فباح له بسره، وكان الآخر صاحبا أمينا، فقال له: ليست النظافة وحدها هي ما تهم الدقمة، إنه أيضا يحب الحكايات. - الحكايات؟ - عنترة وأبو زيد وغيرهما، فإن لم تعرف السير تعذر عليك أن تواصل الحديث دقيقة واحدة مع الدقمة. - ولكن تحصيل ذلك يطول! - عندك الراوي في المقهى فلا تضيع وقتا إن كنت صادق الإرادة حقا!
ثم قال له وهو يمضي عنه: تغير الزمن يا عبدون، في بادئ الأمر كان الدقمة يرحب بأي رجل يروم الانضمام إليه، أما اليوم فهو يستوي على عرش القوة دون منازع.
وتفكر عبدون في الأمر مليا، وكان عبدون رجلا عاقلا، قال لنفسه إنه من الحكمة أن يأخذ الأمور بالهوادة والصبر والإتقان، وألا يتكالب على هدفه تكالبا يفسده عليه، لبث في الوكالة يعمل بهمة، وتزوج، وواظب على السهر في المقهى يتلقى الحكايات على أنغام الرباب. لم تعد الحياة يسيرة أو مريحة، فالعمل في الوكالة شاق، وأعباء الأسرة لا يستهان بها، ومتابعة الحكايات مع استيعابها جهد متواصل، ولكنه كان يهادن متاعبه بتخيل حلمه العذب يوم يمثل بين يدي الدقمة في نقاء الماء وثراء الرباب.
وذاع سره، وعرف كل من هب ودب أن عبدون الحلوة يعد نفسه للفتونة .
وانبرى له كثيرون من أهل الخير والنصح، فقال له أحدهم: النظافة مهمة، والحكاية مهمة، ولكن الشجاعة عند الدقمة أهم من الاثنين. - الشجاعة؟ - أجل، واحذر في الوقت نفسه أن تستثير غيرته، فيحنق عليك بدلا من أن يرضى! - وكيف أوفق بين هذا وذاك؟ - تلك هي مشكلتك وعليك أن تحلها بالفطنة يا عبدون يا ابن الحلوة!
وقال له آخر: والقوة مهمة أيضا، عليك أن تثبت قوتك، عليك أن تثبت أنك قادر على توجيه الضربات الحاسمة، وأنك قادر أيضا على تحمل الضربات مهما اشتدت .. وعليك أن تثبت له أيضا أن قوتك لا توزن بحال بقوته. - ولكن كيف يتأتى لي ذلك كله؟ - تلك هي مشكلتك يا عبدون!
ساورته الحيرة، ولكنه أراد أن يطمئن نفسه فقال: أهل الخبرة يقولون إنه يحب الجمال والنقاء والخير، أشهد أن معاملته للبان تقطع بميله الأصيل للخير!
فتساءل الآخر في حذر: وماذا عن معاملته للسقاء؟
فانقبض قلب عبدون لحظة، ولكنه قال بإصرار: أخبرني أبي ذات مرة أنه يحب الفقراء. - بوسعي أن أعد لك عشرة على الأقل من أفقر فقراء حارتنا قد نكل بهم وشردهم.
خرج عبدون من الأحاديث معتما مهموما حائرا، حتى العدول عن الطريق خطر له، ولكن الحلم كان قد سيطر على روحه فلم يسعه النكوص، وتشعبت أهداف الحياة بين الوكالة والزوجة والرباب وتجارب القوة والشجاعة ومغامراتهما، ومضى - رغم صلابته - ينوء بالعبء، وتنزلق قدمه، وتتراخى قبضته، تبدد وقته وتشتت عقله، وارتكب حماقات متلاحقة، وتمادى في طرقه المتشعبة بجنون حتى فقد السيطرة على حياته، وانتهى دأبه بالخيبة فطرد من الوكالة، وطلق - عقب مشاحنات كثيرة - زوجته.
Page inconnue