إلا أن سمعان في السنة الأخيرة شعر بميل الناس عن مشروعه قليلا، فصار يخشى الانخراط في جماهير الناس؛ لأن بعضهم كان يسأله عن المقدار الذي جمعه فما كان يجيب إلا بأنه لم يحصه بعد، وأن بركات الله تضر في المجموع إذا عده. وبعضهم صار يسأله عما إذا كان أرسل منه شيئا إلى البلاد، فكان يجيبهم بأن يقلب الحديث من أميركا إلى الصين تخلصا من الأجوبة، وهربا من التعمق في هذا الموضوع الذي يكره فتحه والتداول به، خوفا من التحري.
أخيرا، عزم سمعان على الرحيل والعودة إلى الوطن، فأم نيويورك مزودا بالأدعية من نساء ورجال، وكلهم كان يتمنى أجره في الآخرة، ويحسده على مكانته في عالم التقى والصلاح، ويأمل أن ينفعه الله بأدعية سمعان بفضل ما تبرع به من المال الذي حصله في أميركا بعرق القربة.
وعاد سمعان النادر إلا بلاده في عام 1903، وأول شيء فعله أن دخل إلى قرية مسقط رأسه دخول الشهير المعروف بفضله، وقد زاره كل سكانها في اليوم التالي، وصاروا إليه أقرباء ومحبين، وهو صار مقربا من الجميع ومحبوبا، ولم يعد من أحد يخشى شره ويتجنبه.
ولم يمض الشهر على وصول سمعان النادر إلى قريته حتى بدأ بالبناء، فراجت الإشاعات على أنه بدأ ببناء الكنيسة، فكان إذا سأله أحدهم يهز رأسه دون أن يفتح فمه بالكلام، ولكن شد ما كان عجبهم منه عندما قامت البناية على الأساس، وظهرت بيتا لا كنيسة، فعادت الإشاعات إلى الظهور بأن سمعان يبني بالمال الذي جمعه في أميركا بيتا لنفسه بدلا من بيت الرب. وقد وصلت الأخبار عن ذلك إلى أميركا، فعجب الناس منها، وندموا على ما فعلوه نحوه، وما قدموه إليه من الإكرام والاحتفاء، وصاروا يوبخون بعضهم بعضا كيف انطلت عليهم حيلته، وكيف أنهم لم يتحروا أمره منذ البداءة.
أما سمعان النادر فلا يزال حيا يرزق، وبالرغم من أن سنوات الحرب أودت بحياة تسعة أعشار القرية التي يسكنها؛ فإنه ظل وعائلته حيا، وزادت ثروته عن ذي قبل أضعافا.
وقد زاره مواطن له، عاد من أميركا بعد الهدنة، وعندما سأله عن أموال التبرعات التي جمعها، قال إنه بنى بها بيتا للرب، وإنه سكن البيت؛ لأن الرب لا يسكن البيوت، ولما كان هو ناذرا نفسه للرب، تكفيرا عن معاصيه اضطر أن يسكن البيت الذي أنشأه من أموال المتبرعين إلى بيت الله.
فسأله ذلك الزائر: كيف رأيت المهاجرين السوريين في أميركا؟
فقال: إنهم ذوو قلوب سليمة، ولا يردون طالبا خلا نفرا منهم اكتسبوا من أميركا قلة الدين، فهم يهزءون بالمشاريع العمومية، ولا يهمهم شأن وطنهم. - أوأنت تلومهم؟ - نعم، ألومهم؛ لأنهم يعاكسون على ذوي الآمال في وطنهم، فلولا أولئك المتفلسفون القليلو الدين لجمعت مبلغا كافيا لتشييد كنيسة في هذه القرية، ولكن المبلغ الذي جمعته لم يكن ليبني زاوية من كنيسة. - ولهذا السبب يظهر أنك بنيت بيتا لنفسك بتلك الأموال؛ لئلا تذهب ضياعا أليس كذلك؟ - نعم؛ لهذا السبب عينه. - الحق معك، ما أطيب قلوب المهاجرين وأسلم نياتهم! على أنني أدعو لهم بأن يكثر عدد الذين نذروا حياتهم للرب مثلك بينهم لعلهم يتعلمون ويتعظون.
حبال الغسيل
نيويورك بلد عظيم، فيه من الخلائق ثلاثة أضعاف سورية من العريش إلى الطوروس، ومن البحر إلى الصحراء؛ ولهذا فمن اعتاد الفضاء لا يهنأ له عيش في قفص مدنية الجيل العشرين، وكثيرا ما ندم كهول وشيوخ جيء بهم إلى نيويورك على قدومهم، فجلسوا إلى زاوية من زوايا البيوت يندبون الحظ، ويلعنون الساعة التي وصلوا بها إلى هذه البلاد، التي بالرغم من كل عظمة فيها لم تكن عند آمالهم وتصوراتهم؛ فإن ركب الحمار إلى الغدير والمشي إلى الكرم في وسط الغبار والطين والنوم على المرج في ساعة الظهر إبان تلهب أشعة الشمس الجماد أجمل في نفس ابن سوريا القديم من الوقوف في شارع برودواي، حيث تزدحم الكارات والسيارات والعربات، يلتفت المارون هنا وهناك ليروا لأنفسهم مخرجا يعبرون منه إلى ناحيتهم المقصودة آمنين الأخطار. والكوخ المبني من أغصان الشجر القائم في الكرم أجمل للمنام على سرير في منزل لا تدخله أشعة الشمس دقيقة في السنة، والجلوس عند النافذة في البيت السوري حيث يمتد البصر إلى أميال فيشرف الناظر على الآكام والأودية أجمل من بناية، ولورث ذات الطباق الثماني والخمسين. والقمباز الذي يستطيع معه لابسه أن يجلس به كيفما شاء القرفصاء والأربعاء، آنا متكئا وآخر متمددا دون أن يشعر بشيء يشد على ساقيه وفخذيه وركبتيه أجمل وألطف من التقيد بسلاسل البنطلون.
Page inconnue