مقدمة
الحاكم بأمره
في بيت الميت
المتشائم
سمعان النادر
حبال الغسيل
ما فيها شي
المال يتكلم
حي دفين
زواننا لا قمحهم
ذو اللحية الطويلة
ابن العصر
خنفشار في أميركا
لنا علم، وللجهال مال
عارف الجميع
أقصر الطرق
المتشرعان
تعاسة البيك
ابن غير عصره
من أول الطريق
تمثال الحرية
من الدب إلى الجب
كما صرنا تصيرونا
الثقة في البشر
مدنية الأميركان
أحاديث الغرام
لا فرق بين الاثنتين
الله يسعده ويبعده
عبد الفطرة
الأمل والألم
مدرسة الغربة
في الدرجة الثانية
خبزك بعرق جبينك
مقدمة
الحاكم بأمره
في بيت الميت
المتشائم
سمعان النادر
حبال الغسيل
ما فيها شي
المال يتكلم
حي دفين
زواننا لا قمحهم
ذو اللحية الطويلة
ابن العصر
خنفشار في أميركا
لنا علم، وللجهال مال
عارف الجميع
أقصر الطرق
المتشرعان
تعاسة البيك
ابن غير عصره
من أول الطريق
تمثال الحرية
من الدب إلى الجب
كما صرنا تصيرونا
الثقة في البشر
مدنية الأميركان
أحاديث الغرام
لا فرق بين الاثنتين
الله يسعده ويبعده
عبد الفطرة
الأمل والألم
مدرسة الغربة
في الدرجة الثانية
خبزك بعرق جبينك
حكايات المهجر
حكايات المهجر
تأليف
عبد المسيح حداد
مقدمة
منذ دخلت أميركا منخرطا بين عالمها السوري، ونفسي ترى أشكالا وأوضاعا في حالتنا الاجتماعية، وصورا شتى لحياتنا السورية الأميركية، وكنت كثيرا ما أسائل نفسي: متى يا ترى يتحرك قلم أحد كتابنا، فيدون هذه المشاهد لحمل الناس على درس أسرارها؟
أما المشاهد التي أعنيها فهي مرئيات لأسرار ومظاهر لما خفي في النفوس، وقد كنت أراها وأقرؤها وأسمعها وأحس بها، فأجد سعة ميدان لمن شاء من الكتاب تصوير الحياة السورية بأسلوب القصص القصيرة.
ولقد ظل هذا الفكر يراودني حتى كتبت أول قصة «عبد الفطرة» لخاطرة خطرت ببالي، أملأ بها بعض فسحة من صفحات السائح، ولم أدر إلا وأنا مدفوع من نفسي في ذلك الميدان، الذي رغبت لغيري من الكتاب في ولوجه، فما ظهرت تلك القصة حتى رأيتني محاطا بأصدقاء يسائلونني كيف خطر ببالي تصنيف قصة هي صورة طبق الأصل لمشهد من مشاهد حياتنا في ديار المهجر، ثم شعرت بيد لطيفة ممسكة بيدي، تلك كانت يد عميد الرابطة القلمية جبران خليل جبران، وسمعته يقول لي: «أريد أن أقرأ لك قصة من هذا النوع في كل عدد من أعداد جريدتك، ولا عذر لك عن القيام بذلك العمل، فأمامك ميدان واسع ولجته، فتعمق في حناياه، وغص إلى قاعه، وجئنا بما تغوص عليه.»
ثم جاءني بعد حين يحاول إقناعي بأن أجمع هذه القصص بكتاب على حدة، فلم أر بدا من ذلك؛ لأن ما سمعته من هذا الصديق الحبيب وغيره من الأصدقاء الغير على آداب اللغة، التائقين إلى نزع ما تقادم عهده من ألبستها وجلببتها بألبسة تناسب هذا العصر، قد فتح في نفسي آذانا وعيونا، فساقني الميل الطبيعي إلى القيام بما تمنيت أن يقوم به غيري؛ ولهذا أطلقت للمخيلة العنان في درس حياتنا السورية في المهجر تترصد مشهدا من مشاهدها، فأصوره بقالب حكاية صغيرة حتى جمعت هذا الكتاب، ولعله مقدمة لغيره إن شاء الله.
أقول مقدمة لغيره؛ لأني رأيتني قد ولعت بهذا الدرس، وأدركت أني سائر مع الجدول الصغير، ناشدا مياه الخضم؛ فإن كنت بهذه الأقاصيص لم أبلغ الغاية، ولم أرسم ما يجب رسمه من مشاهد النفس السورية العميقة، فلسوف يقذف بي الجدول الذي أنا فيه إلى العمق حيث أستطيع التعمق في درس الحياة السورية من وجوه عديدة منذ ابتدأت المهاجرة إلى ما صرنا إليه.
نحن بحاجة إلى مرآة نرى فيها أنفسنا، ونشاهد بعيوننا مظهرنا، فنصلح فيه مواطن الخطل. وإذا كان المرء يلجأ إلى المرآة لإصلاح شعره وفرقه وربط عقدة رقبته، فبالمرآة النفسية يصلح ما يلزم من مظاهره النفسية. ولعمري، إن هذه المرآة المعنوية ليست إلا الرواية المصورة لعادة من عاداتنا وتقليد من تقاليدنا، فيها ترى عيننا النفسية حسنات حياتنا الاجتماعية وسيئاتها.
ولهذا، فجريا وراء هذه المنشودة - مرآة النفس - أقدمت على كتابة هذه الأقاصيص، ودعوتها «حكايات المهجر» لأنها تختص بالمهجر؛ عساني أفيد بها، وإلا فحسبي النية وعليهم السلام.
عبد المسيح حداد
نيويورك، في 1 نيسان 1921
الحاكم بأمره
قيل لي إن عائلات سورية مؤلفة من آباء وبنات وصبيان تقطن في شارع واشنطن، وأغلبها في أعالي البنايات التي يشغل طباقها السفلى محال تجارية ومصانع آلية وإدارات مختلفة، فلم أعجب من سكناها شارعا تجاريا؛ لعلمي أن الاقتصاد الضروري يحدو بالعائلات إلى مثل هذا، ولكني تمنيت لو أني أدخل إلى عمق حياة هذه العائلات فأقرأ في صفحاتها درسا تاريخيا وحقيقة اجتماعية.
ذات يوم قرب المساء، إذ كنت سائرا في الشارع المذكور إذا بصديقي نجيب ملاقيا لي وجها لوجه، فلما التقينا أخذ بيدي جذبا، وقال: «تعال معي يا صاح لنزور عائلة عمي في منزله؛ فإنه يقطن في الطابق الرابع من هذه البناية.» (قال هذا، وقد أشار إلى بناية أمامنا في شارع واشنطن.)
فأجبته: «أها هنا يسكن عمك؟! والله ما خطر ببالي أن عائلة تسكن في هذه البناية القديمة المكتظة بالمحال التجارية!»
فقال: «نعم، هنا يسكن عمي دعيبس، فتعال معي لأقضي هذه الزيارة، وأتخلص منها في حين يكون عمي وحده في البيت، ثم إنه إذا كنت معي لا يستطيع عمي أن يجبرني على البقاء طويلا كما يفعل كلما ذهبت لزيارتهم.»
فأجبته: «إذا كانت المسألة لغاية لك فلا بأس أن أكون حصانا لغايتك.» (قلت: هذا مجاملة له، وأما نفسي فقد حدثتني أن أذهب لا لغايته بل لغايتي؛ أي لأرى بعيني كيف تعيش عائلة عمه في هذا المحيط، ومن وما هو عمه؟)
صعدنا السلالم، وكانت درجاتها الخشبية تنحني تحت وطآت أقدامنا، وتئن أنات عميقة، وتهتز البناية فتسمعنا مفاصلها نغمة نجارية، ولما وصلنا إلى العم دعيبس دق نجيب الباب، فسمعنا الجواب يأمرنا بالدخول، فدخلنا وسلمنا وتعارفنا وجلسنا.
حضرة العم دعيبس يقارب طوله العرض أو عرضه الطول، وقد كان جالسا على الكرسي فلم يبن شيء من ذلك الكرسي المسكين. هيئته بشرية سورية بكل معاني الكلمة إلا أن شاربيه نسيج الطبيعة المتعصبة، التي لا تسمح لشيء عصري أن يعبث بصنعها.
وكان ابن الأخ يكلم عمه، والعم يدخن بالنارجيلة، ويخرج الكلام مقمطا بالدخان، وهو عاض بصفي أسنانه على خشبة النرييج، أما أنا فقد كنت غارقا ببحر أفكاري أسائل نفسي: أين يا ترى شاهدت هذا الرجل عم صديقي نجيب؟ وقد ظللت وقتا أسوق ذاكرتي وأجلدها، لعلها تفطن للمحل الذي رأيت فيه مضيفنا العم، ولكن الذاكرة الملعونة خانتني.
وفيما نحن كذلك إذا بامرأة العم قد أقبلت، وهي امرأة كهلة، مربوعة القامة، حادة النظر، سمراء اللون، قوية العضل، دخلت أولا عابسة، ولكنها ما رمت إلى الأرض بجزدانها الثقيل حتى قلبت تلك العبوسة بابتسامة سورية جميلة، فرحبت أولا بابن سلفها، ثم بالغت بالتأهيل بي، مكثرة من عبارات المجاملة المعتاد عليها. وما أنهت تسليمها علينا حتى رأيت بوادر جسم العم دعيبس قد تحركت قليلا نحوي، وقال: «يا حضرة المستر ... هذه امرأتي وأم الأولاد، وهي من بطلات أميركا، فلا يخفى عنك أن أميركا لا تليق إلا للنساء، وأما الرجال مثلنا، فهم أصفار للشمال.» (قال هذا ضاحكا كأنه يقول فكاهة، ولم يدر أني فهمت أنه قال الصحيح.)
فأجبته مجاملا: «إن كلامك يا حضرة العم في محله؛ فإنك أعرف مني على نحو ما يقال: أكبر منك بيوم أعرف منك بسنة.»
ولم يكن حضرة العم ليتعب من التدخين؛ فقد ظل طول تلك المدة عاضا بأسنانه على خشبة النرييج، يقول عبارة ويردفها بسحبة طويلة من النارجيلة، فيخرج الدخان قسمين: واحدا من «باب المندب»، والآخر من «جبل فيزوف».
ثم صاح العم بامرأة العم: «يا كليمة، اهتمي بالعشاء للشباب.» وإذ سمعت هذا الأمر نهضت مذعورا، وبدأت أعتذر للعم ولامرأة العم ألا يتعبا سرهما؛ فإني مشغول ولولا أن نجيبا قال لي إن الزيارة لا تأخذ أكثر من ربع ساعة لما استطعت أن أجيء معه. ثم أن نجيبا بدوره أيضا بدأ يعتذر عن نفسه، متكلا على ضرورة ذهابه معي بدعوى أني مشغول، وأنه مضطر ألا يفارقني.
عندئذ صاح بنا العم صيحة قوية، وقال: «شغل ما شغل أنا لا أفهم هذا. قلت إنكم تتعشون عندنا وانتهت المسألة. الآن، كليمة تحضر لنا العشاء، وبعد قليل تحضر البنت فترتب لنا سفرة المشروب، وبعد ذلك نقضي السهرة وتذهبون، ولو أننا في البلاد (سوريا) لكنا جعلناكم تنامون عندنا، ولكن هذه البلاد ضيقة.»
قلت آنفا إني بهذه الزيارة لم أكن حصانا لغاية صديقي كما أعربت له وكما ظن هو، بل كنت بالحقيقة حصانا لاختباري؛ ولهذا التفت إلى صديقي، وقلت له إنه إذا كان يرغب في البقاء فأنا أؤجل شغلي من أجله، فاضطر المسكين أن يقبل بالبقاء حسب أمر عمه، ولا أعلم كم شتيمة صاغها لي في قلبه.
عدنا إلى الكراسي فجلسنا، ولم تمض خمس دقائق حتى وفدت ظبية البيت ففتحت الباب، وبعدما مدت رأسها وشاهدتنا سحبته ورجعت مسكرة الباب بعجلة كأنها خجلت من الموجودين أو بالحرى مني أنا؛ لأني كنت الغريب بين الجماعة. ويظهر أنها دخلت إلى المطبخ من الباب الثاني؛ لأن أباها صاح بها أن تأتي إليه من جهة المطبخ الذي له مدخل إلى البهو، وقد قال لها مشجعا ألا تخجل؛ فإنه ليس عندهم غريب، وما مضت لحظة حتى جاءت الأم من المطبخ ساحبة بيدها ابنتها التي اصطبغ خداها بالاحمرار، ولما صارت أمامنا قالت الأم: «هذه بنتنا مريم، خجولة تستحيي من خيالها، تعالي يا بنتي، ولا تستحيي فهذا ابن عمك مثل أخيك، وهذا صاحبه مثل أخيه.»
وكانت كلمات الأم قد أطارت حمرة الخجل من رأس مريم؛ ولهذا لما رأت نفسها أمام جمهورنا تشجعت، وصارت كبنات أميركا، فمدت ساعدها وصافحت كلا منا محيية، ولما وصلت إلى أبيها قبلت يده، أما هو فلم يقبلها، ولكنه استرضى عليها، وأكثر دعاءه لها. (كل هذا كان منه وخشبة النرييج لم تبرح معضوضة بين أسنانه كأنها خلقت كذلك، وكأنه هو ولد وبفيه نرييج.)
وقد لحظت أن مريم قد سحبت قبيل أن تقفل راجعة من قرب أبيها ضمة من الريالات، وبعياقة كلية أدخلتها إلى جيبه ثم تركتها مسددة خطواتها نحو المطبخ لتساعد أمها.
عندئذ سمعت العم دعيبس يقول لنا بابتسام: «هذه مريم الغالية، وهي بنت ولا كالبنات، الله يرضى عليها، مطيعة مجتهدة، تسوى عشرين صبيا.»
ولم يتم كلام العم عن ابنته حتى انفتح الباب بخشونة ، ودخل غلام بعجلة، فألقى عنه في منتصف الغرفة علبة معلقة بكتفه بقشاط، وتركها على الأرض غير مكترث بها، وتقدم في الحال نحو أبيه صائحا بملء صوته: «يا بابا، اشتريت الربطات من محل إلياس مرقص؛ لأن كامل سليمان طلب مني ريالا زيادة، وقد بعت اليوم بستة عشر ريالا، صرفت منها نصف ريال أجرة طريق وثمن أكل.»
هنا ترك دعيبس النرييج من فيه لأول مرة منذ تشرفت بزيارته، فجذب ابنه إلى صدره وقبله قبلات سمعنا لها رنات موسيقية، ثم تناول من ابنه الدراهم فعدها ووضعها في جيبه، وأخرج من الجيب الثاني ربع ريال فأعطاه إياه حلوانا له، وأتبعه بربع ريال ثان، وأسر بأذنه أن ينزل إلى السوق ويشتري سيكارات في الحال. «إن العم ظن أنه أسر كلامه لابنه، ولكن صوته كان مسموعا لأبعد من عشرين ذراعا منه.»
وما تناول الغلام المال حتى طفق يعدو من أول خطوة خطاها جارفا درفة الباب بطريقه، وقد اهتزت جوانب المنزل لركضه. وعند ذلك ابتسم العم على خشبة النرييج، وقال لنا: «هذا ولد زهرة من الزهرات، وسيكون نعم الخلف، ذكي شاطر، ولا ما يعيبه سوى أنه طائش، لكنها طياشة كيسة، إلا أنها في ذمة أمه فإنها تدلله وتدلعه، ولا يخفى عنكم أن للسوريين عادة ذميمة، وهي تدليل الأبناء والقسوة على البنات في حين أنهن بأميركا أحسن منهم، وكل بنت في الحقيقة تسوى عشرين صبيا.»
قضينا السهرة كلها من السكرة حتى نهضنا للخروج، والعم دعيبس لم يدفأ لسانه في حجرة فمه؛ فطورا كان يأمر الأم بالمازة، وتارة يطلب الصحون من البنت، وأخرى يقول للغلام أن يرمي رماد السيكارات خارجا، ولما جلسنا للعشاء الذي حضر إلى أمامنا لم تجلس معنا الأم ولا البنت حتى ولا الغلام أيضا، بالرغم من أني ورفيقي أكثرنا الإلحاح على العم بأن يسمح لأهل البيت بتناول الطعام، ولكنه كان يعتذر عن قبوله بذلك، مدعيا أن الوقت لا يسمح، فعلى من ذكرنا واجبات في المطبخ بينا نكون نحن تناولنا الطعام، وفي حال عشائنا كانت أوامر العم تباعا لزوجته وابنته وابنه: «هاتوا البطاطا، خذوا صحون الشوربا، املئي يا بنت الكاسات ماء، صبي يا امرأة في صحن المستر. يا ولد، قدم الفجل لناحية ابن عمك.» إلى ما هنالك من الأوامر.
ولما حان وقت انصرافنا نهضنا أنا ونجيب، فودعنا العم، وطلبنا أن نودع المدام وابنتها، فنادى بهما حضرة العم، فجاءتا من المطبخ مظهرتين ذهولهما من سرعة ذهابنا، فأجبنا اللازم، وصافحناهما مودعين، وخرجنا بسلام.
ولما وصلنا إلى الشارع ضحك نجيب، وقد كنت أنتظر منه سخطا وغضبا لتساهلي بالبقاء عند بيت عمه، ثم قال لي: «أرأيت كيف يعيش عمي؟»
فأجبته: «نعم رأيت، ولكني لا أزال أبحث بفكري أين شاهدت عمك قبلا.»
فقال مقهقها: «أنت لم تره، ولكنك رأيت شبيها له في مرسيليا.»
فضحكت معه لهذه الفكاهة التي جاءت في محلها، ولكني أصررت على أني رأيته نفسه قبل اليوم، إلا أني نسيت أين، ثم سألته: «وبماذا يشتغل عمك؟» - يعطي قومندا (كان جوابه بتصنع ازدرائي على وجهه). - نعم، لاحظت ذلك، لاحظت كثرة أوامره لأهل البيت، ولكن من أين يعيش؟ - من أين يعيش؟ أأنت أعمى؟! ألم تر أن امرأته لا تعود إلى البيت إلا مساء فتأتيه بكنوز المال؟ وابنته الصبية تورم جيبه بالريالات، حتى الصغير يأتيه بستة عشر ريالا كل يوم وربما أكثر. - إذن، شغل عمك أن يبقى في البيت يسلي النارجيلة لئلا تشعر بوحشة. - بالتمام. زد على ذلك أن لعمي ذوقا حسنا بالتدريب العسكري، فلولا أوامره لاختل نظام العائلة. - مضبوط، أظن الآن أن عمك في سعة من دهره؟ - في سعة من دهره! بل هو من أغنياء السوريين الحقيقيين، الذين غناهم ذهب «حجر». - إذا كان عمك غنيا كما تقول، فلماذا يشغل امرأته وابنته وابنه الصغير؟ - لا تتوسع في الموضوع، ولا تزد علي بسؤالاتك، ولكي أكفيك مئونة ذلك أخبرك أنه كان لعمي موقف خطير ذات يوم على أثر كتابة إحدى الجرائد مقالة عن «بيع النساء وكسل أزواجهن»، فإنه لأول مرة في حياته تحرك دمه، وصار ينزل إلى السوق ويحمس الناس على أن يقصدوا إدارة تلك الجريدة ليقطعوا أنامل الذي كتب المقالة، ولقد كان يكيل الشتائم الغليظة للكاتب الذي تهجم على الأعراض.
عند هذا، قلت لرفيقي ضاحكا، راغبا في البحث معه من جهة أخرى بعدما رأيته يريد قفل الموضوع: «يجب أن تكون عائلة عمك سعيدة وعلى غاية ما يرام؛ فإنه هو راض وعائلته راضية، وليس ما يعكر صفوها فكر متبله من امرأة أو ابنة لحرية أو استقلال أو لحقوق فردية، أو غير ذلك.»
فقال: «نعم، كما ذكرت، ولكن حدث منذ سنوات شيء كدر خاطر عمي كدرا لا مزيد عليه، وهو أن امرأته مرضت، وأخذت إلى المستشفى، حيث ظلت شهرين تحت المعالجة والعمليات الجراحية، وقد أنفق عليها مبلغا من المال، وليتك شاهدت عمي في ذلك الزمان أنه كان جبلا من الهم.»
فقلت لساعتي: «ولعل عمك الذي كانت امرأته في مستشفى روزفلت عام 1917؟»
فأجاب: «نعم، في مستشفى روزفلت، وكيف عرفت؟!»
فضحكت ضحكة طويلة، وصحت بنجيب: «الآن وجدتها، الآن عرفت أين شاهدت عمك، نعم نعم الآن عرفت، اسمع يا نجيب، في ذلك الزمان شاهدت عمك صدفة عند الخوري، وكان يطلب إليه أن يعطيه ورقة بإمضائه وشهادته أنه - أي عمك - من فقراء الحال؛ ليكسب ثقة أرباب المستشفى فلا يتقاضونه مالا، وقد كبس يد الخوري بشيء لقاء ذلك، أما أنا فلما شاهدته على ما كان عليه من التلبك حزنت لحاله، واقتربت منه سائلا عما أصابه، فأجابني بأن بيته قد خرب، فإنه لم يكفه الله أجور الأطباء والمستشفى؛ فقد خسر شغل شهرين لامرأته، وأنها لا بد أن تمكث شهرين آخرين بعدما تخرج من المستشفى، فيكون التعطيل أربعة أشهر. أما أنا فلما سمعت حكايته أحببت أن أخفف عنه، وأعزيه بحديث معه، فقلت له إن الخسارة المالية لا ينظر إليها طالما المرأة قد تعافت، وإن خسارة المال لا شيء أمام خسارة الحياة. وقد زاد عمك حزني عليه في تلك الساعة؛ لأنه لم يرق له ما نطقت به، بل تناوله كأنه خال من كل معنى مفهوم. لم يعجبه رأيي. أسمعت؟»
فهز نجيب رأسه، وقال لي وقد انتهينا إلى مفرق الطريق بيني وبينه: «نعم، لم يعجبه رأيك؛ لأن المال عنده يسوى أكثر من امرأة؛ فإنه لم تكد تخرج امرأة عمي من المستشفى حتى استأنفت الشغل ببيع الجزدان بالرغم من إنذارات الأطباء، ولكن شكرا لقوتها البدنية، فإنها غلبت الضعف وهزئت بالعوارض، وها هي اليوم كالنمرة كما رأيتها، ولو لم تكن أنت معي في هذه الزيارة التي لم يكن لي بد منها لأسمعني عمي قوارص الكلام؛ لأني لا أسمح لأمي أن تشتغل كامرأته بالبيع، ولأننا نعيش في بروكلن بين مساكن الناس.»
وكنت إذ ذاك قد افترقت خطوتين عن صديقي نجيب، فودعته ثم ابتسمت، وقلت له وأنا أبتعد عنه: «الحمد لله، قد عرفت أين شاهدت عمك أخيرا، ليس في مرسيليا المشهورة بضخامة أحصنتها، بل في نيويورك.»
في بيت الميت
عندما مات طانيوس المر ظل بيت الفقيد مقصد المعزين أسبوعا كاملا ليل نهار، وقد خيف أن يكون بلاء أهل الفقيد من كثرة المعزين أكثر من فقدهم الفقيد المرحوم، ولكن هي العادة السورية في هذه الأحوال تأخذ مأخذها وهذا التقليد يجري مجراه، ولو تقطعت القلوب وتفتت الأكباد وتحطم إناء الصبر.
أهل الميت يسمعون تعازي من أفواه المعزين، كأنها أمثولات تعلمها قائلوها من جملة الصلوات التي تقال كل يوم، وإني أنا كاتب هذه الحكاية أشعر بكل ما في من العواطف مع الفاقدين ليس على ما يفقدون بل على جلادتهم في استماع فلسفة التعازي.
إلا أنه من نعم المولى أن الاصطلاح في التعزية أن يكون وقتها قصيرا جدا، فالمعزي يبقي قبعته بيده، وإذا كان في الشتاء يظل لابسا سترته العليا، وما الداعي إلى هذا الاختصار ميل من القوم إلى التخفيف عن أهل الميت؛ بل كثرة القادمين حتى يضيق عنهم المكان، وإذ ذاك يخرج فوج ليعطي مكانا للفوج القادم جديدا.
أما أهل الميت فجلوس بلا حراك، وآذان بلا ألسنة، وعيون تنظر أحضانها، وشفاه تتمتم كلمتين لكل قادم وكل مودع، وهما «وراسك سالم» جوابا على التحية في التعزية لدى الدخول والخروج، وهي «عوضنا الله بسلامة رءوسكم.»
والمرحوم طانيوس المر كنت أعرفه معرفة سطحية، فلم أزره في بيته بحياته، ولكن صديقي بطرس كرواني جذبني جذبا؛ لنأخذ خاطر أهل الفقيد، قائلا لي: إن التعزية واجبة على كل عارف، ولا فرق نسيبا كان أم صديقا أم من المعارف.
وهكذا، كان ذهابنا، وكان حضرة صديقي أبرع مني في الكلام؛ فقد دخلت إلى بيت الميت وأنا كالجنين في عالم التقاليد؛ فقد هممت بإلقاء التحية التي أقولها في كل الأوقات إلا أن صديقي بطرس رفع كفه ووضعه على فمي، فجعلني أبلع «نهاركم سعيد»، ثم همس بأذني أن أقول: «الله يعوضنا بسلامتكم.» فقلت، وجلست كأني من أهل الميت على ما وصفت، وأزيدهم بعدم التمتمة؛ لأن المسألة لا تعنيني، وبنظر الأشباح من كل جهة؛ لأن حضني كان مملوءا بسترتي المطوية وفوقها قبعتي، وقد احمر وجهي خجلا؛ لأني كنت الوحيد النازع عنه سترته.
بعد سكوت خمس دقائق فتح بطرس فاه بالكلام، فقال: «قبل أن مات إسكندر الكبير عرف أن آخرته اقتربت، وأن أمه ستحزن عليه حزنا عميقا، فدعاها إليه قبل موته، وقال لها: وصيتي إليك يا أماه أن تأدبي مأدبة بعد موتي وتدعي إليها كل الناس، وعندما يجلسون إلى المائدة قولي لهم إن من لم يذق حزنا على حبيب له فليمد يده ويأكل. وهكذا كان، فبعد وفاته أدبت مأدبة، ودعت إليها جميع الناس، ولما جلسوا إلى المائدة قالت لهم ما أوصاها ابنها إسكندر أن تقوله، فلم يمد أحد يده للطعام، فعرفت إذ ذاك أن كأس الموت دائرة على الجميع؛ ولهذا تعزت في مصابها الجلل.»
سمعت هذه الموعظة فكبر قائلها بعيني، وقلت في نفسي: يا ضيعان ما تعلمته في المدارس! والله إن بطرس فاقني بأسلوبه المعزي، وقال أحسن موعظة تقال في محلها. وكأني نسيت نفسي أني موجود في هيكل الصمت، فقلت لرفيقي: أحسنت والله بهذه التعزية، إنها لحكمة منزلة.
أما الحاضرون ولم يكونوا كثارا؛ لأن زيارتنا لأهل الميت كانت بعد أسبوع، وقد بدأت حركة التعزية تقل؛ فقد سمعوا الموعظة الجميلة كأنهم لم يسمعوا شيئا البتة ، وقد عجبت لأمرهم، فقلت في نفسي: لعلهم طمطمانيون لم يفهموا معنى الذي قيل أمامهم.
ولم يكد ينهي بطرس كلماته الدرية حتى وافى البيت فوج مؤلف من ثلاثة رجال، ولأن المكان واسع والزوار قليلون بقينا في أماكننا، بل بقي بطرس جالسا، واضطررت ألا أتحرك؛ لأنه هو الزنبرك لهذه الزيارة.
ولما جلس القادمون جديدا فتح أحدهم فاه بالكلام، وفيما هو يهم ليتكلم حزنت على نفسي، وقلت: يا لله! ما أجهلني؛ فإني لا أفهم شيئا من العادات والتقاليد، ولم أمرن نفسي على الكلام اللازم في كل حين. أما المتكلم فبدأ بقوله: «هذا حال الدنيا، الموت محتم على كل الناس لا مهرب منه. كان إسكندر الكبير قد فتح الدنيا بأسرها، وهو في الثلاثين من عمره ...»
وفيما هو يخبرنا عن الإسكندر قلت في نفسي موعظة ثانية تأتينا، وقد حتمت علي أن أقصد المكتبة العمومية بعد هذه الزيارة لأطالع حياة ذلك الرجل العظيم، الذي كل تاريخه مواعظ لازمة للبشر وبالأخص في حالات المصائب، وقد تحولت إلى إصغاء تام لأسمع المتكلم فلا تفوتني الموعظة الثانية، ولكن شد ما كان فشلي عندما سمعت منه نفس الموعظة التي أخبرها بطرس؛ ولهذا استأت في داخلي أيما استياء.
عندئذ هم رفيقي بالنهوض؛ لأنه رأى فوجا آخر مؤلفا من قادمين اقتربا من الباب، فكبست على ركبته، وهمست في أذنه: إني أريد أن أبقى حتى نخرج كلنا معا، فسايرني بطرس مضطرا، ودخل القادمان فتليا أفشين التعزية وجلسا. وما هي إلا لحظة حتى فتح كبيرهما فاه بالكلام، فسمعته يقول: «ما هان علينا موت المرحوم، ولكن أمر الله لا مرد له، هكذا قدر وكان، فسبحان الدائم، يحكى أن إسكندر ذي القرنين شعر بدنو أجله ...»
هنا تنحنحت قليلا فلاحت مني لفتة إلى صديقي بطرس، فرأيته يخط وجهه ابتسامة، ولكن في الحال أدرت وجهي عنه إلى ناحية المتكلم لأسمع حكاية إسكندر ذي القرنين، وبعد سماعي جملتين من حديثه بدأ وجهي يخط ابتسامة عريضة، وللحال خوفا من أن تنتهي الابتسامة بضحكة ونحن في هيكل الحزن والخشوع نهضت ونهض معي رفيقي، فقلت: «بالإذن بلا قطع حديث حضرة المتكلم، ونهاركم سعيد جميعا.» وخرجت وتبعني بطرس، ولما صرنا خارج البيت أمسكني صديقي مستوقفا إياي، وقال والسم يقطر من وجهه: «ما نفعك ونفع علمك إذا كنت لا تفهم أن في بيوت أهل الموتى لا يقولون عبارة «نهاركم سعيد»، وقد أفهمتك عندما دخلنا ألا تلفظها فبلعتها، فلماذا نسيت هذا الأمر عندما خرجت؟»
فقلت له: دعني من عتبك يا بطرس وأخبرني أين قرأت القصة التي قلتها في بيت الميت؟ فقال: إنه سمع جده يرويها في مأتم شيخ القرية. فقلت: وأين قرأها جدك؟ فقال: لا بد أنه سمعها من جده، فقلت له: إذن في مرة ثانية اضبط التاريخ، وقل هكذا حدثني جدي عن جده عن جده حتى تصل إلى معاصر لإسكندر الكبير.
فضحك بطرس وصفح عني، وقال وهو يصافحني ليأخذ سبيلا غير سبيلي: «اضحك بسرك؛ فإننا لم نكمل الساعة في بيت المرحوم، وإلا لكنا سمعنا حكاية إسكندر الكبير لا أقل من عشرين مرة.»
فأجبته، ولعلني قلت الصواب: «لو كنت موضع أهل الميت لقلت للناس المرحوم استراح من هذه الدنيا ومن مواعظكم.»
وودعت بطرس وسرت في طريقي، فالتقيت بجماعة عرفت منهم واحدا، ولما رآني دنا مني مسلما وأخبرني أنه ذاهب ليأخذ بخاطر آل المر، فأخبرته أني آت من تعزيتهم الله يساعدهم، فأعاد: «الله يساعدهم.» وزاد: «ويعينهم.» وقد أخبرته كيف أني دخلت بيت الميت ولم أقل عبارة تعزية أعزي بها المساكين؛ لأني لا أفهم الاصطلاحات، فضحك مني وقال: «أهي مسألة فلسفة، احك قصة فيها مغزى وعز بها الجماعة.» فقلت: وما عساك أن تحكي أنت؟
فبدا يخبرني قصة إسكندر ذي القرنين، ولكني قاطعته قائلا إني أعرفها وأشرت له أن يلحق بأصحابه؛ ليعزوا الجماعة وليساعدهم الله ويعنهم ويرحمهم.
المتشائم
ما كنت أعهد فيه الشر والميل إلى تضليل الناس؛ بل عرفت صديقي إلياس البقاعي شابا مهذبا رقيق العواطف محبا، يدأب في عمله ويغار على مصالح زبنه، ولكنه في الأيام الأخيرة انقلب بأخلاقه وطباعه، فصار إذا سأله ضال: أين الطريق إلى الشمال؟ يدله على الجنوب غير مبال بعقبى، ولا آبه بجناية يرتكبها بتضليل الآخرين.
جلست إلى جانبه في أحد الأيام وسألته لماذا تبدل بأخلاقه حتى سود الناس صحيفته؟ فرأيته يهز رأسه، عاضا شفته السفلى عضا قويا، وما تكلم غير هذه العبارة جوابا: «آليت ألا أهدي ضالا ما دام الضلال في البشر، وإذا رأيت أعمى له أمل بالنور أحمل على أمله حتى لا يبصر لا في الحقيقة ولا في الخيال.»
قلت: إلياس، إلياس ما الذي صار لك؟ قل لي ما أنت بذاك الذي أعرفه بإلياس البقاعي، أنت رجل غيره، ماذا دهاك؟
أجاب: «أتظن أن أتعابي سنين طوالا غيرتني، لا والذي خلق المكاسب والمخاسر، إن ما غيرني من إلياس البقاعي الذي تعرفه إلى إلياس البقاعي الذي تراه الآن لهو التطفل مني على إنارة سبل الضالين؛ فإن التائه في سبيل حياته لأضمن حالا من الذي تفتح عينه العمياء فيرى الكون كله تحت باصرته، ويجعل عينه فما واسعا يريد ابتلاع ما يراه.»
قال هذا وتنهد، ثم قص علي حكايته، وكيف آل إليه الحال.
تعلم أني شغلت في الولايات المتحدة خمس عشرة سنة أحمل صناديق بضاعتي فأبيعها على تجارنا في الداخلية، وقد جعلت شعاري في مطلع تجارتي حتى آخرها أن أكون مخلصا لزبائني نصوحا لهم؛ لأضمن حسن حالهم المعقود بنجاحي، وكان لي زبون في بلدة صغيرة في الداخلية أبيعه من بضاعتي كما أريد، وأمحضه النصح في المشترى والمبيع كأنه شريكي في العمل. وفي ذات يوم دخلت محله في أحد الأسفار فرأيت محله مزدحما بالصناديق المكردسة هنا وهناك، وبالبضائع المبعثرة بلا ترتيب ولا نظام؛ يبيع زبائنه وفي فيه سيكار طويل، فقلت في نفسي: «غريب والله كيف أنه يرزق مثل هذا الزبون، وهو على ما هو عليه من عدم الترتيب!»
وفي تلك الساعة وأنا أنتظره ريثما يفرغ من سيدة كانت تساومه على قميص؛ لأجلس وإياه وأبيعه قائمة بضاعة حرك أفكاري سيكاره، فقلت في نفسي: يجب أن أسأل هذا الرجل إذا كان محله مضمونا في شركات السوكرتاه؛ فإن حاله عرضة للحرائق، فلأسألنه.
وهكذا كان، فعندما جلست أسأله عما هو بحاجة إليه من البضائع سألته: أأنت مسوكر؟ فأجابني: «نعم مسوكر عند هذا.» قال هذا وأشار بيده إلى ناحية في محله، فلم أفهم معنى إشارته، ولكنني ظننت أنه أومأ إلى روزنامة معلقة على الحائط، وفيها اسم الذي ضمن له المحل؛ ولهذا ملت عن زيادة الاستفهام، واستأنفت الشغل وبيدي قلمي أكتب به مطلوبه من الأصناف.
وفي منتصف العمل عاودتني فكرة الضمانة، فكررت عليه سؤالي فقلت له: «قلت لي إن محلك مضمون، ولكنني لم أفهم عند أية شركة من شركات الضمانة.» فأعاد إلي إشارته بإصبعه وقال: «قلت لك عند هذا، هذا هذا، ألا تراه؟!»
أما أنا ففرست على خط مستقيم من إصبعه الدال فلم أجد سوى صورة، ولكنني خجلت منه فلم أستوضحه أكثر ومضيت في شغلي، ولما أنهيت كتابة القائمة وقد بلغت نحو خمسة آلاف ريال طويت القائمة وخبأت بضاعتي، ووقفت مترددا محتارا بأمري كأني كنت ناسيا شيئا، ولم أكن بالناسي؛ ولهذا ظللت واقفا موجما، وزبوني ينتظرني لأصافحه وأودعه، وأذهب من محله.
عندئذ قلت له: اسمح لي قبل أن أودعك أن أنقل اسم الشركة التي ضمنت لك محلك؛ لأن ذلك لازم لدفاتري، فكل زبون يجب أن أعرف الشركات التي تضمن محله.
فضحك مني وقال: «عجيب أمرك، قلت لك: عند هذا، عند هذا، ألا تراه؟»
فقلت: لا أرى غير صورة.
فقال: «نعم، صورة، ولكنها أيقونة مار أنطونيوس شفيع كنيستنا في الضيعة.»
هنا ابتدأت رواية مضحكة، فسري عني قليلا، وضحكت أولا ضحكة انفتح لها قلبي لسذاجة زبوني، وبعدئذ سألته بلهجة ازدراء خفي: ألعل مار أنطونيوس عنده شركة للسوكرتاه، وكم سعر الألف عنده؟
فقال: «كان الناس يشورون علي بالسوكرتاه، وأنا أؤجل الأمر حتى لم يعد لي من حجة عليهم بالإمهال، وكل الوكلاء الذين قصدوني للسوكرتاه طلبوا مني مائة وخمسين ريالا، فقلت في نفسي أرسل مقابل ذلك مائة ريال لمار أنطونيوس كل سنة، وهو يحمي محلي أحسن من أي إنسان؛ لأن عجائبه مشهورة وهو حامي ضيعتنا، فأوفر خمسين ريالا وأنفع بلدي وقديسها.»
فقلت: ولكن إذا احترق محلك بماذا يعوض عليك مار أنطونيوس، إنه يأخذ منك كل سنة مائة ريال، ولا يعطيك سنتا واحدا إذا احترق محلك لا سمح الله، أما الشركات فإنها تأخذ منك مائة وخمسين ريالا، ولكنها تدفع لك كل سنت تخسره إذا احترق المحل.
وجلست ساعتين بكاملهما أنير بصيرة ذلك الزبون حتى أفهمته أن المسألة ليست للحماية، فمار أنطونيوس عجائبي وعظيم، ولكنه لا يعوض على الخاسرين، أما الشركات فإنها لا تحمي ولكنها تضمن الخسارة، ولم أذهب من عنده حتى أفهمته كل شيء بهذا الصدد، وأقنعته أن يستدعي أحد وكلاء شركة الضمان ليضمن محله.
في تلك السنة احترق محل زبوني المسكين، وبعد أسبوع وردني منه خبر أن الشركة أعاضت عليه الخسارة بعشرين ألف ريال، وقد أرسل إلي داخل الرسالة حوالة على البنك بكل حسابي معه. فكتبت أعلمه أن يعتبر بما جرى، وأن يفتكر قبل أن ينشئ محله الثاني بأمر الضمانة، فلولا مراحم الله التي ساقتني إليه تلك المرة لأنير بصيرته وأحول السوكرتاه من مار أنطونيوس إلى إحدى الشركات لكان حضرته في هذا الوجود وأتعابه سنين عديدة في ذمة ذلك القديس.
بعد سنة واحدة احترق محله ثانية، واستدعيت إلى بلده من الحكومة كأحد الدائنين الكبار، وقد كان لي بذمته اثنا عشر ألف ريال، وهناك مكثت يومين، ومن هناك عدت إلى نيويورك كما ذهبت، وزبوني في السجن بدعوى إحراقه محله عمدا؛ فقد عثر البوليس على شمعة مخصوصة لإيقاد النار في المحل، ولم تأت عربات الإطفاء حتى كانت النار قد التهمت الأخضر واليابس، وفي الاستنطاق أقر أنه أوقد النار ليأخذ ألوف الريالات من شركات السوكرتاه، وقد أخبر المحكمة أني أنا سببه؛ ولهذا دعتني للشهادة، فأخبرت القاضي بالقصة من أولها إلى آخرها، وما آخرها إلا عودتي من تلك البلدة خاسرا أرباحي وأتعابي خمس عشرة سنة عند ذلك الزبون، وهذا ثمن فتحي باصرة أعمى، وإرشادي ضالا، وقيادتي ساذجا إلى طريق العرفان.
وقال لي صديقي إلياس البقاعي ختاما لحكايته التي أثرت بي كثيرا: «أوتلومني لماذا انقلبت من إلياس تعرفه إلى إلياس تراه وتسمع به في هذا الحين يضل الناس ويعمقهم في ضلالهم!
يا ليته بقي مسوكرا عند مار أنطونيوس، بل يا ليتني لم أفتح بصيرته وأرشده إلى الضمانة الحقيقية التي علمته ارتكاب الجرائم.»
سمعان النادر
هكذا يسمونه اليوم «سمعان النادر»، وقد كان اسمه قبل أن هاجر إلى أميركا سمعان فقط. لم يكن أحد يعرف كنيته، ولكنه كان رجلا مشهورا بقبائحه حتى أغنى اسمه عن كنيته، فكان اسم سمعان كافيا في تلك المقاطعة السورية ليعني لدى كل واحد من ساكنيها رجلا شديد القوة، يقطن الكهوف في الجبال، يترصد أبناء السبيل ليفتك بهم ويسلبهم حوائجهم.
ولكنه بعد مرور سنوات على حياته تلك المرة أراد أن يتوب فلم يفلح؛ لأن الناس في قريته لم يصدقوا توبته، والحكومة لم تكن لتأبه لها، بل كان رجالها يلاحقونه من قرية إلى أخرى حتى انقطع رزقه، وكاد يجوع في حين لا أمل له بالخلاص من عيشه على تلك الصورة.
ولهذا هاجر سمعان، أما كيفية حصوله على المال الذي لزمه للنفقات فأمر لا يحتاج إلى إيضاح؛ لأن من اعتاد شيئا وأراد الرجوع عنه فلم يستطع لا بد أن يعود إليه. فاللص إذا تاب ثم احتاج إلى مال يعود لصا. وهكذا سمعان، رأى أن الضرورة تدعوه للهجرة إلى أميركا هربا مما هو فيه من سوء الحال والضغط الشديد عليه من الحكومة، وبالرغم من افتكاره بالتوبة عاد مضطرا إلى طرق الحرام ليقضي لبانته.
وجاء سمعان إلى أميركا، وكان قد درس حياة السوري فيها من بعض السوريين الذين صادفهم في مرسيليا، وعلى الباخرة من الذين كانوا سابقا في أميركا، ثم هاجروا إليها ثانية، فعرف منهم أن مثله لا يستطيع أن يأتي بحركة إلا إذا كان يقبل أن يعيش أجيرا يرضى بالكفاف من العيش؛ ولهذا قبل أن يضع رجله على اليابسة صمم النية على أن يقوم بمشروع كبير يجمع فيه المال الكثير من أبناء بلاده المنتشرين في طول أميركا وعرضها.
ولم يلبث سمعان بضعة أيام في نيويورك حتى استدل على بعض عناوين لأناس يعرفهم في الداخلية، فقصدهم ونزل عليهم، وكان على غير ما يأملون أن يروه مثال العفة واللطف والمسكنة.
والصيت إذا تحرك يسبق الريح، وقد تحرك صيت سمعان بأنه قدم إلى أميركا؛ ليكفر عن خطاياه التي ارتكبها في سوريا، وأنه تاب إليه تعالى، وقد نذر ما بقي من حياته في خدمته؛ ولهذا جاء ليجمع من أهل بلاده نذورا لكنيسة وطنية تبنى في قريته.
سمعان الشقي قادم إلى أميركا ليجمع نذورا! ولماذا لا؟ فما على المشكك إلا أن يجتمع به خمس دقائق فيرى أنه بالحقيقة تغير من شيطان جهنمي إلى ملاك أرضي؛ رجل مسكين يبدأ تناول الطعام برسم الصليب وينهي الأكل بالصلاة، ويجلس في قوم لا يتكلم إلا إذا سئل؛ لا يتدخل في خصوصيات الناس، ولا يقول إلا الشيء المرضي للجميع؛ يكثر من ذكر آيات الله وطاعته في كل حال من الأحوال؛ وإذا ذكر أمامه أحد الناس تضرع إلى الله تعالى بتوفيقه؛ وإذا نفحه أحدهم نذرا يغدق عليه الأدعية الحارة؛ إلى ما هنالك من هذا السلوك الذي كان أدعى إلى دهشة العارفين إياه أو السامعين به من أن يروا كوكب الصبح آتيا بمركبة نارية بجانب المسيح.
ولهذا سمي في ديار الهجرة «سمعان النادر»؛ لأنه نذر نفسه لله تعالى، وتاب عن ضلاله مؤمنا بالآخرة، وعلى هذا الاسم طارت شهرة الرجل فطفق يجول في أميركا من بلد إلى بلد آخر ومن ولاية إلى أخرى، يختلط بالناس مظهرا لهم كل مسكنة، داعيا إياهم إلى تكريس قليل من المال في خدمة الله لقاء تكريسه كل حياته من أجله تعالى.
وكان أن صيته وصل إلى البلاد، وهناك انتشر بين جميع السكان أن سمعان قد نذر حياته لخدمة الرب، وفي البداءة صعب عليهم التصديق، إلا أن الأخبار الواردة متتابعة من كل جهة كانت تؤيد الخبر، حتى أمن عليه الجميع وصدقوه، فصار اسم سمعان عندهم يعني التوبة والندامة، بدلا من الرذائل بكل فروعها.
أما سمعان فثابر على عمله مثابرة شجعه عليها إقبال الناس على مشروعه وتألبهم على مساعدته، حتى إنهم في بعض الأماكن أنشئوا من أجله لجنات للأخذ بناصره، وعينوا من قبلهم وفودا يدورون معه من منزل إلى آخر ليجمع ما تجود به أيادي المحسنين، فكان الناس يغدقون عليه الأموال بعضها للنذر وبعضها تعطى إليه بصفة شخصية لنفقاته الخاصة، فكان سمعان يضع الكل في جيب واحد، قائلا للدافعين إنه لم يأت أميركا ليجمع لنفسه بل لله؛ ولهذا يخلط الكل معا ليذهب إلى صندوق الله.
وكان يجمع بقوة تأثيره على عقول الناس الذين عرفوه لصا وقاطع طريق، ثم رأوه تقيا وناذرا حياته لله، أما الغرباء الذين عرفوا عنه شيئا، فكان أكثرهم يكثر عليه السؤالات، وبعضهم يسأله عن ورقة الإذن من مطران أو خوري أو جمعية، فلم يكن يحير جوابا على ذلك، ولكنه كان يستعين بالذين حوله، وهؤلاء يقصون على الناس تاريخه المجيد وكيف انقلب من شيطان إلى ملاك ومن ذئب إلى حمل، وهذا كان كافيا شر السؤالات، ومغنيا عن ألف إذن أو ورقة أو نيابة.
إلا أن سمعان في السنة الأخيرة شعر بميل الناس عن مشروعه قليلا، فصار يخشى الانخراط في جماهير الناس؛ لأن بعضهم كان يسأله عن المقدار الذي جمعه فما كان يجيب إلا بأنه لم يحصه بعد، وأن بركات الله تضر في المجموع إذا عده. وبعضهم صار يسأله عما إذا كان أرسل منه شيئا إلى البلاد، فكان يجيبهم بأن يقلب الحديث من أميركا إلى الصين تخلصا من الأجوبة، وهربا من التعمق في هذا الموضوع الذي يكره فتحه والتداول به، خوفا من التحري.
أخيرا، عزم سمعان على الرحيل والعودة إلى الوطن، فأم نيويورك مزودا بالأدعية من نساء ورجال، وكلهم كان يتمنى أجره في الآخرة، ويحسده على مكانته في عالم التقى والصلاح، ويأمل أن ينفعه الله بأدعية سمعان بفضل ما تبرع به من المال الذي حصله في أميركا بعرق القربة.
وعاد سمعان النادر إلا بلاده في عام 1903، وأول شيء فعله أن دخل إلى قرية مسقط رأسه دخول الشهير المعروف بفضله، وقد زاره كل سكانها في اليوم التالي، وصاروا إليه أقرباء ومحبين، وهو صار مقربا من الجميع ومحبوبا، ولم يعد من أحد يخشى شره ويتجنبه.
ولم يمض الشهر على وصول سمعان النادر إلى قريته حتى بدأ بالبناء، فراجت الإشاعات على أنه بدأ ببناء الكنيسة، فكان إذا سأله أحدهم يهز رأسه دون أن يفتح فمه بالكلام، ولكن شد ما كان عجبهم منه عندما قامت البناية على الأساس، وظهرت بيتا لا كنيسة، فعادت الإشاعات إلى الظهور بأن سمعان يبني بالمال الذي جمعه في أميركا بيتا لنفسه بدلا من بيت الرب. وقد وصلت الأخبار عن ذلك إلى أميركا، فعجب الناس منها، وندموا على ما فعلوه نحوه، وما قدموه إليه من الإكرام والاحتفاء، وصاروا يوبخون بعضهم بعضا كيف انطلت عليهم حيلته، وكيف أنهم لم يتحروا أمره منذ البداءة.
أما سمعان النادر فلا يزال حيا يرزق، وبالرغم من أن سنوات الحرب أودت بحياة تسعة أعشار القرية التي يسكنها؛ فإنه ظل وعائلته حيا، وزادت ثروته عن ذي قبل أضعافا.
وقد زاره مواطن له، عاد من أميركا بعد الهدنة، وعندما سأله عن أموال التبرعات التي جمعها، قال إنه بنى بها بيتا للرب، وإنه سكن البيت؛ لأن الرب لا يسكن البيوت، ولما كان هو ناذرا نفسه للرب، تكفيرا عن معاصيه اضطر أن يسكن البيت الذي أنشأه من أموال المتبرعين إلى بيت الله.
فسأله ذلك الزائر: كيف رأيت المهاجرين السوريين في أميركا؟
فقال: إنهم ذوو قلوب سليمة، ولا يردون طالبا خلا نفرا منهم اكتسبوا من أميركا قلة الدين، فهم يهزءون بالمشاريع العمومية، ولا يهمهم شأن وطنهم. - أوأنت تلومهم؟ - نعم، ألومهم؛ لأنهم يعاكسون على ذوي الآمال في وطنهم، فلولا أولئك المتفلسفون القليلو الدين لجمعت مبلغا كافيا لتشييد كنيسة في هذه القرية، ولكن المبلغ الذي جمعته لم يكن ليبني زاوية من كنيسة. - ولهذا السبب يظهر أنك بنيت بيتا لنفسك بتلك الأموال؛ لئلا تذهب ضياعا أليس كذلك؟ - نعم؛ لهذا السبب عينه. - الحق معك، ما أطيب قلوب المهاجرين وأسلم نياتهم! على أنني أدعو لهم بأن يكثر عدد الذين نذروا حياتهم للرب مثلك بينهم لعلهم يتعلمون ويتعظون.
حبال الغسيل
نيويورك بلد عظيم، فيه من الخلائق ثلاثة أضعاف سورية من العريش إلى الطوروس، ومن البحر إلى الصحراء؛ ولهذا فمن اعتاد الفضاء لا يهنأ له عيش في قفص مدنية الجيل العشرين، وكثيرا ما ندم كهول وشيوخ جيء بهم إلى نيويورك على قدومهم، فجلسوا إلى زاوية من زوايا البيوت يندبون الحظ، ويلعنون الساعة التي وصلوا بها إلى هذه البلاد، التي بالرغم من كل عظمة فيها لم تكن عند آمالهم وتصوراتهم؛ فإن ركب الحمار إلى الغدير والمشي إلى الكرم في وسط الغبار والطين والنوم على المرج في ساعة الظهر إبان تلهب أشعة الشمس الجماد أجمل في نفس ابن سوريا القديم من الوقوف في شارع برودواي، حيث تزدحم الكارات والسيارات والعربات، يلتفت المارون هنا وهناك ليروا لأنفسهم مخرجا يعبرون منه إلى ناحيتهم المقصودة آمنين الأخطار. والكوخ المبني من أغصان الشجر القائم في الكرم أجمل للمنام على سرير في منزل لا تدخله أشعة الشمس دقيقة في السنة، والجلوس عند النافذة في البيت السوري حيث يمتد البصر إلى أميال فيشرف الناظر على الآكام والأودية أجمل من بناية، ولورث ذات الطباق الثماني والخمسين. والقمباز الذي يستطيع معه لابسه أن يجلس به كيفما شاء القرفصاء والأربعاء، آنا متكئا وآخر متمددا دون أن يشعر بشيء يشد على ساقيه وفخذيه وركبتيه أجمل وألطف من التقيد بسلاسل البنطلون.
ظل العم بو غانم يراسل أولاده في نيويورك ملحا عليهم بأن يستقدموه إليهم، وهم بالرغم من توفيقهم بالأشغال لم يكونوا يرون مناسبة في استقدامه، لأملهم بالأوبة إلى الوطن حيث يجتمعون به بعدما يكونون قد جمعوا مبالغ من المال تكفيهم مئونة العناء في هذه الحياة، إلا أنهم لكثرة ما ألح عليهم اتفقوا على استقدامه، قائلين إنهم يصرفون معه بعض السنين ثم يئوبون كلهم إن لم تعجبه حياة أميركا.
كان العم بو غانم في الطريق إلى نيويورك يتأمل في عظمة أميركا كما ترسم إليه مخيلته حسبما كان يسمع، آملا أن يصل إليها بالسلامة ، وإذا مات بعد أسبوع لا يهمه؛ لأنه بذلك يكون قد حصل على أمنيته وزار الجنة. ولكنه منذ وصل ابتدأ يشعر بنفسه أنه كان مغرورا بتصوراته التي لم ير لها أثرا في نيويورك، وما قطع بضعة أيام حتى صار يشعر بميل قوي عن عظمة أميركا وبشوق عظيم إلى حالة قريته الخالية من كل أثر للمدنية.
ولم يكن العم بو غانم ليعمل عملا في نيويورك؛ لأن أنجاله كانوا بغنى عن عمل أبيهم الشيخ، وما كان همهم بعد وصوله إلا تكييف خاطره وراحته وتسليته عن تشوقاته إلى الوطن، فكلما وجد أحدهم فراغا عنده صحب أباه إلى فرجة من فرج نيويورك ومتنزهاتها ومتاحفها العظيمة ليسليه ويسري عنه، ظنا منه أن أباه لا بد أن يعجب بالعظمة والضخامة اللتين يشاهدهما، فيشغل بما يراه عقله وأفكاره، ولا يعود لذكرى القرية والوطن.
إلا أن العم بو غانم لم يكن ليرى في كل ما وقعت عليه عينه من العظائم الاختراعية والاصطناعية والتاريخية ما يدهشه، فكان أنه عندما مشى جسر بروكلن من الأول إلى الآخر ورأى البواخر العظيمة تمر تحته والقطارات المتتابعة والكارات المتلاصقة والعربات المتسارعة قال لرفيقه من أبنائه إن الجسر على الساقية في طريق الكرم أجمل من كل هذا، وإن غرفة من مياه ذلك الجدول أفضل من كل ما في أميركا، وإن غسل الرجلين في تلك المياه الباردة ألذ للنفس من هذه الفخامة والعظمة. وعندما رجع به أحد أبنائه من برونكس بارك سأله رأيه في القطار العالي الذي كانا عائدين عليه، فقال ومعدته تصعد وتنزل، ورأسه دائخ، ونفسه زاهقة: إن الحمار الذي كان يركبه من الضيعة إلى غيرها أجمل في عينيه من كل ما في أميركا من القطارات والعربات.
وعندما ألح عليه أبناؤه بأن يلبس القبة ويعقد الربطة ليذهبوا إلى الكنيسة، كاد العم المسكين يبكي من غيظه، ولم يبخل على الكنائس وأميركا بمسباته وعلى حظه وغروره باللعنات والتجديفات، وقد قال لأولاده: ما هذه العيشة التي تعيشونها في هذه البلاد الجهنمية؟! هناك بلاد الراحة؛ لا ربطة في الرقبة ، ولا عقدة على الخناق، ولا سلاسل على الوسط، ولا قيود في الرجلين. آه يا بلادي، لو يسمح لي الدهر أن أرجع وأعيش أسبوعا واحدا تحت سمائها ثم أموت فتكون عيني شبعت ومت مطمئنا!
ومضى على تذمرات العم بو غانم نحو من سنة، وكرهه لكل ما في أميركا يزداد يوما عن يوم، وأبناؤه ينفقون ما استطاعوا لتسلية خاطره وتنزيهه عن الهموم المتلبدة في رأسه، ولكن عبثا حاولوا نزع ما انطبع على صفحات دماغه من أن كل عظيم في أميركا ليس بشيء عجيب، وأن البساطة في سوريا وخلوها من آثار العظمة مما يجعلها جنة النعيم.
وقد صار العم بو غانم مضرب المثل، بأنه لم يجد في أميركا ما يعجبه، حتى صار إذا جلس بين قوم في سهرة أو زيارة يقضي الوقت بمناظرة الآخرين بأن كل شيء في بلادنا أجمل، وأن ما يقابله في هذه البلاد ليس بعجيب ولا عظيم؛ فبغل المكاري أحسن من قطار الجيل العشرين، وجسر الساقية أجمل من جسر بروكلن، وطريق الكرم أحلى من الأفنيو الخامس، ومرعى الماعز أظرف من السنترال بارك، والنومة تحت البلوطة أهنأ من النومة في القصر الأبيض، إلى ما هنالك من تعاليل رجل قطع الستين من عمره، وصارت بلاده - وإن تذمر منها حينا - كل شيء في حياته، بل هي حياته.
وبناء على هذا صارت أحاديث العم بو غانم من المسليات للسامعين، تضحكهم تشابيهه بين حالة سوريا البسيطة ومعالم أميركا واختراعاتها، وقط لم يقر لأميركا بشيء من المعجبات إلا مرة واحدة، وكان ذلك في سهرة حافلة، وفي آخرها بعدما فرغ من حطه من قدر كل اختراع وعظيم في أميركا، وإذ سأله أحد الحاضرين: أي يا حضرة العم بو غانم، بالله عليك قل لنا ألم تر في كل أميركا ما يعجبك؟
فأجابه العم بو غانم وقد أغمض عينيه لحظة، ثم فتحهما وهز رأسه هزتين ببطء، وتنحنح قليلا فسوى قعدته، وفتح فمه بالكلام فقال: لم يحيرني بكل ما رأيته في هذه البلاد إلا أمر واحد، وهو حبال الغسيل؛ فقد شاهدت حوائج الغسيل معلقة على الحبال من بيت إلى آخر على مسافة بعيدة، فكيف توصلت الغسالة إلى تعليق الحوائج على الحبل؟ أمر لم أستطع حله، قلت في عقلي: إن المشي على الحبل ليس بالهين، ومع ذلك فالحبل أضعف من أن يحمل امرأة وفي يديها حوائج للتعليق، وإذا أمكنها أن تمسك الحبل بيد من يديها لتنتقل إلى وسطه، فكيف تتمكن من تعليق الحوائج وربطها بالحبل بيد واحدة! هذا ما حيرني، وهذا ما أدهشني!
ولا حاجة إلى وصف ما كان بين الجالسين السامعين بعد كلام العم بو غانم؛ فإن رب البيت صار يرجوهم أن يخففوا أصواتهم لئلا يصعد البوليس إليهم فيعنفهم على ضوضائهم، ولما شبع القوم من الضحك عاد العم بو غانم إلى حديثه، فقال: والله إني راجع في هذه السنة إلى البلاد، وسوف أجبر الأولاد على أن يشتروا بكل ما معنا من المال حبالا من أميركا؛ فإننا نستطيع أن نبيعها بأرباح طائلة في كل المدن السورية.
فأجابه أحدهم: ولكن عليك أن تشتري أيضا الأيدي التي تعلق الغسيل على تلك الحبال.
ما فيها شي
أميركا أعظم مدرسة يدرك فيها المرء علومه في الحياة، ويكتسب خبرة تعود عليه بالنفع الحسي؛ إذ تجعله رجلا قادرا على الانخراط في هذا المعترك العالمي مما لا تأتيه المدارس ولا الكليات ولا الجامعات.
إلا أن هذه المدرسة العظيمة كثيرا ما يظهر فيها وباء اجتماعي هائل، وعوارضه انتفاخ الأوداج مع ضيق في الجبين، وقد بحث الأطباء بهذا الوباء فما وفقوا إلى معرفة أصله وإدراك أسراره؛ فبقي عنهم مكتوما لا يستطيعون وصف علاجه لمحوه من عالم الوجود.
هذا الوباء الوخيم أصيب به مهاجر سوري بعد سنة من وصوله إلى أميركا في إحدى مدن الداخلية، وقد جاءه عن طريق العدوى؛ إذ زار يوما بيت صديق له فرآه يطالع في إحدى الجرائد العربية، وكان هو يحسن القراءة البسيطة فقط لا غير، فجلس إلى جانب صديقه يشاركه في المطالعة فسرهما المناظرة بين صاحب الجريدة وزميل له، أو بالحرى المهاترة والمشاتمة، وطفقا كلاهما يسبحان بحمد كاتب تلك المقالة لقوة عارضه وتبريزه باستعمال الكلام الجارح، وقد تشوقا كثيرا لمعرفة ماذا يقوله المناظر ردا على ما قرآه في جريدة «السناء»، فاتفقا آنئذ على أن يشترك نخلة الطبطابي بالجريدة الثانية «منار الأمة»؛ ليتسليا بوجهتي المناظرة، ويتلذذا بالردود والأجوبة، وبماذا يقول فلان عن فلان وهذا عن ذاك، ثم يحكما على المبرز.
بعد خمسة أيام جاءت جريدة «منار الأمة» إلى محل إقامة نخلة الطبطابي، أما جريدة «السناء» فظلت ترد على صديقه ديب أبو غانم، فكان كل يوم يجتمع الاثنان فيطالعان الجريدتين بإنعام نظر ولذة فائقة، وكانا يختلفان آونة ويتفقان أخرى على من كان الأقوى حجة من المتناظرين، أو بالأحرى المتشاتمين.
وظل الصديقان كذلك حتى انتقلت منهما الرغبة في مطالعة الصحف العربية إلى التحزب كل منهما للجريدة المشترك فيها. فصارت اجتماعاتهما لا للذة بالمطالعة كجاري العادة، بل للمناظرة بينهما حول أي من الصحيفتين تضرب على وتر الحقيقة، ومن من الصحافيين أقوى قولا وأدعم حجة.
وظل هذا المكروب السام يتقوى في دماغ كل من هذين القارئين حتى عشش فيهما وبنى صروحه الباذخة، وأول ما فعله بهما أنه حرك أوتار الحماسة، فصار إذا طالع أحدهما صحيفة يشارك صاحبها بنظراته ويسبقه بشتائمه، ويتمنى لو أنه قادر على الخوض في معتركهما ليكرسح الصحافي في الآخر، ثم تدرج بهما فعل ذلك المكروب إلى الاختصام فالعداء.
وانتهى الأمر أن صار الصديقان عدوين، إذا رأى أحدهما الآخر حول عنه وجهه، أو بصق على الأرض متمتما بعض كلمات لا تكاد أذنا شفتيه تسمعانها. وبلغ بهما العداء إلى درجة أنهما أصبحا يريدان الإيقاع كل بالآخر.
بعد أيام جاءت جريدة «السناء»، فكاد لب ديب أبو غانم يطير فرحا إذ رأى اسمه بذيل مقالة تبلغ العمودين من الجريدة، وقد قرأها ديب مرارا وأخذها بيده إلى جيرانه، والسرور مالئ وجهه والرقص يقيم قلبه ويقعده، فكان يدفعها إلى الجيران ليطالعوا مقالته ضد صاحب جريدة «منار الأمة»، ولما دخل على أحد السوريين ودفع إليه عدد الجريدة ليقرأ فيه مقالته أجابه ذلك السوري بأنه لا يعرف القراءة. ولكنه رجا منه أن يقرأها له، فظل ديب نحو ساعة يهجئ الكلمات ويعيد العبارات من الأول إلى منتصفها، ثم يعيدها ثانية حتى يتوفق إلى اجتيازها حاملة شيئا من المعنى وأحيانا يبلع كلمة أو كلمتين أو يتقيأ من فيه كلمة أو اثنتين ليستر حاله، وتارة يهز رأسه ويسب في وكيل الجريدة لتغييره بعض الكلمات.
والحق أن المستر ديب أبو غانم كتب إلى صاحب جريدة السناء يخبره أنه واقف معه، وأنه يود لو أنه يستطيع الكتابة ليسلق ذلك الصحافي العدو سلقة قوية. فما كان من صاحب جريدة السناء إلا أنه حبر مقالة ترقص لها عجائز وائل، وأمضاها ديب أبو غانم، فكان ما كان من فرح صاحبنا ديب.
وبلغ مسمع نخلة الطبطابي ما كتبه صديقه بالأمس ديب أبو غانم عدوه اليوم في جريدة السناء، فاحتدم غيظا، وتآكلت كبده نار الحسد أولا، ثم لعب بدماغه ذلك المكروب فترك عمله وطاف على السوريين يسألهم ماذا قرءوا بإمضاء ديب، وحاول إيجاد عدد من «السناء» فلم يفلح؛ لأن ديب كان المشترك الوحيد فيها.
ظل نخلة تأبى عيناه المنام كل الليل، فكان ينهض من سريره، طالبا لنار قلبه مخرجا إلى الناحية التي يريدها لينتقم من جاره، إلى أن هونها الله عليه فقال في نفسه: عجبا! إني أعرف أن ديبا يهجئ الكلام في القراءة، فكيف كتب مقالة في الجريدة؟! ثم قال إنه إذا كان ديب يستطيع تحبير المقالات فنخلة الطبطابي - أي هو نفسه - يمكنه أن يؤلف مجلدا، وإذا كان من أغلاط فصاحب الجريدة يصلحها له، وكل من سار على الدرب وصل.
أخذ نخلة بيمناه قلما وكتب رسالة طويلة عريضة بخطوط تشبه خطوط الأنهر على الخريطات، وأشبعها سبا وشتما بصاحب جريدة السناء ومكاتبها ديب أبو غانم، ولما أنهاها تنفس الصعداء، وفرح فرحا لا مزيد عليه، ثم وضعها بظرف وسيرها بالبريد إلى جريدة منار الأمة، وسارت على الطائر الميمون فوصلت إدارة الجريدة حيث هلل لها القوم ورحبوا ترحيبا.
ولا حاجة إلى أن نقول إن نخلة ظل خمسة أيام يسائل نفسه أتنشر منار الأمة له رسالته أم لا؟ حتى جاء عددها، وما كاد يقرأ إمضاءه تحت صفحة بكاملها حتى أصبح كالمأخوذ من شدة فرحه، فكانت خطواته تنقله على الأرض كالحجل الماشي يدخل بيتا ويخرج منه إلى آخر، حتى أدخل فحوى رسالته إلى رأس كل سوري في ذلك البلد.
وامتد خلاف نخلة وديب إلى الجالية السورية عموما في تلك المدينة، فانشطر القوم فيها شطرين، هذا يلف لف صاحب السناء وذاك يلف لف صاحب منار الأمة، وصارت الاجتماعات السورية في المنازل والحوانيت أشبه ببيت البورصة؛ الصياح سلطان، والخبط بالأيدي قائد فرسان، والسباب والشتائم جيوش جرارة؛ حتى اضطر الجيران الأجانب إلى رفع تظلمهم إلى البوليس.
وظل القوم على هذه الحال حتى تأصلت العداوة بين الحزبين ونتج عن ذلك انتشار الجريدتين في البلد، حتى إنه لم يكن من سوري يعرف القراءة أو لا يعرفها إلا وطلب الجريدة التي تحزب لها مشتركا إما بعدد أو بأكثر. ومضت الشهور وكتابات ديب تصارع كتابات نخلة على صفحات الجرائد إلى أن تلاشت الأسباب.
وذلك أن عقلاء القوم في نيويورك أو الذين يخافون على جلودهم من سياط أصحاب الجرائد اجتمعوا في أحد الصوالين فقرروا مصالحة الصحافيين، وبأحبولة سياسية تمكنوا من الجمع بين الضدين، فصالحوهما وكبسوا يد كل منهم بتشك مليح.
ذكرت الجريدتان الحادثة في الصوالين، وكل منهما أشارت إلى أن العداء منها ضد الرصيفة لم يكن إلا نتيجة سوء فهم، وأن المناظرة المنزهة عن الشخصيات لا بد منها؛ ولهذا فهي لا تحمل حقدا لجارتها ولا لصاحبها، ولما كان كل سبب قد زال فإنها تصافح رصيفتها مصافحة أخوية للنهوض بهذه النزالة المحبوبة إلى ما يؤمل لها من ذروات التقدم والارتقاء.
ولا تسل أيها القارئ كم أحدث هذا الخبر من الاشمئزاز في نفس كل من ديب ونخلة وفي نفوس كل السوريين في البلد الذي كانا مقيمين فيه، وقد دهش القوم لهذا الصلح الذي جاء بغير أوانه، فأفسد عليهم اللذة التي كانوا يتناولونها من مطالعة الصحف العربية.
وبعد أيام ظل القوم على العداء بين بعضهم البعض، وإنما دون اجتماعات ولا معالجات، ولكنهم كانوا واحدا واحدا يرجعون الجرائد إلى أصحابها، معتذرين لأنفسهم عذرا على عدم استطاعتهم الاشتراك في الوقت الحاضر.
واجتمع الصحافيان اجتماعا في أحد الصوالين فسأل الواحد الآخر: كيف الشغل؟ - أيام المناظرة كان ولا أحسن منه! - نعم، هكذا كان حالي، وأما اليوم فالأعداد المرتجعة تزداد يوما على آخر. - يظهر أن القوم لا تلذهم الجرائد إلا في حال المناظرة. - إذا كانت المناظرة من المروجات، فلماذا لا نتناظر. - أنا أرتئي ذلك، فلنبدأ غدا، وأنا أكون البادئ بمقالة من «كعب الدست».
جمعتني إحدى السهرات برهط من القوم وكان بينهم رجل يطالع إحدى الجرائد العربية برغبة فائقة غير مكترث بأحاديث القوم، فدنوت منه ودفعت إليه جريدة كانت بجيبي حفظتها لمقالة فيها لم أقرأ أبلغ منها بموضوعها بعنوان «حياتنا السورية»، وقلت له: يظهر أنك تحب المطالعة، فخذ هذا العدد واقرأ المقالة الفلانية.
فتناول مني ذلك العدد، وبعدما أجهد نفسه بمطالعة العنوان مع السطر الأول طواها وأعادها إلي، قائلا: «ما فيها شي.» ثم استأنف القراءة في الجريدة التي كان يطالعها، فتطلعت إلى الموضوع الذي كسب شوقه الزائد في قلب السهرة الحافلة، فرأيته يقرأ خطوطا تحت عنوان «ذلك الصحافي السافل».
فرجعت إلى مكاني، مرددا عبارته: «ما فيها شي.» ولم أعد أحشر نفسي بين القوم فيما بعد.
المال يتكلم
في أول سنتين لوجود موسى البدل في أميركا سعد بثروة ليست بالقليلة؛ إذ كانت المهاجرة السورية لم تزل تكتب الصفحة الأولى من تاريخها، وقد كان يقدره الناس بصاحب خمسين ألف ريال، وبعضهم يضعه فوق هذا المقام من الثروة. والحقيقة أنه هو نفسه لم يكن عارفا بمقدار ما معه بالتمام؛ لأن الغنى جاءه لأم ساعته، فلم يعطه فرصة للعد والحسبان، ولم يكن حضرته يأمل بمثل هذه الثروة، إلا أنها أتته عفوا بفضل الأحوال والصدف، وما أكثرها في هذه البلاد.
بعدما صار في هذه الدرجة من الغنى افتتح محلا رسميا، واستخدم ماسكا لدفاتره ومعينا له في العمل، وقد عين عملاء في بعض البلاد الأوروبية والآسيوية، وكثرت بضائعه وتراكمت، وافتتح حسابا في البنك، وطفق يبيع ويشتري، وإذا كان التجار اصطلحوا على إقفال محالهم عند الساعة السادسة كان حضرته يتناول العشاء في محله، ثم يستأنف العمل إلى ما بعد الساعة العاشرة ليلا، وظل يعمل باجتهاد كلي النهار كله وبعض الليل حتى جاء رأس السنة الجديدة، فعمل حسابه بعد تقويم المحل، فوجد أنه لم يربح ألوفا من الريالات بل يضع مئات تنقص عن نفقاته الخاصة.
لم يفتكر أن السنة الأولى هي سنة تأسيس لا يلقى عليها أمل كبير بأرباح كثيرة، ولما كان قد اعتاد أن يربح خمسين ألف ريال في سنتين فقد مقت المحل الرسمي، وأسف للحالة السالفة؛ إذ كان يتناول صندوق البضاعة الأسطمبولية ويبيعه قبل أن يفتحه بربح ألف ريال نقدا دون تقييد ولا نفقات محل وعمال؛ ولهذا عمد إلى التغيير، فصرف الكاتب والمعين بسلام، وظل هو في المحل ماسكا الدفاتر وكل شيء، ولو أنه استطاع تصريف البضاعة والرجوع إلى حاله السالفة لما تردد، ولكن كيف يمكنه ذلك وقد علق ببنك وزبائن له عليهم ديون وحسابات جرارة، وعملاء لهم عليه حقوق وعندهم له طلبات؟
اضطر المسكين أن يظل تاجرا رسميا سنة أخرى وتبعتها ثالثة ورابعة وخامسة، وفي كل سنة يأكل أصابعه ندما لانخراطه بالتجارة مع أن ميدان الربح واسع بغيرها أو عن غير طريق المحال، وكان يشتهي الخلاص من تلك الوقعة المشئومة، ولا يجد لنفسه منفذا ليخلص برأس ماله القديم. وكلما عن له التخلص صغر دائرة أعماله، فكان كالبزاق «بيتي على ظهري علا»، كل سنة ينقل إلى محل أصغر فأصغر اقتصادا وظنا منه أنه بذلك يتغلب على النفقات فتكثر أرباحه، وما درى أنه بذلك يصد الربح عنه، ويقضي عليه بالابتعاد.
وحمل موسى البدل أتعابه زهاء العشرين سنة ظل فيها مقدرا بخمسين ألف ريال، وكان يقول في نفسه حينما يفطن لحاله: عجبا! ففي تلك الأيام برأسمال خمسين ريالا ربحت خمسين ألف ريال بسنتين، ثم بخمسين ألف ريال لم أربح خمسين ريالا بعشرين سنة!
وهذه معضلة المعاضل لم يكن ليحلها موسى البدل أو ليعرف سببها، وكل ما كان يفتكر به أمر المصروف؛ ففي كل سنة كان يضيق على نفسه الخناق أكثر من قبل حتى انتهى أخيرا أمره بأن أقفل المحل، وصار صرافا.
بالصرافة وجد موسى أن الفرصة للغنى الكثير قد فتحت بابها أمامه، ورأى أنه أصبح ذا مقام عزيز عند قومه وبالأخص التجار، أولئك الذين كان يلح عليهم ويرجو منهم بذل وتواضع أن يؤثروه على غيره فيجابروه ويشتروا من بضائعه، ولم يرحموه، صاروا عندما صار هو صرافا «بانكير» مثل «السمن والسكر»، فكانوا أينما صادفوه يهزون يده بشوق زائد، ويسألونه عن صحته وصحة العائلة، ويشفعون سؤالاتهم بالتمنيات الحسنة، ويعدونه بالزيارات البيتية إلى ما هنالك من ضروب المجاملة، فكان موسى يتناول هذه المعاملة بكل قلبه ورئتيه؛ إذ يتنفس تنفسة طويلة تستغرق دقائق، لاعنا التجارة التي كابدها سنين ولم تعد عليه بأرباح وكان فيها ممقوتا مرذولا، متأملا بالمقام الذي أحرزه بعدما صفى شغله وصار صرافا يقرض هذا وذاك، وبعد أن صار الناس يقبلون يديه ليثق بهم، وقد كان يقبل أيديهم وجها وقفا ليؤثروه على الشيطان، ويساعدوه على تصريف بضاعته.
إلا أن دوام الحال محال، فما جاءت سنة 1907 بعاصفتها المالية في تجارة نيويورك حتى تقلقل سوق التجارة السورية، وعقب ذلك إفلاسات أكثرها لزبائن حضرة «البانكير» السوري.
وخرج موسى من تلك الزوبعة قانعا بذهاب ثلاثة أرباع ثروته وكل أصحابه الذين صيرتهم أصحابه ثروته المرحومة، ومهنته التي جعلت له مقاما في عيونهم، وإنما سرعان ما تلاشى ذلك المقام وتحول الأصحاب إلى أضداد وذلك الشوق الكثير عندما يتلاقون ببعضهم إلى كره وبغض وحقد مما لم يكن ليمحى.
منذ أشهر غير كثيرة أحب طائفة من الناس وأكثرهم أصدقاء موسى البدل - إلا أنهم اليوم أرباب محال تجارية - أن يعقدوا اجتماعا يدعون إليه كبار القوم ليتداولوا بأمر مهم، فكتبوا أسماء عديدين من تجار وأدباء وشبان وباعة جزدان، ولما ذكرت لهم اسم موسى البدل سمعت من أفواه الكل جوابا واحدا قائلين: هذا! وما نفعه؟!
قلت: كيف وما نفعه ؟ أليس من الرجال؟ أولم يكن تاجرا كبيرا وصرافا يزدحم الناس في محله، والسعيد السعيد من كان ينال منهم حظوة في عينيه؟
فسمعت من الكل جوابا واحدا قائلين: إي نعم، كان من زمان، ولكنه اليوم لا يسوى شيئا، فقد خسر ماله وليس من يهمه أمره.
كنت كثيرا ما أسمع في أحاديث الناس ترديد المثل الأميركي «المال يتكلم»، ولم أكن أحله المحل الذي يضعه فيه بنو قومنا حتى ذلك الاجتماع؛ إذ ذاك تأكد لي أن المرء عندهم ليس بأصغريه: قلبه ولسانه، ولا بأكبريه: روحه ودماغه، بل بشيء واحد: ماله.
حي دفين
منذ ابتدأت المهاجرة السورية إلى أميركا صارت طريقها تيارا يجرف العشرات من السوريين والمئات والألوف، وقد كانت في السنين الأولى مقتصرة على المرتزقين الذين تضيق في وجوههم بلادهم، فيطلبون لأنفسهم توسعا في العالم الجديد، إلا أن التيار صار يتناول من سوريا غير هؤلاء بالأعداد الكبيرة، ويصبهم في العالم الجديد.
لم يكد حبيب الزيتوني ينهي دروسه العالية في كلية بيروت حتى سكر بخمر الهجرة؛ لأنه رأى بعين علومه أن بلاده فقيرة لا مطمع فيها ولا مطمح، أما في أميركا الغنية فميدان أوسع أمامه يستطيع فيه أن يصعد إلى ذروة الطموح الذي في نفسه.
وبالرغم من بكاء أبيه وعويل أمه كلما ذكر أمامهما أنه ذاهب إلى العالم الجديد ما كان ليعدل عن فكرته، وكم كان أبوه يستعد لإلهائه عن الأمر! فتارة كان يطمعه بالزواج، وأخرى بتحويل كل ما عنده من رزق وغيره إلى اسمه، ولكن حبيبا لم يكن ليحيد قيد شعرة عما عول عليه، وذهبت توسلات أمه أدراج الرياح.
وهكذا أم حبيب أميركا حاملا شهادته المدرسية ومبلغا من المال، ولما دخل إلى نيويورك دهش له العارفون؛ لأنه كان لابسا أحسن منهم، وزائدا عليهم بوردة من «الجمال الأميركي» تزين صدره، وكان كأنه قضى سنوات عديدة في أميركا يستطيع الذهاب من شارع إلى آخر بفضل اللغة الإنكليزية التي كان يتكلمها بزلاقة لسان كالعربية، ولم يكد يقطع بضعة أيام بين معارفه حتى جعلهم يخجلون من أنفسهم ؛ لأنه بالرغم من كونهم عتقا في أميركا لم يقدروا على إفادته شيئا من سؤالاته؛ فإنه لما طرح عليهم سؤاله: أين هو الهبدروم؟ لم يسمع جوابا من أحد إلا ظهور علائم الذهول على وجوههم، ظانين أن هذه الكلمة تعني اسم حيوان عجيب في جنينة الوحوش - كما يدعونها - ولما سألهم أيضا: إذا كان أحدهم يعرف أين المتحف العمومي؟ سمع أحدهم يقول إنه لا يعرف غير «كاسل غاردن» متحفا يجتمع فيه الناس من كل الأجناس.
بناء على هذا كله لم تطل إقامة حبيب الزيتوني بين إخوانه السوريين، وكان أنهم هم أصبحوا تعبين من تفلسفه أمامهم، وخائفين من مستقبله في هذه البلاد؛ لأنه ما كادت قدماه تطأ أرض أميركا حتى صار يسأل عن الملاهي والفرج بدلا من تفتيشه عن شغل أو صنعة تطعمه لقمته وتعود عليه بتوفير كم ريال للأيام المقبلة؛ ولهذا ترك حبيب السوريين، وطفق يدرس الحياة الأميركية؛ لأن جيبه لم يزل دافئا بالليرات التي تناولها من أبيه، ولم يجئ ختام نصف السنة الأولى حتى «نظف» صاحبنا، وعاد إلى إخوانه السوريين يسألهم: كيف يجب أن يشتغل؟ فجادوا عليه بالنصائح، مظهرين له أن أميركا تحتاج إلى سواعد مفتولة لا علوم ولا أكابرية، وبالرغم من عدم موافقته لهم على آرائهم اضطر إلى القبول؛ لأنه شعر بقرب الحاجة المالية.
وأول خطوة منه نحو العمل كانت أنه اصطحب أحد الشبان من قريته، وكان بياعا يحمل الجزدان، ويدور على الأبواب يبيع بضاعته وشغله على قدر الأحوال كان مصطلحا.
ولسوء حظه أن صديقه البياع لم «يسنس» في ذلك اليوم خلافا لعادته، فتشاءم الرفيق منه، وحسب أن فشله في ذلك اليوم مسبب عن ذهابه معه، وبالأخص لهندامه الحسن والوردة التي تشكل بها. هذا من جهة البياع، أما من جهة حبيب فهو أيضا مقت الصنعة واحتقرها، وقال في نفسه: لو كانت ثروات العالم كلها معلقة بهذه المهنة فليست ليرضى عنها؛ ولهذا أخبر صديقه بعد الشكر أنه لا يستطيع مشاركته، فألح عليه صديقه أن يبقى معه، وأنه ما همه عدم النجاح في ذلك النهار؛ لأن المستقبل لا بد يفتحها أمامهما، فما كان ليقبل معه حبيب.
ألح عليه صديقه هذا الإلحاح لما رآه راغبا عنه، ولكن في الحقيقة أزاح حبيب بتركه إياه هما ثقيلا عن صدره، إلا أنه أراد مجاملته، فألح عليه أولا، ثم قال له: إذا كنت تريد هكذا فلك خاطرك.
واضطر حبيب إلى مغادرة نيويورك لمدينة في الداخلية حيث يقيم رجل صديق والده، وكان بلغه قدوم حبيب إلى نيويورك، فكتب إليه يستقدمه للعمل في محله، وكتب إليه ثانية وثالثة، ولكن حبيبا أنف الإجابة، بادئ ذي بدء، ولكنه لما شعر بالحاجة كتب إليه معتذرا عن تأخره، وأنه ذاهب إليه في آخر الأسبوع.
تعرفت على هذا الشاب في تلك المدينة إذ كنت ممثلا لأحد مصانع الكيمونا، وكان التاجر في تلك المدينة أحد زبائني، فلما شاهدته في المحل أنست إليه، فدعوته لمناولة العشاء معي في النزل، وقضيت معه كل المساء، وفيه أفرغ لي جعبته بالشكاية من هذا الزمان وأهله، وبالأخص من التاجر الذي يشتغل له كل شيء، فهو في محله ماسك دفاتر ومدير ومشتر وبائع ومكنس و«معبي أركيلة» وناقل الخضرة إلى المنزل إلى ما هنالك، وقد أحزنني جدا قوله إنه في آخر الشهر إذ يتناول معاشه سيترك البلد إلى كندا، فلعل فيها نجاحا أكثر من الولايات المتحدة، وقد خبرني أن أهله في الوطن ليسوا بحاجة إلى شقائه في أميركا، ولكنه هاجر إليها بالرغم من إلحاحات أبويه وبكائهما؛ ولهذا لا تطاوعه نفسه أن يعود إليهما بغير ما أمله من النجاح، ولكن ذلك لا يأتيه إلا مع الأيام.
وعرفت بعد مدة أن صاحبنا غني أمواله كما يقولون، فأم كندا، وهنالك زادت بلواه؛ لأن البلاد باردة جدا وهو ذو نحافة بدنه، ولم ير ما يشبع نفسه من المطامح ولا ما يريه اللقمة الأولى من تلك المطامح.
وقد أخبرني سوري كندي صادفته في نيويورك أنه يعرف حبيبا بحالة يرثى لها، وأن آخر ما عرفه عنه أن إنسانا حركته عوامل الشفقة عليه فنقده بعض ريالات ليعود إلى مدينة ذلك التاجر في إحدى مدن الداخلية.
وقلت في نفسي: سبحان الله! كيف أن الدهر يضغط على النفس البشرية فتكسر إرادتها وتقوم إرادته!
ومضى على هذا خمس سنوات لم أعد أسمع عنه شيئا خلالها، حتى طرحتني النوى مطارحها فرمتني في بلد التاجر المذكور آنفا، وهناك دخلت محله فشاهدت حبيبا وعلى وجهه كتب السقم سفرا طويلا، إلا أنه حسن الهندام جميل الملبس، فسلمت عليه وبدلا من أن أدعوه لمناولة العشاء معي سبقني وألح علي بالذهاب معه إلى مطعم في المدينة، فقبلت معه، وفي الميعاد المعين اجتمعت به فسألته عن حاله وماذا يعمل، ورجوت منه الإفاضة عن تاريخ حياته، ففتح فاه بالكلام، وأول ما قال لي كانت هذه العبارة بعد تنهد عميق: أنا حي دفين! - عجبا! تشكو وأراك أحسن حالا مما مضى! ألعلك تشكو ألما؟ - كلا، لا أشكو شيئا، لا الألم ولا العسر ولا شيئا من ذلك، وإن ما أشكوه فقداني ثمينا كان معي يوم عرفتني في أول الأمر. - أعذرني إذا كلمتك بعدم تكليف؛ فقد رأيت منك يوم عرفتك أنك خلو من كل ثمين، فالحاجة كانت سلطانة عليك. - كنت محتاجا، ولكن نفسي كانت حية، أما اليوم فأنا غني وقد حصلت على غناي كما ترى على ضريح نفسي، فأنا حي دفين. - لقد أعدت علي هذه العبارة «حي دفين»، فماذا تعني بها؟ - اعلم أني جئت إلى أميركا بشهادتي العلمية، فلم تساعدني على دهري، فلما صرفت كل ما كان معي من مال أبي اضطررت إلى الاشتغال للناس غصبا عن نفسي التي كانت تأبى، وقد حاولت قبلها أن أعمل كما يعمل أبناء بلادي الذين يشتغلون إما بالبيع وإما بالأجرة، فلم أجد من نفسي مقدرة على العمل، ولما كان الفكر يحدثني أن أرجع إلى بيت أبي كانت النفس تنازعه حياء من والدي اللذين تركتهما ولم يريا مني ما يحقق آمالهما بعدما أنهيت علومي، بالرغم من إلحاحهما علي بالبقاء تحت عنايتهما؛ توهما مني بأن أميركا مطمح أمثالي. فخابت آمالي، ولما غالبت النفس غلبتني فلذت إلى عزتها وأنا أضمر لها انتقاما هائلا، وهكذا عدت إلى هذه المدينة إلى محلي القديم، ولكي أتخلص من التحكم والفقر سايرت صاحب المحل فتزوجت من ابنته، وقتلت نفسي، فأنا اليوم كما تراني رب محل كبير ورب بيت ذي آثاث فخيم، ولي زوجة صالحة، ولكني لم أنظر إليها نظرة حب في حياتي. تراني اليوم أتمنى أن أعود إلى حالتي القديمة يوم كانت نفسي لا تزال في قيد الحياة.
مسكين حبيب الزيتوني، إنه في الحقيقة حي دفين!
زواننا لا قمحهم
لا يكاد الشاب تطأ قدمه أرض أميركا ويبدأ العمل في ميدانها الواسع، ولا يكاد يبسم له النجاح حتى يسير مع تيار النسيان لما كان عليه مغترا بحاضره.
يدخل الشاب السوري ميدان أميركا خائفا مذعورا أمام عظمة هذه البلاد وكثرة حركتها، ثم يتدرج فيها، حتى إذا تم له الانخلاط بين مجموع العناصر تصور أنه أصبح بعيدا عن حالته القديمة.
يقول المثل العربي: «من تعلم الألف والباء بلغ أنفه السماء.» وهو مثل ينطبق تمام الانطباق على كثير من الشبان السوريين، يتعلمون الألف من مدنية أميركا فيتوهمون أنهم صاروا من أساطينها، وأنهم في ما حصلوه منها لا يشق لهم غبار، ولو أن الدعوى تقتصر منهم على هذا الوهم لما أضرت كثيرا، ولكنها تحملهم إلى إنكار أصلهم أحيانا لتوهمهم أنه معيب عند القوم الأجانب.
هذه كانت حالة الشاب رفيق المدور بعدما دخل عراك أميركا التجاري، وصار قادرا على كسب معاشه فيها. كان في بلاده يلبس العباء والمداس، وإذا اشتاق إلى المدينة لبس الطربوش، ولكنه في أميركا كان يخيط ثيابه عند أحسن الخياطين، وكان لا يخلو صندوقه من أربعة طقوم في كل سنة، كل واحد بلون وزي، وكان يلبس لكل يوم قبة وربطة وجراباته تماثل ألوانها ألوان الربطة والقميص.
في بلاده كان أصحابه لا يعرفون القراءة والكتابة، ولم يجسر في كل حياته هناك على الانفراد ببنت من البنات، ولكنه في أميركا صار أصحابه في العمل من أجمل الشبان هنداما وأحسنهم تهذيبا، وكان محبوبا من عدد من البنات الحسناوات، اللواتي كن يتحاسدن على معاشرته.
إلا أن هذا السلوك لم يكن ليسمح لرفيق أن يتقدم في ماليته؛ لأن الأصحاب والصديقات والتنزه والتفرج وما يدعونه «سبورتنس» كان ماحقا لكل ريال يفضل من معاشه بعد نفقاته الخاصة.
وكان أبوه يكثر من الرسائل إليه، طالبا من الله أن يسعده ليسعد أهله المحتاجين، ويستقطر قلبه تحننا على عائلة أبيه الكثيرة الأفراد، ويذكره أن جارهم الذي رهن البيت عنده لقاء خمسين ليرة قيمة «الناولون» له يشد على أبيه الخناق كلما رآه، وهو يخشى أن يجبره الجار في المحاكم على تحويل البيت لاسمه إذا كان لا يدفع المبلغ مع الفائدة.
كل هذا بالأيام لم يعد بمؤثر على ضمير رفيق أي تأثير كان، فكانت أجوبته إلى أبيه مقتصرة على المواعيد إلى فرص أحسن لا بد أن تصدفه حتى عيل صبر الوالد، فاضطر إلى بيع الدار والقدوم إلى أميركا مع العائلة؛ لأنه عرف أن ابنه تأمرك ونسي أصله، وعاف أهله ولم يعد يبالي بحالة ذويه، ماتوا أو عاشوا سواء عنده.
ولما عرف رفيق عزم أبيه على القدوم مع عائلته كانت رسائله الواحدة تلو الأخرى يوقفه عن هذا الأمر، مدعيا أن أحوال أميركا ليست جيدة، وقدومه إليها يجلب لهم وله التعاسة، إلا أن الحالة التي كان يعانيها الأب لم تعد محمولة عنده؛ ولهذا بالرغم من تخويفات ابنه باع الدار، فوفى ما عليه لجاره منها وأم أميركا متكلا على الله؛ لعله يستطيع أن يعوض ما خسره بجريرة ابنه البكر رفيق المذكور.
ولما رأى رفيق عناد أبيه هلع قلبه وصار حزينا لا يطيق عزاء، كأنما انقضت عليه صاعقة غير حاسب لها حسابا، ولكنه اضطر أن يستر الحال ويصبر على بلواه، وكان لا بد أن ينقطع مدة عن عشرائه وأن يبتعد إلى أمد عن طرق معاشراته؛ ضنا ببعض المال اللازم له في أول عهد قدوم أهله لما يلزمهم من نفقات بتأسيس بيت وألبسة، إلى ما هنالك.
وغني عن الشرح أن صبر رفيق فرغ من أول أسبوع لوصول أهله؛ فقد انفجر صدره عليهم انفجارات هائلة، وأسمعهم غليظ الكلام، وشكا دهره لكونه ابنا لهم وهم بحالتهم كالفلاحين، ولم يستح أن يقول أمامهم إنه يخجل أمام الغرباء عندما يعرفون أنهم أهله.
وازداد سلوك رفيق هذا سوءا عندما أعيى بإقناع والده بأن يلبس قبة مكوية وربطة، ووالدته بلبس البرنيطة والفرو؛ فإن والده صرح له أنه جاء إلى أميركا لا ليلبس مثل الأميركان بل ليشتغل، ويعوض عن خسارته ويقوم بأود صغاره، وأمه قالت له إنها قاربت سن الشيخوخة وإن صباها قد ولى، فهي لا تريد أن تشابه السيدات بهيئتها، وعليها واجبات نحو بيتها الجديد والواجب نحو بنيها وزوجها أن تقتصد.
وكان رفيق إذا صدف أحدا من أهله في الشارع يحاول إما الرجوع بطريقه أو الانتقال إلى جانب آخر؛ لئلا يمر أحد معارفه فيعرف أنه أحد هؤلاء الناس. وكان لا يتكلم مع أحد منهم إلا تحت سقف المنزل.
أما الأب، فعرف بداخله ألا أمل بابنه رفيق؛ ولهذا شمر عن ساعد الجد فدخل ميدان العمل مجتهدا، وكذلك أمه وإخوته الصغار، فالكل كانوا يعملون؛ لكي ينهضوا من عثرتهم، لا يهمهم من شئون البلاد التي حلوا فيها إلا العمل، ولما يئس رفيق من إصلاح أهله الخارجي، وضاق ذرعه بهم ودعهم إلى إحدى مدن الداخلية.
سبع سنوات مرت ورفيق بعيد عن أهله، أما أهله فكانوا قد تناسوه للهوهم بالعمل عن الافتكار به بعدما رأوا منه نفورا عنهم، وسلوكه معهم ذلك السلوك السيئ واستحياءه بهم وهم أهله ولهم عليه فضل ودين.
في هذه السنوات السبع كان أبو رفيق قد حصل على ثروة فاشترى بيتا لصغاره، وكان يأمل أن يشتري بيتا ثانيا في مطلع السنة الثامنة، وأن يفتح محلا لبيع البضائع بالجملة على أبناء بلاده حملة الجزادين، وصغاره يتعلمون في المدارس العمومية، وهو حاصر كل همه واجتهاده بجعلهم رجال المستقبل، بعيدين عن كل ما اتصف به أخوهم الأكبر.
أما رفيق؛ فقد عاش لنفسه بعيدا عن أب هيئته غير لائقة بمن كان ولده مثل حضرته، وأم تلبس أرخص مما يلبسه الغجر، وإخوة يبيعون الجرائد على قوارع الطرق كأولاد الشحاذين .
وقد شكر الله أنه بعيد عن أهله، وإلا فإن حبيبته «مالي» لا مراء تبتعد عنه ألوف الأميال إذا عرفت من أي الأهل هو. «مالي» أحبها رفيق، وتدرج به حبها إلى الهيام، وقد تعرف بها بالصدفة فحاكاها وحاكته، وشاهدها مرة أخرى في الشارع فرفع لها قبعته، وهي حيته، ثم اجتمع بها فهز يده بيدها وأخذ منها عنوانها، ثم دعاها إلى مناولة غداء معه، فصار يكتب إليها رسائل غرام حتى صارت له حبيبة يهدي إليها الهدايا، ويدعوها مرة في الأسبوع إلى التفرج على الصور المتحركة أو الملاعب التمثيلية.
كل هذا ورفيق يلح على حبيبته أن تتزوج به، وهي تأبى قائلة إنها لا ترضى إلا بما يرضي أباها، وإن أباها إذا عرف أنها تحب أجنبيا يقتلها لا محالة، وقد سألها مرة أن تسمح له بالذهاب إلى بيتها ليسأل يدها من أبيها فمنعته، وأخافته بأنه قد يغضب أبوها عليه وعليها وتكون العاقبة سيئة. ولما دعاها إلى الهرب معه زجرته، وكادت تغضب عليه لولا أنه راضاها وسحب كلامه معتذرا، إذ ذاك صرحت له مالي أنها وإن تكن تحبه فوالدها كل شيء عندها ورضاه غايتها. ومهما يكن الأمر فخاطره الأول والآخر، وأن الفتاة التي تهرب مع الشاب ليست ببنت أصل؛ فإن الشرفاء لا يأتون بمثل هذا.
وظن رفيق أن حبيبته من كبار القوم؛ ولهذا لا تحب أن تعمل إلا بإرادة أهلها، وتذكر حالة أهله مقابلا إياها بحالة أهلها كما يتصورهم، فعظم عليه الأمر وهاله، وأكد جيدا أنه إذا عرفت مالي أهله لا بد أن تبتعد عنه، وتندم على حبه.
وازداد هيامه بها حتى لم يعد بقادر على احتماله، وغالب فكره بالذهاب سرا إلى والدها لعله يستطيع إقناعه فيرضى عن زواجه بمالي وينتهي الأمر. وأخيرا قال: «لنضرب هذه الطينة بالحائط.» وحملته قدماه في ذات ليلة إلى منزل حبيبته لأول مرة، وكان في طريقه خافق القلب، ظانا أنه ذاهب إلى سراي أحد الأمراء أو الملوك، إلا أنه شد ما كان عجبه عندما مشى طويلا وقضى نحو ساعة يسأل المارين والبوليس عن الشارع الذي يسكن فيه ذوو مالي، ولما اهتدى ووصل إلى الرقم الذي يطلبه رأى هناك بيتا كذب ظنونه، فأعاد قراءة الرقم مرارا، ظانا أنه غلطان، ولما قرر الأمر دخل وقد بدأ يشمئز، فدق الباب فخرجت إليه امرأة عجوز بهيئة مخيفة تتوكأ على عصاها، فسألها عن المستر فرتس والد مالي، فقالت له: إنه لم يعد بعد من عمله ولا يعود إلا بعد منتصف الليل، ولكنها أدخلته لتعلم من هو، وماذا يريد.
فدخل إلى غرفة ليس فيها إلا سحارة عند الباب، وفي صدرها طاولة خشبية لها أربع قوائم عليها صحون وسخة، وبإحدى القراني وجاق للطبخ، وفي داخلها سرير عليه فراش مغطى بالوسخ. - من حضرتك يا مستر؟ - أنا رفيق مدور، وقد جئت لأرى المستر فرتس بأمر. - المستر فرتس لا تقدر أن تراه هذا المساء، فإذا شئت أن تقول لي حاجتك فلا بأس، فأنا مسس فرتس. - أأنت مسس فرتس والدة مالي؟ - نعم، أوأنت الشاب الذي يريد ابنتنا؟ - ما جئت لأتكلم بهذا، ولكني أحببت أن أتعرف عليكم.
وما أنهى رفيق هذه العبارة حتى دخلت مالي، ولما وقع بصرها على بصره رقص قلبها، وكاد يثب من مكانه، ولكنها هدأته بالقوة التي يستجمعها المحتار في ساعة مثل الساعة التي وجدت فيها، ولكن وجهها تلبس بالاصفرار وشفتيها تغطتا بالبياض وعينيها تضرمتا بالدم، أما هو فوقف لها ولم تكن حالته بأحسن من حالتها إلا أنه ود أن يختم مهمته بالتي هي أحسن، فقال لها إنه اضطر أن يزور منزل أهلها لأنه ذاهب إلى نيويورك في تلك الليلة؛ إذ بلغه أن أباه حرمه من الميراث وتخلى عنه، ولهذا جاء ليودعها إلى أن يعود.
وخرج رفيق من ذلك المنزل ويده على أنفه، وأخرى تشقل طرفي بنطلونه لئلا يصل إليه الوحل الكثير، وهو يقمز قمزا حتى وصل إلى الشارع العريض، فتابع سيره إلى حيث تنفس الصعداء.
وحقيقة الحال أنه صدق بذهابه إلى نيويورك في تلك الليلة، وهذا كل ما صدق به من كلامه إلى التي كانت حبيبته قبل تلك الساعة، وقد تذكر قصة الابن الشاطر التي أوردها المسيح في الإنجيل، فوطن النية على أن يعود إلى حضن أبيه وأمه.
ولما عاد رفيق إلى بيت أهله احتفل به ذووه، ولما سألته أمه رأيه بالزواج وإذا كان يؤثر الأميركية على السورية قال لها: «يا أمي، مثلنا يقول: زوان بلادك ولا قمح الغريب. وأنا إذا أردت الزواج فيجب أن يكون رأيك بالعروس قبل رأيي، ويجب أن أتأكد أولا أنها تعبي أركيلتك قبلما تجلس بجانبي.»
ذو اللحية الطويلة
أميركا أوقيانوس عظيم، قليل هو المعروف منه، وما هو مجهول عن عالمه أكثر بكثير من الظاهر المعلوم، وهكذا هذه البلاد؛ فإن فيها من الأسرار في الحياة ما يعيي الفكر عن العد والحصر.
كثيرا ما يعجب المرء بحياة بعض الناس، فيقول في نفسه: عجبا والله! كيف يعيش هذا وذاك وذلك، وهم لم يأتوا عملا في حياتهم؟
ومع أن أميركا بلاد المادة، والمادة لا تأتي إلا بالعمل، العمل الحقيقي في ميدان واسع يتسابق فيه الخلائق تعدو عدوا؛ فإن تعب أحدهم سقط على الطريق، فداسه القوم في مسيرهم، وراح كأنه ما كان، وبالرغم من أن أميركا بلاد الجد والكدح لا تخلو من قوم عائشين كغيرهم لم تعمل أيديهم عملا، ولم تعرق جباههم يوما، ولم تتحرك أقدامهم في ذلك الميدان العملي ولا خطوة.
هؤلاء عائشون بين الخلائق المتزاحمة المتسابقة في الزحام وراء تنازع البقاء ووجودهم بينها هو من العجب بمكان.
كنت أتعجب مع المتعجبين في كيف يعيش مخائيل فلفل، ذلك الشاب الذي يلبس أفخر اللباس، ويتناول طعامه في أجمل النزل والمطاعم، ويصرف المال كأنه مرتكن على «بنك أوتومان»، أو كأنه ابن روكفلر أو مورغن أو استور! ومن أين يأتيه المعاش؟ لا أحد يعلم. وكيف يتمكن من البذخ والتبذير، وهو «شمام هواء قطاف ورد» في كل أيام حياته؟ لا أحد يعلم. مع أن الكثيرين يشتغلون الليل والنهار يعملون في اليقظة ويهدسون في الأحلام بالنجاح، ولا يحصلون على أود حياتهم إلا بالغصب.
مخائيل فلفل أعجوبة، ويوجد كثيرون أمثاله، لا أحد يعلم كيف استطاعوا أن يعيشوا كسالى في وسط لا تأتي اللقمة للمرء فيه إلا بالجد، مغموسة بدم القلب وعرق الجبين.
لما دخل مخائيل فلفل أرض أميركا لم يكن ذا ثروة ليعيش ترفا دون عمل، بل كان كغيره من المهاجرين الذين يصلون أميركا ومعهم زاد يوم واحد، ولكنه كان ذا ثروة طبيعية، وهي القوة على الاستنباط والإبداع بالحيل.
عرف منذ حل أرض أميركا أن الشاب مثله لا يستطيع أن يفتح تجارة تدر عليه الأرباح الكثيرة؛ لأنه خلو من رأس المال، أما إذا شاء أن يصعد إلى مصاف التجار عن طريق الاشتغال بالأجرة أو البيع أو ما شاكل فأمامه سنون عديدة متعبة بالاقتصاد والثبات؛ ولهذا ابتعد عن الأشغال التي يتعاطاها إخوانه السوريون؛ ففي كل صيف كان يلزم معرضا من المعارض، يستأجر فيه خيمة على مدخلها قائمة كبيرة، مكتوب فيها هذه العبارة: «منجم شرقي يخبرك عن ماضيك وحاضرك ومستقبلك.»
وفي داخلها كان حضرته يجلس وعلى رأسه عمامة، مقرفصا تحت العباءة البدوية يدخن النارجيلة، وإلى جانبه شاب أميركي لا يعرف كلمة من العربية ينقل إلى الزبائن كلمات «علي بابا» المنجم إلى الإنكليزية.
وعلي بابا أو مخائيل فلفل يعرف من الإنكليزية بقدر ما يعرف ذلك الشاب الأميركي من العربية، ولكنهما ماهران بالترجمة بما يرضي الزبون، ويعجبه ويدهشه، وما يفيد جيوبهما بالدولارات التي تأتيهما عفوا دون تعب ولا عناء.
مرة وأنا في شارع برودواي شعرت بيد نزلت على كتفي، فأوقفتني وألفتتني لأرى من الموقف، فإذا أنا أمام رجل ذي لحية كبيرة، متسربل بالفرو الغنامي وعلى رأسه برنيطة حريرية عالية، وقد وقعت عيني على عينه فابتسم لنظرتي، وذهلت لرؤيته وأعملت فكرتي نحو دقيقتين لأعرف هويته، حتى جاءتني الذاكرة بمن هو، فصحت به: ومتى التحيت يا مايك؟ - عرفتني والله، ولكنك لم تعرف اسمي الجديد، احزر! - اسمك الجديد! أولك اسم جديد؟! - أولم تسمع في طول البلاد وعرضها باسم علي بابا؟ فأنا هو. - أأنت هو المنجم المشهور؟ - أنا هو. - الله! لقد كشفت لي عما بقيت أبحث عنه سنوات، وهو كيف تعيش وماذا تعمل؟
وأخذني صاحبي بالكار إلى كوني آيلند، فأدخلني إلى مرصده وعرفني على ترجمانه وأجلسني، وقال: اقعد هنا وانظر كيف يعيش صاحبك؟ وبأي مقام بين علية القوم؟ وكيف تأتيه زرافات الريالات صاغرة؟
فجلست عنده والدهشة تستولي علي وأنا أراقب كل حركة من حركاته، وفيما أنا على هذه الحال إذ تكلم الترجمان من داخل الستار قائلا: علي بابا! علي بابا!
فعض لي على شفتيه، مشيرا إلي أن أهمد بمكاني، أما هو فوضع العمامة على رأسه، وتسربل بالعباءة مقرفصا، ثم تناول النرييج وأخذ يشرق دخان النارجيلة.
وكأن صوت النارجيلة علامة للترجمان أن يدخل الزبون؛ فقد تم الاستعداد لقبوله أمام عظمة المشرح أسرار الناس والقابض على أزمة مجاهيل الطبيعة.
دخلت سيدة إلى حضرة علي بابا ودليلها الترجمان، الذي قال لها أن تركع أمام سماحة المنجم الأعظم. وركعت السيدة وإلى جانبها الترجمان، ولما استعد علي بابا للعمل انقطع لحظة عن التدخين، وأنا أتطلع إليه بشوق زائد، أدرس كل حركة من حركات وجهه ويديه ورجليه متربصا تحرك شفتيه بالأسرار عن ماضي تلك السيدة المشتاقة لمعرفة مستقبلها، وما عساه يجري عليها، متأكدة ذلك بما تسمعه من أسرار ماضيها.
وهم الترجمان لالتقاط الأسرار من فم كاشفها علي بابا، الذي فتح فاه بالكلام باللغة العربية قائلا: «قل لهذه العاهرة أن البودرة على خديها كادت تذوب تحت عرقها المتصبب من جبينها.»
وما كادت هذه الكلمات تخرج من فمه، والترجمان يستعد لنقلها إلى السيدة باللغة الإنكليزية، بل لا لينقلها، أستغفر الله فكلامه لا ينقل، بل ليحوك من مهارته عبارات ملؤها الحيل والخلط، حتى رأيت السيدة قد نهضت واقفة على إصبعها تكاد تولول وهي تصب الدعاء على المنجم.
شعرت في تلك اللحظة أن العاصفة قادمة على الخيمة، وعلى كل من فيها، ولكن شد ما كان عجبي عندما رأيت صاحبنا المنجم رابط الجأش، كأنه ما قال شيئا يريد إلحاق الجرم بالسيدة؛ لأن الحق عليها.
وسمعته يكلمه بلغتها العربية قائلا: ألا ترين أني عرفتك سورية؛ ولهذا أسمعتك ما لا ترغبينه من الكلام جوابا على ازدرائك بنا نحن المتعيشين على الأميركان.
وخرجت تلك السيدة من الخيمة وصاحبي المنجم وترجمانه يضحكان، وقد قال لي إن تلك كانت المرة الأولى التي حدثت له مع سورية، وإن القدر ساقني لأشاهد تلك المأساة بعيني.
وخرج الترجمان إلى خارج الستار ليرمي شباكه على السوق، فيصطاد بالبوق بعض المارين الذين تهزهم الأوهام، ويوقعهم الاعتقاد بالخرافات في شباك الصيادين المتعيشين. وما كدت أهدئ روعي لأستأنف الحديث مع صاحبي النبي علي بابا حتى سمعت الترجمان يرجف صوته بخشوع قائلا كلمات الدلالة على أن الشبكة قد جاءت بصيدة: علي بابا! علي بابا!
فشرق علي بابا بالنارجيلة شرقة طويلة، وإذ ذاك دخل الوسيط بسيدة كهلة ذات عينين زرقاوين ووجه بائخ، فأركعها الترجمان الوسيط عند قدمي النبي علي بابا، الذي انقطع عن التدخين هنيهة إذ أعاد الترجمان كلامه قائلا: علي بابا! علي بابا!
وكأني بهذا الوسيط لا يعرف غير هاتين الكلمتين من العربية، يلفظهما بلهجة غريبة هكذا: «ألي بابا! ألي بابا!» وهو يستعملهما بسؤاله عن كل أمر يريد طرحه على النبي الذي يتمتم كلمات بلغته العربية جوابا لاستعلامات وسيطه، فيؤلف ذاك على ذوقه باللغة الإنكليزية ما يناسب الحال.
وسمعت علي بابا هذه المرة يقول، وقد استفاد مما سبق حدوثه: «قل يا رب، يسر ولا تعسر، يا رزاق يا عليم بالحال!»
وكنت مصغيا بكل مسامعي للجواب الذي كان على الوسيط أن يقدمه على سؤال السيدة عن ماضيها، فلما أخذ الجواب من نبيه قال لها إنها متزوجة شابا أحبته. ولم يكد ينهي عبارته حتى رأيت السيدة قد انتصبت غاضبة تصيح: كذب! كذب!
وللحال انتصب علي بابا وقد عرف أن ترجمانه قال شيئا لم يرض الزبونة، فأخذ يصب جامات غضبه على الترجمان، ويتهدده تارة بالضرب والرفس، وتارة بالبصاق عليه، وهو راكع أمامه يرتجف ارتجافا كأنه صب عليه ماء بارد. ولما انتهى تمثيل الدور، ورأت السيدة أن الغلط لم يكن من النبي ذي العصمة بل من وسيطه الذي بعدما صبر على ما ناله من سيده أخذ يتضرع إلى السيدة ويسترحمها قائلا إنه غلط بنقله من فم النبي؛ فإنها غير متزوجة البتة وإن سيده قد طرده لارتكابه هذا الجرم.
فرق قلب تلك السيدة وعادت فركعت بجانب الوسيط أمام علي بابا ترجو منه العفو عن ذلك المسكين، وقد كادت دموعها تنهمل من مآقيها.
كل هذا وصاحبنا علي بابا يرغي ويزبد، ويتطلع إلى ترجمانه تطلعا وحشيا، كأنه يريد افتراسه.
ولما رأت السيدة أنها كانت السبب لكل هذا الجاري مدت يدها إلى جيبها فأخرجت من كيسها ثلاث ورقات مالية، كل واحدة بعشرة ريالات، وقدمتها إلى المنجم مسترحمة إياه بقبولها ليعفو عن ذلك المسكين.
فالتفت الوسيط إليها، يقبل أذيالها شاكرا جميلها وشيعها إلى الباب، وهو يزيدها أحمالا من الحمد والثناء.
وعاد الترجمان إلى داخل، ولما وقعت عينه على عين علي بابا انفجر الاثنان بالضحك، أما أنا فوقفت على قدمي هاما بالانصراف، وإذا بصاحبي علي بابا قد وقف ماسكا بي وقائلا: مهلا يا صديق! - أخاف أن أرى حادثة ثالثة تذهب بصبري، ولكني أشكر الصدف؛ فقد دلتني على مورد كسبك، وقد كنت أجهله وأعجب لحياتك. - أرأيت مثل متجرنا؛ أرباح بأرباح دون رأس مال؟ - لا، لم أر متجرا كمتجرك كل رأس ماله لحية طويلة.
ابن العصر
هكذا يدعوه الناس الذين حواليه؛ لأنه شاب يشتغل لا لمطمح له في حياته ولا ليعيل أهله في الوطن، بل ليكسب قليلا من المال ينفقه على اللباس والزينة والتخطر في الشوارع كالعروس في حجلتها.
فؤاد برزق - وإن شئت سمه بما سمى نفسه بين الأميركان فرنك براين - غريب بأطواره، وأغرب وأعجب ما فيه مظهره بين الناس؛ فإنه يصرف أوقاته كلها بالاعتناء بلبسه؛ ولهذا دعاه السوريون ب «أب تو ديت»، أي برجل آخر ساعة، لا بعمله ولا بنفعه بل بلبسه.
والناس كانوا يحسبونه آية من الآيات في الهندام، وهم يخطئون بهذا الحسبان غالبا؛ لأن مراعاة الهندام لا تتطلب صرف الوقت الثمين ولا تستنزف دراهمه، أما فؤاد برزق فشاب كل همه في هذه الحياة أن يشتري ويلبس، وأن يحافظ جيدا على طيات سترته وكيات بنطلونه ، وأن يعقد الربطة أمام المرآة، ويصرف على هذا العمل نحو ساعة حتى يعقدها بالضبط الكلي، وتجيء كأنها مسكوبة سكبا بقالب.
ومن كان همه كفؤاد برزق على نفسه ومظهره الخارجي بين الناس لا يهمه العمل كثيرا، وهو في حقيقة الحال لولا حاجته إلى المال للمحافظة على كسمه لما عملت يداه عملا؛ ولهذا كان دائما كثير الثياب قليل المال.
كان يحب أن يظهر بزي آخر ساعة، ولكنه ما كان يتمكن من ذلك؛ لأن حالته لم تسمح له كل وقت بما كان يأمله، فكان يكثر الترداد على محال الألبسة، فإذا رأى ربطة جميلة دفع ثمنها غير مبال بغلائها لأنه أحبها؛ ولهذا فثلاثة ريالات ثمنها ليست بكثيرة على لونها الفستقي المماثل لون جراباته، وفيما يكون ذاهبا إلى بيته يمر بمحل القمصان، فتحدثه النفس أنه بحاجة إلى قميص، فيدخل إلى المحل ويقلب القمصان العديدة، ولما كان يضرب يده على جيبه لا يرى فيها غير خمسة وسبعين سنتا، فيبقي معه أجرة الكار، ويشتري قميصا بالسبعين سنتا الباقية. وعندما تبدأ شريطة برنيطته بالتزفيت كان يذخر ريالا بعد ريال ليشتري أخرى بعشرة ريالات، وفي ذلك الحين كان يلاحظ أنه أصبح بحاجة إلى كندرة، فكان يمد يده إلى جيبه فلا يرى فيها غير ريالين، فيضطر أن يشتري كندرة بريالين.
هذا هو «الأب تو ديت» عند السوريين، رجل الساعة، رجل الدقيقة الحاضرة، وكم وكم بينهم من شبان يقتلون وقتهم ويعدمون حياتهم بالاعتناء بمثل هذا فلا يفلحون ولا ينفعون.
وكان فؤاد برزق يظهر أمام مواطنيه عدم المبالاة بهم، وأنه يؤثر الاندغام بالقوم الأميركان، ولكنه يقول هذا قولا ولا يفعله؛ فإن الأميركان لا يحفلون كثيرا بمثله، ولكن السوريين يحسبونه شيئا ويغترون بهندامه، وهم بدورهم يأسفون لحاله؛ لأنه كان ينفق كل ريال على لبسه ولا يذخر لأيامه السود ما يقيه ضرورة الاحتياج إلى السوى.
في المرقص تعرف حضرته على فتاة أجنبية فصار خدينها، وقد طار في الفضاء الأعلى بمعاشرتها، وكثيرا ما كان يأتي إلى المطاعم السورية ويده بيدها؛ ليباهي بها بين رفاقه.
وقد قضى ثلاث سنوات مع تلك الفتاة التي اضطرته معاشرته لها إلى الاشتغال الكثير والاجتهاد ليحصل أكثر مما كان يحصله؛ فقد صار عليه أن يقدم لها الهدايا وأن يقوم بما توجبه محبته لها من الذهاب إلى المسارح والقهاوي والملاهي والمطاعم الفخمة حتى تعلق بها، وصار يأمل أن ترضى به زوجا. أما هي، فكانت تعلله بالآمال؛ ولهذا أخذ يكد ويقتصد ما أمكنه ويذخر بعض المال في بنك الحكومة، وما هي إلا أشهر حتى توفر له في ذلك المصرف نحو ثمانمائة ريال، ولما سأل حبيبته أن تكون خطيبته الرسمية طلبت إليه أن يشتري لها خاتما ثمينا، ولم تكد تزفر شفتيها بهذا الكلام حتى طار قلبه فرحا، فأخذها في الحال إلى محل المجوهرات، وابتاع لها خاتما بثمانمائة ريال، وهو مبلغ كل ما كان معه في البنك.
وقد فرحت حبيبة فؤاد فرحا لا مزيد عليه، ولما وصلت معه إلى بيتها وأراد أن يودعها أوقفته وسألت أمها بدلال أمامه أن تأذن لها بأن تقبله، فأذنت لها، وقبلته قبلة واحدة، وسار في طريقه يمشي على الأرض مرحا وعقله يلاعب ملائكة الأعالي، وقد حلم في نومه مرات، ورأى حبيبته تقبله وتضمه إلى صدرها، فكان ينهض كل مرة من فراشه باسما، ثم يعود إلى نومه لئلا يضيع وقتا من المنام الطيب السياحات مع تلك التي فتنت لبه وسلبت عقله. ولم يصبح الصباح حتى نهض من نومه وكله فرح وغبطة، وكانت ساعات ذلك النهار أطول من أعوام في دائرة عمله؛ فإنه كان يعمل في محل شغله كالمأخوذ، ولا مراء؛ فإنه كان في ذلك النهار يشتغل متكلفا وعقله سابح في الفضاء ويناجي حبيبته ويخاطبها، فلما يصحو بنداء أحد زملائه كان يستأنف عمله، وإنما بكلفة وعناء.
ولما جاء ختام ذلك النهار ذهب ليتناول عشاءه، ثم قصد الحلاق فتزين كما يجب، وما دقت الساعة الثامنة حتى كان عند باب المنزل الذي تقطن فيه حبيبته مع أمها.
دق الجرس ودقه ودقه ولا مجيب على خلاف العادة، مع أنه على ميعاد مع حبيبته لقضاء السهرة في منزلها. وما كان يستطيع أن يحوك في عقله عذرا لعدم انتظار حبيبته له إلا إذا كان هنالك من سبب كبير، ومع ذلك لم يكن يستطيع أن يتوصل بعقله لسبب كبير يمنعها من البقاء في منزلها لاستقباله حسب الموعد، ولا سيما أنه تركها في الليلة السالفة طائرة فرحا بخاتمه الماسي، وقد قبلته لأول مرة بعد حب ثلاث سنوات، وبإذن أمها.
تردد أكثر من نصف ساعة أمام الباب في هل يعود من حيث أتى، ولكن كيف يمكنه أن ينام تلك الليلة ولم ينل وطره بمشاهدة حبيبته. وأعاد الكرة على الجرس فكان يدقه دقات طويلة، وبعد وقت طويل خرج إليه أحد الجيران في الطابق المحاذي لمنزل حبيبته، فسأله من يريد؟ ولماذا يكثر قرع الجرس؟ ولما أخبره أنه يريد زيارة آل حبيبته، أجابه الجار بأنهم نقلوا بيتهم منذ الصباح، وأنه ساعد أم الفتاة بيده في قضاء بعض الحاجات، لأن عربة النقل جاءت في حين أن أهل البيت لم يكملوا استعدادهم، ولما أراد السائق أن يعود معتذرا بأنه لا يستطيع الانتظار وإضاعة الوقت كانت السيدة تقبض على ساعده وترجو منه بتمليق كثير أن يصبر؛ ولهذا مع أنه جار لها غريب لم يكلمها في حياته ولا رأى لها وجها قبل اليوم؛ فقد طلبت إليه أن يمد يده إليها بمساعدة فساعدها.
ذهل فؤاد ذهولا لا مزيد عليه من هذا الأمر، ولما سأل المخبر إذا كان يعلم إلى أين نقلت تلك العائلة، أجابه نفيا، ولما أكثر عليه الأسئلة، منها: إذا كان يعرف السائق، أو محل عربات النقل، وإذا كان يعرف أحدا يعرف عنهم شيئا، أجابه بلا، وسكر الباب، وعاد إلى بيته.
بقي فؤاد تلك الليلة كلها يسأل البوليس، وكل من كان يراه في طريقه فلم يستهد إلى أحد يدله على منزل حبيبته الجديد.
وقد ظل طيلة أسابيع يحاول أن يعرف هذا الأمر فلم ينجح حتى قطع أمله من النجاح، وقرر في عقله أن الخاتم كان أصل هذه العلة.
بعد هذه الحادثة صار فؤاد لا يأبه بالبنات الأجنبيات ، وعندما كان يجلس في محضر كان يصب من فيه حمما على خيانة بنات الجنس الغريب، فكان يدعم قوله بالبراهين الواقعية بأنهن يصاحبن الشاب من أجل ماله، وأنهن لا يعرفن معنى للحب. ولما تناظر مع سامع مهذب رد عليه بأن أميركا مخلط للأمم العديدة، وأن السوري لا يتعرف بالقوم الكبار إلا نادرا، فإذا عاشر بنتا فإنه يكون قد علق بها في مرقص أم في مكان بالصدفة، اقتنع بكلامه وزاد على قوله بأنه هو نفسه وقع بمثل هذا، وأن قبلة بعد ثلاث سنوات كلفته آخر الدفعات ثمانمائة ريال.
خنفشار في أميركا
البواخر التي تقطع الأتلانتيك أنابيب تصب الخلائق من العالم القديم المكتظ بالبشر إلى العالم الجديد المفتوح لأجيال ليتنفس فيه الأنام بملء رئاتهم في فضاء واسع يكتنف الملايين من القادمين.
هذه الأنابيب تروح وتجيء بين شواطئ أميركا وشواطئ أوروبا، ناقلة على متونها ألوف العمال والطالبين العمل في ميدان الأعمال: أميركا.
يصل المهاجر إلى أميركا فيصمت صمتة الذهول في عظمة هذه البلاد، ويعقد لسانه شغل فكره وجنانه بالتأمل بما وصلت إليه فكرة الإنسان المتمدن في فنه وصناعته وعلمه، يتأمل مثلا في ناطحات السحاب فيعد طبقاتها واحدة واحدة، فإذا وصل إلى رقم الخمسين بعد أن تكون عروق رقبته تكاد تتصلب يهز رأسه عجبا، ويتابع مسيره ملتفتا خطوة فأخرى ليملأ ناظريه بمدهشات البناء.
يأخذه أحد معارفه من نيويورك إلى بروكلن بقطار النفق، وعندما يصل به إلى منتصف الطريق يخبره بأن القطار سائر بهما تحت لجات البحر، فيثب قلبه وجلا ودهشة، وتتفرع أفكاره إلى فروع لا تلتئم، وهو خاشع أمام العظمة البشرية التي خولته الظروف أن يدخل إلى قلبها.
يقف فيه أحد أصدقائه عند مفرق الطرق فيرى أمامه إلى مدى بعيد خطوط السيارات تتحرك شمالا ويمينا وغربا وشرقا كأنها فيالق لا أول لها ولا آخر، وألوف العابرين من هذا الجانب إلى ذاك والقاطعين من هذا إلى ذاك بكل نظام وانتباه، فيخيل له أنه في جنة من جنات الله.
كل هذا والمهاجر القريب العهد بوصوله إلى أميركا يبقى مدهوشا يتكلم فكره وقلبه بعجائب الاختراع، وأما لسانه فيبقى جامدا لا يستطيع أن يتحرك. وما عسى المهاجر الضعيف أن ينطق فمه أمام ما يشاهده بأم العين من عظمة العالم الجديد وضخامته؟
ولكن هذه العقلة لا تطول، وذلك المهاجر الصامت بالأمس يصاب برد فعل، فينقلب إلى متكلم كثير الكلام؛ لأن زمن الذهول قد مر وجاء زمن أصبح فيه المهاجر يتطلع إلى مرامي العظمة كأنه راء أمام عينيه التنور عند مدخل داره في القرية، أو كأنه إذا تطلع إلى بناية وولورث ذات الطباق الثمانية والخمسين يشاهد كوخه في الكرم المؤلف من أربع قوائم شجرية بحيطان من قش. وإذا ركب قطار النفق تحت البحر لا يأخذه العجب كالأول كأنما هو راكب حماره تشارك رجلاه قوائم ذلك الحمار بالسحب على وجه الأرض.
أخبرني صديق أن أخاه ظل أسبوعا لا يحير كلاما، وقد خاف أن يكون قد أصيب ببكمة بادئ ذي بدء، ولكنه ما انتهى الأسبوع حتى صار ذلك الأخرس خطيبا من الطبقة الأولى، إذا جلس في حضرة كائن من كان يتناول الحديث من الألف إلى الياء، فيخلط عباسا على دباس، وإذا نهاه ناه لا يبالي به ولا بنهيه، فهو الضليع في كل فن وعلم وعمل بعد أن كان يمشي على سطح الصبويي فيتأمل كيف جعلوه من قطع زجاج، وقد صار كل صعب عنده من أهون الأمور، وله على ذلك تعاليل، هو ناسج بردها وحده لا شريك له. من ذلك أنه مرة كان جمهور في سهرة موضوعهم جسر بروكلن عندما كانت بلدية نيويورك مهتمة بمد جسر مانهتن، أما هو فتناول الموضوع، وعبثا كان يغمزه أخوه أن يختصر الحديث، وأن يعطي فرصة لغيره بالكلام، بل تابع تعاليله حتى انتهت السهرة. وقد أبان للقوم ألا حاجة إلى العجب في بناء الجسور العظيمة؛ فإن أمرها بسيط جدا؛ لأن الأساس يبنى على الفلين، إذ توضع صفائحه على وجه الماء، ويبنى فوقها فترسب رويدا رويدا حتى تصل القعر.
قال محدثي: ولا أعلم من أين جاء أخوه بمثل ذلك التعليل ، ولكن بالرغم من أنه يجهل حتى القراءة والكتابة يتجرأ على الخوض في جسام الأمور فيهون عنده جسر بروكلن ومانهتن وغيرهما.
عرفت سعد قمر في إحدى مدائن هذه الولايات، وهو كهل عتيق هاجر إلى أميركا عن طريق مصر، فمال لسانه إلى لغة الفراعنة، وظل في أميركا عشرين سنة، وهو يتكلم بلغة محمد عبده وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم.
وسعد قمر عانس لا يعرف الألف من الباء، ولكنه ذو لسان ذي حركة دائمة، لا توقفه إلا المنية، ولا أدري إذا كانت المنية قد أوقفته؛ فقد مات ووضع في قبره وحجبته عني ظلمات الأبدية؛ ولهذا لا أجزم بالأمر.
كان المرحوم إذا رأى حلقة مهما يكن نوعها ومن أي الناس كان أعضاؤها يجلس إلى ناحية قريبة، فيعطي أذنه أولا إلى حديثهم حتى يتمكن من جذب طرف من حديثهم إليه فيستلمه، ويبدأ ولا ينتهي حتى ينتهي الاجتماع ويتفرق الأحباب. وقد صار معروفا في التدخل بكل موضوع؛ فهو الطبيب، وهو الفيلسوف، وهو التاجر، وهو كل شيء بحديثه، ولكنه لا يدرك من هو في عالم الوجود، ومات ولا يعلم من أين، وإلى أين، ولماذا وجد على سطح الغبراء.
والمرحوم سعد كان يحب أميركا؛ لأنها، كما سمعته مرة يقول، تفتح قلب الأعمى؛ ففي بلادنا الأفندي والبك والمطران والخوري والأستاذ لا يعطون دورا لمثله بالكلام، وأما هنا في أميركا فكل إنسان حر بما يشاء أن يتكلم.
وكان القوم في تلك المدينة قد عرفوا طبيعة المرحوم سعد، فاستأنسوا بأحاديثه، وصاروا يرون بها تسلية ولذة بما يعلل به، ويبرهن ويسند إليه بصور مضحكة؛ «فيقرقون» عليه ويحمسونه حتى يغتاظ، وعند هذا تبدأ تسليتهم.
جمعتني الصدفة مرة في حلقة من هذا النوع في ذلك البلد، ولما شاهده أحدهم قادما من بعيد صاح بنا قائلا: ها هو سعد قادم، فافتحوا موضوعا ليستلمه، ويبسطنا قليلا من الوقت.
وكان الجميع يدخنون السكاير، فقال أحدهم: إن الذي اكتشف الدخان هو أميركي؛ فإن أميركا أم الدخان. «وعندها دخل سعد فحيى وجلس، وقد سمع آخر جملة من المتكلم: أميركا أم الدخان.»
وبعد أن حيى وجلس قال: بماذا تتحدثون؟ أتتكلمون عن الدخان؟ الدخان مثل البخار يصعد من الماء إذا وضع فوق النار.
فأجابه ذلك الذي قال العبارة: لا لا. نحن لسنا بموضوع أصل الدخان، فاكفنا شر فلسفتك، ولكنا اختلفنا على كون الدخان الذي ندخنه من السكاير، أو بعبارة أخرى السكاير نفسها أو التبغ اكتشفه أميركاني، فما رأيك؟
فأجاب: الدخان! الدخان عربي اكتشفه ملك العرب منذ ألوف الأجيال. (وكان صاحبنا المرحوم يرى في إعلانات السكاير صور أعراب وأتراك، وقد علق برأسه أن البدو يكثرون من التدخين، وأن الأركيلة عربية محضة، فلهذا حفر في دماغه أن الدخان عربي على الإطلاق.)
لا حاجة إلى إعادة قصة الخنفشار الشهيرة، وما كان لذلك المدعي معرفة كل شيء؛ فإنها معروفة لدى القاصي والداني، وقد ذكرتها لأن قصتها مشابهة قصة هذا المرحوم بل الله ثراه.
اعتاد المرحوم أن يسند تعاليله إلى براهين وتواريخ توحى إليه في اللحظة؛ ولهذا عكف على كلامه بقوله: كان لذلك الملك ابنة وحيدة يحبها حتى العبادة، ولا يرضى أن يبيع شعرة من شعر رأسها بكل ممالك العالم، فذات يوم دخل على غرفتها فوجدها دائخة والدخان يخرج من فمها، فصاح باسمها واسمها ... الله يلعن الشيطان كان اسمها على رأس لساني، اسمها ... اسمها ... اسمعوا حتى أتذكر، اسمها ... اسمها ...
ولا أعلم لماذا دقر عن هذا الاسم، مع أنه يستطيع أن يفبرك مجلدات، ولكن لكي يكون للحادثة وجه من المجون عندنا ألهمه الله أن يدقر حتى يكتشف اسمها.
وانتظرنا بفارغ صبر أن نحصل على اسمها ليمشي في قصته لنرى إلى أين يوصلنا حتى مضى نحو نصف ساعة، وهو يفرك جبينه، ويلعن الشيطان كيف أنه نسي اسمها، وقد كان على رأس لسانه، ولم يبلعه أو يبصقه، ولا هو موجود في مكانه، وكيف طار، لا أحد يعلم.
أخيرا، وأنا كلي شوق إلى استماع الحادثة، حدثتني نفسي أن أقذف كلمة باسم لعله يأخذها ويريحنا من حزره وانتظارنا، فقلت له: اسمها يا عم دخانة.
فأبرقت أسرته أيما إبراق، وخبط برجله على الأرض وصاح: دخانة، اسمها دخانة.
أما قصته فقد انتهت والناس يضحكون، ولكني أنا قد خفت أن يكون قد صدق أن اسم ابنة الملك الذي قص علينا شيئا من تاريخه دخانة؛ ولهذا بعدما تفرقت الحلقة جلست بجانبه، وهمست في أذنه: أرأيت كيف خلصتك من تحزير نفسك، وأعطيتك اسما مختلقا لابنة الملك؟ - اسما مختلقا؟ أوتريد أن تضحك علي؟ أأنا ولد؟ أولا أعرف اسمها، وقد كان على رأس لساني؟ - ولكن أقسم لك بالله أن كلمة «دخانة» جاءت مني عفوا، وقد شلفتها شلفة لعلها تلصق بحائط دماغك، وقد لصقت وخلصنا من الانتظار.
فما كان منه إلا أنه أدار لي ظهره، وهو يشرق دخان النارجيلة ضاحكا بملء فيه من محاولتي إقناعه بأن مسألة «دخانة» رمية طائشة لا محل لها من الصدق، وقد ردد ثانية قوله: يريد أن يضحك علي، أنا لو كنت متزوجا لكان أصغر أولادي أكبر منه.
وقد بلغني أن سعد قمر توفي منذ سنة، وأظنه وهو في ضريحه لا يزال يعتقد أن اسم ابنة الملك العربي دخانة، وأنها هي التي اكتشفت الدخان حتى سمي باسمها قبل أن اكتشفت أميركا بألوف السنين.
وأنا حزين جدا جدا أني لم أقدر في حياتي أن أقنعه بأن تلك الكلمة التي حفرت على صفيحة مخيلته إنما هي تلفيق، وأخاف أنه لا يزال في سكينة القبور يعكر صفاء تلك السكينة الرهيبة بترديد تلك الكلمة الملفقة.
لنا علم، وللجهال مال
مسكين جورج بحري، ينقصه أمر، وهذا ما يجعله حزينا كل أيام حياته.
هكذا يسمعني دائما كلما قابلته يتنهد، ويخبرني أن عنده آراء سديدة، ولكنه يجهل قواعد اللغة العربية.
وجورج بحري تاجر من التجار الكبار بين السوريين ومعدود بين أهل الثروة والمقام التجاري، ولكنه بعد أن حصل على ثروته ومقامه وقد كان من أوائل المهاجرين، وأهان نفسه في الأعمال الأولى حتى صعد باجتهاده إلى رأس السلم التجاري، وعندئذ تلفت فرأى نفسه مفردا لا ينقصه شيء؛ بالغنى هو من أربابها، بالوجاهة هو من أعيانها، بالزعامة هو من أركانها، لا ينقصه إلا شيء واحد وهو قواعد اللغة العربية؛ ليخطب في المجالس، وينشئ المقالات على صفحات الجرائد.
وهذا الرجل صورة من صور السوريين العتق، الذين يحبون الظهور بما ليس فيهم وتمني الأمور البعيدة عنهم، فلما كان فقيرا كان يتمنى لو يصير غنيا، حتى إذا صار غنيا أصبح يتمنى لو كان وجيها، فدخل الجمعيات وتبرع هنا وهناك، وعكف عليه الناس لمقامه المالي حتى إذا صار كبيرا في عيون فئة من الناس تمنى لو أنه خطيب يقف على المنابر، فيجتذب قلوب السامعين. وهو يظن أنه لا ينقصه من الخطابة والكتابة إلا قواعد اللغة، وقد جاء إلى أميركا ولدا من مزرعة ليس فيها مدرسة تعلمه.
مسكين جورج بحري، إنه لمن المحزنات ألا يكون ملما بقواعد اللغة العربية، ليلبس آراءه الجميلة أثوابا لغوية بديعة يفيد بها المجموع.
ولهذا الرجل أطوار غريبة خبرتها بنفسي؛ فإنه يحب المجاملة والمسايرة ومرافقة المارين، فيوصلهم إلى الأماكن التي يقصدونها فيودعهم ويعود، وقد حدثت لي معه حوادث عديدة نفرتني قليلا عنه مع أني لا أعرفه كثيرا، وقد تسلط على مرافقتي غصبا عني.
مرات عديدة وأنا سائر في الشوارع أرفع رأسي فأراه قادما نحوي من أول الشارع، فلا تقع عيني على عينه حتى أرى يده مرفوعة، حتى إذا وصلنا لمقابلة بعضنا بعضا دب يده على يدي فهزها هزة هائلة. ولهذا صرت إذا رأيته من بعيد أخفض بصري إلى الأرض كأني لم أره، وهو أكبر من الجاموس، فأحول مسيري إلى الجانب الثاني من الشارع، ولكن هذا لم يكن يفيد، فإن حضرته مرة وقعت عيني على عينه من بعيد فرأيته رافعا يده إذ لمحني، فلذت بالحيلة، ومالت قدماي إلى الجانب الثاني من الشارع، وتابعت الخطو وعيني لا تنظر إلى ذلك الجانب، ولكن شد ما كان دهشي عندما رأيت رجلا كبيرا يفرق جموع الناس بالعرض، رافعا يده ليخبطها على يدي، فخبطها، ووصلت طرقتها عنان السماء، ولا يعلم إلا أنا والله كم تألمت من تلك الهزة والضربة، إلا أني لم أشأ الوقوف؛ لئلا يكثر ازدحام الناس على مشاهدة أدوار الرواية التي كنت وإياه بطليها؛ ولهذا سحبته بيدي من يده وتابعنا المسير. أما هو فوضع يسراه أيضا على كتفي، وأبقى يمناه بيمناي ومشينا، هو يتكلم وأنا ألعن الحظ، وكنت كلما أردت الانفصال عنه يرجو مني أن أبقى معه لنقطع الشارع الفلاني وهو يخطب في أذني تارة بالتجارة وأخرى بالصحافة، ثم يبدأ بالعلم فينتهي بالسياسة إلى ما هنالك من الفنون المخلوطة في دماغه، وكالعادة كما تقدم، عندما فرغ من كلامه الطويل سألني رأيي قائلا: «ألا ترى أن عندي آراء؟» فجاملته بقولي: «نعم آراء، وأي آراء!»
فأبرقت أسرته لجوابي الحسن، ولكنه عاد فقال: ولكني أتأسف يا عزيزي، إنني أجهل اللغة العربية، فلو كنت متعلما لخطبت خطبا نافعة.
فقلت له: ولكن اللغة ليست بذات بال، إذا كان عندك فكر.
قال: بلى، ولكن كيف أستطيع أن أحوك آرائي؟
فقلت له إنه يستطيع أن يطالع الجرائد والمجلات والكتب فيكتسب منها الاصطلاحات العربية، فإذا استعملها بكلامه لا ينقصه شيء البتة؛ لأن قواعد اللغة ليست بلازمة ولا هي بضرورية لمن كان عنده آراء كآرائه.
فأخبرني إذ ذاك أنه كثير المطالعة، وأنه يقرأ كل كتاب وكل جريدة ومجلة تقع تحت نظره، وأنه صار خزانة للاصطلاحات العربية.
وفيما نحن بهذا الحال إذ التقينا بشاب يعرفه جورج، فصافحه مصافحة شبيهة بمصافحته لي، ثم عرفني عليه، وأخبرني أنه قد تكلل على عروس منذ ثلاثة أيام. ثم خص العريس بكلامه وأنا سامع فقال: «أهنيك بالعرس والعروس، وأتمنى لك ولها الأفراح والأتراح.»
سمعت أنا ما قال جورج، وكدت أرسل عاصفة من الضحك، غير أني كظمت لأسمع جواب العريس.
أما العريس، فأجاب باللغة الإنكليزية شاكرا عواطف المستر جورج وافترقنا عنه، عندئذ تبسمت وتطلعت بجورج، فرأيته مبتسما أيضا طافح الوجه، فقال لي: «ألا ترى أنني أستطيع تركيب الكلام الفصيح؟»
فأجبته: نعم، وقد شاقني السجع بكلامك. فأخبرني إذ ذاك أنه في ذلك النهار وقعت عينه في جريدة على «الأفراح والأتراح»، فأحبها وحفظها في فكره للاستعمال، وقد سر جدا للظرف الذي جعله يلتقي بعريس ليقولها له، ظانا أن الأتراح مرادفة للأفراح؛ لأنه فهم هذه ولم يفهم تلك.
وانقضى ذلك النهار وأنا كالمأخوذ، فكلما فطنت لما حدث أمامي أضحك لنفسي كالمأخوذ، ولا أزال كذلك إلى هذا اليوم.
والمستر جورج يحفظ كثيرا من الأمثال التي يدعم بها أحاديثه، وكثيرا ما يعزو حوادث خطيرة لنفسه، كأنها حدثت له وهي في بطون التاريخ القديمة، يسمع بها فتلذ له، فإذا جاءها دور يناسب المقام الذي يكون فيه يسرد قصتها، جاعلا نفسه بطلها.
وهو يعتقد بذكاء السوري المفرط ودائما يتأسف لكون السوريين غير متعلمين، وإلا لفاقوا على كل الأمم بذكائهم. ومن أمثلته على ذلك أنه استطاع أن ينجح في بلاد غريبة كان يجهل لغة أهلها، وقد جاء إلى أميركا بساعده وحده، فداس الصعوبات الكثيرة وتغلب على المعاكسات، فنال حظا وافرا من الثروة. أما تأسفه الشديد، فلأنه دخل ميدان أميركا خلوا من العلم، فلو أنه كان عالما لكانت ثروته أضعاف ما هي عليه اليوم.
وكثيرا ما ينظر إلى المتعلمين من السوريين فيرى معظمهم معدمين، فيهز رأسه أسفا لما ضيعوه من الحظوظ مع أنهم حاصلون على الأساس الذي يستطيعون أن يبنوا عليه التقدم العظيم في عالم التجارة.
قال: يأتي السوري المتعلم إلى أميركا فيتأفف من كل مهنة، لا يرضى يبيع بالكشة ولا بالجزدان، وإذا اشتغل في محل لا يكاد مقعده يسخن تحته حتى يترك المحل هازئا بأصحابه.
وقد حدث بهذا الرجل حادث أدى إلى نفوره من كاتب في محله؛ وذلك أنه جاء يوما إلى الكاتب فنصح له أن يهين نفسه إذا كان يريد الصعود إلى قمة النجاح، وأعطاه مثالا على ذلك نفسه، فقال له إنه لو لم يحمل الكشة سنوات على ظهره كالحمار، ويقطع الأميال كل يوم مشيا على قدميه لما حصل على مركزه التجاري، ولما كان يشتغل في محله كثير من الناس المتعلمين كالكاتب المنصوح له. ثم زاد على ذلك أنه لو كان مثل الكاتب متعلما، وجاء إلى أميركا لكان بلا شك بمصاف أغنياء شارع «وول». أما الكاتب وقد كان خريج كلية يشتغل عند المستر جورج ليرى له بابا لمستقبله، ولم يكن يرى ذلك الباب مفتوحا في خلال عشر سنوات، فأجابه: «ولكن، أقسم لك يا مستر جورج، إنه لو جئت حضرتك إلى أميركا متعلما مثلي لكنت كما أنا تشتغل لغيرك من الذين جاءوا إلى أميركا لا علم ولا معرفة، فلم يبالوا بحمل الأثقال على ظهورهم وصعدوا سلم النجاح درجة درجة حتى وصلوا إلى أوج مقامهم.» أولئك لو كانوا متعلمين لاكتفوا بعلمهم، وأنفوا من الأشغال الأولية التي لا يأنف منها من كان مثل حضرته. وقد قال له أيضا إنه يجب أن يشكر الله لكونه ليس متعلما، وإلا لما كان غنيا كما هو اليوم.
وقد انتهت تلك المحادثة عن طرد المستر جورج لكاتبه؛ لأن هذا قال له أخيرا: هذه سنة الله في خلقه، لنا علم، وللجهال مال.
عارف الجميع
لعزيز سيار ميزة عن باقي البشر؛ فهو يعرف كل من يراه، فإذا رآك حياك وسلم عليك، وسألك عن صحة أفراد العائلة، ويحكي لك قصة عن المرحوم جدك الذي تعرف عليه في الشام مثلا، وأن المرحوم أباك كان من أعز أصدقائه.
عزيز سيار هذا مخلوق عجيب، وبالأخص بتواريخه التي يفصلها عن حياة هذا وحياة ذاك، وكثيرون لأول وهلة ينصاعون إلى حديثه لتصديقهم أقواله عن معرفته بالمرحوم فلان، وصداقته القديمة لهذا ولذاك، ومواصلته فلانا وآخر.
وله عادة عرفت به وعرف بها، وهي أنه إذا التقى بإنسان فبعد أن يحييه ويسلم عليه، ويسأله عن صحة أفراد العائلة، ويقص له واقعة حال مع أحد المرحومين، يشبك ساعده بساعد الملتقي به، ويسير الاثنان على الطريق حتى يتحنن الله ويمر إنسان آخر فيودع الأول، ويمسك بالثاني بعد أن يقول للأول: «البقية تأتي. إن شاء الله في المشوار الثاني أكمل لك القصة.» ثم يبدأ بذات الدور مع الثاني، وهكذا يظل يودع هذا ويلاقي ذاك حتى ينتهي النهار.
إلا أن كثيرين من الذين درسوا أخلاق عزيز عرفوا مبلغ الصحة في أحاديثه، فصاروا يتراهنون على ما إذا كان يعرف شخصا ما أو لا يعرفه، فيقصدونه، وغالبا كان المراهنون يخسرون؛ لأن للرجل ولعا شديدا بمعرفة العيال والأسماء، ويكفي لذلك أن يذكر عن المسئول عنه لمحة صغيرة كان يقول هو فلان من البلد الفلاني من العائلة الفلانية، تعرفت بابن خال كنة عمته في عام كذا وكذا ... إلخ.
حدث يوما أن عزيزا كان في أحد المحال السورية في يوم عاصفة ثلجية أوقفت الأعمال، وكان عدد من أصحاب المحل وزبائنهم مجتمعين داخل المحل يستدفئون وفي جملتهم كان عزيز السيار، وصدف أن العمل الذي كانوا يعملونه قد انتهى، ولم يشأ أحدهم الخروج، وفيما هم كذلك إذ دفع الباب ولد وبيده أعداد جريدة فطرح أحدها إلى داخل المحل وقفل راجعا، فتناول أحد الشركاء العدد وأخذ يقلب بصفحاته، فصاح به عزيز: «هات لنا أخبار الجريدة لنتسلى بها، فلا عمل لنا سوى الانتظار حتى تهدأ العاصفة فنخرج.»
فناوله التاجر العدد، وقال له: «اقرأ لنا مقالة خليل لقمان في الصفحة الرابعة.»
وما لفظ هذا الاسم حتى اهتز كل من كان موجودا وصاح الجميع: «إي والله، أسمعونا ما يقول هذا الكاتب العظيم؛ فإن كلامه لسحر يدخل القلوب ويطوي منازل النفوس طيا.»
أما عزيز؛ فقد ابتسم لدى سماعه اسم الكاتب، وهز رأسه استخفافا برغبة الجمهور، ثم قال: «يحرق قلب خليل ما أكتبه! والله إني أتعجب كيف يستطيع هذا الشاب أن يكتب؛ فقد كنت معه البارحة طول النهار وبعض الليل، وكيف تمكن من كتابة هذه المقالة لعدد اليوم؟ لا أعلم!»
عندئذ سأله أحدهم: «أوأنت تعرف خليل لقمان؟ أوهو في هذه المدينة؟» - «أعرف خليل لقمان! أوهو في المدينة! وكيف لا أعرفه وهو من أعز أصدقائي، وقد جاء نهار أمس من بفلو خصيصا لنجتمع سوية؟! خليل لقمان وعزيز السيار اثنان في واحد.»
فسأله واحد من الحاضرين وقال: «بالله، صف لنا خليل لقمان؛ فإني دائما أتمنى وأتحسر على رؤية رسم له، وأعد الاجتماع به من أماني حياتي، فوالله إنه على لساني وفي قلبي كيفما توجهت.»
هنا أخذ عزيز سيار يصف للقوم خليل لقمان، فقال: «إنه شاب لا يتجاوز الخامسة والعشرين، وإن الذين يطالعون كتاباته يتوهمون أنه فوق الخمسين، ولكن حقيقة عمره خمسة وعشرون سنة، شاب مربوع القامة، أبيض اللون، جميل المحيا، عالي الجبين، أسود العينين، يستحي من خياله، مملوء عواطف يطالع الناظر إليه بوجهة تينك الرقة والإنسانية اللتين يقرؤهما في خلال سطوره، دمث الخلق، يشرب كلامه كالخمر، ولا ألطف ولا أجمل من شاب كهذا في العالم.»
قال هذه الأوصاف والسامعون يترنمون لذكر خليل لقمان لما له في قلوبهم من المنزلة السامية.
جرى كل هذا وأحد الشركاء في المحل واقف إلى منضدته، واضع رأسه على كفه، وعيناه تنظران عزيز السيار يحيط القوم وصفا بخليل لقمان، وكان التاجر يبتسم ابتسامة لها معنى يعرفه الخبيرون بأمور الفراسة. ولما انتهى هذا الدور وخرج عزيز من المحل وأكثر الذين كانوا موجودين، التفت ذلك التاجر إلى أحد شركائه وقال له: «أتراهن أن عزيزا لم يجتمع بخليل لقمان ولا رأى له وجها؟»
فأجابه الشريك الآخر وقال: «لا يا شريك، لا تغلط، إن عزيزا يعرف كل مخلوق، وكفى برهانا أنه ذكر أوصافه، وإلا فمن أين أتى بها؟»
فقال التاجر لشريكه: «لا تجادلني، قلبي يحدثني أن عزيزا السيار لا يعرف خليل لقمان، ولم يجتمع به في حياته، أتراهن على ذلك؟»
فأجابه شريكه: وكيف يمكنك أن تعرف حقيقة الأمر؟ - إلى صاحب الجريدة التي يكتب فيها خليل، وهناك نسأله عنه لعلنا نهتدي إلى حقيقة الأمر.
وذهب الاثنان الشريكان إلى إدارة الجريدة في الحال، فاجتمعا بصاحبها الذي أحسن استقبالهما وأدخلهما إلى غرفة التحرير، وبعد أن جلس الثلاثة فتح التاجر فمه بالكلام فقال: «جئنا إليك يا أفندي صدفة دون ميعاد؛ فقد بلغنا أن خليل لقمان موجود في نيويورك، فأحببنا زيارة الإدارة للتعرف عليه، وأداء امتناننا لكتابته على صفحات جريدتكم الزاهرة؛ تشجيعا له على الأخذ بناصر جريدتكم المحبوبة.»
فأجاب الصحافي وقال: «أشكركم من كل قلبي، ولكن يا للأسف إن خليل لقمان عاد إلى بفلو صباح اليوم، وقد جاء نيويورك في ليلة واحدة ولم يقم غيرها خوفا من مقابلة الناس، ولكني سأكتب إليه وأعلمه بتشريفكم الإدارة للسلام عليه، ولكن من أين عرفتم أنه كان في نيويورك، ولا أظن أن أحدا عرف بقدومه إلا أنا؟»
فابتسم الشريك المراهن بجانب عزيز، وقال في سره: لقد ربحنا الرهن؛ لأن خليلا كان في نيويورك حسب رواية عزيز.
أما الشريك الثاني؛ فقد شعر ببعض هذا، ولكنه لم يشأ أن يسلم، بل أخبر الصحافي بأن عزيزا السيار أخبره عن قدوم خليل. أما الصحافي فعندما وقع في مسمعه اسم عزيز السيار ضحك ضحكة قوية وقال: «الآن عرفت سبب قدومكما، فيظهر أن عزيزا لا يزال متأثرا من حادثة أمس، فأرسلكما لتعتذرا أمام خليل عن حادثته المشئومة، ولكن لا بأس أن أخبركما أن خليلا لم يهمه الأمر، بل كان الفصل الذي مثله عزيز أمامه البارحة فكاهة عظيمة لا يزال حتى هذه اللحظة يضحك منها.»
فأجاب التاجر: «ولكننا لم نأت لهذا الغرض، بل جئنا - والكلام بسرك - لنعرف من أين هذه الصداقة الجامعة بين عزيز السيار وخليل لقمان؟»
عندئذ بدأ الصحافي يخبر الزائرين تاريخ تلك الصداقة، وهو يقول كلمة ويضحك خمس دقائق، أما التاريخ فكما يأتي:
قال الصحافي: «هبط علي خليل لقمان هبوط الملاك على إنسان في حين لم أكن على ميعاد، وأول ما وصل سلم علي وأخبرني أنه قادم لغرض واحد، وهو الاجتماع بأستاذ في جامعة نيويورك، ولما أنهى غرضه زار الإدارة ليتعرف بها، وأوصاني مشددا ألا أذكر لأحد الناس عن قدومه، وألا أعرفه البتة بإنسان. وقد شاء أن يودعني ليئوب إلى بفلو على قطار الليل، ولكني بعد إلحاحي الشديد قبل أن يكون ضيفي تلك الليلة وحدها، حيث أصرف السهرة معه ولا ثالث بيننا، فأقفلت الإدارة وذهبت به إلى محطة الطوف، وفيما نحن جالسان إذا بعزيز السيار قد جلس حيالي، وسألني على صحة أفراد العائلة في الوطن، وإذا كنت أسمع منهم كل بوسطة، إلى ما تعرفانه من سؤالاته الكثيرة، ثم استأذن مني عددا من جريدتي كان بيدي، وأول ما وقع نظره على مقالة صغيرة لخليل لقمان قال لي: «أتدري أني لا أقرأ جريدتك إلا لأن خليلا يكتب فيها؟» وأن الواجب علي أن أحتفظ به لئلا تنقل كتاباته إلى جريدة أخرى. ثم سألني عما إذا كنت أعرفه شخصيا فأجبته نفيا لأرى ما وراء ذلك، فقال لي إن الأحسن ألا أجتمع به، فإذا رأيته سقط من عيني؛ لأن له خلقا أعوذ بالله - هكذا قال - له شعر مسترسل على كتفيه كالدراويش، وله أنف كخرطوم الفيل، وأذنان كبيرتان تعد الواحدة بثلاث آذان، وعينان صغيرتان كعيني الخلد ... والخلاصة: له خلقة مخيفة، ثم قال: مسكين خليل لقمان على سحنته، ولكن له قلما ومواهب عقلية سامية، والأحسن للناس ألا يتعرفوا به. وما وصل إلى هذا الحد حتى جاء الطوف فنهضنا، وأسرعنا مع الركاب للنزول فيه، وقد ظل عزيز ملاصقا إياي من عن يساري وخليل لقمان عن يميني لا يفتح فاه بكلمة، ولكنه كان يبتسم، وكان الأول كل الطريق يصف لي خليلا كما يعرفه، وأخبرني عن حوادث جرت له معه في بفلو وفي نيويورك، وأنه صديق له ولعائلته من زمان، حتى وصلنا إلى الجانب الثاني من النهر، فخرجنا مع الركاب إلى أرض بروكلن، وهناك وقفت لأودع عزيزا ليأخذ طريقه وأنا مع رفيقي نأخذ طريقنا، وقد شاءت العناية ألا يذهب في سبيله حتى يكمل الفصل، فبعد أن ودعني هزا باليد قال لي: ولماذا لم تعرفني بصاحبك؛ فقد ظننته بادئ الأمر غريبا عنك؟ فقمت إذ ذاك بواجب التعريف بين الاثنين، فقلت: الحق علي يا صديقي في هذا التقصير، ولكنك يا عزيز لم تعطني سبيلا لأعرفك بصديق كلينا خليل لقمان. وفي تلك اللحظة لم يعد عزيز سيار عزيزا السيار؛ فقد امتقع لونه كأنه أبدل خلقا، ولكن خليلا اقترب منه فأمسك بيده، وقال له إنه عرف منذ البداءة بحديثه أنه كان غلطانا وقد أكد تماما أنه - أي عزيز - كان يصف شخصا آخر ظنه خليل لقمان.
أما عزيز فلم يقل كلمة، ولكنه سحب يده ومضى في سبيله».
عند هذا توقف الصحافي عن الكلام بضع ثواني، ثم استأنف الحديث فقال: «وقد بتنا ليلة أمس وأنا أجرب أن أسلي خاطر خليل لأذهب عنه تأثره الشديد على حالة عزيز في ساعة تعرف به، ولكنه لم يطق نوما وكان كل وهلة وأخرى يسمعني توبيخه اللطيف لقساوتي الشديدة التي استعملتها معه، وقد قال لي إنه لو عرف أن المسألة ستنتهي كما انتهت لما صبر على سماعه حديث عزيز، ولكان قطع حديثه، وعرف نفسه به خوفا من التهور الذي تم.»
وخرج الشريكان من إدارة الصحافي ولا يزالان حتى اليوم - وقد مضى على الحادثة عشر سنوات - يتنازعان على الرهن، فالأول يقول إنه ربح الرهن؛ لأن عزيزا لم يعرف خليلا ولا اجتمع به كما ادعى، والثاني يقول إنه هو الرابح؛ لأنه ظهر أن عزيزا اجتمع بخليل وكفى.
أقصر الطرق
لغط الناس ثلاثة أسابيع بحادثة خليل عساف، وهي أنه خطف ابنة مراد البسيط، وقد شغل أهل المخطوفة أسلاك التلغراف والتلفون كل الأسبوع الأول، مفتشين على ابنتهم، فلم يفلحوا بخبر عنها وعن الذي خطفها.
بعد الأسبوع الأول صار أقرباء مراد البسيط يلومونه لعدم سماحه لابنته ماري بأن تتزوج بخليل تزوجا عاديا؛ فلو أنه رضي بذلك لما عرضها للانقياد إلى إرادة حبيبها والهرب من بيت أبيها؛ مما جعل اسم العائلة مضغة في أفواه الناس. أما مراد، فكان يتلقى توابيخ ذويه بصبر عجيب، فعبثا حاول إقناعهم بأنه لم يصد خليلا البتة، وأنه كان يميل إلى مصاهرته، ولم يظهر له عدم رغبة فيه ولا مرة، وجل ما قال له آخر شيء أن يقتصد بمصروفه، وأن يعمل باجتهاد كلي ويصبر على حاله في الأقل سنة أو سنتين لبينما يتوفر معه على الأقل مبلغ من المال لنفقات العرس. ولو أنه عرف أن الآخرة ستكون على هذه الصورة لرضي به صهرا ولم يعرضه لخطف ابنته، ولكن ما العمل؟
بعد الأسابيع الثلاثة عاد خليل إلى نيويورك تصحبه عروسه التي زفت إليه في إحدى قرى بنسلفانيا، ولما وصلا إلى المدينة اتفقا على النزول في أحد نزل نيويورك؛ لأن العروس خافت أن تظهر أمام أبيها وقد كسرت إرادته وخشيت من العواقب، والعريس أيضا خاف التسرع بالظهور أمام حميه، وحسب أن أهل عروسه لا يزالون نارا تلتهب غيظا منه ومن زوجته.
في ذلك اليوم اختلف العروسان على من يوصل الخبر إلى أبي العروس، وإنما كان اختلافا يتخلله الحب والدلال؛ فإن العروس رفضت بتاتا أن تذهب إلى بيت أبيها، ولم تعرف بعد إذا كان يرضى عنها ويصفح عما أتته مما أقامه وأقعده، وجعله يلزم البيت ثلاثة أسابيع والناس أفواجا يأتون ويذهبون إلى داره كأنه أصيب بفقد ابنته لا أنه أنعم عليها بزواجها. والعريس قال إن أباها ليس أباه، فهو لا يهمه رضي أو لم يرض، فإذا كانت عروسه تلح بالصلح، فالأمر متعلق بها نفسها.
وأخيرا اتفقا على أن يلقيا القرعة على من يكون رسول البلاغ، فوقعت القرعة أولا على العروس، فلم تذعن واقترحت أن تثني القرعة فرضي الزوج مضطرا ووقعت القرعة الثانية عليه، فتردد أولا وحاول التملص من تلك المهمة الصعبة، ولكن نظرات ماري قربته إلى الحيلة، فهب لساعته وتناول التلفون فطلب حماه مرادا، وخاطبه قائلا: «أنا خليل، قد عدت إلى نيويورك وعلمت أنك ساخط علي، فعرفت أني مخطئ، وقد قلت لماري أن تعود إلى بيتك فلم تحفل بقولي، وأخيرا عملت ما يجب علي، فها إني تارك لك ابنتك في نزل غراند فتعالوا خذوها، وأنا مسافر إلى محل إقامة أخي في ولاية تكسس بقطار الساعة الثالثة بعد الظهر.»
قال هذا وسكر التلفون، ثم تطلع بماري تطلعة جد كسرت قلبها، فأرخت رأسها على صدره وسألته والغصة ملء صدرها: «أصحيح أنك ستتركني يا خليل، رجلي ورجلك، لا أفارقك حتى الموت.»
قالت هذا والدمعة قد قاربت الانحدار من عينيها، ولكن خليلا صد دموع امرأته بضحكة طويلة أتبعها بقبلة قوية على عينيها التي قاربت التدميع.
ثم انتبه فجأة وقال: «قربت الساعة، فبعد قليل لا بد أن يحضر أبوك وجميع أهلك، فماذا نعمل؟»
بعد تردد قليل اتفقا على أن يكملا الدور الذي رفع خليل الستار عنه، فتم بينهما أن تتمسك بأذياله بشدة عندما يسمع وقع خطوات أهلها قرب الباب، وهكذا كان، فلما دخل الأب ووراءه امرأته وابنتهما الكبرى شاهد الجميع ابنتهم ممسكة بخليل وهي تهدده بقولها: «لا يمكنك أن تخطو خطوة من هنا ما لم يأت أهلي ويروك.»
وكان أن مرادا سمع العبارة التي قالتها ابنته للذي خطفها فلم يقل شيئا البتة، ولكنه أسرع خطاه إلى محل الحادثة، فجذب ابنته عن خليل، ودفعها إلى جانب وقال لها: «ابعدي أنت عنه.» ثم أمسك بيد خليل وخاطبه بصوت حاد متكسر بالغصات التي كانت قد انزرعت في طريق رئته إلى حلقه: «ماذا تريد أن تعمل الآن؟ إما حياتك وإما شرفي؟ عملت معنا هذا الفصل ومرادك الآن أن تنهيه على حسابي أنا؟ ما هذا الأمل منك يا خليل.»
وكان أن امرأة مراد قد اقتربت من خليل وبين عينيها سيف لامع من الغضب، فأبعدها زوجها وأشار إليها أن تخفض صوتها لئلا يأتي سكان النزل ومعهم البوليس فتكون الضلالة الأخيرة شرا من الأولى.
عندئذ نهض خليل ونظره إلى الأرض وقال: «لا تغضبوا ولا تحمقوا، فأنا ما قصدت أن أغضبكم، فقد ظننت أنكم تريدون ابنتكم فأخبرتكم أين تجدونها، وأما وأنتم تريدونني معها فهذا كل ما كنت أشتهيه وأتمناه.»
ولم يخرج القوم من تلك الغرفة إلا وتبدلت الحالة من سخط إلى فرح، وكل من الحزبين يظن نفسه الظافر على الآخر. وقد ذهب الجميع إلى بيت مراد البسيط، حيث اجتمع عدد من الأهل والمعارف، وفي اليوم التالي ضجت السمعة في المدينة أن مرادا رضي عن صهره وابنته، وأنهما اكتريا الطابق الأعلى في المنزل الذي يسكنه؛ لتكون ماري قريبة من بيت أبويها.
خليل عساف كان مشغوفا بحب ماري البسيط، وكان أبوها عارفا بذلك، ولم يكن ما يجعله يميل عنه إلا خلوه من المال، ومعلوم أن الزواج يكلف نفقات مالية كثيرة؛ ولهذا أبعد أمله إلى سنة أو سنتين لعل في هذه المدة يقوى على توفير المبلغ الكافي. إلا أن خليلا لم يرق له التأجيل، وكذلك ماري، ولكنهما كانا أيضا عارفين تمام العرف بالنفقات اللازمة وأهمها ثمن الخاتم الماسي، وبعد البحث مرارا بينهما في هذا الأمر اقترحت ماري نفسها على حبيبها أن يهربا وينجوا من المصاريف فيحصلان على متمناهما دون كلفات لا معنى لها، وهكذا فإنهما هربا دون علم أحد ودون أن يعرفا تماما إذا كان الأب يمانع بتاتا عند الساعة الأخيرة.
وعاش خليل وامرأته عيشة هنيئة، وقد نسي الناس كيف كان عرسهما، وبعد سنتين جاء بكرهما فسمياه وليم، وكان صورة بالجمال كأنه هبة من ملائكة الله.
أما أحوال خليل بعد الزواج فصارت على جانب من التوفيق؛ ولهذا اشترى بيتا جميلا لسكناه، وجعل في بنصر امرأته خاتما ثمنه ألفا ريال، وفي خزائنها ثيابا فاخرة تحسدها عليها كثيرات من العرائس.
ذات ليلة كان حمو خليل زائرا في بيت ابنته ماري، وكان وليم يدب على الأرض عند قدمي جده فيستند على رجليه ويد واحدة من يديه، وبالثانية يضرب قدم جده ضاحكا بملء شدقيه الصغيرين، فيرجع جده قدمه تظاهرا أمام الطفل بالخوف من ضربه ثم يقدمها بسرعة ويعود فيسحبها، وقد ظل يلاعب حفيده الملاك حتى أفعم قلبه حبا فنشله عن الأرض وأقامه على صدره يقبله ويشمه والطفل يضحك ويملأ البيت سرورا والقلب ابتهاجا.
ثم لاحت من الجد نظرة إلى الخاتم في يد ابنته التي كانت تغامز طفلها ليلاعب جده، وقلبها يرقص لكل حركة من حركاته، فقال لها: «أهذا هو الخاتم الذي أخبرتني عنه أمك، أريني إياه باقتراب.»
فنزعت ماري خاتمها وقدمته إلى أبيها، فتأمله دقيقة منحيا بيده الطفل قليلا، وهو ينظر إلى الخاتم بيده الثانية، فتنهد وقال لأول مرة، موجها الخطاب الجدي إلى ابنته: «يا ابنتي، ما كان أحلاك لو تصبرين إلى هذا الحين فتتزوجين بخليل، ونعمل لك عرسا ما صار مثله ولن يصير، فيرى الناس هذا الخاتم بإصبعك وأنت عروس!»
فأجابت ماري: «يا أبي، كل ظفر من أصابع وليم من يديه ورجليه يسوى كل الماسات في العالم، فلو صبرت إلى اليوم لبينما يستطيع خليل أن يشتري لي هذا الخاتم لما كان في الوجود هذا الملاك.»
وتطلع الجد إلى الطفل ثانية، فرآه واضعا يده في فيه يعلكها، وقد امحت من وجهه ابتسامته لميل جده عنه إلى الخاتم، فجذبه في الحال إلى صدره، وكاد يفترسه بقبلة من خده، ولما انتهى منها عاد الطفل يضحك ضحكته العميقة، ويحرك يديه ملاعبا جده.
في تلك اللحظة انضمت ماري إلى الطفل وجده، ولكي تشترك بالدور الذي يمثلانه أعطت الخاتم إلى وليم لعله يؤخذ بلمعان ماسته، ولكنه عندما قبض عليه ورآه رمى به إلى الأرض بعنف، واستأنف اللعب مع جده، فنظرت أمه وأبوها إلى ما عمل الطفل، ولما التقى ناظراهما قال لها أبوها: «الحق معه.»
المتشرعان
يعرف كل من جبرة غبريل وداود واصف بالمتشرع، وكلاهما يجهلان القراءة والكتابة حتى بلغتهما العربية، إلا أن اللقب الذي أحرزاه هو نتيجة حوادث عديدة لهما بالمماحكة والمحاجة، بل هو صفة لأخلاق الرجلين التي عرفها القوم، فمنحوهما لقب متشرع، وصار كل منهما معروفا بهذا اللقب.
الأول: جبرة غبريل، عامل في أحد المصانع، والآخر: داود واصف، وكيل على أملاك، يؤجر منها منازل لمواطنيه، والأول ساكن في أحد المنازل التي يؤجرها الثاني، وهناك كل البلاء؛ لأن هذه السكنى تجعل البطلين - بطلي الشريعة - يلتقيان كل صباح ومساء كأنهما جبلان، وليس على طالب فرجة في مسارح إلا أن يترصد اجتماع هذين المتشرعين، فيشاهد منهما من الأدوار التي يمثلانها ما يغنيه عن ألف دور هزلي في الملاعب.
ولقد اعتاد كل منهما مضادة الآخر حتى على الأمور المرئية المحسوسة، فإذا قال جبرة بأن الثلج أبيض، يجيبه داود بأن الثلج أسود، ولكل منهما براهين وحجج واستنزالات علوية وإلهامات روحية ما أنزل الله بها من سلطان.
اعتاد الناس من جيران وغيرهم التجمهر حول هذين البطلين للتسلية، وأكثرهم يوقد النار بينهما، ثم يقف الجميع؛ ليروا كيف تتعالى شرارات المناظرة بينهما، فيضحكون ويتسلون.
عندما يسمع في السوق صوت أحد الاثنين، إما جبرة وإما داود يتألب جماعة المتفرجين من هنا وهناك كأن ذلك الصوت عندهم دقة الناقوس للمترقبين انفتاح أبواب الكنيسة لكي يدخلوا للصلاة، وهكذا الأمر عندهم لدى سماعهم نبرة عالية من أحد الاثنين؛ إذ ذاك يؤلف القوم حلقة حولهما، ويبدأ الاثنان بتمثيل أدوارهما.
أما اختلافاتهما فليست بذات بال عندهما؛ فهي لا تشرق عليها شمس يوم ثان، ولهذا فكلاهما معروف عند العامة بأنهما كثيرا الغلبة، إنما طيبا القلب، وأنهما مع تصايحهما وتخالفهما بالرأي وأحيانا تقاتلهما ينسيان عندما يبرد غليلهما كل ما جرى بينهما، كأن المقدر ما كان.
كان جبرة صاعدا السلم ذات يوم إلى بيته، وإذا بداود نازلا، فسلما أولا حسب المعتاد كسلام المصارعين أو المتلاكمين في المسارح، وبعده يجيء دور الصراع أو الملاكمة، وقد يخطف الواحد منهما روح الثاني، إنما السلام لا بد منه أولا.
بعد السلام قال داود: «يا جار، وأنا اليوم أتمشى أمام البناية إذ سقط من عل لوح زجاج، فقلت في نفسي: أعوذ بالله من هذا النهار؛ فإن جارنا جبرة سيقيم الأرض ويقعدها، ويهبط السماء، ويدمر الفضاء على رأسنا قبل أن يدفع ثمن لوح الزجاج المكسور في منزله. ولكن الحمد لله يا جار، لم يكن اللوح المكسور من إحدى نوافذكم، بل من نافذة أحد الجيران؛ ولهذا مضت المسألة وأسبل الله ستره.»
قال داود هذا وجبرة يهم بالمقاطعة، ولكنه ضغط على عوامله الداخلية ليعلم جلية الخبر، ولما أنهى داود كلامه أجابه: «ولماذا أدفع ثمن لوح الزجاج، وأنا لست بكاسره؟»
فرد عليه داود في الحال: «لأنك صاحب المنزل المسئول عن كل شيء فيه ما عدا السقف». - أنت غلطان، فصاحب الملك عليه التصليح لا سيما والمستأجر كان خارج المنزل. - لا تعالجنا يا جبرة، فأنا حمدت الله ألف مرة؛ لأني خلصت من شرك هذا النهار، والمسألة لا تحتاج إلى صياح ومماحكة، اسأل من تريد فيجيبك أنه إذا انكسر شيء من الزجاج فإصلاحه على المستأجر. - والله لو هبط البيت وصار هباء منثورا تخطف ذراته الرياح لا أدفع بارة واحدة؛ لأن هذا ليس عدلا، والشريعة دائما مع المستأجر ضد صاحب الملك والوكيل، فاسأل غيرك إذا كنت جاهلا هذه الحقيقة. - لا تقل جاهلا ولا ماهلا، فأنا أعرف منك بالأمر، وقد جعلت الذي كسر زجاجه يدفع عنه في الحال، فلماذا المماحكة يا جار، احسمها ولا تدع الناس يتجمهرون على صياحنا؛ فإنهم سوف يشبعون ضحكا منك إذا سمعوا منك كلامك هذا.
ولا حاجة إلى الإتيان على كل الحديث الذي جرى بينهما، فهذه مقدمة له، وإن القارئ اللبيب يستطيع أن يصور في مخيلته ماذا يعقب هذه المقدمة من النتائج، ولا سيما بين المدعوين متشرعين لكثرة غلبتهما وعدم إعطاء الواحد طريقا للآخر؛ لكي ينسحب، فيمضي الاثنان.
وكالعادة أخذت المشاحنة زهاء ساعة بينهما، وكل يدعم رأيه بالبراهين وينهال على الثاني بالتعييرات فالمسبات، هازئا بقلة عرفانه وجهله الفاضح لأمور بسيطة يعرفها أي الناس.
وكان الناس قد تألبوا من خارج البناية وداخلها ومن الجوانب والأعالي يتفرجون على البطلين - بطلي الشريعة - يتشارعان على أمر لم يكن من سبيل لأحدهما أن يرى منه مخرجا، حتى أخذت المسألة دورا جديا انتهى معه دور المماحكة، وذهب عن جماعة المتفرجين دور التسلية أيضا؛ لأن الاثنين تماديا بعدما أسمع كل منهما الآخر أشياء غليظة، فتدافعا وكادا يتلاكمان، فتدخل بعض المتفرجين بينهما، وكبرت المسألة إلى حد أن فريقا احتمل جبرة، وفريقا آخر اختطف داود، فأدخل الأول أحد المنازل والثاني غيره، وكل منهما مطبق بقبضتيه والدم على أهبة التفجر من وجنتيه، وفمه يخرج حمم الكلام والصعقات على الآخر.
والتف قسم من الجمهور حول جبرة وآخر حول داود يهدئون روع كل منهما، حتى آن الأوان للصلح بينهما، وبعد الأخذ والرد قر القرار أن يقترب كل منهما خطوة نحو الآخر، فنقل جبرة من المنزل الذي أدخل إليه إلى آخر محاذ له، ونقل داود من ذاك الذي دخل إليه أيضا إلى الذي أدخل فيه جبرة من جديد، وهناك تجددت الشئون والشجون؛ لأن الاثنين رفض كل منهما القيام إلى ناحية الآخر لمصالحته، مدعيا أن الحق معه وعلى رفيقه، ومن كان على هذه الصفة يجب أن تحترم مكانته، فلا ينهض لمصالحة الآخر قبل أن يأتي هو إليه.
عندئذ، صاح أكثر القوم تقدما بالسن صيحة هدأ لها المكان، ولما تم له ذلك وقف بين المتخاصمين وقال: «الحق على الاثنين ...»
وما كاد يبدأ بالكلام حتى نهض الاثنان، يريدان محاجة المتقدم، ولكنهما أعيدا بالقوة كل إلى مكانه، وبعدئذ تابع ذلك المتقدم كلامه فقال: «نحن كلنا إخوان، وما على أحد منا الحق ...»
وما كاد المتقدم يصل إلى هذه العبارة حتى عاد الاثنان فنهضا، وكل مد ساعده نحو الآخر وقال: «بل الحق عليه.»
فأعيد الاثنان ثانية إلى مكانهما بقوة الجذب، ولما عاد الهدوء من جديد تبسم المتقدم وتابع كلامه فقال: «يا إخوان، أنا أكبركم سنا، أطلب من الاثنين شيئا واحدا، وهو أن يرضى كل منهما عن الآخر إذا وصل إليه حقه؛ ولهذا أرى أن لوح الزجاج انكسر وللوح الجديد ثمن، فلا المستأجر يغرم بثمنه ولا الوكيل يدفع عنه، فأرجو منهما أن يسمحا بأن أدفع من جيبي ثمنه، فنفض المشكل، وينتهي الأمر وتعود المياه إلى مجاريها.»
قال هذا ومد يده إلى جيبه، وأخرج كل ما كان فيه من النقود، ثم فتح عليها يده أمام داود وقال له أن يأخذ منها ثمن اللوح المكسور، فأجاب داود، معتذرا بأن ثمن اللوح وصل من زمان ولا حاجة إلى خسارته.
وكان أن جبرة أيضا شد العم المتكلم لناحيته، وأخبره بأن اللوح المكسور ليس من منزله ليتكرم بدفعه، بل هو من منزل غير منزله.
عندئذ قهقه القوم، وصار الجميع في شبه غيبوبة من الضحك الذي سرت عدواه إلى المتشرعين أيضا، فابتسم كل منهما أولا، ثم ضحكا مع الجمهور، وعندئذ قال الوسيط وهو دون الباقين ضحكا فقد كان منذهلا متحيرا بما سمع ورأى: «إذن تخاصمتما على لا شيء.»
فقال داود: «نعم يا عم، على لا شيء، ولو أن جبرة استوعى كلامي لما توصلنا إلى كل هذا.»
وقال جبرة: «ولو أنك أنت فهمت ما قصدت لما صرنا إلى ما صرنا إليه.»
فضحك القوم من جديد وساعدهم الوسيط المتقدم، وأمسك كلا من المتشرعين بساعده بعد أن أعاد النقود إلى جيبه، وجذبهما إليه فنهضا بسهولة، ثم شبك يديهما ببعضهما فأطاعا، وقال لهما وهو يضحك مقهقها: «من يختصم على لا شيء يصطلح على لا شيء أيضا.»
تعاسة البيك
اصطلح السوريون على أن يذهبوا مذهبا باللقب غريبا عجيبا؛ فإنه إذا غلط ذو مقام باسم أحدهم ونعته مثلا بأفندي أو بيك صار المكتوب إليه أفنديا أو بيكا، وأصبح يطلب من الناس مراعاة مقامه واعتبار لقبه.
بين السوريين عديدون لهم ألقاب مدنية، ولا أدري من أين جاءوا بها، ومن يدري؟
ولا أدري إذا كان أحد ذوي الألقاب المتباهى بها سأل نفسه يوما: «لماذا أعطيت لقب بيك، ولم ينله غنطوس فلقيوس وقاد الفحم في منزل أبي حرفوش مثلا؟»
حب الألقاب عادة تمكنت في بعض الناس إلى حد أنها صارت عندهم شيئا عظيما من حياتهم.
كان المسكين نصر البيطار أو نصر بك البيطار في سعادة من حاله يوم كان خاملا لا يدري به أحد، فكان يحمل حقيبته، ويبيع سلعه على الأميركان في الشتاء في «فلوريدا» وفي الصيف في «مين»، وكان يؤمل أن يصير تاجرا عندما تصل ماليته إلى عشرة آلاف ريال، وهو ساع بجد وإقدام وراء هذه الغاية.
إلا أن الدهر لا تصفو طرقه التي يسلكها بنو المصائب، وللدهر بدع في جلب المصائب على بنيه، فإذا كانت التعاسة تأتي إنسانا عن طريق الفقر أو المرض أو الموت فتعاسة نصر بيطار جاءت عن طريق البكوية؛ وإلى القارئ الخبر:
أنشئت في لبنان عام 1902 لجنة للاهتمام بأمر معرض وطني، تنشيطا للتجارة الوطنية، وتناقلت الجرائد في الوطن وفي المهجر أمر هذه الحركة، ولما اطلع عليها نصر أعجبته كثيرا، وحركته عوامل الغيرة على الوطن؛ لأن مكان المعرض في قريته مسقط رأسه، فهب لساعته وأرسل مائة ريال باسم اللجنة في لبنان مساعدة لهم في حركتهم. وبعد شهرين جاءه جواب كتابه ممضيا باسم المتصرف، وعلى الظرف كتب هكذا «لمطالعة الشهم الوطني الغيور نصر بك البيطار.»
أما نصر فلما جاءه الجواب لم يصدق - بادئ ذي بدء - أن الكتاب له، فقرأه أولا وسمع المتصرف يهذ بحمده، ويكيل له عبارات الثناء على كرمه ووطنيته، ثم قرأه ثانية وعيناه تكادان تتفجران تبحرا في عبارات الكاتب، ثم قرأ الظرف ذهابا وإيابا وعيناه لا ترفان، وقد قرأه أكثر من عشر مرات متوالية، حتى كبرت أمامه كلمة «بيك» إلى درجة أن كاد الظرف لا يسعها.
بك! نصر بك البيطار! بك! بك!
وقد ظل المسكين زهاء ساعة، تارة يقرأ رسالة المتصرف، وطورا يقرأ الظرف، وهو بين مصدق وغير مصدق، أهو يا ترى نصر بك البيطار، وإذا لم يكن هو فمن؟! هو نفسه.
وأخيرا، عاد إلى المسكين رشده فأيقن أنه هو نفسه نصر بك البيطار، وأن كلمة «بك» جاءته لقبا من دولة المتصرف، جزاء له على خدمته للوطن. ثم عاودته الفكرة فساءل نفسه: «أهي غلطة يا ترى من المتصرف؟ وهل يغلط المتصرف؟»
لا، لا، ليس بالمسألة غلط البتة، فالمتصرف أنعم عليه باللقب والأمر لا يحتاج إلى برهان ولا إلى شاهد حال؛ فما كتب بالحبر على الورق لا سبيل إلى التردد في تفسيره، المسألة واضحة؛ فإن الخط خط المتصرف بيده - نصر بك البيطار - لا حاجة إلى بيان وكفى.
ولم يمض ذلك النهار حتى عرف أكثر الذين يعرفهم أنه صار بيكا، فصار منزله مقصد المهنئين، ثم وصل الخبر إلى الجرائد فنشرته وذيلت الخبر بالتهنئة أيضا، وأن اللقب صادف ربه عن كل جدارة واستحقاق.
أما مالية نصر بك البيطار فلم تجتز خمسة آلاف ريال في حين حلت عليه بكوية المتصرف، وقد كان كما ألمعنا ينتظر وصولها إلى عشرة آلاف ليصير تاجرا، ولكن البكوية وحمل الجزدان لا يتفقان؛ ولهذا فبالرغم عن قلة رأس المال اضطر المسكين أن يفتح تجارة بين التجار، ثم إنه كتب إلى أهله في القرية يعلمهم بالخبر المفرح، وهناك عيد أهله عيدا عظيما، محتفلين ببكوية ابنهم نصر، وشاركهم بذلك الفرح أهل القرية، وقد أنفقوا من البارود ما يبلغ ثمنه خمسين ليرة بذلك الاحتفال.
مضى على تجارة نصر بك زهاء السنة، وقد كادت تبلع خسائره رأس ماله، لأن أكثر زبائنه عرفوا موطن الضعف فيه، فكان واحدهم إذا أراد استزادته بالدين لقبه بالبيك، وإذا أحب استنزاله بالسعر تملقه بعبارة «يا سعادة البيك»، فما كان من البيك أو سعادته يرى إلا الانصياع لإرادة زبنه الكرام؛ حتى أدى به الأمر إلى الخسارة، وفي نهاية السنة صفى أشغاله ووطن النية على العودة إلى الجزدان لئلا يحدث إفلاس بشغله، فيصير مضغة الأفواه، وهذا عار على ملقب مثله.
وقد كان لنصر بك كاتب يمسك دفاتره، وكان هذا شابا ذكيا يحتقر سيده لبكويته، وكثيرا ما اختصم الاثنان بشأنها؛ لأن الكاتب لم يناد نصرا ملقبا بالبيك إلا بعد تهديد بالطرد، ولكنه في آخر أيامه عنده ككاتب صار يكثر من تلقيبه بالبك على سبيل الفكاهة، فكان يناديه ضاحكا، وهذا مما كان يغضب نصرا، ولكنه كان يغضي عن ذلك لعلمه أن أيامه معدودة، فإقفال المحل سيكون في آخر الشهر، وحينذاك يفارقه ويتخلص منه.
في آخر أيام لتجارة نصر بك اجتمعت بكاتبه، فأنباني أن محل بيطار بك قد أقفل، فهززت رأسي تأسفا على خسارته، وقلت للكاتب إن تجارة ذلك المسكين لم يكن لها محل من الإعراب. فأجابني وهو يبتسم وقال: «الحق ليس عليه، بل على المتصرف في لبنان.» فقلت: ما دخل المتصرف بذلك؟ فأجاب وقال: «إنه غلط ولقبه بالبيك، فدخل التجارة ليعلي مقامه فانتهى أمره بالخسارة، وهذا كل ما كان.»
فضحكت للأمر وضحك معي الكاتب، وقد تحركت شفتاه كأنهما تريدان أن تنطقا بشيء، ولكنه لم يرد أن يخرج صوته، وهذا لا يخفى علي، فسألته أن يقول ما في ضميره، فتردد أولا، ولكنه ضحك ضحكة شديدة وقال لي: «اقترب مني لأريك.» فاقتربت ومد يده إلى جيبه، فأخرج قطع ظرف قادم من البلاد، وعليه ختم دار الحكومة في بعبدا، فتطلعت إليها بشوق لأرى ماذا فيها، فما كان منه إلا أنه وضع كل قطعة بمكانها الأصلي قرب بعضها، وقال لي إذ ذاك: اقرأ، فقرات هذه العبارة:
حضرة الخواجة نصر البيطار، من قرية عمطير ونزيل الولايات المتحدة.
قلت: أهذا هو نصر بك البيطار، فقال: «هذا هو بعينه، وهذا الظرف هو بخط نفس المتصرف الذي كتب لذلك المسكين منذ سنة، ووضع له لقب بيك مع اسمه.» قلت: ومن مزق هذا الظرف؟ قال: «نصر بك أو الخواجة نصر نفسه عقب وصول هذا الكتاب من دولة المتصرف إليه يسأله فيه شيئا تافها، وقد مزقه ولعن المتصرف، أما أنا فجمعت قطع الظرف لأعرف سبب سخطه على حاكم بلاده، وبعدما عرفت السبب الآن أشاركه بلعنة المتصرف، ليس لإرساله هذا الكتاب بل لذاك الجواب الذي كلف المسكين كل ماله المجموع بعرق جبينه وعناء سنة وربما سنين، وضحك الناس وازدراءهم».
ابن غير عصره
عندما ودع أبو ريا سيده في المدينة قال له إنه لن ينسى فضل البيت الذي ربي فيه منذ كان طفلا إلى أن بلغ سن الكهولة، وما كان ليترك خدمته لولا أن في رأسه موالا يريد أن يغنيه، وذلك الموال مشوار إلى أميركا.
أما سيده فبعد أن أعيى من إقناع خادمه أبي ريا بالبقاء عنده مع زيادة في الأجرة، هز يده متأسفا وقال له: «يا أبا ريا، إنك ربيتني، وكنت لي كأخ ورفيق في زمن شبابي، ثم ربيت أولادي وقد حملتهم ذراعاك أكثر مما حملتهم ذراعي، وقد رأينا منك في السنين العديدة التي خدمت بها بيتنا من زمان المرحوم والدي إلى اليوم ما يجعلنا نعتبرك واحدا من العائلة، ففراقك سوف يؤلمنا، ولكنك تلح بترك الخدمة فعساك أن تتوفق، واعلم أنه حين تعود بيتنا مفتوح لك، ووظيفتك ترجع إليك في حال رجوعك، طمئنا عنك ولا تنس معلمك والأولاد الذين ربيتهم وقد تعلقوا بك كأنك أبوهم.»
وركب أبو ريا البحر، قاصدا أميركا؛ المرتزق العظيم لمن أوصدت أبواب النجاح بوجهه في سوريا. سار وقد أثر فيه وداع سيده وأولاد سيده أكثر من عائلته، وقد تردد وقتا بالعدول عن عزمه إلا أن ذلك الموال كان غلابا، فترك المقادير تجري بأعنتها، وهجر الأهل والوطن، متكلا على الله الذي لا يخيب أمل خائفيه.
في أميركا قطع أبو ريا سنوات يشتغل في مزرعة بعيدة عن نيويورك، ولم يبرح منها إلا حين وطن النفس على العودة إلى الوطن. أما شغله فلم يتصل بي نوعه، ولكني علمت أنه كان عاملا شديد الحرص كثير الاجتهاد.
عرفته بالسمع إذ كان صديقي سليم الرقاش يذكره أمامي في أحاديثه، فكان يخبرني أنه في أميركا وعلى مقربة من نيويورك خادم لهم اسمه أبو ريا، وقد مضى عليه سنون عديدة، ولا بد أن يكون ناجحا. ولم يكن صديقي يعلم مقر ذلك الخادم ولا اجتهد في الحصول على عنوانه، إلا أنه كثيرا ما كان يذكره قائلا إنه كان مربيا له، وقد كان في بيت أبيه نعم الخادم الأمين.
صديقي سليم الرقاش شاب من عائلة طيبة، لا بل من العائلات الموصوفة بالأكابر، وقد درس العلوم في أحسن مدارس سوريا، وتضلع من أربع لغات حية، إلا أنه قصد أميركا؛ لأن أباه عزل من وظيفته وانحطت حالتهم المالية، وكشاب متعلم تربى على العز والبذل رأى في انحطاط مالية أبيه حطة له في البقاء بين أترابه، الذين اعتادوا أن يروه كثير البذل بقطع أيامه في القهاوي على الملاهي لا يعمل عملا لأن أبناء الأكابر لا يعملون؛ ولهذا أراد أيضا أن يغني الموال السوري كما غناه مربيه وخادم أبيه أبو ريا، فقصد أميركا للارتزاق، إلا أن هذا الشاب في أميركا لم ير بابا لارتزاقه؛ فقد جاء إلى العالم الغريب بأخلاقه وعلومه، فكان يشتغل مضطرا، ويعمل إذا أعوزه الحال، ثم يترك العمل حالما يرى أنه يستطيع أن يقتات وينام، فأدى به الحال إلى نزوعه إلى داء المتهذبين القليلي العمل وهو المقامرة، فكان ينام النهار مكبا على إحدى طاولات القهوة، ويعمل الليل ساهرا على قلب الورقة، فإذا خسر فدين عليه وإذا ربح فربحه عون له على يومين أو ثلاثة. وقد قطع سنوات وهو ملازم لهذه الحال، يتدرج من سيئ إلى أسوأ، إلا أنه كان محبوبا من جميع معاشريه للينه وأخلاقه الكريمة وحسن معاشرته، وكان أيضا عونا لزملائه لدى وقوعهم في مشاكل؛ لأنه كان ضليعا من اللغة الإنكليزية، فكان يترجم لهم في المحاكم، ويرافقهم في مشترى الأمتعة والحاجات إلى ما شاكل.
أما أصل تعرفي عليه فقد كان صدفة، وقد عرفني عليه صديق لكلينا، فملت إليه لما أنست فيه من علم وتهذيب داخلي، بالرغم من سوء مظاهره وعكفه على المقامرة وقلة عمله أو عدمه؛ فقد كنت أحب الاجتماع به للمحادثة بأمور عديدة؛ فقد رأيته ملما بشئون كثيرة، يستطيع محادثه أن يخوض معه بمواضيع علمية وسياسية واقتصادية وغيرها، وما كنت أعلم كيف أن شابا بحالته ومعارفه يأبى أن يعمل ويترك ميدان النجاح لغيره ممن دونه مقدرة وتهذيبا، فيؤثر البقاء على آلامه على أن يقتاد لنفسه الراحة من وراء التحصيل والبلوغ إلى ما تطمح إليه النفس المهذبة الشابة. ولكني لما لم أكن أعرفه لم أقو على سؤاله، فكنت أتجاهل حاله؛ لأن ذلك لا يعنيني وأرافقه في معارفه وأخلاقه؛ لأن هذه تتصل بمعارفي وأخلاقي.
في يوم من الأيام كنت وسليما نشرب القهوة في إحدى القهاوي، وقد ضمني معه مجلس فكاهة أو كما يقولون «تقريق»، وبينا نحن نضحك إذا بصاحب القهوة صاعد على السلم وخلفه رجل متقدم في سنه بثياب بسيطة أقرب إلى أن تدعى رثة بلا طوق ولا ربطة، وفي رجليه حذاء غليظ كالمداس وعلى رأسه قبعة كبيرة الدائرة كثيرة الخدوش.
وعندما وصل صاحب القهوة إلى القهوة أشار للرجل الموصوف آنفا، دالا على سليم، وقال له: «هذا هو سليم الذي قضيت يومين تسأل عنه كل السوريين.»
وفي تلك الساعة أبرقت أسرة الرجل فابتسم ابتسامة عريضة، وأسرع خطاه إلى سليم فصافحه، وقد قارب لسانه أن يعقد من كثرة فرحه، ثم انحنى قليلا نحو يد سليم وأراد أن يلثمها، أما سليم فلم يعلم من هو الرجل، ولا ماذا يريد، ولكنه أعطاه يده مسايرة، ظانا أنه غلطان، ولما أراد ذلك الرجل أن يلثم له يده وقد شعر أنه في مهمة لثمها لانحنائه المتباطئ عليها سحب يده بسرعة، وأجلسه إلى كرسي وسأله: من العم؟ - أنا، أنا، ألم تعرفني يا معلمي؟ أنا أبو ريا مربيك وخادم أبيك؟ أنسيت أبا ريا يا معلمي سليم؟
عند هذا التعريف عاد سليم فهز يد الرجل هزا كثيرا، وأخذ الاثنان بالكلام فتساءلا وتجاوبا، وأفرغ كل جراب أخباره للآخر، وقد رأيت دمعة تتجمع في عين الشيخ وكادت تنهدر، فمسحها بطرف كمه، ولما أراد سليم أن يعرفني على ضيفه هززت يده، وقلت له إني أعرف شيئا عنه؛ لأن سليما كثيرا ما كان يذكره أمامي.
وعاد سليم إلى محادثته فقال له: أي، يا أبا ريا، لو كنت أعرف أين مقرك لكنت زرتك حيث كنت خلال هذه السنوات، والآن ما حالك؟
فأجابه قائلا: إن التقادير أرسلتني يا معلمي إلى أميركا، فاشتغلت فيها والحمد لله حصلت على النجاح أكثر مما أستحق، وها أنا ذاهب إلى سوريا لمشاهدة الأولاد والعيال، فلم يبق في سراج حياتي من الزيت إلا ما يكفي لأيام معدودة، سأقضيها بينهم. - خبرني كم ريالا آخذ معك من أميركا؟ - إيه، نحمده على كل حال، منحنا أكثر مما نستحق ومن فضله وكرمه في جزداني خمسة عشر ألف ريال.
عند هذا أجابه سليم: أنت معك خمسة عشر ألف ريال، وتأتي لتبوس يدي! كان يجب عليك أن تمد يدك من الباب لدى دخولك حتى أنا آتي لأقبلها.
وعاد أبو ريا إلى الوطن، فودعه سليم إلى الباخرة، وقد رافقته لاستطلع شيئا من حالة الاثنين، فساعدنا الشيخ بإيجاد محل له بين ركاب الدرجة الثالثة، وبعدما خرجنا من الباخرة قطعنا أربعة مربعات دون أن يكلم واحد الآخر، ثم شق سليم حجاب السكوت بقوله: ألا ترى أننا نحن لم نخلق لهذا العصر؟
فقلت: كيف؟
فأجاب: نحن في عصر قسم الدنيا فيه إلى عالمين: عالم قديم وعالم جديد، وهذا الجديد ليس لأمثالنا بل لمن يحصلون الدينار من قلب الصخر، ويكتنزونه في قلب الصخر، وأما ذاك القديم فصار لهؤلاء الناس الذين يعودون إلى أوطانهم بريالاتهم، فيبنون المنازل ويشترون الأرض، ويكون لهم المحل الرفيع في عيون الناس لما في جيوبهم من الريالات.
نحن لم نخلق لهذا العصر!
من أول الطريق
كان الناس من أقارب فهد الضاهر ومعارفه ومواطنيه يرثون لحاله كلما رأوه، ويأسفون على ما يضيعه من الأيام سدى، ويهزون رءوسهم آسفين، وقائلين من أعماق قلوبهم: الله يهديه بحسنة أبيه المسكين وأهله في الوطن!
أولئك كانوا عارفين بحالة عائلته في الوطن؛ فإن أباه أقعده المرض عن العمل ، وهو رب عائلة كبيرة، فما كاد ينهي فهد دروسه الابتدائية حتى استدان له أبوه مبلغا من المال، فأرسله إلى أميركا؛ ليكون له عونا على دهره، وزوده بالنصائح الوالدية والأدعية الأبوية، وقال له: انظر يا ولدي حالتي؛ فإني بها ليس لي إلا الله وأنت من نصير لتحسينها ودفع البلاء عن العائلة، فاذهب إلى أميركا بلاد العمل، وكن رجلا واذكر ألا أمل لي بالفرج إلا بك.
ووصل فهد إلى أميركا، وكان، بادئ ذي بدء، شابا يتلهب غيرة على أبيه المسكين رب العائلة الكبيرة، وقد عقد نيته على أن يبذل كل ما استطاع ليساعد أباه في حاله.
شاب مهذب جميل الصورة، لو أنه لبس فسطانا وبرنيطة للسيدات - وهو كما هو حليق الشاربين طويل الشعر قليلا، أبيض البشرة، أحمر الوجنتين، كبير العينين، مستدير الوجه - لقال الناس إنه من أجمل الفتيات.
وقد كان المذكور في بادئ أمره لا يشغل رأسه إلا الافتكار بحالة أهله والطريقة اللازم اتخاذها لمساعدة أبيه، فاضطر إلى الاستخدام، وكان يرسل إلى أهله ثلث ما يحصل إلا أنه بعد حين اقتصر على إرسال الربع، ثم بعد أشهر على أقل من الربع، وبعدئذ ترك عمله كمستخدم في محل تجاري؛ لأن نفسه عافت الحصر ومالت إلى الاستقلال، فاضطر إلى امتهان البيع بالجزدان، وصار يتنقل من بلد إلى آخر متكلا على مظهره الخارجي البديع ولفظه الإنكليزي الجميل وبعض اجتهاده، وكان يطمح إلى التعرف بأكابر العائلات الأميركية، مترقبا منها الإنعام الكبير وقد حصر كل طموحه في أن يصير عميلا لبيوت الأغنياء في المصيفات والمشتيات.
شاب جميل الخلق إذا وقعت عليه عين قالت صاحبتها: سبحان من خلق! هذا هو فهد الضاهر. وقد كان أيضا هو نفسه ولوعا بجماله، فلم يكن يذخر وسعا ولا مالا ولا وقتا لجعل هيئته ملائكية، معتقدا من نفسه بأن للمظهر الخارجي كل التأثير على الناس الأغنياء والأكابر؛ ولهذا لم يكن قادرا على التوفير؛ فإن كل ما كان يربحه من شغله لم يكن إلا بعض ما تتطلبه نفسه من لباس ومعدات للزينة، وبناء على هذا انقطع عن مساعدة أهله بعد مدة وصار لا يرسل إلى أبيه مبلغا من المال جزئيا إلا بعد أن يكون قد جفف أبوه المحابر، وكتب إلى أناس أقرباء يستعطفون ولده لينجده؛ ولهذا كان الناس الأقارب والمعارف دائما يأسفون على ما وصل إليه ذلك الشاب، ويطلبون له في قلوبهم الهداية لعله يقلع عن البذخ فيوفر مالا يساعد به أهله المعوزين.
وكان فهد يتألم كثيرا لعدم استطاعته مساعدة أبيه، ولكنه في الوقت نفسه يشعر بدافع من نفسه للطموح إلى الغنى الفجائي عن طريق جمال الصورة وحسن الهندام، وهي حالة أليمة لم يكن له مناص من تعذيب عامليها، إلا أن العامل الذي غلب منهما هو الدافع النفسي فيه للزينة والتبرج.
وكثيرا ما كان فهد ينفق على لباسه الخارجي كل ما معه في حين أن معيشته الداخلية لم تكن موازية للخارجية منها، فبينا تراه كأنجال الأمراء محيا ولباسا، إذا هو ساكن غرفة مفروشة ضيقة تحمل سريره وقدميه فقط وهو واقف، وبينا ترى طقمه ظريفا وقميصه حريريا وعقدة رقبته تماثل جراباته لونا يكون المسكين بلا «أندروير»، أو أنه بمقتضى ما يظهر فيه من حسن الهندام يظن رائيه أنه يعيش في أحسن نزل بأميركا، ولكنه في الحقيقة كان غذاؤه لا يزيد ثمنه على ثلاثين سنتا. وهي حالة كانت تعذب فؤاد فهد وتضنيه، وتحمله على المواظبة في عمله، ولكنه لم يصل إلى مرماه.
وذلك أنه تمكن في السنوات الأولى من أن يملأ صفحات كتابه اليومي من عناوين أحسن العائلات الغنية، وقد كان مرضيا عنه ومقربا منها محبوبا من أفرادها، ولا سيما السيدات اللواتي أحببن منه جمال الخلق، فكن يشترين من بضائعه ويعطينه رسائل توصية إلى صديقاتهن في البلاد الأخرى.
وانتهى الأمر بأن فهدا تزوج، وقد تناولت صحافة البلاد أمر زواجه الغريب؛ فإنه وهو شاب على ما وصف به آنفا قد اختار لنفسه عروسا متقدمة في سنها، تزيده عمرا لا أقل من ثلاثين سنة؛ أي إن أصغر أبنائها يزيده بضع سنوات، وهي من عائلة معروفة في أميركا، وأرملة أحد مشاهير الماليين. وقد عقب هذا الزواج الغريب قيام عائلتها عليها وعلى زوجها، فأوصلوا الأمر إلى المحاكم، مدعين عليها بأنها خرفة، ولكنهم فشلوا بحملاتهم عليها وبقيت زوجة فهد، وصارت بحق الشريعة مسز ضاهر امرأة الشاب السوري الظريف فهد الضاهر.
أما السوريون؛ فقد تناولت ألسنتهم تلك الحادثة متعجبين، وقد ذهبوا مذاهب شتى بتفسيرها وتحبيذها وانتقادها، إلا أنهم بعد أيام قد أزاحوها من رءوسهم، ولم يعد فهد الضاهر وزوجته يملآن أدمغتهم، وصار المذكور عندهم معدودا من الأغنياء؛ لأن ثروة زوجته تبلغ الملايين.
ولا مراء بأن فهدا قد ضحى شيئا من نفسه ليخلص نفسه من عامليها المعذبين: عامل الطموح إلى المعيشة المرفهة، وعامل البنوة وما عليها من الواجبات لدى أب مريض مسكين كل أمله في الحياة نجاح ولده الأكبر فهد الضاهر.
أما فهد الضاهر اليوم، فهو مطلق لا زوجة له ولا ثروة كبيرة؛ وذلك أنه بعدما صرف سنتين مع زوجته المتقدمة في السن لم يعد في قوس صبره منزع، فثار على شريكة حياته وساعده بثورته هذه بعض أنسبائها وأحد أبنائها، فرضوه ببعض المال ليتخلص من زوجته الشرعية، وبعد مرافعات انتهى الأمر بطلاقه منها أم بطلاقها منه.
وقد بلغني ما انتهى إليه أمر فهد المذكور فعجبت لانسحابه من نصف الطريق، بالرغم من أنه استعد لأن يعبره كله، وقد أحببت الوقوف على تفاصيل المسألة، لا لأعرف ميله في تزوجه من تلك السيدة الغنية، بل لأفهم لماذا لم يبق زوجها حتى تموت، ويرث بعدها ملايينها.
اجتمعت به فجاذبته الحديث عما جرى له، فقال لي إنه اضطر بالزواج؛ لأنه قال في نفسه إن تلك السيدة قاطعة السبعين من عمرها، فمهما يطل عمرها لا يقطع الثمانين إن لم يكن أقل، ولكنه أخيرا تيقن أن زوجته في الحقيقة أصغر عمرا مما ظن؛ فإنها لم تقطع الستين؛ ولهذا قال في نفسه من أول الطريق ولا لآخرها.
تمثال الحرية
ما كاد أبوا نخلة المعصوب يفرحان به، أي يزوجانه ببنت حلال كما يقولون إلا ودخل في عقله ضرورة الذهاب إلى أميركا لبناء المستقبل، وبالرغم من بكاء أبويه وإلحاحهما عليه بالبقاء ودع الأهل والخلان، وسار بعروسه قاصدا بلاد أميركا كعبة المرتزقين.
أما عروسه، فكانت فتاة أصغر منه بعشر سنين، وهو في الثامنة والعشرين، وقد كان في بدء عهده بالزواج أميرا في بيته؛ إذ أنزل في قلب امرأته الرهبة، فصارت تعتبره سيدا أكثر من زوج، وتدأب على نيل رضاه بكل ما يتطلب، وكان هو يحبها كثيرا، ولكنه كرجل ظل محافظا على مقامه كسيد للبيت ورأس للمرأة، له المقام الأول وله الأمر، وما عليها إلا أن ترضيه وتتبع أوامره.
ولقد فكر طويلا بادئ الأمر بأن يقصد أميركا وحده ثم يستقدم إليه امرأته، إلا أنه لم يقو على مفارقتها لأنه شعر بحبها وبالحاجة إلى ملازمته إياها؛ ولهذا أخذها معه وسار إلى بيروت ومنها إلى مرسيليا فنيويورك فالداخلية، واستقر في قرية كبيرة من قرى ولاية أوهايو.
في السنة الأولى لوصوله ذاق نخلة المعصوب أهوالا بتحصيل معاشه؛ فإنه لم يحصل على شغل يدر عليه نفقات العائلة إلا بعد الجهد، وقد تراكمت الديون عليه من أنسبائه وخلانه، ولكنه عمل أخيرا إنما عملا يكاد لا يفي بالمطلوب، وبقي هذا حاله ثلاث سنوات، تارة يبيع السلع وأخرى يشتغل في المصانع بالأجرة، وهو لا يزال كما كان آكلا شاربا مع امرأته، وإنما الديون للناس تضيق عليه الخناق، وأصحابها ولئن كانوا من أخصائه ولكنهم لم يسعفوه بها لتظل في ذمته إلى الأبد؛ ولهذا صاروا إذا اجتمعوا به يشيرون عنها فيفهم منهم المقصود، ويعللهم بالمواعيد حتى نفدت حيله.
وجاءه نسيب له من الناجحين في البلد وذو مخزن كبير، يبيع منه البضائع الرائجة اللازمة لباعة الجزدان، فقال له: «يظهر أن أحوالك لن تصطلح؛ فإنك بعد الجهد تستطيع أن تقوم بأود البيت، فلماذا لا تعمل حركة لتفي ديونك، وتخلص ذمتك من الدائنين، وتوفر لك كم ريال؟»
فأجابه نخلة متنهدا من قلب محروق، وقال له: وما هي الحركة لأحصل أكثر مما أحصله؟ - الحركة، هي أن تبقى أنت في الفبركة، وتذهب الست إدما للشغل بالبيع، وأنا أملأ لها جزدانا كبيرا وأدربها على العمل فتساعدك على الحال، وأؤكد لك أنه لا يمضي عليكما سنة حتى تنتفضا من الديون التي عليك، ويكون لك مبلغ في بنك التوفير.
أما نخلة فقد مانع كل الممانعة، وكادت دموعه تنزل من عينيه لاضطراره إلى عمل امرأته، ولكنه اقتنع من نسيبه؛ إذ بين له هذا أن المسألة بسيطة جدا، وقد تصعب على الذين يقدمون إلى أميركا حديثا، لا سيما إذا كانوا من العيال المعتبرة في البلاد، أما هنا في أميركا فالنساء أنجح شغلا من الرجال، والمرأة تسابق الرجل في العمل.
وقبل من نسيبه هذا الاقتراح، ولم يمض على الست إدما نصف سنة حتى صارت من البائعات الناجحات تماما بالطبع بعد شقاء العلم والتدرب على أساليب البيع واختطاف اللغة الإنكليزية من ألسن الناطقين بها.
بعد ست سنوات نقلت عائلة نخلة من أوهايو إلى مدينة نيويورك لأنها كبرت؛ فقد رزق الله نخلة ثلاثة أطفال، وظلت امرأته تقصد أبواب الرزق، بينا هو كان يعتني بالأطفال في غياب أمهم، وقد ترك العمل، وأصبحت الحياة كلها عنده وعند عائلته معلقة بجزدان «الست».
بعد هذه المرحلة لم يعد نخلة أميرا في بيته، بل صار أجيرا لامرأته وأطفاله، وصارت هي رأس العائلة، وقد تدرجت من حالة إلى أخرى حتى صارت الآمرة الناهية، وزوجها: «لبيك عبدك بين يديك.» لا يجسر على الاعتراض، ولا يستطيع أن يفوه بكلمة انتقاد أو اقتراح إلا الاستحسان والامتنان.
وظل نخلة يبلع الهموم ويهضمها حتى تعطلت معدة احتماله؛ ففي ذات مساء عادت السيدة إدما من شغلها إلى البيت فما وجدت نخلة، ورأت الأولاد يبكون ويشهقون، وبعد أن دبرت حالهم بالتي هي أحسن نزلت تفتش عن زوجها وفي قلبها نار الغيظ تضطرم، فعثرت عليه جالسا على مقعد في حديقة الباتري، وهو غائب عن هذه الدنيا بأفكاره، يقابل بين حالته في بلاده حيث كان أميرا وحالته في مهجره حيث صار أجيرا، فانهالت عليه إدما بالسباب والتعييرات، وقادته إلى البيت، وأخطرته أنه إذا أعادها مرة ثانية تطرده من البيت، وتستخدم أحدا يعتني بأطفالها في غيابها بأقل ما تنفقه هي على مأكله ودخانه. فأجابها وقد فرغ إناء صبره: تطرديني من البيت! أولست أنا رجل البيت وأبا الأطفال وزوجك؟ فقالت: أنت رجل البيت وأبو الأطفال وزوجي في بلادك، وأما في أميركا فأنا كل شيء، فما زال تمثال الحرية رافعا يده، وهو تمثال امرأة، فأنا لي الحق أن أرفع يدي في بيتي وآمر وأنهى، أعجبك هذا كان به، وإلا فاختر لنفسك ما يحلو.
عندئذ تذكر نخلة تمثال الحرية، فعرف ما معنى يده المرفوعة وفي قبضته ضوء، وقد كان في حديقة الباتري حيث التجأ يشغل فكره أولا بما معنى رفع يد ذلك التمثال، ثم استرسل إلى افتكاره بحياته الماضية وما حل على رأسه في أميركا، فأجاب امرأته إذ ذاك بصوت خافت وقال: إذا كان ذلك التمثال رافعا يده فأنا أرفع يدي الاثنتين من كل أمر، ولكن عندما نعود إلى بلادنا سأرجع بإذن الله رجلا، ولي حق الرجال.
من الدب إلى الجب
كنت أسمع أن أم طنوس راغبة في العودة إلى الوطن، ولكنها مضت عليها نحو سنة ولم تتزحزح من مكانها، فسألت عنها أحد أقربائها لماذا لم تسافر أم طنوس بعد أن أكدت لي أنها ذاهبة لترى زوجها وأولادها بعدما مضى عليها أكثر من عشر سنين؟ فأخبرني ذلك الرجل أن للمسألة قصة طويلة عريضة، وأنه إذا أراد أن يخبرني بها لا يصل إلى آخرها حتى ينشق من الضحك.
فقلت له: لقد زدتني رغبة في الوقوف على حقيقتها، فأخبرنيها.
قال: تعلم أن أم طنوس جمعت أموالا كثيرة بالاجتهاد الكثير والاقتصاد العجيب، وقد كانت تشغل مصاريها في محل تجاري سوري صاحبه من نفس القرية التي هي منها، وكان يضيف إلى مالها عليه كل سنة فائضا عشرة بالمائة، وظلت هكذا كلما توفر لديها خمسون أو مائة ريال ترسلها إلى ذلك المحل لتقلب دراهمها بالفائض حتى انقلبت دراهمها انقلابا وصل إلى الهاوية؛ إذ أفلس المحل وذهبت البيضة مع التقشيرة، فلم يبق لأم طنوس إلا العافية الطيبة والهمة مع الانتقام من ذلك التاجر الذي أكل مالها، وصارت أم طنوس لا تؤمن بعد ذلك الحادث بأحد من الناس، حتى إذا قيل لها إن فلانا تبلغ ثروته الملايين، ولا بأس أن تخزن ماليتها عنده لتربح الفوائض، تجيب بأن العب أحسن بنك، وأنه إذا ضاعت الأمانات فاجعل مخزنك عبك.
وصارت أم طنوس منذ سنوات تعمل باجتهادها الكثير لتعوض عما مضى من الخسائر، تمشي من بلد إلى آخر، وعلى ظهرها كشة وفي يدها بقجة، فتتحمل حرارة الشمس الثقيلة بصبر كلي، وكلما توفر لديها بعض الريالات من عملة الورق بسعر عشرة فما فوق تكنزها في داخل صدرها، وقط لم يخطر ببالها أن تعد ما صار معها من المال لئلا تطير البركة، وكانت ريالاتها الملصقة بلحمها ترافقها بالأسفار، وتبقى معها في الفراش حال المنام، ولم يكن من لحظة واحدة فارقت بها أم طنوس صرة ريالاتها.
وجاء الوقت الذي علم الناس به أن أم طنوس عازمة على العودة إلى الوطن فباعت بضائعها وصندوقها وسريرها الخشبي، وهيأت حالها للسفر؛ فقدمت إلى نيويورك لتشتري جوازا للسفر، وتغير العملة الأميركية التي معها إلى ليرات.
واسمح لي أن أختصر ما يمكن اختصاره؛ فإن للمسألة شروحا طويلة، ولكني أكتفي بالجوهر، فأقول إن أم طنوس على ما يظهر لم تبعد الريالات عن جسمها ولم تخرجها لحظة كل تلك السنوات لعلها تشم الهواء قليلا وتحافظ على صحتها؛ لأنه كما لا يخفى عليك الريالات مادة يطرأ عليها الهراء والتعفن، زد على أنها مع حضرة أم طنوس كانت تبلع كمية وافرة من العرق الذي أفرزته حضرتها في خلال أتعابها ومشاقها، وما أكثر ما أفرزته من العرق!
وهكذا صار؛ فإن أم طنوس عندما أرادت لأول مرة أن تخرج في نيويورك ما خبأته في عبها هلع قلبها، ورسمت الصليب ثلاثا، ثم توكلت على الله وسحبت تلك الضمة فأحست في البدء أن جسمها قد برد كما يشعر الإنسان إذا خلع عنه قميص الصوف، ثم وضعت الضمة أمامها، ويدها ترتجف.
هنا شرع المخبر يضحك، وصرت لا أستطيع أن أفهم منه النتيجة، ولم يكن يتمالك نفسه عن الضحك لكي يفهمني ماذا كان، إلى أن شبعت نفسه ضحكا، فتابع حديثه وقال: ولكن تلك المسكينة لم تستطع أن تستخلص إلا ورقتين بعشرة ريالات من كل تلك الضمة؛ لأن الباقي كان كأنه كتلة ورقة مطبوخة على النار، وعبثا حاولت أن تسترجع ما فقدته هذه المرة لأنها كانت كلما شكت أمرها إلى أحد الناس يضحك طويلا عليها، ويخبرها أن تستعيض الله.
وهكذا عادت أم طنوس إلى الداخلية لتعبئ بعض المال بعدما ذهب عناؤها أدراج الرياح، ولا أعلم كيف تخزن ريالاتها هذه المرة، ولعلها تركب الكار إذا أرادت أن تنتقل من بلد إلى آخر، محافظة على صحة الريالات.
كما صرنا تصيرونا
لفارس الدوار تاريخ تجاري مملوء بالحوادث؛ فقد أفلس أكثر من مرة، وأحرق محله مرات، ولكن السوريين لا يذكرون عليه شيئا من كل ما تأتى عليه؛ لأنه لم يؤذ بإفلاساته ولا بإحراقاته أحدا من السوريين، فكل الخسائر التي سببها كانت تقع على المتعاملين معه من أميركان وأجانب، ولهذا لم تجر عليه حوادثه حطا بكرامته بين مواطنيه؛ بل بالعكس لا يزال البعض يرمقونه بالاعتبار، وينظرون إليه كرجل فارس تجاري، خاض معامع التجارة فداس الصعوبات بسنابك ذكائه. نعم، وإن الكثيرين لا يزالون يصفونه بالذكي، والرجل الذي يعرف كيف يأكل الكتف. وكل هذا لأنه لم يؤذ أحدهم، بل كان يدفع ما عليه للمواطنين في الحال، أما إذا كان يأكل الديون الطائلة على الأجانب، فمن يهمه الأمر؟
ومن الحوادث التي جرت لفارس الدوار، أنه إذ كان قادما إلى محله باكرا على غير عادته منه لقي به أحد المواطنين الساكنين في الحي القريب من المحل، وللحال مال إليه ذلك المواطن بلهفة وقال له إنه عند الساعة التاسعة من مساء اليوم السابق إذ كان مارا أمام محله لاحظ النار تضطرم في المحل، وللحال استدعى رجال المطافئ فاطفئوا النار وقتلوا الحريق في مهده، فلم تمس البضائع بأذى وظل المحل سالما لصاحبه. قال هذا وقد ظن أنه سينال مكافأة حسنة على فعله إن لم تكن بالهدية فبالكلام على الأقل، إلا أن فارس الدوار لدى سماعه ذلك الخبر أخذ العرق يتصبب منه كماء القرب، وقد شعر أنه نقص وزنا لا أقل من خمسة بوندات، ولما أجاب ذلك المواطن على خبره قال له: «ويحك، لقد خربت بيتي!» ثم أتبع كلامه بضربة على جبينه، وكاد يقع كمن خارت قواه. أما المخبر فقد لاحظ أنه لم يأت عملا يرضي فارسا، فمال عنه كاسف البال كالصياد المستعين بالناس ليسحبوا معه شبكته الثقيلة، ولما يلقيها على الشط يرى حجرا فيها بدلا من السمك.
وقد كان دائما يقول في مجتمعاته مع مواطنيه السوريين إن السوري مقتول نجاحه؛ لأنه يرتجي النجاح من معاملاته مع السوري، وإن المعاملة مع الأميركان أفيد وأغزر نجاحا.
قضى فارس الدوار سنواته الأولى في عالم التجارة يأمل الربح من الشركات الكبيرة بضمانة المحال من الحرائق، إلا أنه في المرة الثالثة لم «يطابق حساب القرايا على حساب السرايا»؛ فإنه كاد يخسر كل ماله وحياته إذ أنفق ألوف ريالاته على المداعاة، وأخيرا انسحب بوسائط غانما نفسه؛ إذ كاد يزج في السجن، ولولا لطف الله لوقع بشر أعماله؛ ولهذا مال بعد تلك السنين إلى اكتساب الربح من وراء الإفلاسات والتسويات.
وفي هذه السنوات كان المحل الذي أنشأه مسجلا باسم ابنته الصغيرة، والمنزل باسم الأم احتراسا من مقدور يحل به، وما أكثر ما كان يخبئه القدر لفارس الدوار في حياته التجارية!
ومن حكايات إفلاساته، أنه في السنة الأخيرة لشغله كان محله أشبه بالمصرف؛ فقد خلا من كل بضاعة ولم يبق فيه إلا الدفاتر، وكان هو مع الكاتب والمستخدم يصرفون ساعات النهار بالتقييد والإمضاء والذهاب إلى البنوك وكسب تواقيع الجيران والأولاد والبنات وأسماء كثيرة لا أصل لوجود أرباب لها لكي تحسم سنداته في المصارف.
وفي تلك السنة ظهر لفارس الدوار إعلان في الجرائد العربية أن محله حاضر لقبول الأمانات المالية التي يدفع عليها فوائد جيدة، ويظهر أنه «كبر البلعة» لصاحب تلك الجريدة، فعقد له فصلا في باب التحرير جاء فيه: إن الثقة بمحل فارس الدوار كبيرة، وأن المواطنين يقبلون زرافات ووحدانا إلى محله ليستودعوه أموالهم، إلى ما هنالك من الكتابات المأجورة.
وقد انتهى أمر المذكور بأنه فلس آخر مرة، وأخذ بجريرة التزوير في اليوم التالي لصدور ذلك العدد من الجريدة، وقد خرج تحت كفالة مالية بمساعدة امرأته، وأنفق على دعاويه في هذا الشأن ألوفا من الريالات، وهو اليوم يشتغل سمسارا، يشتري لتجار الداخلية بمقابل معلوم من المشتري والبائع كل بسر الثاني.
أما الجدير ذكرا بقصة فارس الدوار، فهو أنه كان يعزو نجاحه في سنوات الحريق إلى تعامله مع الأجانب، فلما كان ما كان معه في سنوات الإفلاسات والتسويات صار أثبت برهانا على مبدئه الأول، وهو أن معاملة السوريين تورد المرء حتفه التجاري، فكثيرا ما يتنهد أمام الناس، ويقول إنه لو بقي على معاملاته مع الأجانب لكان اليوم من أرباب الملايين، إلا أنه لسوء حظه مال إلى معاملة المواطنين، فصار ما صار على رأسه وخرب بيته، ثم إنه لليوم يندب سوء طالعه بارتكابه تلك الغلطة إذ مال إلى مواطنيه فعاملهم، وخربت تجارته؛ حتى إنه لا يستحيي أن يصرخ بالذين يطالبونه بالأمانات، وقد وعدهم في بادئ الأمر بالوفاء أنهم كانوا سبب خرابه، فلولاهم لظل تاجرا كبيرا، ولكنه خسر من جراء رغبته في نفعهم ما لا تعوضه السنون الكثيرة.
هذا ما حدث له باختصار، ولكني مورد المغزى من حياة هذا الرجل، وهو أنه يوما ما إذ كنت موجودا في أحد المنازل زائرا، وكان حضرته من جملة الحاضرين، أطلعنا أحدهم على ما جاء في عدد ذلك اليوم من إحدى الجرائد، وفيه مقدمة طويلة عن نجاح المحل التجاري المعروف باسم «حمصوني وشركاه»، وبها يلفت المحرر أنظار القراء لمطالعة إعلانهم في الصفحة الثالثة. فما كان من فارس الدوار إلا أنه ضحك، وهز رأسه كثيرا وقال:
كما كنا كذا أنتم
كما صرنا تصيرونا
الثقة في البشر
في سنة 1890 وصل إلى الولايات المتحدة شاب في الثلاثين من عمره يدعى مصطفى الشاهين، وقد كان ذا مطامح تجارية كبيرة، إلا أنه كان خاليا من الأسباب التي توصله إلى مراميه؛ ولهذا اضطر أن يتاجر، وإنما متاجرة بسيطة، فكان يجول القرى والمزارع حاملا صندوقه الخشبي، يبيع الفلاحين دبابيس وأمشاطا وسلعا صغيرة، وظل خمس سنوات يعمل ويجد حتى توفر لديه زهاء ألفي ريال في الكمر الذي أتى به من البلاد، وكان يتمنطق به تحت القميص في الأول، خوفا على ما فيه من المال، ولما استأنس ولم يعد يخاف اللصوص لم يستطع أن يغير عادته؛ فقد جرب يوما أن ينزع عنه الكمر، ولكنه عاد إليه في اليوم التالي؛ لأن النزلة الصدرية مدت إليه يدها لتصافحه، ولكنه لم يمد إليها يده؛ ولهذا اضطر أن يعود إلى سابق عادته.
ورجل كمصطفى الشاهين لا يشغل عقله ووجدانه إلا أن يكبر في عالم المالية، ويصير على حسابه محل كبير يؤمه الباعة، فيغنم منهم الأرباح وهو جالس على كرسيه كالآمر الناهي، لا سيما وأنه اكتسب بعض الخبرة في جلب البضائع ومعرفة الغث من السمين منها يرى أن الألفي ريال التي ذخرها خير رأسمال للتجارة.
ولكن أين الزبائن؟
هنا سأل نفسه هذا السؤال، وأعمل فكرته في الجواب عليه.
إن المحل الذي يطمح إلى إنشائه لا يمكن أن يكون في نيويورك؛ لأن الرجل عارف نفسه أنه غير كفء للتجارة في بلد عظيم بين تجار عظام. وهو لا يفلح إذا أنشأه أيضا في قرية من القرى التي قضى سنوات هجرته متجولا فيها؛ لأن القرية الواحدة لا تكفي لنجاح المحل لقلة سكانها، في حين أنه لا يستطيع أن يحمل المحل على ظهره كما كان يفعل بالكشة، فيجرب حظه في هذه القرية وتلك.
ولكن المطامح في الناس تفتح بصائرهم مهما تكن كميات أدمغتهم، فبعد أن افتكر المذكور طويلا توصل إلى رأي أصيل، وفي الحال صفى شغله وباع كشته كلها، وأبقى من خرضواتها أشياء تستعمل في الوطن كالأمشاط والقناني الطيبة والخواتم والحلي الزائفة، وما شاكل برسم هدايا لذويه في الضيعة، وبعد أيام ركب البحر عائدا إلى أهله بما بقي معه من المال، متوكلا على الله.
ووصل مصطفى إلى ضيعته، فخف كل سكانها من العجائز والشيوخ إلى الأطفال بالتمائم للسلام على العائد الغني، ولا تسل كم كان معظم ذهول القوم من الثروة التي عاد بها إلى أهله؛ فإن أصابعه العشرة التي كانت ملبسة بالخواتم والدبوس الكبير في ربطته والأزرار الصفراء في كمي قميصه، والهدايا التي أتى بها إلى امرأته وشقيقاته وكلها من الجواهر، وما أهداه من الأجواخ والسلع الصغيرة إلى أقربائه وجيرانه، كل هذه كانت تنطق لهم بصوت عريض أن مصطفى الشاهين صار لا يشق له غبار. وصار الشيوخ يندبون سوء حظوظهم؛ لأن الشباب مضى قبل أن يعرفوا بأميركا، وصار الشبان يتقربون إليه ليدرسوا عليه أحوال أميركا وكيفية السفر إليها، وكم تكلف السفرة إلى ما هنالك. إلا أن مصطفى القادم بمهمة تجارية لقريته رأى في انشغاف القوم به سبيلا إلى الوصول لغرضه، فما مضى أسبوع واحد على وصول ابن الضيعة إليها من أميركا حتى ودت بما فيها من تراب أن تسير معه إلى أميركا، وهكذا بعد منتهى شهر عاد مصطفى إلى أميركا قائدا لجيش يبلغ عشرة شبان وعلى نفقته؛ ليفتح تجارة أميركا، ويصل إلى مرماه الذي طالما فكر به وتمنى الوصول إليه.
على الطريق الطويل عانى مصطفى بعض العناء بحملته التجارية، ولكنه بالرغم من ذلك العناء الكثير كان يسر بداخله؛ إذ يرى حوله رجالا سيبني عليهم مستقبله المجيد، وهم يرون فيه القائد البطل الذي سيصل بهم إلى عالم المجد والعز.
ولم يقتصر عناؤه بهم على جلبهم؛ فإنه عندما وصل بهم إلى القرية التي صمم أن يبني محله فيها كاد يتمزق في تدريبهم على حمل الكشات، وتعليمهم بعض العبارات الضرورية باللغة الإنكليزية قدر ما هو نفسه يعرف من اللغة التي اختطف لفظها، وصار يفك حاله بها كما يقول.
وهونها الله على مصطفى؛ فالمحل الذي فكر به أنشئ وجعل ذا قسمين: قسم داخلي ينام ويطبخ ويأكل ويستقبل ضيوفه فيه، وقسم خارجي فيه رفوف عليها السلع والعلب، وفي أرضه قوائم خشبية عليها مساطر البضائع.
السنة الأولى مضت على التأسيس وتدريب الجيش للغزو، وفي السنة الثانية استغل مصطفى شيئا يذكر من الأرباح، فأرسل منها كمية إلى قريته لجلب امرأته إلى أميركا، وفي السنة الثالثة ابتدأ يشاحن جيشه الذي صار أعضاؤه العشرة يشارعونه على الأسعار؛ لأنهم صاروا على شيء من الخبرة في المسواق، وتوسعت مداركهم بفضل التنقل من بلد إلى آخر، فصاروا يميلون إلى التمرد عليه ويتآمرون بين بعضهم البعض على مقاطعته، لولا أنه كان يستعمل الحيل في إقناعهم، فصار يلاطفهم ويدعوهم يوم الأحد إلى مائدته، ويكسب قلوبهم عن طريق المجاملة والنسابة.
مضت هذه السنوات وأشغال المحل تزداد وأرباحه تتضاعف، ولكن صاحبه كان يلعن حظه؛ لأن الأمور لم تأت على حسابه؛ فإن الأمر والنهي لم يعودا من وظائفه على فئة الزبائن الجلب.
عرفته في تلك السنوات وقد كنت أزور تلك القرية أحيانا، فأميل إلى محله لأسأله عن حاله، وأحادثه قليلا بينا أكون أترقب مجيء القطار.
إلا أني لتغيرات تجارية؛ إذ تركت المحل الذي كنت أمثله ولصقت بغيره لجهة أخرى من البلاد، لم أعد أسمع شيئا عن مصطفى الشاهين، ولكني كنت أصوره في عقلي فأقول: قد مضى علي خمس سنوات لم أره فيها، فيجب أن يكون اليوم شيخ البلد؛ لأن شغله ماش، وزبائنه من عظام الرقبة، ونفقاته في السنة من أرباح شهر.
من عام 1906 طرحتني الأسفار إلى تلك القرية صدفة، ولما وصلتها سرت في الحال لمشاهدة ذلك الرجل الذي تعرفت عليه لمجرد أنه يتكلم اللغة التي أتكلمها وهي لغة كلينا، وشد ما كان دهشي عندما رأيت صاحبي في غير المحل الذي كان له. رأيته عند باب بيت حقير قرب محله الأول، وحوله أولاد المدرسة من صبيان وبنات يبيعهم «آيس كريم» على «كون» بسنت كل واحدة. ولما سمعت جرس المدرسة يدق ترك الأولاد إحاطتهم بمصطفى راكضين إلى المدرسة، فتقدمت إليه وسلمت عليه، فسر كثيرا لمشاهدتي بعد غياب طويل تضمن حوادث كثيرة وقعت على ذلك المسكين.
ثم رأيته قد احتمل القدر الذي كان يبيع منه، داعيا إياي أن أدخل معه إلى المنزل؛ لأن وقت الشغل قد مضى، فدخلت لأعرف شيئا عما خفي علي من حاله.
وسألته: كيف أحوالك يا مصطفى؟ يظهر أن الأمور تغيرت معك.
فأجابني بتنهد عميق ولم يشأ أن يتلفظ، ولكنه قادني إلى غرفة صغيرة حيال الغرفة التي كنا فيها وقال لي: انظر، تأمل.
رأيت على الحيطان عشرة رسوم لعشرة أشخاص، وتحت كل رسم اسمه، فاقتربت من كل الرسوم لأقرأ الأسماء فإذا بها هكذا: أبو الألف، أبو الخمسمائة، أبو الستمائة، وهكذا قرأت أرقاما لأسماء تسعة من ذوي الرسوم، أما العاشر فتحته كتب هذا الاسم «أبو حواء».
فقلت، والضحك كاد يغلبني: ولكن ماذا تعني بهذه الأرقام؟ فأجابني: كل رسم دعوته بالكمية التي نصب علي بها ورحل إلى جهة لا أعلمها. قلت: ومن هو هذا أبو حواء؟
فأجاب: هو الذي خطف المرأة في الآخر، بعدما تواطأت معه على سرقة المحل الذي أقفلته الحكومة، وأشهرت إفلاسي.
قلت: فإذن أنت خسرت كل شيء يا مصطفى؟ فأجابني: نعم، خسرت كل شيء، وأكثر من ذلك خسرت شيئا لا تراه أنت. فقلت: وما هو؟ أجاب، وقد كدت أبكي لحاله: ثقتي في الجبلة البشرية!
مدنية الأميركان
لما غادر أبو راجي فلفل سوريا قاصدا أميركا، وطن النفس على ألا يعود إليها، فباع كل ما كان له من عقار وأثاث، وحمل عائلته المؤلفة من أم راجي وولدين إلى بلاد الناس.
وبلاد الناس عند أمثال أبي راجي هي أميركا؛ فإن سوريا ليست ببلاد الناس عندهم؛ لأن أميركا ذات الحرية والغنى، وأما بلادهم فبلاد الذل والخمول.
وهكذا كان، فأبو راجي ودع البلاد إلى بلاد الناس، غير آسف على هجره الوطن، معللا نفسه بالآمال وطالبا الوصول إلى أميركا؛ ليندمج بين شعبها المتمدن، أما شعب سوريا فلم يكن بنظر أبي راجي إلا كما ذكرنا ذليلا خاملا، فلا الوطن ولا آله ولا تاريخه أو تاريخهم مما يملك ولو ذرة من اعتباره وحبه.
ولكنه ما كاد يصل إلى نيويورك ويقطع شهرا واحدا حتى انقلبت الآية معه، فصارت أميركا عنده عبدا أسود، ومدنيتها في نظره دون مقام البربرية الأفريقية، وشعبها أقل شعوب الأرض ذوقا وذكاء.
والسبب في ذلك، أنه لم ير في نيويورك ما راق لخاطره وما انطبق على ذوقه وعاداته أو وافق ما تصوره قبلا بأميركا؛ فإنه سكن لدى وصوله بيتا لا تدخله الشمس مرة في السنة، وصدف أنه في الشهر الأول لوصوله إلى نيويورك كان الطقس رديئا جدا، فلم تنقطع خيوط المطر يوما واحدا؛ ولهذا انقبضت نفسه، وصار بغضه لأميركا يزداد سريعا يوما عن يوم، وقد أدمى أصابعه ندما، ولكن لات حين ندامة.
كل شيء رآه في أميركا لم يعجبه، حتى أقاربه لم يستأنس بقربهم، فكان كلما تطلع إلى أحدهم ورآه حليق الشاربين ينفر عن محادثته، ويأنف من النظر في وجهه، وإذا بالصدفة بدرت من أحدهم كلمة إنكليزية كان أبو راجي يهينه ويغلظ له بالكلام، ظنا منه أن ذلك المخطئ أراد الهزء به؛ لأنه لا يعرف حرفا من اللغة الإنكليزية.
وقد حدث لأبي راجي شئون كثيرة أدت إلى كرهه الكثير لأميركا، وصارت بلاده عنده آنئذ بلاد الناس، وأما بلاد أميركا فليست سوى بلاد البقر.
ومن تلك الحوادث أنه كان يوما مادا بساطه على رصيف سلم الحريق في بيته، وهو جالس الأربعاء، وفي فيه نرييج الأركيلة يشرق دخانها وينفخ، بينما كانت أفكاره سائحة في الفضاء لا تستقر بمكان، وفيما هو على هذه الحال إذا بصوت من الشباك الذي دخل منه إلى الرصيف، فانقطع في الحال عن افتكاره، وتطلع إلى الشباك فرأى بوليسا رافعا عصاه يتهدده بالضرب، فهب لساعته وحمل أركيلته ودخل بها إلى بيته، فأمسك به البوليس، وهزه هزات متتابعة طيرت رأس الأركيلة إلى الأرض، وهو لا يفهم من كلام البوليس كلمة، وقد ظن بادئ بدء أن البوليس غلطان به، فهو لم يأت أمرا فريا، ولكن لا حيلة له لإقناع البوليس ببراءته لجهله اللغة. عندئذ دخل عليهما بعض السوريين، فأفهموا البوليس أن أبا راجي رجل بسيط مسكين، وقد جاء حديثا من البلاد، وهو يجهل نظام المعيشة، فخرج البوليس بعد أن لان قلبه على أبي راجي وتركه وشأنه. أما أبو راجي فأخذته الحيرة كل مأخذ، وبعدما خرج البوليس انهال عليه بالمسبات والتجديفات متحيرا بما صار إليه، غير عارف بذنبه، إلا أن السوريين الذين تبعوا البوليس أخبروه أن جمرة الأركيلة سقطت من بين قضبان الحديد على رأس البوليس.
ثم إن أبا راجي ذهب يوما إلى «كاسل غاردن» الحديقة عند البحر القريبة من شارع واشنطن، وقد حمل معه غداءه فدخل إلى الحديقة ماشيا على الكلأ حتى وصل إلى شجرة، فجلس تحتها يأكل غداءه، وإذا بالحارس قد جاء نحوه مهرولا، وأخرجه من الحديقة بالدفع واللبط، وبقي طعام المسكين هناك فاضطر أن يعود إلى بيته ليأكل، ولكنه كان أكلا مخلوطا بسم الموت؛ لأن التأثير بلغ مبلغا عظيما في نفسه.
ومرة أخذه بعض الجيران يوم أحد إلى حديقة برونكس ليتفرجوا على الحيوانات، وقد أعجبه منظرها ودهش لجمال البنايات، التي جعلت منازل الحيوانات القذرة مع أنه وهو من بني آدم يسكن بيتا دون منزل الخنزير في تلك الحديقة، ولكن الحظ لم يكتمل معه؛ فإنه بينما كان يتأمل بمنظر الفيل وخرطومه وقد دهش لهما رمى إلى الفيل بقطعة خبز كانت في جيبه، فرآه الحارس فقبض عليه، ولم ينته الأمر حتى دفع رفاقه عنه الجزاء النقدي، ولا تسل عما خرج من فم أبي راجي بعد ذلك.
وفي الأحد التالي لهذه الحادثة أخذوا أبا راجي إلى المتحف، حيث تعرض الأشياء الثمينة والرسوم الفنية، فكأنهم أخذوه ليتفرج على فخامة البناء والجنينة المحيطة بالبنايات، أما ما حوته تلك البنايات من الآثار فلم يرق لخاطره. ولا عجب؛ فإنه لا يعلم شيئا عن الفنون، ولما أخبره أحد رفاقه أن ثمن صورة من الصور المعلقة للفرجة قد يبلغ عشرات ألوف الريالات هز أبو راجي رأسه، وأقسم أيمانا مغلظة أنه لا يشتريها بخمسة سنوت، وقد ضحك على عقول الأميركان ورماهم بالسخافة، وعيرهم بالبلاهة وخفة العقل.
وكان أصحابه أعجبهم نظره إلى الأمور التي لا يحدها عقله فأرادوا مداعبته، فصاروا يناظرونه بالأمر، ويبالغون بأهمية الرسوم، وهو يكيل لقلة مدارك الأميركان الذين «ينفقعون» لتوافه الأشياء، وفيما هو يهزأ ويسمع ويجيب في وقت واحد كانت يمناه قد دخلت إلى جيبه فأخرجت علبة التبغ، ودون أن يلاحظ بفكره ما تفعله يداه لف سيكارة ووضعها بفيه، ودخلت يسراه إلى الجيب الثاني فأخرجت عود كبريت، وهو لا يزال في حديثه مع أصحابه، هم يشدون عليه، وهو يضحك على الأميركان، ودون أن يلاحظ أحدهم ما هم أن يفعل أبو راجي؛ لأنهم انبسطوا بحديثه المفكه، كانت يمناه قد أخذت من شقيقتها عود الكبريت وامتدت إلى الحائط المدهون بالدهان الفني البديع، فأضافت إلى تفنن الرسامين بالدهان خطا أحمر في منتصف الحائط يبلغ طوله الذراعين، وما كاد يشعل أبو راجي سيكارته من ذلك العود حتى ثاب أصحابه إلى رشدهم، فرأوا ما كان منه فسحبوه في الحال وقلوبهم هالعة إلى الخارج، ولم يشفوا قلبه بأن يخبروه عما صار خوفا من أن يعرف أمرهم، بل أسرعوا عائدين إلى القطار ليعودوا إلى بيوتهم.
هذه بعض الشئون التي حدثت لأبي راجي في أميركا، وهي التي طبعت في دماغه أن سكان أميركا بالرغم من لبسهم البرنيطة والإفرنجي وكلامهم باللغة الإنكليزية ليسوا على شيء من التمدن والذكاء، وأن بلادنا مع ما فيها من الخلل بالأمن وقلة الحركة أكثر تمدنا، وأهلها أعظم ذكاء من كل شعوب الأرض. وبناء على هذا لم يقطع أبو راجي ثلاث سنوات حتى عاد بعائلته إلى قريته في لبنان، حيث طهر عقله وصفى أفكاره من أمانيه في الهجرة والاندماج في الشعوب المتمدنة الغربية.
وبعد سنة من عودة أبي راجي إلى وطنه عاد أحد مواطنيه من أميركا، وقد كان من جملة الأصحاب الذين أخذوه إلى المتحف في نيويورك، ولما رد لأبي راجي السلام في منزله دخل إلى البيت، دائسا على السجادة، دون أن يخلع من رجليه عند العتبة، فكانت عينا أبي راجي كل الوقت مصوبة النظر إلى رجلي الضيف، وقد حاول أن يكتم سره ما استطاع، ولكنه أخيرا فضح الأمر، فقال لضيفه بلطف: إن عادة عدم نزع الأحذية في أميركا دارجة، ولكن في بلادنا لم تدرج؛ لأن الأحذية توسخ السجاد. فأجابه الضيف: نعم، الحق معك، ولكن السجادة تستطيع أنت أن تنظفها بالمكنسة أم بغيرها، ولا يكلفك أمر تنظيفها إلا صرف دقيقة وبعض العناء، ولكنك على ما يلوح لي نسيت ذلك الخط، الذي طبعته على حائط من حيطان المتحف الفني في نيويورك؛ إذ شحطت على ذلك الحائط ذلك الخط الهائل بعود الكبريت لتشعل سيكارتك، أولا تظن أن محو أثر ذلك الخط قد كلف أرباب المتحف أكثر من ثمن سجادتك؟
أما أبو راجي فأجاب، وفي جوابه بعض الازدراء وقال: «نعم، في أميركا كل شيء يكلف، ولولا العيب والحياء لتقاضوا بعضهم ثمن الهواء، ولقد كلفني أن أتفرج على قلة عقولهم وأعود، بيتي القديم والحاكورة والأثاث، ولكن الحمد لله تفرجنا على أشياء تسمى مدنية الأميركان، ويا لها من مدنية!»
أحاديث الغرام
إذا غاب عنك سعيد علام نصف ساعة فقط فإنه يخبرك في الأقل عن حادثتين وقعتا معه في أثناء ذلك النصف من الساعة، ولك الخيار بأن تصدق ما يقول أو لا تصدق، إلا أنه ولا فرق عنده تصديقك لروايته أو عدمه، يخبرك بأنه إذ كان سائرا في الشارع الفلاني، قاصدا المحل الفلاني وقعت عينه على بنت لا أحلى ولا أجمل منها، عيناها تذبحان وخداها يحرقان، وقدها يقد ونهدها يهد، ولم يكد يقع البصر على البصر حتى رشقته بغمزة من طرف عينها اليمنى فرفع قبعته بيده اليسرى وحياها، وعقد معها موعدا للاجتماع في اليوم الفلاني الساعة الثامنة مساء، مطرا كان أم صحوا.
هذه حادثة أولى من حوادثه مثلا، وأما الثانية، فهي أنه إذ كان راجعا من المحل الذي قصده، وهو مسرع الخطى لا يرغب في أن يتطلع إلى أي بنت كانت، ولو أنها نازلة من السماء، فجأة نطح أثناء سيره بشخص، ولما تطلع إليه ليعتذر، إذا به فتاة كتب الجمال على جبينها آيته الأولى والأخيرة، فاضطر أن يعتذر إليها بكلام لطيف، وانتهى الحال معه أنها ألغزت له بأنها لا تمانع بمرافقته لها إلى منزلها، فاضطر أن يرافقها، ولما وصل إلى سلم المنزل ودعها، وأعطاها اسمه وعنوانه وأخذ اسمها وعنوانها ، وتعاهدا على المكاتبة والزيارات، ويختم كلامه بقوله: «بين مالي وكاتي ضاعت أوقاتي!»
ولسعيد علام مخترعات عديدة في تأليف هذه الحوادث، حتى إنه ليخيل لمن يصاحبه أن الشاب خلق خصيصا ليكون مطمحا لآمال كل فتاة، فإذا جلس في محضر لا ينفك يخبر السامعين هذه القصة التي حدثت له مع بنت كادت تجن بحبه، وتلك القصة التي حدثت له مع البنت الفلانية وما كان من أمرها حتى يدهش ويحير الألباب. وللمذكور مقدرة غريبة على الابتداع؛ فإنه يكيف القصص، ويكثر عليها البهارات اللفظية والمقبلات الوصفية، حتى إنه بالرغم من شك السامع كلامه بصدق روايته لا يمل من سماعها، بل يعجب إذا كان حقيقة وقع لسعيد علام كل هذا المسموع منه.
وإن الإنسان ليدهش من مروياته عن الشباك الحبية التي يقع بها، وينصبها هو بنفسه لبنات أميركا. فيقول السامع بنفسه: عجبا يحدث كل هذا لهذا الشاب، وليس فيه من الميزات عن غيره لا بالخلق، ولا بالأخلاق، ولا بالعلم، ولا بالمال، ولا بالنباهة، ولا باللغة؟! فإذا كان صادقا بكل ما يرويه فلا مراء بأن الأميركيات بلا عقول، أو أن عقولهن ترللي.
حكى لي صديق أن سعيد علام كان دائما يطحله بأحاديثه عن مواعيده مع البنات الأميركيات، وعن الصدف المدهشة التي تشبكه معهن دون قصد، بل غصبا عنه، فقال: «كنت دائما أفكر بحياة ذلك الشاب، فأقلبه بفكري مفترضا أنه صادق بكل ما يحدثه، فماذا يا ترى يجعله مرغوبا محبوبا بقلوب البنات؟ بل لماذا يا ترى لا يجري لي ولو حادثة من ألوف جرت له وأنا أجمل منه وأنظف لباسا، وأكثر غلبة وأطلى حديثا؟! فصممت النية أخيرا على أن أكتشف بنفسي صحة أحاديثه، وصرت أترقب الفرص لأماشيه يوما كاملا في قلب المدينة ذهابا وإيابا، وأدخل معه في كل مجتمع يكثر فيه عدد البنات وكل حانة راقصة أو ما شاكل؛ لأرى بأم عيني كيف يضع الجنس اللطيف شباكه من كل حدب وصوب لاقتناص قلب ذلك الشاب الغريب.»
قال الصديق: «وجاءني الدهر بيوم طالما اشتهيته؛ إذ رضي معي سعيد علام بالذهاب إلى «سنترال بارك» بعد الجهد والإلحاح الشديد؛ لأن سعيدا حاول التملص مني بداعي أن معه موعدا قبل الظهر وآخر بعد الظهر وغيره مساء. وهونها الله فأقنعته بالذهاب معي إلى تلك الحديقة، فلا بد أن نقضي النهار بمغازلة حسناوات تعوض عليه ما كسره من المواعيد لأجلي. ودخلنا قطار النفق سوية، وما كدنا نجلس في عربة ملآنة المقاعد، ولحسن الحظ كان كل الصف الذي أمامنا سيدات، حتى رأيت بأم عيني ما أعجبني وأدهشني، وجعلني لأول وهلة أقول: والله إذن سعيد كان صادقا بكل ما رواه للناس من حوادثه الغريبة مع بنات نيويورك؛ فقد شاهدت الابتسامات على أفواه السيدات أمامنا، وعيونهن ترمقه وبعضها تغمزه، وهو يذبل عينيه ويتمتم لي قائلا: «ألا ترى أني صرت تعبا من هذه الحياة، فانظر الآن أمامك، واعذرني مرة ثانية إذا كنت أمتنع عن الذهاب معك ومع غيرك إلى المتنزهات أو المجتمعات.»
أما أنا (يقول الصديق الراوي) فقد بهت، وصار قلبي يرقص وقلت في نفسي: سبحان الخالق! إنه يخلق في الأرواح جاذبية لا تدل عليها المظاهر الخارجية. وكنت أنظر إلى الناس الجلوس، مستغربا تهافت أبصارهم إلى رفيقي سعيد علام، وكدت أشفق عليه لما يعانيه من رميات العيون الغوامز ورشقات الأفواه البواسم، لولا أن انتصب أمامنا رجل كهل، شبك يده بالحلقة التي يتعلق بها الواقفون، وانحنى إلى صديقي لناحيتي، فقال له إن رجل بنطلونه عالقة بضمامة جرابته، وطلب إليه أن ينزلها منعا للتشويش الذي يحدثه.»
وقال الصديق أيضا: «فتطلعت إلى سعيد علام فإذا بوجهه ممتلئ دما والخجل ملبس إياه وشاحا، وقد اقتصرنا النزهة على الوصول إلى الحديقة حيث افترقنا، فسار هو من جهة وأنا من جهة، وصرت إذا اجتمعت به مرة بعد مرة أهز يده، مذكرا إياه بتلك النكتة التي جرت له بحضرتي، فأضحك كثيرا ويبسم قليلا، وأحسن من هذا أني صرت إذا فاجأته في محضر من الأصحاب يحدثهم بأموره وغرائبها يحول الحديث في الحال من صورة إلى صورة.»
لا فرق بين الاثنتين
تلك كانت الزوجة الخامسة لبدر مشرق، وقد تزوج بها وهو ابن أربعين، أما نساؤه الأربع الأوليات؛ فقد طلقهن واحدة واحدة، وانتهى أمره بتزوجه الخامسة التي انتخبها لنفسه، وهي أميركية، تقابله عمرا، أرملة لها ابنة من زوجها الأول.
بعد شهرين من زواجه الخامس، صرح بدر مشرق أمام معارفه أن الزوجة الأميركية أفضل من السورية، وأقسم يمينا قاطعا ما عاد يتزوج في حياته سورية؛ لأن الأميركيات أفضل للحياة البيتية، وأكثر تهذيبا، وأحسن ترتيبا.
عندما أقسم ذلك القسم القاطع لم يظهر على وجهه إشارة إلى أنه يريد الهزل، بل لفظه كأنه مجزم بصحة الأمر يعني ما يقول، فهو لقد عقد النية على ألا يتزوج بامرأة سورية بعد هذه الأميركية، التي رأى منها ومن ذوقها وتهذيبها ما لم يره من السوريات الأربع اللواتي كن فيما سبق زوجات لحضرته.
في هذه المرة صار بدر لا يعنيه شيء من أمور نظام البيت، إلا أنه يدفع في آخر الأسبوع المبلغ المعين عليه من المال لقضاء الحاجات من دين السمان وأجرة البيت وقسط الأثاث إلى ما شاكل. أما يوم كان زوجا لإحدى السوريات؛ فقد كان يعتل السمانة من محال السوريين إلى البيت، فلا يصل إلا وصبره قد جاوز الحدود والسباب والشتائم والتجديفات تخرج من فيه كقنابل المدافع في حومة الوغى.
وصار على عهد الأميركية لا يحمل صرة برغل، ولا لحم ضأن ولا علبة بندورة، ولا سلة عنب؛ لأن الأميركية تطلب كل هذا بالتلفون، فيأتي الغلام بطلباته كمارد سليمان الحكيم.
الفرق عظيم بين الزوجة السورية والزوجة الأميركية، خاصة عنده في أول عهد زواجه الخامس؛ السورية إذا أرادت شك الإبرة تسأل زوجها أن يشكها لها. تحتار بأمرها في ما عساها تطبخ العشاء؛ فالبارحة كان العشاء كبة، وقبله كان كوسى محشيا، وقبله كان مجدرة، واليوم ماذا؟ تسأله رأيه قبل أن يذهب إلى شغله: ماذا تريد أن أطبخ لك؟ فماذا يجيب؟ يجيبها قائلا: سم الموت. ويخرج من البيت عابسا.
أما الأميركية فلا تسأله ولا تستشيره، ولا تطلب منه شيئا سوى دفع الثمن، وتودعه إلى شغله بقبلة، وتلاقيه عند الباب عائدا إلى البيت بأخرى، وتجلس إلى جانبه تقرأ معه الجرائد، فتحادثه بأمور كثيرة، تخوض عبابها عاملة فكرها وناظرة بكل حادثة وبكل موضوع. وإذا تكلمت معه تنهي عبارتها له بيا عزيزي ويا حبيبي ويا عسلي. بكل هدوء وكل نظام العشاء يحضر على المائدة الساعة السادسة من كل مساء، وكل شيء يلزم لمناولة الطعام حاضر، بينا السورية تعلل زوجها بقولها: إن اللحمة لم تنضج بعد، فتدق الساعة السابعة والنصف والزوج يتقلب على مقالي الانتظار بمعدة فارغة بعد تعبه كل النهار بالشغل، ثم لما ينضج الطعام، ويجلس مع زوجته للأكل لا تلبث أن تنهض لتأتي بالخبز، لاعنة الشيطان كيف أنها نسيته، ولا تكاد تستوي في كرسيها حتى تنهض ثانية لتأتي بالملح والفلفل، وثالثة لتحضر الفوطة، وتنهال مرة ثانية باللعنات على الشيطان؛ لأن العجلة منه، فلا ينتهي العشاء إلا بعد عناء وتلبك كثيرين.
كل هذه الفروق كان يلاحظها بدر، فيشكر الله أنه خلصه من بلادة السوريات وهدف إليه أميركية تريح باله من كل هذه الأمور، فليس عليه إلا الاجتهاد وتحضير المال للمعيشة، وأما امرأته فعندها كل شيء إذا حضر المال.
كان لبدر صديق سوري ذكي الفؤاد، مختمر بالعبر وصروف الدهر وتقلبات الأيام، وقد التقى مرة به، فأخبره بدر بكل شعوره وراحة باله، فسمع منه صديقه كل بحثه عن الفرق العظيم بين الزوجة السورية وأختها الأميركية، ولكنه أخيرا قال له، وكان ذلك في عام 1902: «إن موضوعك جليل الفائدة، وفيه حقائق كثيرة، ولا أستطيع أن أبحث معك فيه طالما اختبرت الأمر بنفسك فتوصلت إلى معرفة الفرق بين السورية والأميركية، ولكن كم صار لك مع الزوجة الأميركية؟»
فأجابه بأن صار له نحو سنة. عندئذ هز صديقه رأسه، ماسكا طرف قبة سترته، ماطا بوزه قليلا، ثم تمتم هذه الكلمات: «ولكن لم تزل يا صديق في شهر العسل!»
في سنة 1910 كان الناس يتناولون الجرائد؛ ليقرءوا ماذا كان من أمر المحاكمة في الدعوى التي رفعتها مدام بدر مشرق على زوجها بدر، وقد انقضى عليها نحو سنتين تنتقل من محكمة إلى أخرى، والمحامون من الطرفين يوما يتفاوضون وآخر يتنازلون في المحاكم، حتى صدر الحكم النهائي بطلاق مسز مشرق من مستر بدر مشرق، وبتعيين راتب شهري يدفعه المستر للمسز في رأس كل شهر لإعالتها، وبأن يكون المنزل بما فيه من أثاث خاصتها.
أما الدعوى المذكورة؛ فقد كانت مبنية على أن المستر مشرق كان يهمل زوجته، ويعطي أكثر انتباهه لابنتها، فيجالسها ويلاطفها، في حين أن زوجته تكون منهمكة بأمور البيت، وأنه كان يزجرها ويغلظ كلامه لها، وقد فتر حبه من يوم صارت ابنتها صبية، وأنه مضى عليهما العام الأخير ولم يقبلها فيه قبلة من تلقاء نفسه إلا بعد صياح وشجار، وأنه كان يقضي الليلة والليلتين خارج البيت، في حين كانت تحيي الليالي ساهرة، مترقبة رجوعه إلى بيته.
وفي أواخر عام 1910 ارتاح بدر مشرق من الراتب الشهري لزوجته المطلقة، الذي أعياه وأثقل ظهره؛ لأن مسز مشرق غيرت اسمها، وشلحت اسم مشرق كما تشلح الشجرة ورقاتها في فصل الخريف، وغيرته باسم سلفان، وهذه كنية زوج جديد من لحمها ودمها. وقد تنفس بدر الصعداء عندما بلغه أن الراتب المعين عليه انتهى أمده.
في سنة 1913، كان بدر قد صار كهلا قريبا من الشيخوخة، وقد أحنت الأيام ظهره وأفقدت نشاطه، فصار ميالا إلى اللهو، ولولا الحاجة لما أعار شغله أقل انتباه. في تلك السنة دخلت إلى محله امرأة كهلة، وبعد أن حادثته قليلا عن شغل قالت له: «أنت بحاجة يا مستر بدر إلى شريكة لحياتك، تعتني بأمور بيتك بينما أنت تدير أشغالك في هذا المحل.»
أما هو فأجابها وقال: لقد شعرت بهذا منذ سنين، فراح البيت مع المرأة، والآن ليس لي إلا بضع سنوات في هذا العمر، وأظن هذا المحل يقيني الحاجة والسؤال إذا حافظت عليه.
فأجابته أنه إذا أراد المحافظة على شغله يجب أن يكون باله مرتاحا بأمور معيشته، ولا يرتاح إلا إذا دبر لنفسه بنت حلال كما فعل ابن أخيها، وقد كان شابا جبارا تهتز الأرض من وقع خطواته، فلما تزوج صار شابا لطيفا وعين الله ترعاه.
فقال بدر: «كنت مثله وأكثر، ولسوف يصير مثلي وأنحس.» وفيما هو يتكلم، وإذ دخل عليه صديقه الذي قال له إنه لم يزل في ذلك الحين بشهر العسل، فسلم عليه بعد طول غياب، وعندما سأله عن المدام التي رأى منها ما لم ير من زوجاته السوريات أخبره بما جرى عليه، وأنه صار يعتقد بعدها بألا فرق بين المرأتين السورية والأميركية، وأنه في حياته ما عاد يفتكر بسورية ولا بأميركية، فأجابه صديقه إذا كان الزواج عندك طلق المرأة وتزوج بأخرى، فإن كان من فارق بينهما أو لم يكن لا فرق عندك.
الله يسعده ويبعده
لم يكن من يستطيع فهم أصل الخلاف بين إبراهيم الصالح وأخيه فريد، وقد بدأ الخلاف بينهما في أول أسبوع وصل فيه الصغير إلى هذه البلاد، وبعد أن كان إبراهيم يستعد لاستئجار نزل خصوصي يشتري له أثاثا جميلا ليعيش مع أخيه فريد كعائلة صغيرة لبث في غرفته المفروشة، وطرد أخاه من عنده، فاضطر المسكين - وهو دون السابعة عشرة - إلى أن يستأجر غرفة له زرية جدا، وأن يعمل كأجير في محل تجاري ليعيش مستقلا.
حكى لي فريد الصغير عن خلافه مع أخيه، فقال إنه لا يعلم لماذا كرهه أخوه، ولم يأثم أمامه ولا أخل باعتباره كأخيه الأكبر وولي نعمته، ولكنه لسبب بسيط جدا ارتأى إبراهيم أن يفترقا وأن يعيش كل منهما لنفسه، وقد منعت اجتماعاتهما معا إلا إذا كانا وحدهما، وإذ ذاك يستعمل إبراهيم سلطته على أخيه، فيأمره أمرا، وينفض سترته بأصابعه علامة أنه هكذا يريده أن يعمل، وإذا أبى فلا يكون مسئولا.
إن خلاف الأخوين على هذه الصورة أمر غريب جدا، فليس بينهما من خطأ ارتكبه أحدهما ضد الآخر، ولا بينهما ما لا يمحى؛ على أن الاثنين ناجحان بأشغالهما، وإبراهيم رجل يبلغ الخامسة والثلاثين، وقد صار له نحو عشرين سنة يعمل في أميركا، ولما أنهى فريد المدرسة الابتدائية استقدمه إليه على أمل أن يفتحا محلا تجاريا، يكون فيه رئيسا وأخوه مدبرا، إلا أن الأمور انتهت بالجفاء بين الاثنين في أول أسبوع لوصول فريد إلى أميركا.
أما فريد، فشاب ذكي له إلمام بالعلوم وولع بالمطالعة، قليل الكلام، ولكنه رصين لا يتكلم إلا اللازم الذي يفيد، عكس أخيه الأكبر؛ فإنه كثير الكلام كثير الدعوى، يتدخل في كل موضوع ويحشر نفسه في كل مشكل، وقد ولع أيضا بالمطالعة الصحفية والكتبية، وإنما ولعا سطحيا، فكان يحفظ أسماء أعاظم الرجال من سياسيين وعلماء وفلاسفة وشعراء، فإذا تكلم في اجتماع يكثر من ذكر تلك الأسماء، فينظر الناس إليه كرجل عليم في صدره كنوز علم وعرفان، فإذا كان الحديث عن السياسة أسرع فذكر بسمارك وغلادستون، وقال: فلان قال كذا وكذا. ومن اطلع على ما كتبه أو قاله بسمارك أو غلادستون ليكذبه؟! وإذا كان الحديث عن الشعر ذكر في الحال المتنبي وأبا العلاء مع بعض أبيات لكليهما يقولهما باللفظ المكسر، ثم يعمق بتاريخ الشعر فيذكر هوميروس، ويتدرج بالأسماء إلى هيكو وموسيه و... و... حتى يسكت الحاضرون، ويعطوه موقف الكلام، ولا يعدم أن يرى منهم إعجابا بسعة معارفه ووفرة علومه، حتى صار عندهم مرجعا لكل أمر، ومضرب المثل في العلم بكل باب من أبوابه.
ودام هذا معه حتى وصل فريد إلى نيويورك، فصار يحضر مع أخيه بعض الاجتماعات، ويراه راكبا مركب الشطط بأكثر أحاديثه، فكان يسكت أولا حياء منه، ولكنه بعد أن استأنس صار يعترض على غلط أخيه ويصلحه، فكان إبراهيم يحرق الأرم غيظا، ويلعن الساعة التي وصل فيها أخوه لينزع عنه مقامه كعالم بين الناس.
ومرة كان الأخوان في سهرة حافلة، كان الفونغراف يشنف أسماء الحاضرين، والكئوس دائرة عليهم، وآخر أسطوانة سمعوها فذهبوا بسحرها كانت أسطوانة للصلبان فيها «يا ليل الصب ...» فكان بعضهم يعيدها ويعيدها، ويساعده غناء بها واستشهادا بمعاني أبياتها الجميلة حتى وقف عنده «رقد السمار وأرقه.» فقال في القوم: من هذا السمار؟
فأجاب أحدهم وقال: «أظن أن السمار هو الذي يدق المسامير.»
فضحك الكل من جوابه: وقال ثان: «أظن السمار هو الهراي السنور، لا بل السنمار.»
وقال ثالث: «لا بل هو السمرمر الذي يطارد الجراد.»
واختلف القوم على معنى الكلمة، وإبراهيم الصالح يتنحنح، وقد غاب عن الحضور بفكره ليأتي لهم بمعنى الكلمة، فيكون كلامه فصل الخطاب. وأما أخوه الصغير فريد فكان الحال عنده كالتياترو، فما كان يهدأ من الضحك بكل ما استطاع شدقاه وبكل ما في رئتيه من القوة.
وأخيرا صاح صائح وقال: «عندنا إبراهيم الصالح ونتجاسر على تفسير الكلمة، فلنسمعه الآن يحل لنا المشكل.»
وسكت الحاضرون، ووقف الفونغراف، وصاروا كلهم آذانا صاغية، مستعدة للسماع وعيونهم مصوبة على نقطة واحدة هي وجه إبراهيم الصالح.
عندئذ، لم يعد لإبراهيم من مهرب؛ فعار عليه ألا يحل مشكلة صغيرة كهذه، وهو لم يعودهم ذلك، ففتح أولا فمه ببطء كلي وعيناه محملقتان ووجهه يتطاول، وكان بطرف نظره يحدج أخاه فريدا؛ لهذا تلعثم قليلا، ولما تحنن الله على صبر القوم خرجت من فمه كلمة «أظن» خمس مرات، وبين كل مرة وأخرى فرصة دقيقتين، حتى أخيرا أفاض بحل المشكلة طارحا عنه التردد المصنع وقال: «إن السمار هو السامري عذول اليهودي، ويظهر أن قائل تلك الأبيات يهودي، فيكون المعنى أن العدو نام، وهو لم ينم بل أرقه الألم.»
ويظهر أن فريدا نسي أن أخاه الأكبر كان المتكلم؛ ولهذا استعان بكل ما في قدرته من الضحك حين كان الكل صامتين، على وجوههم سيماء الرصانة، يتوقعون القول الفصل من رب العرفان عندهم، وهذا ما دعا إبراهيم أن يستشيط غيظا من أخيه فشتمه، ولولا حرمة الناس لكان ضربه، فانتبه فريد لأمره، وعقب ضحكاته الطويلة عبوسة فجائية، فاستصفح أخاه، وأقر بأنه مخطئ، وأنه نسي نفسه لتفاسير القوم كلمة «سمار» بعيدة عن الصواب.
عندئذ قال له أخوه: «أنت يا فريد مثل كل ولد يأتي من سوريا مملوء دعوى، ولا تحترم معارف الآخرين، بل تظن أن ما تلقنته في المدرسة هو كل العلم مع أنه ينقصك تهذيب كثير. والآن - يا عيب الشوم - دعوتنا نخجل أمام الناس، فقم بنا قم.»
وقد ألح الحاضرون على إبراهيم أن يعدل عن فكره بالرحيل، وأن يهدئ روعه قليلا؛ فإن أخاه سيتعلم فيما بعد فيحسن سلوكه، ويعرف كيف يجالس الناس.
وكان أحد الحاضرين الذين فسروا الكلمة شديد الاستياء من جواب فريد لأخيه بأن تفاسير القوم أضحكته، فخاطبه بملء الاشمئزاز قائلا: «وهل عندك تفسير أحسن؟ إي نعم، نحن لم نتعلم في المدارس مثلك، ولكن لا أظن أن كلامنا يوجب ضحك الناس إلا إذا كان ضحكك بلا سبب، والضحك بلا سبب من قلة الأدب.»
هنا تبدلت هيئة فريد الصغير، فقال بصوت لطيف والحيرة آخذة منه مأخذا: «اعذروني يا إخوان على ما بدر مني، فأنا لم أقصد بضحكي الحط من كرامة الذين فسروا كلمة «سمار»، بل إن تفاسيرهم جعلتني أضحك؛ لأننا في مجلس سرور، ويجوز فيه لأي كان أن يضحك.»
أما إبراهيم، فظل واقفا يشد بذراع أخيه ليخرج من تلك الجلسة؛ لئلا يحدث ما يكدره أكثر. ولكن رجلا متقدما في السن أعجبه منطق فريد، فنهض باسما وتقدم إلى إبراهيم بلطف، سائلا إياه أن يعود إلى مكانه لمحو أثر الخلاف؛ خوفا على خاطر الصغير القادم من البلاد؛ فقد شعر بنفسه أن فريدا انكسر خاطره، فاضطر إبراهيم إلى الجلوس، وعاد الرجل المتقدم في السن فقال لفريد: «يا فريد، لا تزعل يا ابني، لا بأس عليك، مسألة صغيرة، لا تستح، فكل الحاضرين إخوان، أي يا ابني، اقعد وقل لنا الآن كيف تفسر كلمة سمار؛ لنضحك نحن عليك كما أنت ضحكت علينا.»
فضحك القوم سلفا على فريد ما عدا إبراهيم الذي كان السم يغلي في قلبه، ولكنه لم يجسر أن يعترض، ولما رأى فريد أن الحاضرين سري عنهم تبسم، وقال: «إن كلمة سمار جمع سمير، والسمير هو الذي يسهر الليل، فيكون معنى الشاعر أن الساهرين ناموا إلا هو؛ فقد حرمه النوم ألم يعذبه.»
فضحك ذلك المتقدم في السن ضحكة كبيرة وقال: «إي والله، الآن أخذنا بثأرنا منك.» وضحك لضحكته الحاضرون إلا إبراهيم الذي نهض في الحال يريد الذهاب مع أخيه، بداعي أن السهرة قد طالت.
تلك السهرة لم ينم فريد مع أخيه، ومنذ تلك السهرة لم يعد يضم الأخوين اجتماع، وعندما يسأل إبراهيم عن سلوك أخيه يهز رأسه ويتنهد قائلا: «ما أحد اشترى البلوى لنفسه مثلي؛ فقد كنت بلا هم، فجئت بأخي ليزيد سروري، فكان أنه حرمني الراحة، ولكن أميركا واسعة، فالله يسعده ويبعده.»
عبد الفطرة
حنا مرقص هاجر إلى أميركا وهو دون العشرين من عمره، وقد تعلم الإنكليزية المكسرة عن طريق البيع بالكشة فالجزدان فعرض بضائعه في الهوتيلات.
كان في بادئ أمره خجولا، يرى كل شيء أكبر منه وكل إنسان أعلم منه، ولكنه بعد أن صار يستطيع الرواح والمجيء في شوارع المدينة، ويمكنه التنقل من بلد إلى آخر، أصبح ذا أنف واصل ذرى السموات، فصار من أكبر الأغنياء بمائة ريال وفرها في بنك الحكومة، وصار من أعلام الكرة الأرضية بتعبيره باللغة الإنكليزية المخلوطة كلمات عربية عصيت على إنكليزيته، ولكنه يخلطها ضاحكا لتجيء من فيه كأنها مقولة منه للفكاهة، وصار من أقدر الناس على الدخول في معترك البشر؛ لأنه يستطيع أن يضع رجلا في نيويورك وأخرى بسان فرانسيسكو.
إذا جلس في المطعم السوري تبقى فرتيكته نظيفة؛ إذ يستعيض عنها بأصابع يديه، ويكبر اللقمة التي غالبا يدحشها بإصبعه في فيه؛ لتدخل غصبا عن اتساع فمه.
أما إذا جلس في مطعم أميركاني فلا يأكل السمك إلا بالفرتيكة، وكثيرا ما يترك الدجاجة المحمرة في صحنها مهرمشة منه هرمشة لتعذر استخراج لحمها بالفرتيكة، فتبقى عينه فيها، ومعدته تطلع وتنزل شوقا إلى ابتلاعها، ولا يجسر أن يفتك بها؛ لأنه عالم جيدا أنه في مطعم أميركي.
كان يحلق كل صباح، ولكنه كان يلعن هذه البلاد التي تضطره إلى ذلك، متمنيا الرجوع إلى قريته التي لا يضطر فيها إلى تكنيس شعر وجهه إلا مرة كل أسبوعين.
كان يداري لباسه وهندامه، ويشتري لنفسه وردة يوم الأحد، وكلما جلس على مقعد أو كرسي يشقل بنطلونه محافظة على كيته عند الركبتين، ولكنه أبدا يفضل القمباز لعدم الثقلة بلبسه، وإنما لم يجسر على أن يقول ذلك أمام الغير.
بعدما قضى السنتين الأوليين في هذه البلاد ابتدأ يدخل بين الأجانب ، ولم يقض الخمس سنوات حتى صار أميركي التبعة يصوت للمنتخبين إلى الأحكام، ويتحزب لبعضهم دون البعض الآخر، ولكنه كان قبل أن يذهب إلى عالم الأحلام في كل ليلة تبقى جفونه مفتوحة وفكره محلقا في سماء الأماني، متمنيا العودة إلى بلده لينام تحت الشجرة، لحافه السماء، وفرشته المرجة، ووسادته الكرسي الصغير المصنوع من القش.
هذا حنا مرقص، له وجهان: وجه أميركي بالظاهر وآخر بلدي بالفطرة. وما زال في أميركا، فالتطبع غالب عليه، ولكنه يود ويحن إلى التخلص من نيره؛ ليجعل فطرته السائدة في أميركا، آه لو عاد حنا مرقص إلى «كفر بطة» قريته ليخلع عنه الرداء الإفرنجي، ويوفر كم مسبة دين ولعنة لدى ترتيبه الربطة في حال شدها ذهابا وإيابا.
حسن، جاء الوقت الذي أصبحت فيه خطوات حنا مرقص مسددة نحو الوطن، بعدما انفتحت الطريق بين العالم الجديد والعالم القديم، بعدما كانت الحرب قد أوصدتها حينا طويلا، وبعد الجهد الكلي حصل على باسبورت من الحكومة الأميركية ليعود إلى حضن أمه العجوز، وليشارف بخبرته ومعرفته الكرم والأرض التي ورثهما عن المرحوم أبيه.
كان يقول لأصحابه إنه لا يفتكر بالعودة إلى أميركا؛ لأنه ذو مال كثير وخبرة وافرة بالتجارة وبلاده مفتوحة جديدا، فالمستقبل أمامه فاتح باب النجاح الكثير.
ووصل حنا مرقص إلى البلاد، فكتب إلى صديق له يقول إنه لا يفتكر بالبقاء أكثر مما يفتكر بالرجوع؛ فإن سوريا لم تأت على ذوقه، وقد كان ظنه أن البلاد تغيرت، ولكنها بالحقيقة لم تتغير؛ فإن الخياطين لا يعرفون التفصيل والخياطة على الأزياء المستحدثة، والبيوت خالية من الحمامات، وإذا أراد أن يحلق كل يوم يقضي بالأقل ساعتين لبينما يسخن الماء بالقدر، وإذا أراد التنزه في المتنزهات لا يجد مقاعد تحمله وتقيه من الرطوبة؛ وبالتالي لاح له أن ميدان التجارة ضيق في الوطن؛ لأن الناس هناك يتكلمون بالغروش أما في أميركا فيتكلمون بالريالات.
هنا حنا مرقص كان يرى نفسه مقيدا بسلاسل مدنية أميركا، فلما صار في سوريا ورأى نفسه حرا من تلك القيود تمنى الرجوع إلى أميركا ؛ لأن أميركا الله يعمرها بلاد تسكن، وهي بلاد الناس كما يقولون عنها.
وعاد حنا مرقص إلى نيويورك «رافعا العشرة» عن الفكر يوما بالرجوع إلى الوطن، قائلا في نفسه إن الأحسن للإنسان أن يجعل أميركا وطنه، ويقف عند ذلك الحد.
وما كاد يقضي الشهر في أميركا حتى عاد تمني حنا مرقص إلى الحرية النفسية التي يتمتع بها في بلاده، ولكنه صار في هذه المرة يحمل نفسه على كره هذه الأمنية؛ لأن ماله الذي جمعه بعرق جبينه في السنوات العديدة كاد يرسف في آخر جيبه، ولم يعد يدري ماذا يحب: أميركا وفيها الخياطون ذوو الاختراع، وفيها المتنزهات ذات المقاعد والمناظر البديعة، وفيها الحمامات والماء الحار للحلاقة كل يوم مما يضنك المرء، ويجعله مقيدا بسلاسل قوية من العادات التي اصطلح عليها البشر، أم يحب وطنه وليس فيه هذا القيود، وهي مما تلزم البشر في معيشتهم!
وقبل أن ينهي الصراع بين هذين العاملين المتناقضين: عامل كره أميركا لقيودها، وكره سوريا لعدم وجود مثل تلك القيود الأميركية تناول جريدة السائح، فطالع فيها قصيدة مخائيل نعيمة «حبل التمني»، وأعاد قراءتها مرات ليتشبع من معانيها، فغالب نفسه بهذا الشطر:
أتمنى لو كنت لا أتمنى
فغلبها نوعا قائلا: مع السوق سوقي والسلام!
الأمل والألم
أبو حنا هاجر إلى أميركا مع أم حنا بعد أن رزقهما الله حنا بسنتين؛ أملا أن يكنس كم سلة ذهب من أميركا ويأتي بها إلى وطنه، فيبني قصرا ويشتري حاكورة جاره، ويعيش مع أم حنا وأولاده بمدخوله الكثير دون هم ولا تعتير.
كان أبو حنا قبيل عقده النية على أن يهجر الأوطان يتأمل في السعادة التي يحصل عليها إذا رجع من أميركا موفقا «منيما» مئات الريالات بل ألوف الريالات، فيمد نظره إلى بعيد، قائلا في نفسه إذا كان كل ما يقع تحت بصره يصير ملكه وهو جالس في قصره يدخن أركيلته لا تعب ولا شغل، يأتيه فلاحوه بما يزيده على نفقاته كل سنة، فيا لها من حياة هنيئة!
وأم أبو حنا أميركا بعد أن رهن داره، وجاء بالأم والطفل إلى أميركا بعد عذاب كثير في بيروت ومرسيليا ونيويورك أيضا؛ حيث لاقى الأهوال في الجزيرة بسبب مرض السيدة، ولكن حظه خدمه قليلا؛ لأنه في نيويورك وجد من ضيعته صديقا قديما، كان يتوسط له في إدارة المهاجرة، فبعد أسبوعين من وجود أم حنا في المستشفى خرجت من المطهر إلى عالم الحركة والتجارة.
وظل أبو حنا ضيفا عزيزا على صديقه مدة أسبوع، تعلم في أثنائه شيئا من الشغل، وأمسك سبيل التجارة من أوله؛ إذ ابتاع له مضيفه كشة ملأها بالدبابيس والإبر والمقصات وبعض قطع من مناشف وغيرها، ودربه على كيفية حملها على كتفه وإنزالها، وعلمه بعد الجهد كيف يطرق الأبواب، وكيف ينزع برنيطته ويحيي، وكيف يسأل أن يقبل الناس على أن يشتروا منه ويجابروه. وكان أبو حنا لدى كل هذه الأمور يبلع ريقه، ويكبس على جرحه، شاعرا أنه كان في آماله القديمة في واد والحقيقة في واد؛ فإن الشوارع التي أمل أن يكنس منها سلالا من الذهب، كانت إما نظيفة من كل شيء، وإما مملوءة وحلا وأوساخا. ولكنه لم يجسر على أن يتفوه معترضا على ما شاهده، خلافا لما أمل، أو بالأحرى استحيى أن يقول أمام مضيفه شيئا مما أحس به لدى وصوله من الإخفاق؛ فبقي سره في قلبه واحتمل الكشة وتوابعها لإعالة أم حنا وطفله في أرض الغربة.
ولا حاجة إلى إطالة الشرح من أن السنين العشر الأولى التي قضتها عائلة أبي حنا في أميركا كانت مزيجا من العناء الجم بالنجاح القليل، إلا أنه في خلالها كبرت العائلة، وصار لأبي حنا أربعة غير حنا، وكلهم لم يشعروا بتربيتهم البيتية؛ فإنه نظرا لشغله مع أمهم بالبيع اضطر أن يكذب على ملاجئ الأيتام قائلا في كل واحد يدخل إليه ولدا ليتعلم ويتربى مجانا: إنه يتيم بلا أم وأحيانا كانت تذهب الأم فتقسم أمام عمدة الملجأ أن ابنها يتيم بلا أب، وهكذا رفع الوالدان عنهما مشقة التربية معتنين بتجارتهما، وقد اشتركا على الشغل سوية، وصارا قادرين على أن يقوما بأود نفسيهما مع كم ريال تزيد في كل أسبوع على نفقاتهما، فتأخذها أم حنا وتكنزها في الكمر الذي جاءت به من سوريا، لتخبئها إلى يوم يسمح الله بالرجوع إلى الوطن، ولا تسل عن الاقتصاد الذي مارساه في بحر هذه المدة؛ لأن أفكار الزوجين كانت محصورة بجمع المال للرجوع إلى الوطن في الفرصة السانحة.
إلا أن الأيام لم تتم صفوها لأبي حنا؛ ففي يوم من الأيام عاد أولاده الخمسة دفعة واحدة؛ لأن الملاجئ علمت بأن أبويهم حيان يرزقان، وأنهما من ذوي اليسار، وبعد الجدال الطويل والعناء الكثير اضطر أبو حنا أن يرجع أولاده إلى بيته، ولكنه لم يشعر بحنو والدي نحوهم؛ فإنه ظل بمعرفته اللغة الإنكليزية لا يزيد على ما تعلمه من مضيفه في نيويورك وابن بلده في الأسبوع الأول لوصوله إلى أميركا، أما أولاده فكانوا كأنهم أميركان أبا عن جد، لا يعرفون من العربية كلمة واحدة؛ ولهذا كان يضطر أبو حنا إلى استنجاد شاب سوري؛ ليقف بينه وبين أولاده ترجمانا ينقل منه إليهم إرادته الوالدية، ومنهم إليه صعقاتهم على سوء طالعهم الذي رماهم في بيت قذر كبيت أبيهم، وهم اعتادوا النظافة واللياقة في المدارس الأميركية.
أما أم حنا، فكانت أزلق من زوجها باللغة الإنكليزية؛ ولهذا مال الأولاد إليها دون أبيهم، بل كانوا يخجلون أن يدعوا له أولادا، وأكثر ما كان خجلهم عندما الأولاد في الشوارع يعرفون أنهم سوريون، وكانوا إذا رأوا من أبيهم شيئا لا يرضيهم يشتمونه بكلمة «سوري»، أما هو فظل ممسكا غيظه حتى عيل صبره، وأما الأم فكانت تأخذ جانب الأولاد، وأحيانا تبكي من قهرها وتحنو عليهم وتلاطفهم، وهم رويدا رويدا شعروا بميلهم إلى هذه المرأة التي فيما بعد شعروا بميلهم إليها كأم لهم، أما أبوهم فما كانوا إلا ليزدادوا نفورا عنه وابتعادا، كأنه غير أبيهم.
وساءت الحال في عائلة أبي حنا، فأصبحت حزبين متناكفين الأب من جهة والأم والأولاد من جهة ثانية، فلدى كل وقعة كان الصياح يتعالى لأن أبا حنا لا يعجبه إلا الطعام العربي والأولاد يحنون إلى «الستيك والهام والرستو إلى ما شاكل»، والأم ميلها ميل زوجها، ولكنها كانت تساير الأولاد وتعنف الأب، داعية إياه «فلاحا»، ولم يزل كذلك حتى في أميركا بلاد التمدن والحضارة. أما أبو حنا فكان يتساءل في نفسه ما عساه يا ترى يفعل بنفسه ليخلص من جهنم البيت، فكانت أحيانا تشير عليه أن يترك عاداته، ويتلقن من أولاده العادات الأميركية؛ لأنهم متعلمون متهذبون، فكان يجيبها ويجيب نفسه هازا رأسه: «عندما كبر وشاب حطوه بالكتاب.»
وازداد سوء الحال حتى أصبح أبو حنا مكروها من الأولاد والأم بسبب الشجارات إلى حد أنهم ما كانوا ينامون ليلة بملء جفونهم، والحقيقة أن الأم المسكينة كانت أتعسهم؛ فإنها كانت بين ويلين عظيمين، واختارت الوقوف بجانب فلذات أكبادها، تاركة زوجها المسكين يعاني أمر ضروب المعيشة، فلا هو يفهم الأولاد ولا الأولاد يفهمونه، حتى اضطر أخيرا أن يهجر البيت دون أن يودع عائلته؛ تخلصا مما كان فيه من الحالات.
في إحدى مدائن أميركا العظيمة شوهد أبو حنا لابسا طقما أبيض، رافعا عصا كبيرة وفي رأسها ضمة من القش الطويل، وأمامه علبة ذات دولابين يسوقها بيده اليسرى، وكان الشاهد ابن بلده الذي احتضنه وعائلته في الأسبوع الأول لوصوله إلى نيويورك، وعندما رآه قال مترددا: «هذا أبو حنا، والله هذا هو ... ألست أبا حنا؟» - نعم يا صاحب، كيف الحال؟ - ما لك؟ وماذا تعمل ها هنا؟ وأين أم حنا والأولاد؟ - تعلم يا صديق أني جئت بأم حنا وحنا إلى هذه البلاد، وقد صار عندي أربعة أولاد غير حنا في هذه السنين، وكنت قد خجلت أن أخبرك لدى وصولي إلى أميركا أني لم أر فيها ما كنت أعلل نفسي به؛ فقد كنت آمل أن أكنس كم سلة من الذهب من الشوارع، ولكن ... - ماذا صار لك؟ - جئنا لنكنس الذهب فضيعنا المرأة والأولاد، وصرنا نكنس الوسخ والأقذار ...
مدرسة الغربة
«أهل بلادنا مساكين، متأخرون بكل شيء، ولولا الغربة لكانوا لا يفرقون عن أهل أفريقيا، الغربة علمت أكثرهم وفتحت بصائرهم، فصاروا يعرفون ما هي الدنيا.»
هذه بعض عبارة طويلة قالها إلياس شدراوي في حضرة جمهور من المواطنين في إحدى قهوات السوريين، وكان الحديث عن تذكارات عنت لبعضهم في الوطن، ولما أراد واحد منهم أن يرد عليه قائلا إنه في الماضي كانت حال السوريين في سوريا كما ذكر، ولكن منذ عشرين سنة - أي بعد أن هاجر إلياس شدراوي من سوريا - امتلأت بالمدارس، فصار الأهلون هناك يعرفون كل شيء، وهم لذكائهم الفطري صاروا أبرع من الأوروبيين والأميركان بكل شأن.
أما إلياس الشدراوي فلم يقتنع بهذا الرد بل نشل النرييج من فمه، فخال الحاضرون أنه سل من فمه أسنانه وقال: «في بلادنا لا يزالون يعتقدون أن شوارع أميركا مرصوفة بالزجاج، وأن المرء يستطيع أن يحفر أينما كان فيجد الذهب بكثرة، وكثيرا ما نسمع أنهم يعتقدون بغرائب الأمور في أميركا، ونحن قد صار لنا عشرات السنين فيها لم نر أثرا لذلك.»
أما الذي فتح باب الاعتراض على حديث إلياس الشدراوي؛ فقد أقفله بنهوضه ومغادرته الجماعة بعد أن قال: «هذا كله مضى عهده من زمان، والآن حانت ساعة الصلاة لقداس الأحد، نهاركم سعيد جميعا.»
ذهب المعترض تاركا في القوم حديثا عن سوريا والسوريين لا يلتئم، وكلما أراد أحدهم جمعه في نقطة يظهر غيره فيشعبه إلى جهات عديدة حتى ضاعت الطاسة بينهم، وبعد ساعتين تماما - أي قرب الظهر - كان الحديث قد انتقل منهم من معارف السوريين بالمقابلة بينها وبين معارف المهاجرين إلى مصر والمصريين والحكومة الإنكليزية وحادثة عرابي وشئون عديدة، والحديث كما يقولون شجون.
لا أزال أذكر ذلك الاجتماع الوطني، وقد مضى عليه أكثر من عشر سنوات في مدينة بعيدة عن نيويورك، وقد أوقعتني رحلاتي في تلك القهوة صبيحة أحد من الآحاد، فجلست إلى طاولة أمتص القهوة، وأسمع من بعيد حديث القوم لأقتل الوقت الفارغ، ولما لم أكن أعرف أحدا منهم جلست غير مشترك بالحديث أتسلى بما أسمع إلا أن تفرع الطرق التي سلكوها في أحاديثهم، قاد عيني إلى النعاس فصرت أكبو دقيقة ولما يطرق رأسي بالحائط أصحو، ثم يعود بي حديثهم إلى طرقة ثانية، وكثيرا ما هممت بالرحيل، ولكني لم أجد في قوة كافية على النهوض؛ وبالتالي كنت غريبا في تلك المدينة، وليس لي من مكان أذهب إليه إلا تلك القهوة والنزل الذي نزلت فيه؛ ولهذا وقعت إرادتي تحت كابوس النعاس فلبثت كمن في حلم مزعج، يشاهد أدوارا غريبة، فيقول في نفسه: قد أكون في حلم. فيجهد قريحته في معرفة ما إذا كان في حلم أم في يقظة.
وفيما أنا بمثل ما ذكرت من الحالات إذا بيد هزت كتفي، فانتبهت مذعورا، وإذا بصديق تعرفت عليه من سفرة ماضية، فقال لي: «أتنام في الصباح، اصح يا فلان، واخلط نفسك بين الإخوان فتتسلى، وتقصي عنك النعاس.»
قال هذا وتقدم نحوي فوضع فمه على أذني، وقال لي: «ها هنا رجل غريب في أطواره يدعي معرفة كل شيء، وهو يجهل القراءة والكتابة، وما أحاديثه وتدخله في كل موضوع إلا فكاهة لمن يسمع، فانتبه قليلا؛ فإني سأثير ثائر أخلاقه، وأجعله يدخل موضوعا غريبا، مؤكدا أنك ستنشق من الضحك.»
وصاح صديقي الذي استأنست به كثيرا بالخادم، طالبا فنجاني قهوة لي وله، وكنت فعلا قد انتبهت وطار من عيني كل أثر للنعاس، أما صديقي فدخل في حديث القوم قائلا: «بأي شيء تتحدثون؟»، فأجابه إلياس شدراوي: «كان الحديث عندما دخلت عن الحكومة الإنكليزية في مصر و«داعيك» كنت أحكي لهم عما اختبرته بنفسي في ذلك القطر بعد حادثة عرابي؛ فإن الإنكليز استعملوا الشدة الهائلة فيه حتى استطاعوا أن يجعلوه جنة عدن.»
ومن الغرائب أن هذا الرجل كان يحكي بلغة سوريا عندما ابتدأ قبل أن نعست؛ لأن الكلام كان عن سوريا، وأما الآن فلما صار الكلام عن مصر صار يتكلم بلغة المصريين ولهجتهم؛ ولهذا أنصت إلى حديثه أيما إنصات لأعرف كيف ينتهي وبأية اللغات، زد على ذلك ما أخبرني عنه صديقي من أنه آية من آيات الدهر بالتحشر في كل شأن وموضوع.
أما خطابه فكان طويلا جدا، وقد لذ لي تعرجات حديثه؛ فطورا كان يلم بسياسة مصر فينتهي بالفراعنة القدماء ، وطورا يتجه نحو الاحتلال الإنكليزي فيذيله بحادثة مكتبة الإسكندرية على عهد عمر بن الخطاب، وكل ذلك بلغة المصريين ولهجتهم كأنه خلق في مصر وجاء منها في ذلك اليوم. ولا أطيل على القارئ فأذكر كل ما سمعت مما كان يضحك كثيرا، بل أقتصر على آخر حكاية أوردها المذكور قال: «في مصر يدفع كل محكوم عليه بالشنق جنيها مصريا ثمن الحبل، ولا قوة تحت الشمس تخلصه من هذه الضريبة.»
ضريبة ما أنزل الله بها من سلطان، ولكن إلياس شدراوي يحكي للقوم اختباراته في تلك البلاد، وأنا ككل من كان حاضرا تنسمت هواء مصر وأنا في الباخرة، عندما رست في مياه الإسكندرية أثناء قدومي إلى هذه البلاد؛ ولهذا سكت متعجبا إلا أن أحد القوم لم تهضم معدته هذه القصة، فسأل المتكلم بملء العجب وقال: «ولكن إذا لم يكن مع المحكوم عليه ثمن الحبل فماذا يصنعون به؟»، أما إلياس شدراوي فأجابه في الحال بلغة أهل مصر: «لا يشنقوهوش.»
ولا تسل أيها القارئ كيف انتهت الجلسة؛ فإن الضحك كاد يحدث شللا في أحناك كل سامع، ومن الجملة أنا وصديقي، ولما أفقت وأفاقوا وضعت يدي على رأسي كمن كان في عالم الغيبوبة، وقلت لصديقي أن يأذن لي بالانصراف إلى النزل، فرافقني إليه وعلى الطريق أخبرته أن أول ما سمعت إلياس شدراوي في أول التئام الجلسة كان قوله عن جهل السوريين الفاضح بما يعتقدون وجوده في أميركا، وأنه كان يبرهن لسامعيه أن الغربة هي التي أنارت بصائر البعض منهم، وكيف انتهى في ذكر حكايته الأخيرة، مدعيا أنها من اختباراته الشخصية.
قلت هذا وودعت الصديق صاعدا سلم النزل، أما هو فأجابني: «نشكر الله أن حكايته كانت من اختباره الشخصي، فلو أنها بالسمع كما يسمع السوريون في سوريا عن أمجاد أميركا ويبالغون فيها لكان المحكوم عليه بالإعدام في مصر يشنق الخديوي مكانه إذا أبى دفع ثمن الحبل.»
في الدرجة الثانية
كثيرون من الناس لا يعرفون لماذا عيسى الباشق لم ينجح في هذه البلاد مع أنه هاجر سوريا وهو في التاسعة عشرة من عمره، شاب قوي الإرادة جميل الطلعة، ذكي الخاطر متوقد الذهن، يحسن ثلاث لغات قراءة وكتابة، وقد كان الأول من بني جنسه الذين وصلوا إلى أميركا بالدرجة الثالثة من البواخر، أما هو فقد ركب الدرجة الثانية ولبس البرنيطة منذ ودع أهله في بيروت إلى الباخرة.
والحق أن نيويورك شاهدت بعيسى الباشق أول شاب سوري عليه مسحة التمدن الظاهري، وفيه كنه الأدب الداخلي، ولكنه - يا للأسف - هو اليوم ابن خمسين سنة ولا يزال في الحالة التي قدم بها من بلاده منذ ثلاثين سنة ونيف.
يعزو الناس عدم نجاح المذكور إلى أمور كثيرة، ولكنها عند العارفين ليست بالأسباب الحقيقية التي دعت إلى فشله.
سله اليوم يجبك أنه لم يفشل، لا بل العكس قد نجح نجاحا باهرا، ولكنه لم يأكل ثمار نجاحه؛ إذ سرقت منه تلك الأثمار أيادي طماعة.
يقول إنه كان سببا لنجاح فلان الفلاني وفليتان الفليتاني وغيره. أولئك اليوم من كبار التجار، أما هو فمن الناس الزاهدين بالدنيا والآخرة، لا يهمه من أمر الناس شيء، كأنه من الناس بغير روح، وكأنه ناس أنه من الناس بطرق معاملاته.
وحقيقة الحال أنه في اليوم الذي وصل به عيسى إلى نيويورك شمر عن ساعد الجد وطفق يقرن قوة إرادته إلى ذكائه واجتهاده، يعمل في النهار وبعض الليل؛ ليحصل ما أمله من النجاح في بلاد النجاح، ولكنه كان يخفق في حين أن أعماله تزهر وتثمر فتتناول أثمارها أيدي الغير، ويبقى المسكين على الحصيرة لا طويلة ولا قصيرة.
بعد وصوله بأيام جاءه دعيبس بن الأسمر من بلده، وعرض عليه شأنا إذا سارا فيه يقتادان به الثروة الكبيرة في المستقبل غير البعيد، دعيبس رجل قضى بضع سنوات يبيع المسابح والصور المقدسة في نيويورك وما حولها، وقد جمع بصنعته مبلغا كبيرا من المال بالربح والتقتير. هذا عرض على عيسى أن يفتحا محلا تجاريا في نيويورك يضع دعيبس رأس المال وعيسى يبذل خبرته، وفي آخر العام تشطر الأرباح بينهما، وهي فكرة حسنة دخلت لساعتها إلى عقل عيسى ، فأبرما الشركة، وما هي إلا أيام قلائل حتى باشرا العمل تحت اسم د. أسمر وشركاه.
حاول عيسى أن يدحش اسمه في اسم الشركة، ولكنه لم يستطع لعناد شريكه، وخاف أن تنفرط الفكرة، فرضي قانعا بالأرباح في المستقبل عن أن يشهر اسمه، وعبثا جرب أن يقنع شريكه أن العمل والخبرة مثل رأس المال، وأن الربح لا يأتي به رأس المال وحده إذا ما قرن بالعمل والخبرة، ولكن عيسى أخيرا قال: «إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.»
تأسس محل د. أسمر وشركاه على أساس مكين، وقد بذل مديره وأحد أعضائه عيسى الباشق كل ما أعطاه الله من المواهب العقلية والاجتهاد النفسي لينجح الشركة، ويجعلها من أكبر المحال التجارية في القريب العاجل، أما شريكه فكان يأمل أن يبلع نيويورك دفعة واحدة دون أن يصرف في سبيل بلعته ريالا واحدا. وهذا أول موضوع للخلاف بين الشريكين؛ لأن عيسى كان يفتكر أن يؤسس المحل في السنة الأولى على دعائم الثقة والإعلان؛ ولهذا لم يكن ليبخل في أمر من الأمور يقتضي فيه البذل، أما شريكه فكان يقف عثرة في سبيله، غير مقتنع ببرهان عيسى؛ لأن البذل التجاري في اعتقاده ليس إلا تبذيرا، وأن الربح في الاقتصاد، فكل سنت توفره تربحه كما يقول المثل الأميركي.
وهكذا قضى دعيبس معظم السنة الأولى مجتهدا عاملا، باذلا قصاراه مرتقا ما كان يفتقه شريكه بشحه وبخله، وكثيرا ما كان يبذل من جيبه الخاص على أمور تخص المحل؛ لئلا يثير ثائر شريكه حتى مضت السنة الأولى، فكان مجموع ما صرفه موازيا حصته في الأرباح، أما أرباح دعيبس فكانت إملاء من كوز الأرملة عذراء طاهرة لم تمسها يد، وقد ذهل شريكه عيسى أيما ذهول لهذا الأمر، ولما سأله من أين كان يصرف على نفسه، أجابه: أنه كان «يمضيها هنا وهناك.»
في رأس السنة الجديدة جاء دعيبس إلى مكتب عيسى، وقال إنه يفتكر بحل الشركة، فواحد منهما يشتري حصة الثاني.
وما كان عيسى يعلم السبب الداعي شريكه إلى حل الشركة بالرغم من نجاحها في بدء تأسيسها ونجاح شريكه بالربح الذي ضمه إلى رأس ماله الخاص، مع أنه هو المسكين نفسه اشتغل وشقي وبذل كل ما كان بوسعه على أمل أن تزداد الأرباح في السنوات المقبلة أضعافا، فيكون له رأس مال مذخور.
ومن المضحكات أن عيسى أعيى عن إقناع شريكه أن تظل الشركة، وأن انحلالها بعد سنة يقلل الثقة بها، وأن بقاءها أربح للاثنين، وأن المأمول أن تزداد أرباحهما أضعافا في السنين القادمة؛ لأن ما مضى لا يدعى زمن تجارة وربح بل زمن تأسيس ومباشرة، وعندما قال له: إذا كان لا بد من القسمة، فهو يشتري المحل، أجابه دعيبس بقوله: مليح، أعطني ثمن حصتي!
ومن أين لعيسى ثمن حصة شريكه؟ ولكن عيسى نفسه فهم معنى القسمة التي يريدها شريكه؛ ولهذا ضحك ضحكة صفراوية ممزوجة بألم ويأس وقال له: أما أنا، فإذا بعتك حصتي فماذا تدفع لي عنها؟
فأجابه: أدفع لك بقدر ما لك في الدفتر وحبة مسك.
فقال عيسى: هذا في الشرع عدل، فإذن أعطني مالي في الدفتر كفاية تبقى حبة المسك، فهذه من فضلك وكرم سجاياك، وأنا ممتن لك من هذا السخاء، وتناول عيسى الدفتر فضرب على اسمه وأخذ قبعته، وسار نحو الباب، وقبل أن يخرج تطلع إلى وجه شريكه زاورا وقال له: خاطرك يا دعيبس؛ فقد انتهى ما بيننا الآن، وأما حبة المسك فلا حاجة لي بها، فخلها في شواربك.
في اليوم التالي كان محل د. أسمر وشركاه فاتحا بابه كالعادة، وعوضا عن مدبره وأحد أعضائه عيسى الباشق كان جالسا فتى يشتغل في الدفاتر بأجرة ثمانية ريالات في الأسبوع.
ولماذا يشرك دعيبس غيره على ربح ماله في حين أنه يستطيع أن يستأجر فتى بأجرة زهيدة يقضي محل الشريك.
أما عيسى فاتفق مع محل سوري آخر يمثله بالمساطر في الداخلية، فأظهر - بادئ ذي بدء - قوة غريبة في كسب الزبائن لمحله الجديد، حتى صارت مداخيل المحل خمسة أضعاف الماضي، ولكنه في آخر السنة عاد إلى نيويورك للحساب فرحا بنجاحه، وآملا بزيادة التقدم في السنوات الآتية؛ لأنه اعتبر تلك السنة زمنا للتأسيس، فكان يبني آماله للغد، وعندما جلس «السلزمان» مع «الباظ» للحساب رأى منه كل تساهل وغيرة، وفي الحال رصد صاحب المحل حساب عيسى بحوالي مالية قدرها ثلاثمائة ريال، مع قوله له إنه يعز عليه كثيرا أن يصرفه، ولكنه مدفوع لذلك بعامل الخوف من المستقبل؛ ولهذا يرى أن يخفض المصاريف دفعا للمحاذير.
وعبثا حاول عيسى إقناع «باظه» بأن خوفه لا محل له، وأن المستقبل يبسم لهما عن نجاح أكيد، ولما أعيى تناول برنيطته، واستلم الباب يبحث له عن عمل في محل آخر.
واتفق عيسى اتفاقات عديدة مثل اتفاقه الآنف مع بيوتات سورية عديدة، كان في نهاية كل سنة يزيد في أرباح المحل، وهو يخرج قانعا بالسلامة حتى مل العمل، ويئس من النجاح، فلاذ إلى المسكرات والقمار، وهو لا يزال يعمل يوما فيكسل شهرا إلى هذا الحين، والناس يتعجبون لحاله، ويسندون فشله إلى أمور هو بعيد عنها بعد الأرض عن السماء.
صادفته مرة في إحدى القهاوي، فملت إليه أحادثه في أمور هذه النزالة، ففتح إلي جعبة أسراره وقال: يظنني الناس غير ناجح. ولعمري، إني أسست في السنة الأولى محل د. أسمر وشركاه فأكل ثمرة أتعابي فتى استأجره دعيبس بثمانية ريالات في الأسبوع؛ إذ لم يمض عليه إلا أشهر قليلة حتى سرق المحل، وزور على صاحبه حوالات بأكثر من نصف رأس المال، فاضطر المحل إلى الإفلاس، وأما الفتى فقد صرف المال على البنات، وبعدما قضى سنتين في الحبس صادفته في الشارع، فأقر لي أنه سرق مضطرا؛ لأن المعاش لم يكن وافيا.
وقال لي أيضا: إن المحل الثاني الذي كسب له زبائن عديدين اضطر إلى الإفلاس بعد سنتين؛ لأن زوبعة مالية هبت في أسواق أميركا، فأثرت عليه لفرار أكثر الزبائن بالديون التي عليهم.
وعد أمامي محال عديدة، قال إنه وضع أساسها التجاري على صخر، فكان لا يكاد ينهي الأساس حتى يرغم على الترك، وما كان يغضبه بالأكثر أنهم لا يبنون على تلك الأسس القويمة إلا بنايات من لبن بدل الحجر.
مسكين عيسى الباشق! الناس تظن أنه سكير ومقامر وكسلان، ويقولون عنه: «القامة مصقولة والجيبة ما فيها فولة.» والحقيقة أنه رجل طبخ فأكل غيره، وزرع فحصد سواه، وهو يقول إن أميركا ليست للذين يهاجرون إليها بالدرجة الثانية أو الأولى، ولا الذين يعرفون القراءة والكتابة واللغات، إنها لغيرهم؛ للتجار بالصدفة والقدر!
خبزك بعرق جبينك
ثوماس كاربنتر أمي، يجهل القراءة والكتابة بأية لغة من لغات العالم، ولكنه بالرغم من ذلك يشتري جريدة من جرائد البلاد صباحا لدى ذهابه إلى عمله، ويطويها طيات فيدحشها في جيبه ويسير إلى عمله، وتبقى معه حتى يذهب إلى سريره للنوم؛ إذ ذاك يرمي بها إلى السلة أو من النافذة إلى الشارع.
وثوماس كاربنتر ليس بالإنكليزي الأصل ولا بالأميركي، بل هو سوري ابن سوريين من سلالة السوريين، ولكنه هكذا دعا نفسه بعد سنة من وجوده في أميركا، أما اسمه الأصلي فكان طنوس نجار.
هاجر طنوس وهو في العشرين من عمره، وقد وضعته الأقدار في قرية من قرى ولاية فرمونت، وهو لا يزال هناك حتى هذه الساعة يشتغل بالبيع بالجزدان، وقد كان في السنوات الأولى يسترزق من عمله في أحد المصانع الحديدية.
في السنوات الأولى المذكورة إذ كان حضرته لا يزال طنوسا ابن النجار، كان لا يريد أن يعرف من أميركا إلا سحب المصاري، فكلما توفر لديه كم ريال يذهب إلى سوري أخبر منه في ذلك البلد فيساعده على إرسال مبلغ من الريالات إلى أبويه، وظل هذا دأبه يشتغل فيساعد ذويه حتى مل العمل في المعمل؛ إذ كان يرى بعض باعة الجزدان تسوقهم الأسفار إلى ولاية فرمونت، فيحسدهم على معاشهم وحياتهم، فكان يرى نفسه أجيرا وسخ الثياب والهيئة أمام غناهم وحسن هندامهم، فلعبت برأسه سورات الطموح إلى مصافهم، وظل يعالج هذا الهم ويغالبه حتى فاز بما كان يتمناه، فترك المعمل ومشاقه، غانما نحو مائتي ريال ليبدأ بالبيع، ويستلم معارج التقدم.
أول طموح طنوس نجار إلى الارتقاء كان بشيئين؛ أولا: تغيير اسمه، وثانيا: بمشترى طقم جديد من القدم إلى الرقبة.
ومن ذلك اليوم لفظ الطموح الخواجة طنوس نجار المستر ثوماس كاربنتر، وهو لا يزال كذلك إلى يومنا الحاضر.
وكتب مستر كاربنتر إلى أهله أنه تقدم في حياته، وأن الفابركة ليس منها مطمع، فالتجارة أربح له وأحسن لمستقبله، وأنه ابتدأ يتدرج بأدوارها، فهو قد ابتدأ يبيع بالجزدان، وإن شاء الله بعد مدة وجيزة يصير صاحب مخزن.
وفي حاشية على زاوية الرسالة، أملى حضرته على الذي كان يكتب له رسالته أن اسمه المعروف من الآن فصاعدا صار ثوماس كاربنتر.
لما وصل كتاب هذا المهاجر إلى أهله فرحوا لنجاحه أيما فرح! ولكنهم كانوا يبالغون بالإخبار عنه حتى إن أمه كانت تحمل تغيير اسمه من عربي إلى إنكليزي إلى أن نجلها صار أميركيا بكل معاني الكلمة. ولكنهم ما لبثوا أن اغتموا لنجاحه؛ لأن ما اعتادوه منه بإرسال دراهم إليهم كل وهلة قد انقطع عنهم، فكانوا يظنون أن ذلك طبيعي لتأسيسه تجارته، فكانت رسائل أبيه إليه تحمل شيئا من الشكوى للحالة التي يعانيها بسبب قلة ذات اليد، فكان يكثر من الأدعية بتوفيقه بأن يمسك التراب فينقلب إلى ذهب، ثم يسأل الله أن يدب الحنو في قلبه؛ لئلا ينسى أبويه الذين ما لهما غيره من بعد الله تعالى.
كانت المهنة الجديدة التي ابتدأ بها المستر كاربنتر شاقة عليه بادئ ذي بدء؛ فإن الأيام الأولى لم تدر عليه ربحا البتة؛ ولهذا كانت العوامل العديدة تتنازعه أيعود إلى الفابركة التي ربحه مسوكر فيها، أم يظل يمرن نفسه على أساليب البيع بالرغم من أنه لم «يسنس» في الأيام الأولى؟
إلا أنه لا بد للمسافر من الوصول إلى محطة. فبيعة أولى جاءته بربح كام ريال، وهذا ما شجعه على المثابرة، فتلتها ثانية وثالثة، وصار له زبائن يعرفهم ويعرفونه، وصار يعرف الأصناف الأكثر رواجا من غيرها، وطلب السعر الغالي ليحصل على الربح القليل إلى ما هنالك.
ولا حاجة إلى القول إن أرباح المستر كاربنتر كانت أكثر من الأجرة التي كان يتناولها في الفابركة، إلا أنه كان يشعر أن مصاري الفابركة فيها بركة أكثر، وكان يحس أن أرباح الجزدان تطير من حيث لا يدري؛ لأن البيع يحتاج إلى لياقة وحسن هندام وهدايا للصانعات وغير ذلك كثير، ومع هذا ظل بمهنته لأنه اعتادها وأحبها، ولم يعد مجبورا على سماع تنبيه الساعة الدقاقة عند الساعة الخامسة صباحا، بل صار ينهض من النوم ضحى كل يوم، وإذا كان الطقس رديئا كان يبقى في غرفته متكاسلا، فتارة كان يقوم بضائعه ويعد أرباحه، وتارة يخاطب بالتلفون بعض زبائنه فيبرم معهم مواعيد لعرض بضائعه عليهم.
في السنوات الأولى - بارك الله بها - كانت رسائل طنوس نجار تذهب بكل بوسطة إلى أهله، أما بعده فصار ثوماس كاربنتر يجيب على عشر رسائل من أبيه دفعة واحدة، معتذرا أنه يجهل الكتابة، وليس من يكتب له رسالته إلا كل مدة، وفي رسائله الأولى كانت الحوالات المالية بالكميات الصغيرة متتابعة، أما بعدها فصارت الحوالات قليلة جدا ونادرة.
في سنوات النكبة التي حلت على سوريا كان المستر كاربنتر يعلل نفسه بالآمال، فكان يظن ألا مهرب لعائلة أبيه من الفناء جوعا، وقد توجع أولا لحالتهم، وتفطرت كبده إلا أن الأيام محت منه هذه العاطفة، ورسخ بعقله أن عائلته لا أمل لها بالخلاص؛ ولهذا كان يرقب نهاية الحرب وانفتاح الطريق؛ ليأخذ أول باخرة إلى لبنان فيلملم رزقات أبيه، ويضع الدار والأرض والكرم كلها باسمه، وهذه لولا المجاعة كان يجب أن تذهب مقسمة إلى ستة؛ لأنه واحد من ستة من أولاد أبيه.
بقي المستر كاربنتر على أمله أربع سنوات كاملة، وأبوه وأمه وأخوته الصغار كلهم في عداد الأموات بعقله. فكان إذا ذكر أحدهم يقول عنه: المرحوم فلان، كأنه تناول نعيهم تماما؛ ولهذا كان يقول في نفسه: الحي أفضل من الميت. وهو يعني بالحي نفسه وبالميت كل واحد من عائلته.
والسبب في أنه لا يزال مقيما في ولاية فرمونت إلى اليوم مع أن كثيرين من المهاجرين يعدون بالألوف ركبوا البحر إلى سوريا، وهو الذي كان يعلل نفسه بانتهاء الحرب ليأخذ أول باخرة تنقل ركابا من نيويورك إلى سوريا عن طريق فرنسا أو إيطاليا أو إنكلترا هو أنه تناول بعد شهر من الهدنة كتابا من المرحومين في عقله: أبيه، وأمه، وإخوته الصغار كلهم بعثوا أحياء من النكبة الدابرة، وفيه يخبره أبوه بأنهم باعوا كل شيء حتى أثاث البيت؛ ليحافظوا على حياتهم، ولو تأخر الحلفاء أسبوعا واحدا لذهبوا جميعا ضحايا الجوع، ثم إن أباه يشكر الله أن ابنه في أميركا؛ ولهذا تمكن أن يستدين من الجيران مبلغ مائة ليرة بعدما باع كل شيء على أمل أن ابنه طنوس في أميركا يفيها لدى فتح الطريق.
لا يزال إلى اليوم يشتغل باجتهاد ليساعد أهله كما كان يوم كان طنوسا يعمل في الفابركة، وإذا ذكر أمامه شيء عن النكبة في سوريا يكذبها حالا، ويلعن الجرائد التي نقلت أنباء المجاعة إلى المهاجرين، مع إنها اختلاق محض؛ حتى إنه يوم اجتمع بصديق له في بلد آخر فعلم منه أنه مات من أهله عشرون شخصا، وأن الضيعة فقدت تسعين بالمائة من سكانها حاول المستر كاربنتر إقناع صديقه أن كل ما بلغه كذب واختلاق من الجرائد بشهادة أن أهله هو نفسه لا يزالون أحياء.
ولما اجتمع بصديق له آخر تناول حديثهما أخبار البلاد، فقال إنه مبسوط جدا أن أهله ظلوا أحياء، وإنه مستاء جدا من صديقه الأول؛ لأنه ذاهب إلى لبنان ليرث أهله، كأنه طلبها في السماء فوجدها على الأرض أن يموت أهله ليرثهم، وليس من يقاسمه التركة من إخوانه، وأنهى حديثه بقوله: إن الإرث لا خير فيه، وإن على المرء أن يتمتع بما تجني يداه، فخير ما يأكله الإنسان ما كان معجونا بعرق جبينه.
Page inconnue