد الناس، وأما بلاد أميركا فليست سوى بلاد البقر.
ومن تلك الحوادث أنه كان يوما مادا بساطه على رصيف سلم الحريق في بيته، وهو جالس الأربعاء، وفي فيه نرييج الأركيلة يشرق دخانها وينفخ، بينما كانت أفكاره سائحة في الفضاء لا تستقر بمكان، وفيما هو على هذه الحال إذا بصوت من الشباك الذي دخل منه إلى الرصيف، فانقطع في الحال عن افتكاره، وتطلع إلى الشباك فرأى بوليسا رافعا عصاه يتهدده بالضرب، فهب لساعته وحمل أركيلته ودخل بها إلى بيته، فأمسك به البوليس، وهزه هزات متتابعة طيرت رأس الأركيلة إلى الأرض، وهو لا يفهم من كلام البوليس كلمة، وقد ظن بادئ بدء أن البوليس غلطان به، فهو لم يأت أمرا فريا، ولكن لا حيلة له لإقناع البوليس ببراءته لجهله اللغة. عندئذ دخل عليهما بعض السوريين، فأفهموا البوليس أن أبا راجي رجل بسيط مسكين، وقد جاء حديثا من البلاد، وهو يجهل نظام المعيشة، فخرج البوليس بعد أن لان قلبه على أبي راجي وتركه وشأنه. أما أبو راجي فأخذته الحيرة كل مأخذ، وبعدما خرج البوليس انهال عليه بالمسبات والتجديفات متحيرا بما صار إليه، غير عارف بذنبه، إلا أن السوريين الذين تبعوا البوليس أخبروه أن جمرة الأركيلة سقطت من بين قضبان الحديد على رأس البوليس.
ثم إن أبا راجي ذهب يوما إلى «كاسل غاردن» الحديقة عند البحر القريبة من شارع واشنطن، وقد حمل معه غداءه فدخل إلى الحديقة ماشيا على الكلأ حتى وصل إلى شجرة، فجلس تحتها يأكل غداءه، وإذا بالحارس قد جاء نحوه مهرولا، وأخرجه من الحديقة بالدفع واللبط، وبقي طعام المسكين هناك فاضطر أن يعود إلى بيته ليأكل، ولكنه كان أكلا مخلوطا بسم الموت؛ لأن التأثير بلغ مبلغا عظيما في نفسه.
ومرة أخذه بعض الجيران يوم أحد إلى حديقة برونكس ليتفرجوا على الحيوانات، وقد أعجبه منظرها ودهش لجمال البنايات، التي جعلت منازل الحيوانات القذرة مع أنه وهو من بني آدم يسكن بيتا دون منزل الخنزير في تلك الحديقة، ولكن الحظ لم يكتمل معه؛ فإنه بينما كان يتأمل بمنظر الفيل وخرطومه وقد دهش لهما رمى إلى الفيل بقطعة خبز كانت في جيبه، فرآه الحارس فقبض عليه، ولم ينته الأمر حتى دفع رفاقه عنه الجزاء النقدي، ولا تسل عما خرج من فم أبي راجي بعد ذلك.
وفي الأحد التالي لهذه الحادثة أخذوا أبا راجي إلى المتحف، حيث تعرض الأشياء الثمينة والرسوم الفنية، فكأنهم أخذوه ليتفرج على فخامة البناء والجنينة المحيطة بالبنايات، أما ما حوته تلك البنايات من الآثار فلم يرق لخاطره. ولا عجب؛ فإنه لا يعلم شيئا عن الفنون، ولما أخبره أحد رفاقه أن ثمن صورة من الصور المعلقة للفرجة قد يبلغ عشرات ألوف الريالات هز أبو راجي رأسه، وأقسم أيمانا مغلظة أنه لا يشتريها بخمسة سنوت، وقد ضحك على عقول الأميركان ورماهم بالسخافة، وعيرهم بالبلاهة وخفة العقل.
وكان أصحابه أعجبهم نظره إلى الأمور التي لا يحدها عقله فأرادوا مداعبته، فصاروا يناظرونه بالأمر، ويبالغون بأهمية الرسوم، وهو يكيل لقلة مدارك الأميركان الذين «ينفقعون» لتوافه الأشياء، وفيما هو يهزأ ويسمع ويجيب في وقت واحد كانت يمناه قد دخلت إلى جيبه فأخرجت علبة التبغ، ودون أن يلاحظ بفكره ما تفعله يداه لف سيكارة ووضعها بفيه، ودخلت يسراه إلى الجيب الثاني فأخرجت عود كبريت، وهو لا يزال في حديثه مع أصحابه، هم يشدون عليه، وهو يضحك على الأميركان، ودون أن يلاحظ أحدهم ما هم أن يفعل أبو راجي؛ لأنهم انبسطوا بحديثه المفكه، كانت يمناه قد أخذت من شقيقتها عود الكبريت وامتدت إلى الحائط المدهون بالدهان الفني البديع، فأضافت إلى تفنن الرسامين بالدهان خطا أحمر في منتصف الحائط يبلغ طوله الذراعين، وما كاد يشعل أبو راجي سيكارته من ذلك العود حتى ثاب أصحابه إلى رشدهم، فرأوا ما كان منه فسحبوه في الحال وقلوبهم هالعة إلى الخارج، ولم يشفوا قلبه بأن يخبروه عما صار خوفا من أن يعرف أمرهم، بل أسرعوا عائدين إلى القطار ليعودوا إلى بيوتهم.
Page inconnue