حكاية بلا بداية ولا نهاية
حارة العشاق
روبابيكيا
الرجل الذي فقد ذاكرته مرتين
عنبر لولو
حكاية بلا بداية ولا نهاية
حارة العشاق
روبابيكيا
الرجل الذي فقد ذاكرته مرتين
عنبر لولو
حكاية بلا بداية ولا نهاية
حكاية بلا بداية ولا نهاية
تأليف
نجيب محفوظ
حكاية بلا بداية ولا نهاية
1
هتف المنشد في نغمة بدائية: «يا سيدي الأكرم على بابك.»
فردد المريدون: «الله .. الله .. الله.»
تابعت عيناه المشهد من خصاص نافذة ببهو الاستقبال. تابعتا موكب أهل الطريقة وهم ينشدون ويصفقون على أنغام الناي ودق الدفوف وتحت البيارق ينشدون. تزاحموا حول الضريح وأمام البيت الكبير حتى امتلأت بهم الحارة. تسللت إليه في موقفه وراء النافذة نسائم دافئة من الحديقة مترعة بأخلاط من روائح الفل والياسمين والحناء والقرنفل. لبث بمكانه في بذلته السوداء الأنيقة مغطى الرأس بعمامة مقلوزة، ينظر ويصغي باهتمام. «يا سيدي الأكرم على بابك.
الله .. الله .. الله.»
وارتفع صوت مكتسح النبرة يطالب الجميع بالسكوت، فساد الصمت. راح يخطب قائلا: «هنيئا لأهل مصر. هنيئا لمصر. اختارك الأكرم مأوى ومستقرا لشخصه ولذريته. هنيئا لك يوم قصدك قادما من المشارق. على قدميه جاء. يستأنس وحوش البراري. يخترق الجبال، يسير فوق الماء، يفجر العيون في الصخر. وهل على القاهرة السعيدة كالبدر. وتجول في أطراف متباعدة حتى استقر به المقام في هذه البقعة الطاهرة حيث يقوم مسجده وضريحه. هنيئا يا مصر، وهنيئا يا حارتنا، حارة الأكرم وموطن ذريته ومريديه. منذ قرون خلت انبثق في هذا المكان نور ما زال يجذب إليه فراشات من طالبي الهداية والغفران، وترك لكم المسجد والبيت الكبير. البيت الكبير مركز الروح والنور والهدى، تدور حوله كواكب الأكرمية ما بين سوريا والعراق وتركيا ولبنان وفلسطين والجزيرة والهند وفارس وتونس والجزائر ومراكش وطرابلس. بيت هو القلب الخفاق لعالم روحي شامل. يا سيدي الأكرم تحية وسلاما. يا من جبت الأقطار كلها واخترت لمقامك هذا القطر، هذه العاصمة، هذه الحارة، هذا البيت. يا صانع الكرامات تحية وسلاما. ولآخر خلفائك وذريتك مولانا محمود الأكرم تحية وسلاما.»
تعالت الهتافات من الأركان، ثم أنشد المنشد وردد المريدون: «يا سيدي الأكرم على بابك.
الله .. الله .. الله.»
تحول عن النافذة. بوجه أسمر مستطيل ولحية سوداء قصيرة مدببة. تطلع إلى شيخ في الستين يقف وسط البهو الكبير تحت نجفة برنزية على هيئة مئذنة. أنعم فيه النظر فتلقى الشيخ نظرته بخشوع وقال: تحية وسلاما يا مولانا محمود الأكرم.
فتمتم الرجل باسما: طاب يومك يا شيخ عمار.
مضى - والآخر يتبعه - إلى كنبة تركية مفروشة بالسجاد الشيرازي على مقربة من باب السلاملك. جلس ودعا الشيخ إلى الجلوس. تتابعت نسائم الصيف العطرة متهادية في تضاعيف أصيل غابت شمسه وراء أشجار التوت المعششة بالعصافير. قال الشيخ محمود: من يرى موكبنا لا يتطرق إليه شك في استقرارنا.
فقال الشيخ عمار بحماس: ما زالت الدنيا بخير.
هز الرجل رأسه في أسى متسائلا: ماذا جرى لحارتنا؟ - لا شيء، سحابة صيف، عبث أطفال. - إنك لا تؤمن بما تقول يا شيخ عمار، هل سبق أن نال لسان من الطريقة؟ - إنه جيل جديد عجيب يمتطي مركبة الشيطان.
قطب محمود الأكرم قائلا: يسخرون من الطريقة، ومن المريدين، ومني شخصيا، ويرسلون النكات في مقاهي الحارة بكل وقاحة. - وباء هذا الزمن، ماذا جرى لهذا الجيل؟ كيف هانت عليه مقدساته، ولكنه عبث أطفال ليس إلا. - ألم يسمعهم المريدون؟ - بلى يا مولاي. - ماذا فعلوا؟ - نصحوهم بالتي هي أحسن، وركبهم الغضب مرات، ولكن أحدا منهم لم ينس أن الحارة أسرة واحدة.
قال محمود الأكرم بحدة: لولا الأكرمية ما كان للحارة شأن! - هو الحق يا مولاي، وقد هيجني الغضب مرة فكدت ...
ولكنه قاطعه قائلا: لا يليق العنف بأهل الطريق! - ولكن للصبر حدود. - أسأل الله ألا تدفعنا الأحداث إلى تجاوز القصد.
رفع بصره إلى الساعة الكبيرة في الجدار الأوسط ثم تساءل: متى يجيئون؟ - لعلهم في الطريق إلينا. - ألا يوجد بينهم زعيم أو محرض، أو ما شاكل ذلك؟ - ليس هناك تنظيم أو زعامة، ولكن ثمة شاب يتسم بوقاحة مركزة يدعى علي عويس.
ضيق الشيخ عينيه متفكرا وقال: علي عويس! .. إني أعرف هذا الاسم أو على الأقل بعضه. - إنه ابن المرحوم عويس سواق الكارو.
استقام ظهر الرجل بغتة وتساءل: شقيق المدرسة؟! - شقيق زينب عويس المدرسة.
نظر الشيخ محمود إلى حذائه الأسود صامتا، فقال الشيخ عمار: لعله ليس من الحكمة أن نفتح المدارس لكل من هب ودب!
فتمتم الشيخ محمود وكأنما يحدث نفسه: إذن فهو شقيق زينب عويس. - يغادر كل صباح بيتا قديما أعد مدخله قديما موقفا للكارو ليذهب إلى الجامعة! - يقال إن شقيقته شقت طريقها بإرادة من حديد. - إنها عانس، مدرسة أطفال، ذات دخل ضئيل، وفي هذه الجحور يترسب الحقد يا مولاي، ويتستر على نفسه السوداء بالسخرية والنكات الجارحة. - ليتك دعوت شابا آخر. - إنه أسلطهم لسانا! - كان أبوه مريدا لأبي، وكان محمود السيرة رغم ضعته وفقره. - قلت لهم اختاروا من بينكم نخبة لمقابلة مولانا فكان أجرأهم على القبول، رفض البعض، وتردد البعض الآخر، ولكني أعتقد أن سيجيء منهم نفر لعلهم أصلبهم. - طليعة الخاطئين.
تنهد الشيخ عمار قائلا: لم تعرف حارتنا أمثالهم من قبل. - هو زمن الغرور والوقاحة. - يخيل إلي أن جامعاتنا معاقل أجنبية!
حدجه الشيخ محمود بنظرة عابسة فتراجع الرجل في استحياء قائلا: إلا من هداه الله وحفظه. - رحم الله أبي. ••• - لقد جئتك بالمعلمين ولكنك ترغب في دخول مدارس الدنيا. - لا بأس من ذلك يا أبي. - كل علم فهو من عند الله. - الحمد لله. - ولكن العبرة بالجهاد وعليه يتوقف الطريق. - سمعا وطاعة يا أبي. - لكي تكون خليفة كما ينبغي لك. - أجل يا أبي. - إن علوم الدنيا لها نهاية أما جهاد الطريق فلا نهاية له. •••
ولما خرج من أعماق صمته قال الشيخ عمار: ليرحم الله أباك. - ليرحمنا الله جميعا.
وطيلة الوقت لم ينقطع إنشاد المنشدين وترديد المريدين، ولكنه انخفض درجات كأنما يجيء من بعيد. تابعه الشيخ محمود بشيء من الحزن، ثم قال: يا للذكريات، عرفنا ذات يوم أسماء جذابة كأرشميدس ونيوتن، وحقائق غريبة كالجزيء والحركة، ولم أتصور وقتذاك أنها ستطاردنا بعنف كالزمن.
دخل خادم يستأذن للقادمين .. أشار الشيخ محمود للشيخ عمار فقام ليغادر المكان في أثر الخادم ولكنه أضاء النجفة قبل أن يغيبه الباب. دخلت مجموعة من الشبان، عشرة بالتمام، دون العشرين سنا، يرتدون البنطلونات والأقمصة نصف كم، ولا يخفى عن عين قدم ملابسهم. وقف الشيخ لاستقبالهم فتمت المصافحة بطريقة حديثة لم يتوقعها ولم يألفها. مد يده منتظرا تقبيلها ولكن شدت عليها الأيدي باحترام دون تقبيل. بدأ التعارف فقدم كل نفسه. الجميع طلبة بالجامعة، بالآداب خاصة، ما عدا واحدا بالهندسة، وآخر بالعلوم هو علي عويس. تفحصه بنظرة عميقة بقدر ما سمح الموقف الخاطف. لمح قسمات غير غريبة كنغمة قديمة عزفت بعد نسيان، ونظرة حركت باطنه بقوة مذهلة. فسرها بالحنق فاستعاذ بالله من الشيطان في سره ولكنها كانت ألصق بالقلق والحيرة.
قال باسما: حللتم أهلا وسهلا.
فأجاب أكثر من صوت: شكرا يا صاحب الفضيلة.
قلب عينيه في الوجوه الغالب عليها الشحوب وقال: لا تعجبوا لدعوتي إياكم، فهذا البيت مفتوح لجميع أبناء الحارة، وبمعنى آخر، هو بيت الجميع.
فقال أحدهم: فرصة طيبة وهبة سعيدة.
لاحظ أن الآخرين جالوا بأبصارهم في المكان وصاحبهم يتكلم، فشعر بحدة التناقض بين رثاثتهم وفخامة الجدران المحلاة بالأبسطة المزركشة والحصر الملونة وزينة الأرابيسك، والسقف الأبيض العالي تتدلى من وسطه النجفة البرنزية ومن أركانه الفوانيس الأندلسية. بدوا كحشرات حادة تغوص في شباك البساط الكبير الدسم.
قال الشيخ: نحن قوم مهمتنا في الحياة التواضع لله وحب الناس. - ما أجمل أن نسمع ذلك. - وإذا كان الحوار مفيدا بين الناس في كل حين فما أوجبه إذا نشب بينهم ما يدعو إلى سوء التفاهم.
صدقوا على قوله بإحناءات من رءوسهم العارية فقال: وطريقتي أن أدخل الموضوع رأسا، بلا لف ولا دوران، ثم أتركه يتفرع كيف شاء بعد ذلك.
استقرت في أعينهم نظرات استطلاع وتوقع فقال: بلغني يا سادة أنكم تخوضون في كرامتنا وتهزءون بنا؟
فأجاب أحدهم: لا يخلو الخبر من مغالاة. - أتنكرون ذلك؟
فأجاب آخر: لعل مزاحنا علا أكثر مما ينبغي.
قال الشيخ محمود ممتعضا: لو جاء ذلك من خارج حارتنا ما اكترثنا له، بل حتى وهو من صميم حارتنا كان يمكن أن ألقاه بالصبر والحلم لولا أن بعض المريدين هموا مرة بالدفاع عن مقدساتهم فآلمني ذلك جدا، إذ إننا قوم مهمتنا الأولى في الحياة هي حب الناس لا الاعتداء عليهم، وبخاصة إذا كانوا من أبنائنا، لذلك قررت أن أدعوكم لتتضح لأعيننا المواقف والسبل، ولنتعاون على تحكيم الحكمة والرشاد فيما بيننا.
قال صوت: سلوك حميد خليق بفضيلتكم.
قلب عينيه في وجوههم مرة أخرى ثم تساءل: ألا تعرفون ماذا يعني الأكرم وطريقته لحارتنا؟
ساد الصمت قليلا حتى خرج منه علي عويس قائلا: الحق أن نوايانا حسنة وإن يكن مزاحنا عاليا، ولكي تعرفنا على حقيقتنا فاعلم يا سيدي أننا طلاب علم، نحب الحقيقة أكثر من أي شيء في الوجود، يؤسفنا أننا أزعجناك.
عاوده القلق لدى سماع صوته ولكنه كبح انفعالاته وقال: نحن لا يزعجنا شيء، حتى الموت نفسه لا يزعجنا، ونحن طلاب الحقيقة منذ الأزل وإلى الأبد.
فقال علي عويس: لعله اختلاف في وجهة النظر. - لم يطالبكم أحد بالدخول في طريقتنا. - الآراء المتناقضة يا سيدي لا يمكن أن تعيش جنبا إلى جنب في سلام.
فتساءل الشيخ بحرارة: ألا تعلمون أنه لولا الأكرم، لولا الأكرمية، لما كان لحارتكم ذكر ولا لأهلها شأن أو أمل.
فقال علي عويس بثبات: الدنيا تتغير بلا توقف ولا رحمة يا مولانا. - ولكن الحقائق باقية خالدة. - التغير هو الشيء الوحيد الخالد يا مولانا! - التغير؟! - التغير في كل يوم، في كل ساعة، في كل لحظة. - أراك تتعلق بظاهر كاذب خداع. - معذرة يا سيدي فالظاهر الكاذب هو الجمود.
ابتسم الشيخ مداراة لضيقه وقال: لا وقت الآن لمناقشة الظاهر والباطن وإلا طال النقاش بنا دهرا، بيد أنه واضح أنكم لا تؤمنون بطريقتنا؟
لم ينبس أحد منهم بكلمة فقال الشيخ: الصمت جواب، فهل تؤمنون بطريقة أخرى؟
فأجاب أحدهم: لنا في الحياة سبيل آخر غير الطرق! - إجابة مفجعة، ترى ماذا تأخذون على طريقتنا؟
فسأله علي عويس: هل يتسع يا سيدي صدرك لصراحتنا؟ - إنه أوسع مما تتصور.
فقال أحدهم: الحياة في حارتنا معاناة أليمة.
وقال آخر: إنها صحراء مخيفة مليئة بالأكاذيب.
وقال علي عويس: صغار المريدين، وهم الكثرة الغالبة، حفاة خانعون.
فقال الشيخ بعجلة: إنهم راضون، والرضا مطلب روحي مضنون به على غير أهله. - لا يملكون حيال قوتكم إلا الرضا وإلا ماتوا جوعا، ولكن لا شك أنهم يمرون حيارى بهذا البيت الكبير الغارق في الرفاهية.
قال الشيخ بحدة لأول مرة: بيت آبائي وأجدادي مذ أقامه القطب الأول.
فقال الشاب بجرأة جنونية: أقيم بأموال المريدين كسائر العمارات الشاهقة في وسط المدينة.
قام الشيخ محافظا على هدوئه ما أمكن. تقدم خطوات مستقبلا باب البهو المفضي إلى الحديقة كأنما ليرطب انفعالاته. تمتم دون أن يلتفت إليهم: قاتل الله الحقد والحسد.
فقال الشاب ثملا باستهتاره: إنهما وقود الحق إذا اختل الميزان.
فقال الشيخ بازدراء: وقودنا الحب وحده. - ذلك يا سيدي أنك لم تذق عض الجوع ولا ضراوة الكدح ولا رهبة القوة الغشوم.
وتحول الشيخ إليهم بنظرة نافذة وهو يقول: إذن فهذه هي المسألة! - المسألة؟! - إنكم تريدون نقودا؟! - بمعنى ما، ولكننا لا نريد رشوة. - ماذا تريدون؟ .. صارحوني كما وعدتم.
أجاب أحدهم: ليس في عقولنا مطالب أوضح مما نطقت به شكاوانا.
وقال آخر: يريحنا أحيانا أن نطالب بنقيض ما هو قائم!
فعبس الشيخ قائلا: لا يخلو كلامكم من خدر هو التمويه نفسه، حسن، إني أشم رائحة فوضوية!
فقال علي عويس: لا تهمنا الأسماء، وفي الوقت نفسه فهي لن تخيفنا. - لعلكم تحلمون بالقتل؟ - القتل؟! - بدأتم بالسخرية وستنتهون بالدم. - أحلامنا تحوم حول هدف واحد هو التقدم. - يا فتى، إني جامعي مثلكم! - نعرف ذلك يا سيدي.
فعاد إلى مجلسه وهو يقول: فلنتحدث كزملاء. - هذا شرف كبير لنا يا سيدي.
فابتسم مستردا بذلك هدوءه وقال: إنكم شباب في مقتبل العمر، أمامكم فرص لا تحصى للتعلم من الكتب والحياة والزمن، فأي خطأ تعثرون به قابل للإصلاح، لذلك لا يزعجني كثيرا أنكم لا تؤمنون بشيء. - لا نؤمن بشيء؟! - أتؤمنون بشيء؟ - إن من يعمل فلا بد أن يؤمن. - كثيرون يعملون كالآلات. - ولكننا نعمل بحماس صادق. - فلعله الطموح؟
هز علي عويس رأسه هزة غير القانع ثم تساءل: ألا يستحق العلم أن نؤمن به يا مولاي؟ - إنه معرفة باهرة، وهو من أحب القراءات إلى نفسي. - وما رأيك فيه؟ - إنه باب من أبواب العبادة. - وقدرته على السيطرة والتغيير؟ - خير كثير وشر كثير. - هو خير خالص أما الشر فيجيء من أوضاع إنسانية معوجة. - فما الذي يوجه الإنسان نحو الخير؟ - وعي حكيم في مجتمع سليم.
قال الشيخ بنبرة راسخة قوية: لا إيمان حقيقي إلا بالله ولا خير حقيقي إلا بالله وفي سبيل الله.
وساد صمت فترامى من الحديقة نقيق، وخشخشة أوراق، على حين ارتفعت من الحارة ضجة عابثة ضاحكة. جعل الشيخ ينقل عينيه بينهم. لم يستطع تجنب النظر إلى عويس. وقال: لعلكم تؤمنون بالإنسان، هكذا يقال كثيرا في هذه الأيام، ولكن ما قيمة الإيمان بالإنسان بغير الإيمان بالبطولة؟
أجاب أحدهم: لا قيمة لشيء بغير البطولة. - أي ضمان للبطولة - وهي تضحية بالنفس والمال - بغير إيمان كامل بالله؟! - من المؤمنين من لا بطولة لهم والعكس صحيح! - على أي أساس تقوم بطولاتهم؟ - إيمانهم بأنفسهم وبعالمهم! - غير كاف وحده. - التربية الرشيدة. - ولا هذه.
فقال آخر: قد نستعين في ذلك بالعقاقير كما نستعين بها على مقاومة الأمراض!
ابتسم الشيخ على رغمه ولكنه قال بامتعاض: حبوب للتضحية .. حبوب للشجاعة .. حبوب للأمانة .. ما شاء الله!
فقال علي عويس منفعلا: لا تسخر منا يا سيدي، إن جميع ما حولنا يثير الحزن الشديد، لقد ضقنا بكل شيء ونريد لكل شيء أن يتغير، وقد ورثنا هذا العالم عن آباء وأجداد ظنت بهم الحكمة يوما ما، فحق لنا أن نتنكر لهم ولتراثهم.
فتمتم الشيخ ممتعضا: أسفي على الآباء والأجداد. - نحن أجدر بالرثاء منهم.
تفكر الرجل قليلا ثم قال: الآن عرفت لم تسخرون من الطريقة وأهلها!
فقال أحدهم: إنك يا مولانا رجل مثقف، وليس جمعك بين البدلة والعمامة عبثا، وإن خيرا كثيرا يرجى منك لحارتنا. - ترى ماذا يرجى مني؟ - لا شيء يخفى على فطنتك. - أعطني مثالا يا بني.
فقال علي عويس: أن تمزق ستار الأكاذيب الذي يغشى حارتنا. - الأكاذيب؟! - كالتناقض بين شعار الزهد والممارسة الفعلية للتسلط واقتناء العمارات الشاهقة!
وقال آخر: والكف عن التغني بالخرافات. - الخرافات؟!
فقال علي عويس: معذرة عن صراحتنا ولكننا بتنا نكره الكذب حتى الموت. - زيدوني صراحة! - نحن مقتنعون بأن شيئا لا يخفى عن فطنتكم.
أعقب ذلك صمت ثقيل .. طال الصمت فلم يجرؤ أحدهم على خرقه. وبذل الشيخ جهدا جبارا ليخفي انفعالاته. ونهض باسما. قال: ها قد تم التعارف بيننا، وذاك من فضل الحوار كما قلت في بدء الاجتماع.
فقال أحدهم: نرجو أن تغفر لنا صراحتنا.
فقال الرجل بهدوء: ليغفر لنا الله جميعا.
صافحهم واحدا واحدا. غادروا البهو. ولما خلا المكان اكفهر وجهه. وروح عن انفعاله بالحركة ذهابا وجيئة. لم ينتبه إلى عودة الشيخ عمار حتى مثل الرجل بين يديه. وضع يده على كتفه وهو يقول: كما أخبرتني وأكثر.
تمتم الرجل: أبالسة يا مولاي. - يريدون سلب أموالنا والقضاء على نفوذنا وإهدار قيمنا. - وهم يتكاثرون وتتسلل زندقتهم إلى النفوس الضعيفة. - وابن سواق الكارو صاروخ مدمر. - قلت إنه أسلطهم لسانا. - بل هو شر من ذلك. - والعمل يا مولاي؟
ابتسم الشيخ محمود قائلا: نحن قوم الحب غايتهم الأولى والأخيرة.
فابتسم الشيخ عمار بدوره قائلا: الآن عرفت سبيلي يا مولاي. - ليكن الله في عونك. - سأفعل ما يمليه الحب علي، حبنا لمقدساتنا، وحبنا للمريدين الأبرياء!
وتبادلا نظرة طويلة.
2
جلس على الديوان تحت النجفة يرنو إلى الحديقة بعينين نصف مغمضتين. إلى جانبه استكنت العمامة فبدا شعره الأسود غزيرا مفروقا بعناية لم يتطرق إليه أثر لشيب. ومن الحارة ترامت نداءات باعة الصباح مترنمة. وفي الحديقة تألقت أوراق التوت والحناء والأعناب تحت دفقات حارة من أشعة الشمس. استغرق في تأملات حتى انتبه على حفيف ثوب. نظر نحو جارية سوداء طاعنة في السن جدت في البحث عنه بعينين عمشاوين .. ناداها برقة: أم هاني.
اتجه وجهها النحيل الضامر نحو الصوت ثم همست: امرأة تريد مقابلتك.
جاءت امرأة في أواسط العمر، صافية السمرة، تعكس عيناها السوداوان نظرة جادة متجهمة تستقر في أعماقها كآبة ثابتة. لبس العمامة ووقف في دهشة أوشكت أن تكون انزعاجا لولا نجاحه في ضبط مشاعره. قال: زينب .. أهلا .. تفضلي.
مد لها يده فصافحته بعد تردد ودون أن يند عن وجهها أي تعبير إنساني. - كيف حالك، أهلا أهلا، تفضلي بالجلوس.
جلست على مقعد قريب من الديوان. ظل واقفا وهو ينعم فيها النظر ثم قال: لم أرك منذ عمر طويل، عمر طويل حقا، ولكني تابعت نجاحك بإعجاب.
قالت بلهجة قاطعة في التركيز على الهدف الذي جاءت من أجله: أرجع إلي أخي!
حدق فيها متسائلا وقال: ماذا عن أخيك؟ لقد اجتمعت به مع بعض زملائه في هذا المكان منذ أيام قلائل.
لازمت الصمت كأنها لم تسمع شيئا فواصل حديثه: دعوتهم بعد أن بلغني عنهم ما بلغني، لا شك أنك سمعت بما يقال، وتناقشنا طويلا، والتزمت في حديثي معهم بالرفق والسماحة وسعة الصدر، ولم أضن عليهم بالنصح الرشيد.
فقالت دون أدنى تأثر بكلامه: أرجعه إلي من فضلك! - ماذا تعنين؟ - أنت تعرف ما أعنيه تماما. - صدقيني ...
فقاطعته بهدوئها الميت: لقد ألقي القبض على الجميع فجر اليوم. - علمت بذلك الساعة فقط ولكني لم أفهم معنى لقولك بعد.
فقالت دون مبالاة بأقواله: لذلك أكرهت نفسي على هذه الزيارة. - الحق أنني نسيت لدى رؤيتك كل شيء. - إن الأخطاء ينسي بعضها بعضا.
فقال محتجا: يا للعجب، إنك تسيئين بي الظن! - نعم. - مغالاة جاوزت كل حد. - أرجع إلي أخي. - أي تهمة وجهت إليهم؟ - يقيني أنهم أبرياء. - إذا كان بريئا فسوف يرجع إليك دون شفاعة. - لست أطلب شفاعتك، ولكني أطالبك بإصلاح خطئك.
قطب قائلا: اقتلعي هذا الوهم من رأسك. - ليس وهما ما أعتقد، إنك أكبر من أي وهم! - سامحك الله. - إنه يسامح الولايا والضعفاء والمخدوعين والمغلوبين على أمرهم، ولكنه لا يسامح الأشرار والمنافقين. - صدقيني ...
فقاطعته: لا أستطيع أن أصدقك. - لا دخل لي فيما حصل لأخيك. - أنت أبلغت عنه أو أحد رجالك بإيعاز منك.
هز رأسه هزة المتسامح وقال: لم يكن بحاجة إلى من يشي به، ارتفعت أصواتهم في كل مكان، ودوت ضحكاتهم بالآراء الهدامة. - ليس فيما قالوا جريمة ولكن انقلب الحال بعد مجيئهم لمقابلتك. - ماذا تعنين؟ - أحلام شباب لا تؤذي أحدا من الأبرياء، ولكن مادت الأرض عندما تطرق الحديث إلى شخصك. - كلا، ولكنهم لا يؤمنون بالله، لا يؤمنون بشيء. - أتؤمن بالله أنت؟ - أيتها الجارة .. اتقي الله. - ماذا لديك من درجات الإيمان التي تحفظها عن ظهر قلب؟! - لا تحكمي على رجل لم تريه منذ عمر طويل. - كثيرون - حتى من مريديك - يعرفونك على حقيقتك. - لا تعرضي بقوم يدينون لي بالولاية. - إنهم يطيعون نداء المصالح. - ليسعك حلمي إلى ما لا نهاية. - لم يغضبك كفره المزعوم ولكن أغضبك رأيه في عماراتك الشاهقة في وسط المدينة. - ليغفر الله لك سوء ظنك!
فعادت تقول بهدوئها الميت: أرجع إلي أخي. - يتعذر علي التدخل في مثل تلك الأحوال. - ما دام في قدرتك أن ترسله إلى السجن فلن يتعذر عليك إخراجه.
جلس الشيخ على الديوان. ابتسم ابتسامة من يأسى على نفسه. قال معاتبا: ليغفر الله لك!
ثم واصل حديثه: أعتقد أن الإجراءات التي اتخذت معهم لا تعدو أن تكون نوعا من الزجر ليس إلا، ومن أجل خاطرك سأبذل سعيا حميدا ولكني لست واثقا من النتيجة، أرجو أن تعدلي عن سوء ظنك بي، إن اتهامك فوق احتمالي، ولا يليق بمركزي سواء في الطريقة أو في الحارة، ولقد حرمت على أتباعي حق الدفاع عن مقدساتهم إيثارا للحب والسلام. - إني عاجزة عن تصديقك؛ لدي من الأسباب ما يحملني على إساءة الظن بك دائما وإلى الأبد، ولكني ما كنت أتصور أنك ستلاحقني بالأذى جيلا بعد جيل! - إني بريء مما ترمينني به. - إني أصدق قلبي وهو خير دليل. - صدقيني. - كلا، ولكن أرجع إلي أخي. - وعدت بالسعي. - سيعرف أهل المقبوض عليهم الرجل المسئول عن ذلك آجلا أو عاجلا.
فقال بحدة: جيل شرير من الأبالسة، أوغروا الصدور بضلالهم، ولا أحد من العقلاء يضمر لهم أي عطف. - إنهم أفضل مما تظن. - أهذا رأيك؟ - يودون الخير من أعماق قلوبهم. - هل حدثك أخوك عن آرائهم؟ - أعرف أحلامهم. - يا لخيبة الأمل، كدت أطالبك بالمعاونة على تهذيبه. - لقد أحسنت تربيته. - إذن كيف نشأ على الحقد والحسد والتعلق بأتفه ما في الحياة؟! - أتفه ما في الحياة؟! - زينة المال الكاذبة وما يتبعها من شهوات.
تنهدت زينب وقالت: يا لك من رجل تفوق جرأته الخيال!
فرق بينهما صمت. أراح رأسه بالنظر إلى الحديقة. تلقى دفقة من انفعالات طارئة. قال وكأنما يخاطب نفسه: يا للذكرى، ها هي نفحة من الماضي تهب كأنما تهب من بستان، حاملة عرف عرق خاص، لعله عرق الإبطين، ناشرة صورا مطوية في قلب الزمن، تثير الحنين بقدر ما تثير الشجن. - ماذا تعني؟
عاد يحدق فيها ثم قال: ما زلت جميلة كما كنت.
فهتفت بحدة: يا لك من رجل مريض! - ليكن لسانك نفخة من ذكريات لا نصلا للطعن والقتل. - كأنك إبليس بلحمه ودمه.
فقال باسما في غموض: هيهات أن تعرفي عذابات رجال الطريق. - ولكني أعرف المنافقين.
فقال متوغلا في الانفعالات الطارئة: القلب نبع يفيض بمنصهر المعادن النفيسة والخبيثة، والسرور توءم الحزن. - إنك تهذي.
ولكنه باخ. أفاق تماما. تراخت شفتاه امتعاضا. قال بفتور: أرجو ألا يخيب مسعاي في إرجاع الجميع إلى بيوتهم. - وأرجو ألا أضطر إلى المجيء مرة أخرى. - بوسعك أن تفعلي شيئا لتجنيب حارتنا ويلات نزاع يوشك أن ينقلب داميا. - بوسعك أنت أن تفعل هذا خيرا مني.
تساءل عابسا: أتجرين مجراهم؟! أتطمعين أنت أيضا في مالي الحلال وولايتي المستمدة من كرامات جدي الأكرم؟! - إني أصغر شأنا من أن أنبهك إلى ما ينبغي لك. - بفضل طريقتنا يؤمن أحقر رجل في حارتنا بأنه أصل الوجود وغايته!
فقامت وهي تقول: هل أغنانا ذلك عن تعاستنا شيئا؟!
فقام أيضا وهو يقول محتدا: إنك على وشك الزيغ يا زينب. - إني منتظرة وعدك. - كان أبوك مريدا صادقا. - رحمه الله. - مات سعيدا كما يجدر بمؤمن. - ولكنه عاش عيشة مريرة! - أهم ما في الحياة هو الموت!
مضت نحو الباب وهي تقول: إني منتظرة وعدك. ••• - في هذا البيت المقدس! وفي هذه الحجرة المباركة، عليك لعنة الله. •••
هم بقول شيء قبل أن تختفي ولكنه أطبق فاه، ثم ذهب إلى النافذة فأزاح الستارة وألقى نظرة يتابع مسيرها.
3
دخل بهو الاستقبال فرأى الشيخ عمار في انتظاره. صافحه دون أن يخفي دهشته وهو يتساءل: خير. ما جاء بك في هذه الساعة وقد أوشك الليل أن ينتصف؟
أجابه الرجل وهو يغض البصر: لا غرابة أن نوجد في هذا البيت في أي ساعة من نهار أو ليل. - جواب حسن.
جلسا والشيخ يمسح وجهه بمنديله ويقول: في الخارج عاصفة ترابية أخشى أن تدفن الحارة دفنا، في هذا الجو يضيق الإنسان بالحياة وتضيق الحياة بالإنسان، وعجيب أن نكون من تراب ونجزع هذا الجزع للفحة منه، وفي كل خطوة يصادفك شاب من أولئك الشبان، لقد بذلنا لهم مسعى طيبا ولكنهم لا يبدون شاكرين، كلا، إنهم أبعد ما يكون عن الشكر، وما أجدر اللئام بأن يظنوا الاستجابة الطيبة ضعفا، وذاك الشاب المتهور حدجني اليوم بنظرة متحدية، وقديما قيل: اتق شر من أحسنت إليه، اللعنة، لم تعد الحارة بالحارة التي أولتنا الإمامة ولا الزمان بالزمان الذي طاب لنا، أكنت تنتظرني يا شيخ عمار؟
غمغم الرجل: نعم يا مولاي. - ماذا أرى؟! .. إن وراء نظرة عينيك أنباء لا تعد بخير! - حفظك الله من كل سوء يا مولاي. - ماذا حدث؟ هل وقع انقلاب خطير في نظام الكواكب؟! - الدنيا بخير، ولن ينال من كمالها عبث الأبالسة.
تساءل الشيخ بضيق: ماذا وراءك يا رجل؟ - نحن قوم خلقنا الله لنواجه الشدائد بقلوب أشد منها.
فقال بجزع: هات ما عندك، كلما استفحلت المصيبة كان الإيجاز أليق بها!
فقال الشيخ عمار بعناد: ليس من الوفاء أن نخفي عنك أمرا باتت تلوكه ألسنة الكثيرين.
قال بنبرة غاضبة: تكلم. - ثمة نشرة مطبوعة كتبت بمداد حقد أسود. - نشرة مطبوعة؟ - نعم. - للتشهير بنا؟ - ما يشهرون إلا بأنفسهم.
وأخرج من جيب جلبابه نشرة على هيئة كتاب بغير غلاف مطبوعة بالرنيو، وسلمها إليه مطرقا. تلقاها الشيخ متجهما، تفحص صفحتها الأولى، فرها بسرعة، ثم عاد إلى صفحتها الأولى. - يا له من عنوان غريب، «ماذا تعرف عن الأكرمية؟» ولكن من ذا الذي لا يعرف كل شيء عن الأكرمية؟!
نظر في عيني الرجل متظاهرا بالاستهانة ثم سأله: أقرأتها؟ - نعم يا مولاي. - مهاترات؟! - نفثات شيطان رجيم. - هل وزعت على نطاق واسع؟ - على جميع من يعرفون القراءة في حارتنا. - متى حدث لك؟ - لم أدر بها إلا اليوم. - لقد تم الإفراج عن الأبالسة منذ عشرة أيام!
أطرق الشيخ عمار صامتا فتساءل الشيخ محمود ساخرا: هل يحرمنا ما جاء بها من الحياة أو يصد الحياة عنا؟ - معاذ الله يا مولاي! - نحن نعرف أعداءنا كما نعرف أصدقاءنا.
ومضى يقرأ بسرعة وهو صامت وتند عنه كلمات من آن لآن. - توجد مقدمة، ما شاء الله، كما يليق بالكتب العلمية، ماذا تقول المقدمة؟ .. «الحقيقة هي الحقيقة، لا تحتاج إلى أسباب تبرر نشرها على الناس، علينا أن نتقبلها دون تحريف وبشجاعة تليق بالبشر وإن تغير أسلوب حياتنا ليتوافق معها، فنحن لا ننشرها بقصد الإساءة إلى أحد ولكن إيثارا للحق ونشدانا للخير.» ما شاء الله، أي حقيقة يا أوغاد؟ أبواب ثلاثة؟ أي أبواب أيها اللئام؟ الباب الأول عن «البيت الكبير»، والثاني عن «الأكرم صاحب الطريقة الأول»، والثالث عن «السلوك في الأسرة الأكرمية»، ما شاء الله .. ما شاء الله.
وراح يقرأ مستغرقا صامتا والرجل يراقبه بإشفاق. وعلى حين بغتة هتف: اللعنة .. الجحيم.
ورجع إلى الأسطر وقتا آخر ثم صاح بحنق: الحمقى يتناسون أن الآلات الحادة قادرة على تحطيم الجماجم الخاوية إلا من ظلمات الكفر.
وواصل القراءة بوجه مكفهر وشفتين قلقتين حتى هتف: أشهد الله أني قوة إذا شاءت اقتلعت أعداءها الجبناء من جذورهم المغروسة في الطين.
وانكب على النشرة بنظرات مفترسة وأسارير تنضح بالعنف حتى قال بصوت متحشرج: إذن فلتتوقف الأرض عن الدوران أو فلتدر في عكس اتجاهها.
رمى بالنشرة أرضا. انتتر واقفا. ورغم غضبه الأحمر بدا منهار القوى مهدم البنيان. هرول إلى مدخل الحديقة. ضرب الأرض بقدمه. ثم رجع إلى موقفه مسددا بصره إلى الشيخ عمار الذي وقف بدوره تأدبا، وقال: أي وقاحة، أي جنون، أي تجديف، أي دعارة!
وكور قبضته ثم استرسل: الهذيان لغة دارجة، درجة الحرارة الطبيعية هي درجة الموت، التاريخ قتل غيلة، المسك سم زعاف، الأضرحة الطاهرة متاحف حشرات منحطة، لا أنت أنت ولا أنا أنا، ولا تعجب للدواب إذا زحفت علينا لتعلمنا كيف يكون السلوك في هذه الحياة اللعينة!
قال الشيخ عمار بإشفاق: نحن في موقف يقتضينا أقصى ما نملك من حكمة. - والجنون لماذا خلق إذن؟ - مولاي، علينا بالحكمة التي نبشر بها وإلا أفلت منا الزمام. - أيها العجوز، لقد كنت الذي يحرضني وكنت الذي يحذرك. - هذا موقف جديد لم يسبق لنا مواجهته من قبل.
فلوح بيده وهو يصيح: الويل له .. الويل لهم. - نحن لا نعرف المجرم إلا ... - إلا؟ - إلا الظن. - لا تغالط ضميرك. - عيون رجالنا في كل مكان فلننتظر. - سواد الكتاب برهان قاطع على مداد الحقد الذي استمد منه! - الحكمة .. الحكمة. - وندعه يقوم بيننا ساخرا مجدفا؟! - لنتلق الضربة بعقل ولندبر بعقل آخر. - لو تفشت هذه الأكاذيب لقضت علينا. - الأكاذيب لا تقضي على إنسان ولكن قد يقضي الإنسان على نفسه.
صاح بغضب: أكافح أنا أمواج الغرق العاتية على حين تجلس أنت على بر السلامة تتغنى بالأقوال الحكيمة! - أضرع إليك باسم صاحب الضريح ألا تقدم على خطوة إلا بعد امتحان وتدبر وتفكر. - لقد أذهلتك الضربة.
فقال عمار بهدوء: سنضرب ضربتنا ولكن علينا أولا أن ندرأ عنا الشبهات. - وكيف يتأتى لي أن أمشي في الحارة مرفوع الرأس بعد اليوم؟ - المؤمنون بنا أضعاف الكافرين. - ولكن الكافرين أقوى على الشر. - لم يئن أوان المعركة بعد، علينا ألا ننفرد برأي، وعلينا أن نرد على النشرة بالعلم واليقين فلن يبدد العراك ظلماتها.
فقال الشيخ متأوها: إجراءات من طبيعتها أن تطول أكثر من ليلتي الحالكة!
فقال الرجل بدهاء: المعركة قبل جلاء الحق اعتداء، ومن شأن الاعتداء الغاشم أن يكسبهم عطفا لا يستحقونه، وسوف يشجعهم ذلك على مقابلة الاعتداء بمثله وهم عدد لا يستهان به، ورجالنا ورجالهم في النهاية ينتمون إلى هذه الحارة التي كتب عليها العناء.
فتساءل في جزع: متى وكيف نبدأ ؟
فأجاب الرجل بعد تردد: هنالك رجل لا غنى عنه في هذا المأزق.
قطب الشيخ متمتما: الشيخ تغلب الصناديقي؟ - نعم.
قال ممتعضا: لقد هجرنا منذ عهد بعيد، ورأيه فينا غير خاف على أحد! - أعلم ذلك يا مولاي ولكنه ما زال إماما من أئمة الطريقة، ولن يتردد في الدفاع عنها بعلمه الغزير.
تنهد ثم قال: عليك بإقناعه بالمجيء إلي. - سأذهب إليه مع الصباح الباكر. - اذهب إليه في الحال. - مولاي .. لقد انتصف الليل. - اذهب إليه في الحال، وإن بدا منه اعتراض فذكره بأبي إمامه وصديقه.
أحنى الرجل رأسه ومضى والآخر يقول: قل له: إن رياحا مليئة بالأوبئة انقضت على الطريقة تروم اقتلاعها من جذورها المقدسة.
4
لاح في مدخل البهو. تقدم متوكئا على عصاه بعد أن أوصله الشيخ عمار ثم ذهب، في جلباب أبيض بسيط ناصع البياض تطوق وجهه الضامر الوضيء لحية بيضاء مسترسلة حتى منتصف الصدر. ورغم طعونه في العمر تألقت عيناه بحيوية جذابة ونشاط روحي أضفى على أساريره جمالا يجمع بين النضارة والعتاقة اختصت به الشيخوخة المستكنة في أحضان البراءة والتقوى. هرع الشيخ محمود إليه فصافحه بحرارة وهو يداري حرجه بابتسامة، ثم مضى به إلى الديوان فأجلسه وجلس إلى جانبه. أرتج عليه القول لحظات ثم قال: حللت أهلا وسهلا في بيتك بعد غيبة طويلة!
فقال الشيخ تغلب ببساطة: كتبت علينا التلبية عند النداء.
لم يرتح الشيخ محمود للإجابة تماما ولكنه قال: أعترف بأن غيبتك إنما ترجع إلى تقصيرنا.
فقال الرجل بصراحة: هذا حق!
ابتسم الشيخ رغم غمه وكمده وقال: كأنك أصغر مني سنا، إنك رجل سعيد، إني أغبطك! - خفف الله عنك. - دعني أشكر لك تفضلك بالمجيء في هذه الساعة من الليل.
فقال الشيخ تغلب بنفس البساطة والصراحة: كنت من دعوتك لي على انتظار!
صدمه قوله. آذى مشاعره. ولكنه تساءل: حقا؟ - نعم. - لعل النشرة بلغتك؟ - نعم.
فقال بكآبة جديدة: لا أجد لها أثرا في وجهك الكريم! - أي أثر توقعت؟ - الأثر المنشود لدى إمام من أهل الطريقة.
فارتفع صوت تغلب الصناديقي وهو يقول: لم يعد للطريقة أهل!
فانقبض قلب الشيخ محمود وقال: الوقت غير مناسب لإثارة الخلافات القديمة.
فقال العجوز بحدة: لم يبق من الطريقة إلا الأغاني والأذكار والنذور والعمارات! - بقي الإيمان وهو كفيل بتجديد الحياة في أي لحظة. - ليست الولاية أن ترث العرش ولا أن تقرأ كتب الأقدمين والمحدثين، ولكنها طريق طويل شاق لا يقدر عليه إلا أهل الإيمان الحق. ••• - تزوج، وابدأ الطريق، وإلا فاتك قطار الرحمة إلى الأبد. ••• - لم نتخل عن الإيمان ساعة، وهو يتبعنا كظل من العذاب، ولكننا وقعنا في أحابيل زمان عجيب. - أي زمان يمنع الرجل الصالح من التطلع إلى الأفق الأبدي؟!
تنهد الشيخ محمود قائلا: ليتنا ننسى خلافاتنا في هذه الليلة المكشرة عن أنياب الشر. - أنسيت أنني لم أرك منذ كنت شابا وها أنت تناهز الأربعين؟ - قاطعتنا ونبذت عشرتنا يا شيخ تغلب. - ذلك أني أضن بوقتي على غير الاجتهاد. - لا يجوز أن تنقطع الأسباب بيننا. - رحم الله أباك، أما أنت فلم تذكرني إلا حين هبت الأعاصير على مجدك!
فامتعض الشيخ محمود وقال مصححا: بل على الطريقة يا شيخ تغلب. - الطريقة؟! .. لقد تقوضت على يديك. - لن أناقشك ولكني أطالبك بواجب الدفاع عنها.
ثم بتوكيد: إنك رجل القلم، مؤلف أشعار الأكرمية وفلسفتها والعالم بأسرارها وأول من يحق له الدفاع عنها. - أقرأت النشرة؟ - قرأت نفثات الأبالسة المدسوسة فيها.
هز العجوز رأسه وقال: تريد أن أرد عليها؟ - هذا ما أطالبك به. - لا رد عندي عليها! - ماذا؟
ندت عن الشيخ محمود صيحة توجع وقطب غاضبا، ولكن الآخر قال بهدوء: ليس عندي ما أرد به عليها. - ماذا تعني يا شيخ تغلب؟ - أعني ما قلت حرفيا. - أتعني أن ما جاء بها حق؟! - أجل يا مولاي.
ضحك ضحكة جافة باردة وحملق في وجه العجوز بذهول. - إنك لا تعني ما تقول. - قلت: إنني أعنيه حرفيا.
ضرب يدا بيد وصاح: إلي بعقل جديد لأقترب من هذه الأحاجي! - يلزمك عقل جديد حقا. - عما قليل سيعتلي الجنون عرش الطبيعة! - لم يجد جديد يدعو إلى ذلك. - لقد اختلقوا الأكاذيب بغية القضاء علينا . - لم يختلقوا أكاذيب ولكنهم عرفوا السبيل إلى مخطوطات قديمة بدار الكتب. - زيفها ولا شك أعداء الأكرمية؟ - بل وضعها مريدون من أصدق المريدين القدامى. - مريدون صادقون؟ .. أنت تقول ذلك؟ - نعم. - أكنت على علم بها من قبل؟ - نعم ولكني تكتمتها لاعتقادي بأنه قد يساء فهمها. - لا أصدق أنهم كانوا مريدين صادقين.
فقال الرجل بنبرة تنم على الاحترام: كانوا ثلاثة، الشيخ أبو كبير أولهم وقد عكف على دراسة بيوت الأكرمية، والشيخ الدرمللي ثانيهم، وكان حجة في معرفة رجال الأكرمية، والشيخ أبو العلاء ثالثهم وقد ولع بتأريخ أهواء القلوب.
فصاح الشيخ محمود: أوغاد كذابون! - بل مريدون صادقون، كان الأولان تلميذين للقطب الأكبر عبد الله الأكرم، أما الثالث فكان مريدا لوالدك رحم الله الجميع. - لن أصدق أن الشمس تشرق من المغرب ولو أجمع على ذلك المريدون. - إلى الشيخ أبو كبير يرجع ما ورد في النشرة عن البيت الكبير.
فقال الشيخ محمود بحنق: هذيان ما يقول، من يصدق أن بيتنا هذا ما هو إلا فرع من فروع لا حصر لها من بيوت الطريقة لا أنه الأصل الذي انبثق منه النور؟! - لم يقصد الحط من بيتكم، كلا، عني بدراسة بيوت الطريقة الأكرمية فسافر من أجل رسالته إلى الشام وشمال إفريقيا وإيران والهند، ثم قرر الحقيقة التي لا ضير منها وهي أن هذا البيت الكبير ما هو إلا مقام أنشأه الأكرم، بيت من مئات البيوت التي سبقته إلى الطريقة، بل هو آخر بيت وصل إليه النور والهدى. - يا للفظاعة. - قل يا للحقيقة! - جدي هو مؤسس الطريقة وبيته هو الأصل والمركز. - إنك غاضب للكبرياء لا للطريقة، طريق الله مفتوح للجميع، وشرف العزة فيه للواصلين مهما يكن موقعهم.
فهتف محمود وكأنما يخاطب نفسه: الهواء يختفي ليحل محله الحزن، ولن يوجد بعد اليوم مبرر لكي يحافظ العاقل على عقله ولا ليبرأ المجنون من جنونه. - تأمل ولا تحزن، كم صادف أبو كبير في تجواله من بيوت ظن أصحابها أنهم الأصل والمركز. - ود أن نضيع في زحمة لا نهائية! - النور لا يضيع أبدا ولا يفنى. - إنك تسلبني العزة لتهبني بلاغة لفظية. - إنك تعاني لأنك لم توجه إلى الطريق قلبك .. لم يشغله إلا الجاه. جاه وريث البيت الكبير، أما الأكرم نفسه فقنع بأن يقبس من النور شعلة أصلها في هذه الحارة التي أصبحت بفضله مباركة.
قطب الشيخ محمود وقال: سوف يحتاج الناس لرؤيتنا إلى مجهر كبير! - المهم أن يروا شيئا يستحق الرؤية.
قام الشيخ محمود فذهب إلى باب السلاملك ثم رجع وهو يتنفس بعمق. وترامى من الحارة صوت يصيح كالمستجير «يا سيدي الأكرم على بابك» فضحك الشيخ ضحكة قصيرة لم تنبسط لها أساريره إلا لحظة ثم عادت إلى اكفهرارها. أما الشيخ تغلب فقال: وإلى الشيخ الدرمللي يرجع ما ورد في النشرة عن القطب الأول، جدك الإمام الأكرم.
فقال الشيخ محمود بحدة: ذاك الذي رام نسف الأكرم نسفا. - ليس في وسع إنسان أن ينسف مولانا الأكرم.
فقال الشيخ محمود برجاء: إذن فأنت تؤمن بكذب ما جاء عنه في النشرة؟! - كلا!
تلقى الطعنة في صميم قلبه وهتف: يا للفظاعة يا شيخ تغلب، ألم تعد تؤمن بأن الأكرم جاء مصر بين يدي سلسلة من الكرامات؟!
فلاذ الرجل بصمت قاس مغلق المنافذ حيال أية رحمة. - أتصدق أن القطب الأعظم جاء مصر هاربا عقب ارتكاب جريمة شنعاء؟!
لم يخرق العجوز عن صمته الرهيب القاتل. - وأن اسمه الذي عرف به ها هنا وهو الأكرم محور عما شهر به في الخارج وهو المجرم؟!
أصر العجوز على صمته فقال الشيخ محمود يائسا: وأنه جاء الحارة أشعث أغبر عاري الجسد لا يختلف شيئا عن الحيوان الأعجم؟!
وتبادلا نظرة طويلة وهو يلهث ثم سأله متحديا: أتصدق ذلك عن مولاك الأكرم؟!
عند ذاك تمتم الشيخ تغلب الصناديقي: ما أجمل الهدى بعد الضلال، ما أجمل الاستقرار بعد التشرد، ما أجمل الجلال بعد البهيمية، إنه مولاي الأكرم الذي بلغ بجده المراد وكفى!
صاح الشيخ محمود: كذب، افتراء، إلحاد، حسد، حقد، من أولئك الثلاثة خلفت ذرية الأبالسة التي تعيث في حارتنا فسادا. - مأساتك الحقيقية هي الكبرياء والغرور. - أبالسة من ذرية شياطين. - لم تحسن معاملتهم كما ينبغي لرجل من رجال الطريق.
فهتف مكورا قبضته في غضب: أنصاف مجانين يحلمون بإبادة الصالحين من البشر. - ماذا صنعت من أجلهم! - قدمت الحلم حيث كان يجب أن أقدم العصا! - ثم دسست من وشى بهم إلى السلطة! - لقد ترامت أصواتهم المزعجة إلى مراكز الأمن دون حاجة إلى وشاية! - لقد زاروني، حدثوني عن العلم الذي يؤمنون به فحدثتهم عن العلم الذي أؤمن به، تبادلنا الاحترام طيلة الوقت، قلت: إن العالم من رجال الله إلا إذا أراد أن يكون من رجال الشيطان، قالوا ليس من أهل الطريق من يلهج بالفسق والجشع، فقلت ولا من العلماء من يهب قدراته للدمار!
وراح الشيخ محمود يحادث نفسه: كذب، افتراء، حقد أسود. - قرب التفاهم بيننا حتى فرقت بيننا الشرطة!
فصاح الشيخ محمود بغضب: الويل، لن يبدد ظلمات الأكاذيب إلا الضربات الحاسمة. - العراك سلوك غير جدير بأهل الطريق! - إن صدق ما قاله أبو كبير والدرمللي فلا طريق هناك ولا طريقة. - بفضل اكتشافاتهم وضح الطريق.
فقال الشيخ محمود ساخرا: إني أرتدي البدلة وما علي إلا أن أنزع العمامة. - لقد وضعتك الحقائق في موضع الامتحان فاختر لنفسك ما يحلو لها! - لا اختيار هناك، إنه طريق ذو اتجاه واحد.
ثم خاطب نفسه: ويل لي من العذاب الذي يتبعني كالظل! .. ويل لي .. وطوبى للذين يعيشون بلا ضمائر.
فصل بينهما صمت كالجدار. وطال الصمت حتى قال الشيخ تغلب: وإلى الشيخ أبو العلاء يرجع ما ورد في النشرة عن السلوك.
فصرخ الشيخ محمود: ذلك الداعر!
قال العجوز بإشفاق لأول مرة: كان خادما في البيت الكبير قبل أن تولد. - داعر ماجن سافل! - الحق أنه اجتهد فصار من المريدين. - كلماته تقطع بأنه قواد أو منحرف. - لم يقصد الإساءة صدقني! - ذلك الوحش الذي يتلذذ بتمزيق الأعراض؟! - كان يؤمن بأن الطريقة حب خالص فتابع الحب في جميع أحواله! - ذلك الداعر! - كان الحب همه الأول والأخير، وآمن بأن في قلب كل إنسان بذرة حب إلهية مهما يكن من مساراتها فهي تتجه في النهاية إلى الحبيب الأوحد! - يا شيخ تغلب، إن هي إلا أكاذيب افتريت بقصد القضاء على أسرتنا المجيدة! - لو وهبت الطريق قلبك ما أكربتك الوساوس ولا اهتزت شعرة في رأسك لأقاويل الناس. - يا ويلي من الذين ينثرون لي الحكم وأنا أحترق في الجحيم! - لو عاصرك الرجل لوجد عندك مادة لكتاب قائم بذاته.
فقال غاضبا متحديا: إني رجل محمل بالخطايا ولكني أنتمي إلى أسرة طاهرة مقدسة، وما أصحابك إلا دجالون مجرمون. - لقد صارحتك بما عندي، هو الحق والصدق، ليس فيه ما يزري بقيمة حقيقية، ولا ما يسد الطريق في وجه مؤمن، وكما ترى، لم يتزعزع لي إيمان بالطريقة ولا بصاحبها رضي الله عنه. - سأقدم لك الدليل على كذبهم.
ومضى نحو الباب المفضي إلى الداخل ونادى بأعلى صوته: يا أم هاني .. يا أم هاني.
ثم التفت إلى العجوز قائلا: إذا ثبت كذب أحدهم انهار البناء كله من أساسه.
ولكن الشيخ تغلب قام وهو يقول آسفا: أستودعك الله، لا أحب أن أقوم بينك وبين مربيتك، إن وجدت جديدا فاستدعني، ودعني أقول لك مرة أخرى «تأمل ولا تحزن وابدأ طريقك.»
قال العجوز ذلك ومضى نحو الباب الخارجي على حين تحول الشيخ إلى الداخل وهو يصيح: يا أم هاني .. يا أم هاني.
5
انتظرها في الردهة المفضية إلى بهو الاستقبال ثم قادها من يدها إلى المكان الذي أخلاه الشيخ تغلب الصناديقي. انسابت آثار النوم في تجاعيد وجهها وعينيها الكليلتين، وجعلت تتثاءب بصوت كالأنين وهي تتساءل: كم الساعة الآن؟ - نحن في أواخر الليل يا أماه. - وماذا يبقيك مستيقظا حتى الآن؟ - إنها ليلة لم تخلق للنوم فيما أرى. - لم والعياذ بالله؟
فتفكر حائرا من أين يبدأ ثم تمتم: دعوتك لأمور هامة فأصغي إلي جيدا وافتحي لي قلبك بلا تردد. - ليكن خيرا ما دعوتني من أجله. - الخير يتوارى هذه الأيام في بطون الزواحف السامة. - ماذا بك يا بني؟ - لقد عاصرت أبي وأمي وعمتي، ربيتنا جميعا وأرضعتنا. - ليمد الله في أعمار الباقين وليرحم من انتقلوا إلى جواره.
فجلس إلى جانبها وهو يقول: أطالبك بالصدق والصراحة ولو زلزل ذلك السماوات السبع، سنعود معا في رحلة طويلة إلى الماضي. - الماضي؟! - أجل، الماضي، الماضي الذي يتوارى بمكر أحيانا كاللص ولكنه لا يموت، ثم يبعث بغير دعوة ولا رغبة. - لا أفهم عم تتكلم يا بني؟ - لا شك أنك تتذكرين عمتي؟ - طبعا، يرحمها الله. - حدثيني عنها. - أنت تعرف كل شيء عنها، ليرحمها الله. - دعيني مما أعرف، وحدثيني عما لم أعرف.
ارتسم القلق في صفحة الوجه الضامر وقلقت شفتاها دون أن يند عنها صوت. - إنها لم تمت كما قيل يا أماه. - ليرحمها الله. - لم تمت، لا فائدة من الإنكار، عشرات وعشرات من أبناء حارتنا يعرفون اليوم الحقيقة فلا جدوى من إخفائها.
هتفت المرأة مستغربة: أبناء حارتنا؟! - نعم، إنهم يقرءون مغامراتها بشغف شيطاني ويتندرون بها. - لا أفهم شيئا. - ألم تسمعي عن الشيخ أبو العلاء؟ - رضي الله عنه. - فلتمزقه أيدي الأبالسة في الجحيم الأبدي. - يا رب السماوات! - تكلمي يا أم هاني. - لم تفسد الطيبات التي أنعم الله بها عليك؟ - أستحلفك بالله .. بأبي .. بمولانا الأكرم. - لا تحفر في الماضي الذي مضى. - أحق ما يقال من أنها عشقت في شبابها ضابطا إنجليزيا؟ - يا ألطاف الله. - وأنها هربت إليه بليل ثم رحلا معا إلى إنجلترا؟
تراجعت العجوز في فزع، تمتمت: من .. كيف .. ارحم نفسك يا بني. - هل مرقت من دينها حفيدة القطب الأعظم؟ - اللهم ارحمنا. - كذبيني إن استطعت.
أغمضت المرأة عينيها في حزن ويأس: أكان بعض كبار الإنجليز يدعون إلى بيتنا هذا على عهد أبي؟ - كان له أصدقاء منهم ولا عيب في ذلك. - ولكن أحد أولئك الأصدقاء الكرام انقض على أخته فطار بها. - قلبي يتقطع يا بني. - تمنيت أن تكذبيني ولكن الحقيقة كالموت لا مهرب منها ولا نجاة.
وهز رأسه في يأس ثم عاد يقول: وقيل وقتذاك في الحارة إنها سافرت للعلاج ثم أذيع بعد ذلك أنها غرقت في البحار فأقيم مأتم أمه المريدون وغيرهم من أبناء حارتنا الطيبة الساذجة، كان أي شيء يجوز على حارتنا التي لم يعد يجوز عليها شيء .
أطرقت المرأة حتى خيل إليه أنها نامت أو ماتت. لم يجد في قلبه قدرة على العطف ولكنه قال: لا تؤاخذيني على إزعاجك، أنت أم الأسرة وسرها، وحولك تتفجر أحداث مفجعة فلا مفر من أن يصيبك رشاش منها!
وكان يغوص في ظلمات اليأس بلا توقف بيد أنه لم يجد بدا من السير في طريق الأحزان حتى نهايته. قال لها: حدثيني الآن عن أختي رشيدة!
رفعت المرأة رأسها في فزع. - لا تجزعي فلا يخفى اليوم سر. - لتبعد عنا الشياطين! - لكنها تزحف علينا من جميع الجحور. - كف عن هذا العذاب. - لقد خلقت هذه الليلة للعذاب. - كأني لا أعرفك يا بني. - ولا أكاد أعرف نفسي ولا طريقتي ولا حارتي، ولكن قيل إني مجرم من سلالة مجرمين. - بني! - حدثيني عن أختي رشيدة، لا تخافي عليها، إنها تعيش اليوم في كنف زوج كبير المقام في أقاصي الصعيد، ولكن سيرتها الخفية يقرؤها المطلعون من أبناء حارتنا. - كيف تفتح أبواب الجحيم بيديك؟ - لقد فتحتها الزبانية.
انتحبت أم هاني بحرارة فقال: لا تبكي، لا فائدة، ولكن تكلمي.
فهتفت: ليقطع لساني إن نطق بسوء. - لقد لعبت البنت لعبة غير لائقة مع خادم، كذبيني إن استطعت. - اللهم احفظنا. - لعبة ليست غريبة في هذا البيت، فقد لعبتها أنا مع أخريات، هكذا يتلقانا الشيطان جيلا بعد جيل. - يا رب عفوك ورضاك! - لا شك أن أبي حزن حزنا بليغا، أخته فابنته ثم ابنه، لعله تساءل طويلا عن سر عذابه، ترى ماذا كان يقول في خلوته؟ - كما يجدر بالمؤمن الصادق. - ولا شك أنه عانى كثيرا قبل أن يعثر لها على زوج مناسب!
تنهدت المرأة قائلة: لقد قصرت عمري يا بني. - كلانا يتلقى الضربات يا أماه.
وغشيهما صمت غير قصير، ثم قادها إلى الداخل كما جاء بها وهو يقول: سامحيني، لقد حملتك من العذاب ما لا طاقة لك به.
ولما رجع إلى البهو وجد الشيخ عمار في انتظاره. وقفا متقابلين يتبادلان النظر، ثم قال الشيخ عمار: آن لك أن تنام يا مولاي.
ضحك الشيخ ضحكة لا حياة فيها فقال الشيخ عمار: فلنفكر مليا ثم نشرع في العمل بلا تردد.
فلوح الشيخ محمود بيده في غضب وصاح: يا شيخ عمار .. لا تحدثني بلغة الحكماء فلست حكيما، إني مجرم تجري الجريمة في عروقه منذ القدم، شد على قبضتك .. اشحذ سلاحك .. سدد ضرباتك، نحن نخوض معركة حياة أو موت تحتاج إلى الدهاء والقسوة والعنف لا المأثورات الجميلة، إنك ثعلب ماكر وإني لفي حاجة إلى كل نقطة مكر في صدرك، لا تعن بالمحافظة على المظاهر الرقيقة فقد فاحت روائح الباطن الكريهة، إلي بجميع الشياطين التي تقيم في هذا البيت واستعر من تستطيع من شياطين الحي كله، كفاك خداعا بالفضائل الكاذبة .. واستخرج من قبور قلبك الرذائل الرائعة المخلوقة أصلا للكفاح والنصر، لنتصرف بسرعة .. وبقوة .. وبلا رحمة، ليكن سلوكنا كما ينبغي لأناس سادوا بعد هرب موفق من مسرح جريمة بشعة .. ثم هاموا على وجوههم كالوحوش يأكل بعضهم بعضا .. ولما شيدوا من أسلاب الضعفاء قصرا جعلوه ميدانا لألعاب الخسة والفسوق، يا شيخ عمار هلم إلى ساحة الغدر والجريمة والعنف.
6 - الحال خطيرة، وستزداد مع الأيام خطورة!
قال الشيخ عمار ذلك للشيخ محمود وهما يقفان مستقبلين الحديقة في ساعة الأصيل. تجاهل الشيخ محمود قوله رانيا إلى الحديقة ثم قال: ما أهدأ ساعة الأصيل! .. كأنها الوقفة الصامتة بين الشهيق والزفير! - لن تعرف حارتنا الهدوء بعد اليوم.
فقال الشيخ محمود بحدة: لم يبدأ الشر من جانبنا. - هذا حق ولكن وقع اعتداء على بعض رجالنا الطيبين. - شر لا مفر منه أما الأبالسة فقد اجتاحتهم العاصفة.
ابتسم الشيخ عمار قائلا: عليهم اللعنة، ولكن هل تأذن له يا مولاي؟ لقد تركناه ينتظر طويلا! - إني أمقته ولكن فليحضر!
غادر الشيخ عمار بهو الاستقبال وما لبث أن دخل علي عويس. جاء بوجه متجهم فلاقاه الشيخ بنظرة جافة باردة. حياه الشاب بالسلام فرد الشيخ بغمغمة ولم يمد يده. قال الشاب: لقد جئت.
ولكن غلبه الانفعال فسكت. تركزت عليه النظرة الجافة الباردة دقيقة كاملة ثم سأله: ماذا تريد؟ - أنت أدرى بما دفعني إلى المجيء ؟ - لا تضيع وقتي بالألغاز. - رجالكم يتحرشون بنا في كل موضع. - أكنت تتوقع عاقبة أخرى؟ - كنا نتوقع مناقشة تهيئ للجميع توازنا ونقاء! - أصبح في كل بيت شقاق، وأنتم أصل البلاء والفتنة. - ما أردنا إلا.
فقاطعه بحدة وازدراء: لقد عرفتم مني جانبا لينا ولكني أملك جانبا آخر وعرا. - سيدي ...
فقاطعه للمرة الثانية وبعنف أشد: إن من يتحدى المقدسات مثلك لا يليق به أن يكون جبانا! - لست جبانا وليس فينا من جبان! - إن من يدس إلى الناس نشرة ملأى بالافتراءات جبان. - ليس فينا من جبان، وإذا تمادى رجالكم في التحرش بنا فقد تعصف بحارتنا مأساة مؤسفة! - أتهددني؟! افعل ما بدا لك، وستنال التأديب الذي تستحقه. - ليس نشر الحقائق جريمة، ونحن لم نقصد بنشرها إلا الخير! - اخسأ أيها الوغد الكذاب! - لقد اكتشفها رجال من طريقتكم يعدون من الأئمة. - لم يكونوا إلا أوغادا مثلكم ومنذ قديم وأسرتنا هدف للقلوب السوداء الحاسدة. - لا تنظر إلى الخلاف من هذه الزاوية.
فقال بكبرياء وحنق: اعرف نفسك واعرف من تخاطب. - أتعيرني بأبي؟ - افهم ما تشاء. - كان رجلا شريفا. - كان رجلا حقيرا.
هتف الشاب بغضب: لم يرتكب جريمة. - لعله كان أحقر من ذلك. - ولم يلوث الدنس بيته.
جن جنون الشيخ. هم بضربه. كبح جماح غضبه متراجعا في اللحظة الأخيرة. قال: في بيته الحقير ترعرعت جريمة الكفر. - أشياء تسمى بغير أسمائها. - وفي بيته أيضا دنس خفي لم يجد من يعنى بنشره لحقارته.
صاح الشاب: لا تتهجم على الشرفاء.
أعماه الغضب تماما فصاح بدوره: ما أبعدك عن الشرف! .. سل أختك عن معنى الشرف!
فصرخ علي عويس: أختي أشرف من أسرتك!
وقبل أن يتم جملته هوت على صدغه لطمة. قبض على يد الشيخ. تلاحما بعنف غير متوقع. صاح الشيخ: أتعتدي علي في داري؟!
وإذا بالشيخ عمار يندفع داخلا متبوعا بعدد من الخدم فانقضوا على الشاب، قبضوا عليه، وأسكتوا مقاومته، ساقوه إلى الخارج وهم ينهالون عليه ضربا.
وأخذ الشيخ يسوي هندامه وهو من الغضب في نهاية. وجعل يذهب ويجيء ويحدث نفسه لاعنا متسخطا. وحانت منه التفاتة نحو مدخل البهو فرأى زينب! تسللت الدهشة إلى بركان غضبه. رماها بنظرة قاسية. اقتربت متمهلة في إشفاق حتى وقفت في وسط البهو. لم يرد لها تحية ولم يدعها إلى الجلوس. - معذرة .. لقد اندفعت إلى الداخل بغير استئذان.
سألها بجفاء من خلال غضبه المشتعل: ماذا تريدين؟ - علمت بمجيء أخي فقررت أن ألحق به. - أرأيته وهم يخرجونه؟
أجابت بقلق: كلا .. ماذا حدث؟ - أكنت تتوقعين لقاء أفضل بيني وبينه؟ - كلا. ولكن لا بد من كلمة تقال. - تتكلمين هذه المرة بأدب يقطع بشعورك بالإثم. - لا بد من كلمة تقال. - أي كلمة. - أعني بسبب الأحداث المحتدمة في حارتنا. - بسبب سفاهتهم شبت النار في كل بيت. - ولذلك لا يجوز السكوت. - ماذا تريدين؟ - ينعقد الرجاء الآن على الحكمة. - فات أوان ذلك ولم يبق إلا التأديب والردع.
قالت زينب بإشفاق: إنه يعني الهلاك للجميع! - بل الهلاك للمجرمين وحدهم.
ترددت ثم قالت: ولكنك ...
وتوقفت لحظات كأنما تعاني ضيقا، ثم قالت غاضة البصر والصوت: ولكنك الأب الروحي للجميع!
تجلت في عينيه قسوة بالغة وقال: تنطقين عن كذب وضيع، إني أحتقر جبنك!
خرس لسانها تحت وطأة الضربة المهينة فقال بسخرية: كأنما تعترفين بجريمة مخزية!
جمعت أطراف شجاعتها لتقول: ولكن مركزك التقليدي في الحارة حقيقة لا يمكن إنكارها! - لا تتمادي في الكذب دفاعا عن أخيك. - لعل الأمر أصبح أكبر من ذلك. - لا تصري على الكذب، لا يهمك إلا أمره وحده، ألم تطلعي على نشرته المسودة بمداد الحقد؟
لم تنبس بكلمة فقال بحنق: إنك وراء ذلك كله كالدمل الكامن وراء أورام خبيثة. - ليكن ظنك ما يكون، ولكن نصف الحارة يتحرش بنصفها الآخر، وثمة عواقب وخيمة تتجمع في الأفق. - إني مؤمن بأنك وراء كل مقت في هذا الخصام الوبيل! - لقد ذهب سوء الظن بك بعيدا. - لا أشك في أنه ورث حقده الأعمى علي من حقدك الأبدي. - فليسامحك الله.
ضرب الأرض بقدمه وهتف: ليس من حقك أن تلعبي دور الضحية البريئة، لم تكوني ضحية قط!
ثم رماها بنظرة تحد وهو يقول: لقد كان ما كان وأنت في كامل اختيارك!
فتساءلت بفزع: ماذا يرجعك إلى ماض مضى وانقضى؟!
إنكم تهاجمون الأعراض وتنسون أنفسكم، فدعيني أذكرك بما كان، وبأنك لم تكوني ضحية لأحد، ولكنك تصرفت كما يجدر بامرأة مستهترة!
فهتفت: يا لك من رجل لا يفرق بين أنبل المشاعر وأحطها!
فتمتم بحقد وغضب: مستهترة، أجل، مستهترة!
فغلبها الغضب على حلمها وصاحت: يا لك من رجل حقير! - مزقي ستار الأدب الزائف، واكشفي عن الحقد المخزون في أعماقك، يا بئس الصغيرات اللاتي يتلقين العلم على يديك! - مجرم عريق في الإجرام! - ارجعي إلى بيتك، وانزوي في ركن مظلم متلفعة بعارك. - أيها الوغد. - اعترفي لأخيك بعارك ليكف عن الخوض في سيرة الأعراض! - لقد جننت أو أنك على وشك الجنون، هي النهاية ولا راد لها. - لقد حز في نفسك يوما أن أرفض الوقوع في فخ الزواج الذي نصبته لي، حز في نفسك أن تنفردي بعارك كامرأة عانس، ولعلك توهمت أنك تثأرين لنفسك بنشر الأكاذيب عن أعراض الشرفاء. - ليت مريديك يرونك وأنت على هذه الحال! - ليتهم رأوك وأنت ترسمين الخطة الحمراء لتكوني زوجة لخليفة الأكرم. - ماذا أقول لرجل لم يشعر قلبه بقيمة نبيلة قط؟ ماذا أقول لرجل يستمد معارفه عن النساء من دنيا الساقطات المحترفات؟! ماذا أقول لرجل خسيس يخطر في لباس شيخ طريقة؟!
لبث يرميها بنظرة قاسية متشفية، ونوازع الشر المتضاربة تقلقل عينيه. وأخيرا قال كمن يود التخلص منها: اغربي عن وجهي، حتى أخوك كان دونك وقاحة.
فغرقت في صمت ثقيل لا تنبس بحرف: اغربي عن وجهي!
تنهدت وقد تملكت مشاعرها، وقالت: ماضينا لا يهم سوانا، أما الهلاك فإنه يهدد الجميع! - عودي إلى بيتك. - لنرجع إلى الحديث الأهم. - عودي إلى بيتك.
فقالت بهدوء نسبي: لم أجئ أصلا للشجار، ولكنك أنت الذي دفعتني إلى الجنون. - هو خير على أي حال من الكلمات الخانعة ذات الطلاء الكاذب. - أسأت فهم مقصدي. - لن تهدر حياتي بلا ثمن، ألم يقل أخوك إنني بلا أصل ولا شرف؟ حسن، سأعامله كما يليق برجل لا أصل له مثله ولا شرف له مثل أخته!
أحنت رأسها في حزن شديد. غلبها الإعياء فاضطرت إلى الجلوس الذي لم تدع إليه. هز منكبيه باستهانة وهم بالذهاب إلى الداخل وهو يقول: خذي راحتك ثم اذهبي.
غالبت ضعفها الطارئ فقامت قائلة: انتظر.
فتحرك وهو يقول: لا وقت عندي لمهاترات النساء. - آجلا أو عاجلا ستوعز بقتله. - قلت لا وقت عندي. - أعلم أنه في مقدورك أن تقتله وأنت آمن.
ولما لم يتوقف اعترضت سبيله قائلة: انتظر. - ابعدي عن طريقي. - أصغ إلي. - كفاك ثرثرة.
ونحاها جانبا وسار نحو الباب الداخلي فهتفت: إياك أن تمسه بسوء، أتسمعني؟ إنه ...
وغصت بعبرة ولكنها صاحت بصوت خشن متهدج مختنق: إنه ابنك! من لحمك ودمك.
7
تسمر الرجل في مكانه. استدار بعنف. عنف غاضب دارى به فزعا لم يستطع إخفاءه. تراجعت المرأة إلى الديوان فارتمت فوقه ثم استسلمت لموجة عاتية من النحيب. تبعها مهرولا. وقف أمامها يحملق فيها يود أن ينفذ إلى أعماقها. - ماذا تقولين؟
ولكن البكاء المتدفق لم يمكنها من النطق. - ماذا قلت؟ أجيبي من فضلك!
رغم مغالبتها للبكاء لم تغلبه بعد، فعاد يتساءل بنفاد صبر: ابني! .. ماذا قلت؟
حركت رأسها بالإيجاب دون أن تنبس. - أي قول؟! .. أية لعبة؟!
مضت تجفف دموعها. اعتدلت في جلستها. لم ترفع عينيها عن الأرض. - ابني؟!
همست: نعم. - كلا. ••• - إنني ... - لم تشيرين إلى بطنك؟ آه .. كلا. - بلى. - ألم تأخذي حذرك؟ - رغم ذلك حصل. - تصرفي .. إنك أدرى بهذه الأمور. - إني خائفة يا محمود. - تصرفي وإلا ساءت العاقبة. - لا تكن قاسيا. - لست قاسيا ولكن عليك أن تتصرفي. ••• - لكنها الحقيقة. - قول يخرق المعقول، إنه أخوك، فكيف أصدق أنه ابنك؟! - ولم أدعي ذلك اليوم بعد سكوت عشرين عاما؟
قال بارتياب: لعلك تتصورين أن ...
فقاطعته قائلة: إنه ابنك وكفى، لن يغير جدل من هذه الحقيقة! - هل علم بذلك؟ - كيف تتخيل ذلك! - ولا أحد غيره؟ - كلا، وقعت في المأزق عقب وفاة أبي بأيام، أعلنت المرحومة أمي أنها حبلى، أقمنا زمنا عند جدتي بالمرج حتى وضعت، ثم عدنا إلى حارتنا وهي حاملة ابني باعتباره ابنها هي.
تنفس بعمق وهو لا يحول عنها عينيه وتمتم مذهولا. - ابنك وابنها! - لم أتصور أنني سأبوح بسره إلى أحد ولكنك دفعتني إلى ذلك دفعا. - أأنت في كامل قواك العقلية؟ - ليتك كذلك؟ - أتريدينني على أن أصدق أنه ابني وأنني أبوه؟! - هي الحقيقة التي لا مفر منها.
رفع الرجل رأسه هاتفا: ما أعجب هذه الحارة! .. تنام أعواما نوم الأموات ثم تتفجر بها شواظ العجائب كالشهب المجنونة في ليلة واحدة بغير حساب! - لا مفر من الحقائق، ستطاردنا اليوم أو غدا. - لا شيء هو هو، السماء فوقنا وتحتنا في آن، ماذا يجدر بنا أن نفعل؟
قالت متأوهة: لم يجر لي في خاطر أنه سيقف أمامك يوما متحديا ولا أنك ستجيبه مهددا بالموت! - لقد ترامت إلي قذائفه قبل أن أسمع باسمه. - شد ما أرعبني ذلك.
قال وكأنه يخاطب نفسه: كم حيرتني عيناه! كم عانيت من تناقض العواطف في أول لقاء، ولكن .. رباه، حذار من الخداع يا زينب! - أف .. تخل عن شكوك سخيفة لا مبرر لها.
فهز رأسه مغمغما: إذن هو ابني!
ثم واصل هز رأسه قائلا: وأنا أبوه.
وتنهد من الأعماق وقال: فلأسلم بهذه الحقيقة، سيلزمني دهر لهضمها، ولكن علي أن أسلم بها.
والتفت نحو المرأة متسائلا: كيف ولدت الكراهية في قلبه نحوي؟ - لا أدري. - لعله لم ينشأ نشأة دينية صادقة؟ - نشأ متدينا ولكنه ... - ولكنه ... - عانى وما زال يعاني حياة فقيرة مريرة. - هو حال الأكثرية الساحقة في حارتنا. - ولكن يحدث أن يتنبه إلى الفوارق في المدرسة، ثم تصادفه كلمات هنا وهناك فيقرؤها باهتمام يفوق الحد، ويكثر من التساؤل والنقاش، ثم يلقي نظرات غريبة على البيت الكبير، ثم تزلزل الأرض ويخلق شخص جديد!
فتفكر مليا ثم تساءل: ترى هل ينقلب إذا وجد نفسه فجأة في البيت الكبير؟
فسألته فزعة: فيم تفكر؟ - إنه محض سؤال! - حسن، عهدته يفكر في الآخرين أكثر مما يفكر في نفسه، أو قل إنه لا يفكر في نفسه إلا من خلال الآخرين.
فقال بكآبة: براءة مؤقتة تنطوي مع الشباب الأول! - لا أظن ذلك. - يالله، إنه يهزأ بجميع القيم التي يلتحم بها بنيان حارتنا. - لا أدري الكثير عن ذلك!
ضرب كفا بكف قائلا: وقد دمر نفسه تدميرا وهو لا يدري.
فحدجته بنظرة حزينة متسائلة فاستطرد: شد ما اجتهد اجتهادا عبقريا ليثبت للملأ إجرام جده، وهوان بيته، ودعارة أهله! - زعم أنه ينشر حقائق يجب احترامها! - أساذجة أنت أم ماكرة؟! ليست المسألة محض عبادة للحقيقة، ولكنها ذات عواقب محتومة، فلا ضمان للنذور بعد الأخذ بها، وسرعان ما ترتفع الأصوات مطالبة إيانا بالأموال المكدسة وريع العمارات!
فقالت بعد تردد وفي إشفاق: لا شك في طيبة نواياهم! - بل لمست في حديثهم الحقد والحسد والرغبة في الاعتداء. - إن ما دفعني إلى المجيء إلى هنا هو أن أضرع إليك لتغلب الحكمة. - أخشى أن تكون الفرصة قد أفلتت. - حتى بعد أن علمت بما علمت؟ - الصراع الناشب اليوم أقوى من أي علاقة شخصية.
وذرع المكان ذهابا وإيابا في اضطراب واضح ثم عاد إلى موقفه أمامها وهو يقول: الصراع اليوم أقوى من أي علاقة شخصية، وفضلا عن ذلك فسوف يظل جاهلا بحقيقة نسبه، ولن يكف - وأصحابه - عن عنادهم المقيت، ومن الناحية الأخرى فإن كبار رجالنا قد أخرجهم الغضب عن جادة الاعتدال. - ولكن الحكمة تستطيع أن تقدم خيرا. - أين يمكن أن توجد الحكمة في حارتنا التي زلزلت أركانها؟! - أستحلفك بالله ألا تيئس. - صدقيني لقد اختل ميزان كل شيء، خرجت النجوم عن أفلاكها، والكلمات عن منطقها، وتمخضت قباب الأضرحة عن أوثان! - ثمة طريق للنجاة؟ - من أدراك؟ .. لقد سدته الزبانية! - ولكنك رجل محنك ذو نفوذ شامل.
فضحك ضحكة هازئة وقال: كنت مستندا إلى عراقة أصل وامتياز بيت وكرامة أسرة، أين كل أولئك؟ أين؟ - الذين يؤمنون بك لا حصر لهم. - مع الزمن سيرى الناس في رجلا غارقا في الخطايا ملوثا ضائعا، شيد من أموالهم بفساد ذمته بناء ضخما. - أكثر الناس ليسوا أفضل من ذلك. - ولكنهم لا يدعون ولاية ولا يطالبون أحدا بطاعة.
فرفعت إليه عينين دامعتين وقالت: ترى هل أفشيت سره بلا ثمن؟ .. بلا فائدة؟
فقال بامتعاض: للأسف لن يرث عني إلا الخطايا وربما ضعنا في الصراع معا! - حسن أن تفكر فيه بعطف لأول مرة. - ألم تفكري قط في البوح له بالسر؟ - لو فعلت لحطمته تحطيما.
عاد يذهب ويجيء وهو يقول: اللهم ألهمني الصواب، اللهم بدد جيوش الظلمات.
ورجع إلى موقفه وقد تضاعف تجهمه، ثم قال: كدت أنسى! لقد دفعني الغضب إلى طريق وعر. - أجل فقد اعتدى عليه بعضهم. - هنالك ما هو أفظع من ذلك!
حدجها بارتباك ثم عاد يقول: لقد عرضت بشرفه! - شرفه! .. ماذا تعني؟ - أشعل غضبي لحد الجنون، عيرني متحديا فصحت به إن بيته ليس أشرف من البيوت التي يعرض بها! - خبر أسود! - ذكرتك بطريقة ما.
هبت قائمة في فزع هاتفة: كلا.
فأجاب بأسى: بلى! - أنت؟! - دفعني إلى حافة الجنون. - رباه .. هل لمحت إلى ذلك التاريخ القديم؟ - كلا ولكنه غادر بيتي فاقد العقل ولا شك أنه يجد الآن في البحث عنك. - إنه يظن الآن أنك تسعى إلى فضحه انتقاما منه، يا للكارثة. - أكدي له أنها محض أكاذيب لم أرددها إلا رغبة في الانتقام منه. - ترى أيصدقني؟ - سيصدقك، إننا نصدق ما نحب أن نصدقه. - وإن طاردني بشكوكه؟ - أصري على رأيك، ما عسى أن أقول أكثر من ذلك؟ إني غارق في محيط من المشاكل التي تبدو لا حل لها.
شملهما صمت. تبادلا نظرة طويلة. بدا شاحب اللون غائر النظرة كما بدت دميمة من أثر البكاء والغم. وتساءلت بلهفة: أأرجع إلى بيتي بلا بارقة أمل؟
فقال متنهدا: لا أعد بشيء لا سيطرة لي عليه، يلزمني وقت أخلو فيه إلى نفسي. - وكيف أذهب ولا شيء في يدي غير الخواء؟ - لقد عريت مزيدا من الحقائق، حسبك هذا. - ولكنه لم يغير من القضاء فيما يبدو؟ - لقد أتخمت بالحقائق المفزعة ويلزمني وقت أخلو فيه إلى نفسي. - دعني أكرر عليك أن الحكمة تستطيع أن تقدم خيرا. - لا طافة عندي لسماع جديد. - أذهب؟ - بسلامة الله.
همت بالذهاب ولكنها عدلت. ترددت متفكرة. ثم قالت: لقد رميتني بشتى التهم. تصورت أن أي حقد تحداك إنما يستمد من حقدي الأبدي، دعني أقول لك قبل الذهاب، دعني أقول لك .. إنك .. مخطئ!
نظر إليها بعينين متعبتين وتساءل: ماذا تعنين؟
فقالت وهي تمضي إلى الخارج: أستودعك الله.
أتبعها عينيه حتى اختفت. تساءل ماذا تعني. سرعان ما شدته الهموم إلى دوامتها. جلس على الديوان وأغمض عينيه. دخل خادم فأضاء النجفة والمصابيح ثم ذهب. استشف جفناه الضوء فانقبض قلبه لمقدم الليل. ترامى إلى أذنيه وقع عصا على أرض الحجرة. فتح عينيه ملتفتا نحو الباب فرأى الشيخ تغلب الصناديقي.
8
قام الشيخ محمود إلى القادم وهو يقول: أهلا بك يا شيخ تغلب.
ومضى به إلى الديوان والعجوز يقول: هاتف دعاني إلى لقائك. - أهلا بك وشكرا لك.
فسأله برقة لأول مرة: كيف حالك؟ - النار أرحم من رأسي وقلبي. - وأرحم من الغضب الذي يجتاح حارتنا. - يا له من موقف يا شيخ تغلب. - وماذا يقول رجالك الكبار؟ - صدق عزمهم على مقابلة التحدي بمثله. - لا غرابة أن يدافعوا عن مصالحهم!
فتساءل الشيخ محمود غاضبا: والآخرون ماذا يحركهم؟ - إنهم بحكم سنهم أقرب إلى البراءة. - فات وقت الجدل. - ولكن ثمة مجال للعمل، بم طالبك أبوك قبل وفاته؟ ابدأ اجتهادك في الطريق وسوف يقودك من خير إلى خير.
نفخ الرجل قائلا: رأسي مزلزل! - أفقدت إيمانك بالله؟ - كلا، صدقني، ولكن رأسي مزلزل. - ألا تؤمن بالطريق؟
صمت مليا ثم قال: إذا تهاوى بناء شامخ فما جدوى أن تسأل عن حجرة من حجراته؟! - إذن تريد أن تواصل حياتك كشيخ طريقة بلا طريقة. - أعترف لك بأن ذلك لم يعد ممكنا. - اعتراف سعيد ولكن خبرني، أكان في نيتك أن تستمر في ذلك إلى الأبد؟
تفكر الشيخ باسما في أسى: كنت دائما أؤجل البدء، إنه الكسل وعشق الحياة، وأعترف لك بأن ثمة نكدا كان لا يكف عن مطاردتي. - اعتراف سعيد ثان! - من السخرية أن تذكر السعادة في هذا الجحيم. - ظننت أن عواقب الكسل ستضيرك وحدك ولكن ها هي تعصف بالحارة كلها. - مرتكبة ما يخطر بالبال وما لا يخطر!
قال العجوز باستبشار: في صوتك نغمة جديدة لعل سرها هو الذي دعاني إليك. - لا تبادر إلى التفاؤل بلا مبرر! - توكل على الله واتخذ قرارا! - كيف لقلب مزلزل أن يتخذ قرارا؟ - اتخذ قرارا. - يخيل إلي أنني لست كجدي الأول إن صح ما يقال عن اجتهاده العجيب. - تقول إن صح؟
فقال بحدة: أجل، فمن يدريني أن اجتهاده لم يكن إلا أسطورة كما كان أصله وبيته وكما كانت أسرته؟
فهتف الشيخ تغلب: حذار من الشك!
فقال الرجل بامتعاض: لقد زرعته في قلبي يا شيخ تغلب. - ثمة جوهر حقيقي باق تحت ركام من أوهام لا قيمة لها. - أنت نفسك لم تعد تؤمن بمعجزات الأكرم. - أكرر القول بأن معجزته الحقيقية هي أنه رغم خطاياه قد بلغ المراد باجتهاده.
هز الرجل رأسه بمرارة فقال الشيخ تغلب: اعزم، العمل يقتل الشك، النجاح يقتلعه من جذوره، في وسع أي إنسان أن يكون نافعا للناس، على ضعفي وعجزي كنت القوة التي أقنعت كثيرين من أولياء الأمور بإرسال أبنائهم إلى المدارس!
ضحك الشيخ محمود بمرارة وقال: أرسلتهم في الطريق الذي قوض أركان إيمانهم! - الإيمان يتجدد تحت مظاهر شتى خلال الزمن. - ما جدوى المناقشة ونحن على وشك القتال؟! وقد يقتل الأب ابنه أو يقتل الابن أباه؟!
فقال العجوز برجاء: ما كان بوسع أحد أن ينالك بأذى لو أنك ...
فقاطعه بضيق: لكنهم يزيحون ملكا مغتصبا عن عرش زائف! - معذرة يا بني فإني لا أنطق إلا عن صدق، وأردت القول بأنه لو أنك مارست حياة الطريق الشاقة الطاهرة لما تعرض لك أحد بسوء أو لما باليت بما يتعرضون لك به.
قام الرجل متوترا. مضى نحو باب السلاملك، وجعل يرنو إلى الحديقة التي ذابت تفاصيلها في أمواج الظلام فتبدت أشجارها كالتلال حينا وكالوحوش حينا آخر. ومن موقفه جاء صوته قائلا: يخيل إلي أنه لم يعد لي مقام ها هنا!
هتف العجوز بجزع: مولاي! - لعل ذلك يحل الأزمة المستعصية. - لكن الأزمة لا تحل بالهرب.
استدار نحوه مقتربا وهو يقول: ثمة خواطر مغرية تدعوني إلى طرح المتاعب أرضا واستقبال حياة بسيطة سعيدة! - حياة بسيطة سعيدة؟! - لي من المال ما ييسر لي ذلك! - معذرة مرة أخرى عن قول الصدق، لا مال لكم إلا ما جاءكم من المريدين! - إنه مالي أمام القانون وكفى.
نظر نحوه بارتياب وسأل: أتؤمن بما تقول؟
لم يجب على سؤاله ولكنه قال: ثمة حياة بسيطة سعيدة لا تعقيد بها ولا نزاع. - والطريق الذي خلقت له؟
لم يجب على سؤاله أيضا ولكنه قال: فلنحب الحياة كما يحبها أكثر الناس.
فقال بثقة أو برجاء: إنك لا تعني ما تقول، ولكنك تردد الأفكار التي تناقشها وأنت خال إلى نفسك. - لم لا؟ .. فلأذهب إلى مكان قصي، إلى أوروبا كما فعلت عمتي، ولأترك لك الطريقة فأنت خير من يقودها. - ردد ما يناوشك به الشيطان في نفسك. - لم لا يا مولاي؟! - لقد عشت حتى اليوم عيشة الاستهتار واللذة ولكن الأمل معقود بالعذاب الذي تبعك في مغامراتك الليلية كالظل.
فقال بسخرية مريرة: عند ذاك يهدأ جيل الأبالسة المتمردين! - نحن في حاجة إليهم كما أنهم في حاجة إلينا. - لديهم العلم والأفكار الشيطانية التي تصورنا في صورة نفايات سامة يجب التخلص منها بأسرع ما يمكن صونا للصحة العامة.
فقال العجوز بإصرار: على ضوء ذلك يتحدد لنا هدف جديد. - لعلها مهمة قديس! - ها قد بدأنا نتقارب. - ولكن عليه أن يقنع الناس بقداسته قبل البدء. - بل عليه أن يقنع نفسه بقداسته قبل ذلك. - ها نحن نحلم بالطيران ونحن غرقى في الأوحال. - القديس لا يكترث للأوحال.
فتنهد الشيخ محمود من الأعماق وقال: فلنحب الحياة كما يحبها أكثر الناس، ولا خوف من العذاب الذي أرهقني ظله فيما مضى بعد أن ثبت لي أنني جدير بها كما أنها جديرة بي.
قال الشيخ تغلب غاضبا: شاهدت في حياتي حقراء لا حصر لهم ولا عد ومع ذلك فلم يمح من قلوبهم التقزز من القبيح والتهليل للحق.
رفع رأسه إلى فوق وراح يتكلم وكأنما يناجي نفسه. - عاصفة تجتاح رأسي، أحداث تطاردني فلا تدع لي فرصة لإنعام النظر، من أسفل يلح نداء ومن أعلى يلح نداء، وأنا ممزق القلب، كأني مطالب بتنظيم الوجود وأنا محاصر في ركن ضيق يهددني الموت!
فقال الشيخ تغلب باسما: وصف موجز للحياة لا بأس به. - ما أجمل أن أرمي بنفسي بين أحضان اللهو. - استمر في محاورة نفسك!
فهتف: ليتني بلا ضمير كهذا الجيل الساخر! - صدقني إنه أمل لحارتنا. - لا إيمان لهم بشيء. - حب العلم ما هو إلا لغة إيمان جديدة.
وتردد الشيخ محمود مليا ثم سأله: أعرفت المدعو علي عويس؟
أجاب الرجل بعد تذكر قصير: نعم، شاب ممتاز، قلت له مرة إذا طعمت علمك بالحكمة فأنت خير حفيد للأكرم!
هتف الشيخ محمود فزعا: حفيد الأكرم؟! - لا تنزعج فإن حفيد الأكرم الحق هو خير من يعيد سيرته، ويعكس صميم روحه.
ولزم الرجل الصمت وهو واقف على حين أطرق العجوز. سبحت الأفكار في الصمت محمومة متلاطمة. سقطت فراشة ثملة بالضوء على لحية الرجل السوداء المدببة فهشها بعصبية فتهاوت عند قدميه. وندت تنهدة بصوت مسموع ثم تساءل الرجل: ماذا تفعل لو كنت مكاني يا شيخ تغلب؟
فرفع الرجل رأسه كمن يصحو بعد غفوة وقال: لا تسل عن جواب أنت خير من يعرفه! - أريد أن أسمعه! - كلا، إن الحياة تتموج أمام بصرك، الأركان تتهاوى، أوهام تتبخر، حقائق تنقض كالقنابل، عناصر تتحلل مطالبة بتركيب جديد، أصوات جديدة تحطم جدران الخرس وترتفع، أناس يتلاحمون، قوى تنطلق من مخابئها، والنفس تطالب صاحبها باتخاذ موقف، اثبت .. اهرب .. احي .. مت .. تعقد .. تجدد .. ولكن لا حل إلا أن تخوض أمواج الظلمات وأن تشق طريقك إلى بر النور.
وقام الرجل العجوز معتمدا على عصاه فقال الرجل: لتبق قليلا يا شيخ تغلب. - لقد قلت ما عندي وقلت ما عندك.
تصافحا. مضى معه إلى باب الخروج والعجوز يقول: الليل يمضي، وقلبي يحدثني بأنه سيتمخض عن أمور هامة.
وبينا كان يوصله تسلل من باب السلاملك علي عويس. ألقى على المكان نظرة حذرة ثم مضى إلى الديوان فتوارى وراءه فيما يلي الجدار المطل على الحارة. رجع الشيخ محمود فذهب إلى باب السلاملك متلقيا نسائم الليل. زحف الشاب نحو الباب فأغلقه بهدوء. تنبه الشيخ إلى حركة فالتفت وراءه فرأى الشاب وهو يتجه نحوه. ذهل الرجل وقد قرأ الشر في عينيه وسأله: من أين جئت؟
تقدم دون أن ينبس فسأله: ماذا تريد؟
قال الشاب وهو منه على بعد ذراعين: كدت أقتل بيد رجل من رجالك. - احذر أن ترتكب حماقة. - وتريد أن تشهر بشرفي؟! - محض أوهام سخيفة.
ولكنه وجه إليه لكمة شديدة. قبض الرجل على ذراعه قبل أن تصكه الضربة. تلاحما بعنف؛ الشاب يريد أن يصرعه وهو يقاومه بكل ما أوتي من قوة. - كف وإلا دعوت رجالي! - سأنالك قبل أن يأتوا!
ودفعه دفعة قوية فتراجع الرجل مترنحا ولكنه أسند ظهره إلى الجدار. - كف قبل فوات الفرصة. - إنك شر يجب أن يزول. - دعنا نتكلم! - مكيدة جديدة؟
انقض عليه بوحشية وانهال عليه ضربا. وجعل الآخر يدفعه بقوة ولكنه لم يستطع أن يتفادى من ضربات صادقة أصابته في صدره وكتفه. وأخذ الضعف يعتوره وتحاصره اللكمات حتى استشعر دنو الانهيار. - حسبك .. أمسك.
ولكن الآخر ضاعف له الضرب فهتف: كفاية .. ستقتلني. - إلى الجحيم!
فهتف متوجعا: ستقتل أباك!
فصاح به: كف عن الهذيان يا مجرم.
فقال بصوت متحشرج وقد بدأ دفاعه يضعف ويتلاشى: ستقتل أباك، ألا تسمع؟ .. ستقتل أباك .. إني أبوك!
ولما يئس من إدراكه وشعر بدنو النهاية صاح بأعلى صوته: إلي .. إلي .. شيخ عمار.
في الحال اندفع خدم من باب السلاملك. فتح الباب ودخل الشيخ عمار وبعض الرجال يهرولون. انقضوا على الشاب فقبضوا عليه وشلوا حركته. مضى الشيخ مترنحا نحو الديوان وتهالك عليه وهو يتمتم: اقبضوا عليه .. لا تمسوه بسوء.
أخرج منديلا وراح يجفف به دما سائلا من أنفه وفيه، طارحا رأسه على المسند في إعياء شديد. وتمتم مرة أخرى وهو يقرأ في الوجوه غضبا أسود: لا تمسوه بسوء.
سأله الشيخ عمار بصوت متهدج: ماذا نفعل به يا مولاي؟ - صبرا! - أندعو الشرطة؟ - كلا.
مرت فترة لم يسمع فيها إلا تردد الأنفاس. في أثناء ذلك جيء للشيخ بقارورة ورد فغسل وجهه، اعتدل في جلسته متأوها. التفت إلى رجاله قائلا : اتركوه!
فرفعوا أيديهم عنه في ذهول، فقال: تفضلوا بالذهاب.
لم يتحرك أحد منهم فقال بلهجة آمرة: اذهبوا!
غادر الرجال البهو ذاهلين. تردد الشيخ عمار ثم ذهب في أثرهم. وقف الشاب خافض الرأس لا يفهم شيئا. وقال الشيخ: تذكر أنك واقع تحت رحمتي ولم أمسك بسوء.
وجعل يتحسس بعض مواضع تؤلمه ثم قال: عار عليك أن تستغل قوتك في الاعتداء على رجل في مثل سني، يجب أن تخجل من نفسك.
قال الشاب دون أن يرفع رأسه: إذا كنت تدبر أمرا فنفذه بلا إبطاء لا ضرورة له.
فسأله بعد وقفة قصيرة: ألم تسمع ما قلت لك؟
لم يجب ولم يفهم. - قلت لك .. ستقتل أباك.
فرفع إليه عينيه دون أن ينبس. - لم تصغ إلي، كدت تقضي على أبيك، ألا تدرك معنى لقولي؟
حرك رأسه في حيرة، فقال الرجل في هدوء واستسلام: ذلك أني أبوك وأنك ابني!
انتصبت قامته فجأة واتسعت عيناه وتساءل: ماذا تقصد؟ - ليس لقولي إلا معنى واحد وهو أني أبوك وأنك ابني، لقد رميتني بحقائق عسيرة الهضم وها أنا أرد التحية إليك، ولو عاصرنا أبو العلاء لعثرت على نفسك في مخطوطه، أراك لا تصدق، حسن، سنبعث في طلب الشخص الوحيد القادر على إقناعك .. ثم علينا بعد ذلك أن نوطن النفس على مواجهة الحقائق.
9
كان الشيخ يجلس على الديوان وقد ضمد جراحاته. وعلى كنبة قبالته جلست زينب وعلي. وبدت نظراتهم ثقيلة بما حملت من حقائق وما تخايل لها من عواقب. وقال الشيخ: ها هي الحقيقة عارية!
ثم ردد عينيه بينهما حتى ثبتهما على الشاب وقال: عرفناها معا في ليلة واحدة، ها هو الماضي يعانق الحاضر فيكونان معا كلا لا يتجزأ.
وابتسم في أسى ثم مضى يقول مخاطبا الشاب أيضا: لقد وزعت على الناس نشرة تكشف عن أعجب الحقائق عن جدك وبيته الكبير وأسرته، ولكن فاتك أطرف ما فيها وهو هذا الفصل الأخير.
نظر الشاب نحو أمه فوجدها تجفف عينيها فتمتم: الفصل الأخير! .. أي حقيقة؟! .. لن أعجب بعد الليلة لو رأى الناس بآذانهم وسمعوا بأعينهم!
فقال الشيخ: هكذا دار رأسي أيضا بلا توقف، ولكن علينا أن نحسم أمرنا فلم يبق على الفجر إلا ساعة.
قالت زينب: من حقنا أن نمهل لمزيد من التفكير.
فقال الشيخ: لا وقت للانتظار، فالحارة مهددة بالانفجار بين ساعة وأخرى. - والعمل؟ - علينا أن نختار سبيلا من اثنين، فإما أن نهرب بأموالنا أو بمعنى آخر بأموال الناس، وإما أن نبقى لنواجه الحقيقة ونتحمل عواقبها.
تنهدت زينب بصوت مسموع وقالت: حدثنا برأيك.
فنظر الرجل إلى ابنه وسأله: أود أن أسمع رأيك أولا.
انتفض الشاب كمن يستيقظ من نوم وقال: رأيي؟! .. أمهلني حتى أستعيد توازني. - لا وقت لذلك، دعني أساعدك، ماذا أردت أنت وزملاؤك؟
تفكر مليا ثم قال: أردنا الاحتكام إلى الحقائق وإزهاق الأباطيل والخرافات، مؤملين من وراء ذلك أن ترد أموال الناس إليهم وأن تنفق في سبيلهم، وأن ترفع عن كواهلهم الوصاية والسيطرة. - هذا حسن ولكنه ليس بكل شيء، الحقيقة لا تتجزأ، وإن يكن ثمة خير في أن يعرف الناس الأكرم على حقيقته فمن الخير أيضا أن يعرفونا على حقيقتنا، لا نستطيع أن نبدأ من جديد ونحن نتستر على آثامنا الماضية، على الاعتراف أن يكون كاملا وصريحا ليكون التكفير كاملا وصريحا، ولنبدأ حياة نقية بالمعنى الحقيقي.
تساءلت زينب بإشفاق: ماذا تقصد؟
فأجاب بإصرار: يخيل إلي أنني لن أتورع عن شيء! - وأي عواقب تتوقع؟ - لا أدري، قد يعيدنا ذلك إلى مجد الأكرم وقد يردنا إلى تشرده! - زدني تفصيلا! - إذا اعترفت بكل شيء، إذا بلغت الغاية في الأمانة، فلن يتردد عن محاربتي أخلص الناس لي اليوم وهم المنتفعون بأموالنا، أما المريدون فسيقعون حيارى بين إيمانهم القديم والحقائق الجديدة، ولا يبعد أن ينقسموا بين مرتد عني ومؤيد لي حتى النهاية. - يا لها من صورة غامضة! - رجم بالغيب أن أحدس المصير. - هي احتمالات وخواطر، ولكن ما الذي تضمره في قلبك؟
التفت نحو الشاب وهو يقول: أود الآن أن أسمع رأيك؟
لم ينبس الشاب مستغرقا في تفكيره. - إنك تبدو شاحب اللون يا بني؟ - ليس هذا مما يهم. - لا بد من الإدلاء برأيك. - أظنني أفصحت عنه فيما يخصني. - ثمة ما يخصك ولا يقل أهمية عن ذلك إذ إنه يتعلق بكرامتك وسمعتك؟
فتمتم بهدوء: يخيل إلي.
وانطبقت شفتاه فتساءل الشيخ: يخيل إلي؟
فقال بحدة عصبية: إنني لن أتورع عن شيء. - أتدرك ماذا يعني ذلك؟ - أجل. - أنت شجاع، وسوف يتقرر مصيرنا على ضوء ما يرى الناس فينا. - ليكن ما يراه الناس. - سأعيد إليك اسمك، أما الثروة فستعود إلى أصحابها، ستجيئنا بكتبك ولن تجد عندنا إلا كتبا! - ليكن.
وتساءلت زينب بذهول: أيمكنك مواجهة الناس بذلك؟ - سأدعوهم إلى البيت الكبير صباح الغد. - ألا يلزمك وقت للمزيد من التفكير؟ - لا تدرين كم فكرت!
وابتسم وهو يرنو إليها بنظرة ثقيلة: لم أكف عن التفكير لحظة واحدة مذ انهالت على رأسي المطارق!
ثم وهو يتنهد: وكان علي أن أختار؛ فإما الدعارة وإما القداسة.
وابتسم في هدوء ثم استطرد: وقد اخترت سبيلي، فاضت من قلبي قرارات عنيدة غير متوقعة كضربات المطارق المنهالة على رأسي اكتسحت نداءات الدعارة اللزجة اللينة، فرفضت الهزيمة ومججت الهناء السهل، والظاهر أن إيماني بجوهر جدي كان أكبر من إيماني بمعجزاته.
وردد بصره بينهما وهو يقول: فلنستمتع بآخر هدوء يتاح لنا!
فقال علي: أمامنا حياة عسيرة. - ولكنك تود مواجهتها؟
فقال بتصميم: بلا تردد. - حسن، لقد تعلمت منك أشياء وأود أن تتعلم مني شيئا!
فقالت زينب: ولكن النزاع لن ينتهي في حارتنا.
فقال الشيخ: بلى، ولكننا سنكون في الموقع الأفضل.
وتفكر مليا ثم قال: لا شك أن جدنا اعترضته نفس المتاعب وهو يتحول من الجريمة إلى الولاية!
وقام في نشاط حي وقال: لقد أورثنا مثلا لا يجوز أن ينسى.
ودنا من مدخل الحديقة المستكنة في سكينة الفجر وقال: تلك كانت المعجزة.
حارة العشاق
1
تربع على الكنبة في هدوء متوثب. تابعها بعينيه وهي ذاهبة تحمل صينية القهوة. تابعها وهي عائدة بجسمها البض ووجهها الممتلئ البدري. جميلة فاتنة! وتزداد مع الأيام نضجا وفتنة. ها هي تلقي نظرة على الحارة من النافذة الوحيدة في حجرة الجلوس . وها هي تجلس إلى جانبه على الكنبة الوسطى. وها هي الغبطة تسيل من نظرتها وهي تقول: شكرا للترقية!
وابتسمت بحبور ثم قالت: بفضلها أهنأ بمجالستك كل عصر.
تقلصت بعض عضلاته تحت جلبابه الأبيض الفضفاض وغمغم بألفاظ غير واضحة. جعلت تلحظه بعينيها الصافيتين. ستكتشف عاجلا أو آجلا وجومه. لعلها اكتشفته. هي شديدة الحساسية فطنة، ولكنها في نفس الوقت مرنة واسعة الحيلة. كم يحبها! لم يتوقف عن حبها بعد الزواج. لا يتصور الحياة بدونها. قالت بنعومة: لمناسبة ما ذكرتني صاحبة العمارة بأننا نقيم في هذه الشقة منذ خمس سنوات.
فصدق على قولها متمتما: أجل، خمس سنوات. - خمس سنوات حقا؟ هل مرت خمس سنوات حقا؟ - خمس سنوات مرت على زواجنا، العمر يجري جريا يا هنية.
فربتت على ظهر كفه وقالت بحنان: يبدو أنه يطير طيرانا في أحضان الحب السعيد.
ترى هل اكتشفت وجومه؟ إنه على دراية بتسللها الناعم. قال: أجل، في أحضان الحب يطير طيرانا.
فامتلأت عيناها بالحنان وقالت: وطيلة النهار جعلت أتذكر وأغني لنفسي. - ثمة ذكريات لا تنسى. - قبيل الخطوبة وأنت تخالسني النظر من مجلسك في القهوة.
فخفض من صوته وهو يقول: الحب جنون! - وكل ركن في هذه الشقة يستطيع أن يقوم ألف دليل على حبنا. - ألف دليل ودليل. - هكذا مرت السنوات الخمس فلم نشعر بمرورها. - أجل. - بالرغم من أن متاعبك فيها لا يمكن أن تنسى.
فغلبته عواطف مكبوتة فقال: كانت متاعب سعيدة. - بل كانت السعادة أقوى من المتاعب!
تنهد. تجلت في عينيه نظرة حالمة. قال: تلك الأيام! كنت موظف أرشيف خارج الهيئة، أعمل عملا متواصلا من طلعة الصبح حتى أول الليل، حتى الغداء كنت أتناوله تحت أرفف الأرشيف، فقير كادح وزوج عاشق، حتى النسل أجلته لحين تتحسن الحال، لا وقت للتفكير، لا وقت للنظر، عمل عمل عمل، وأعود إليك مرهقا ولكن بفؤاد حي مشتاق، أجد الحمام مبخرا فأغتسل وأرتدي جلبابا مزهرا، نتبادل الحديث، نتناول العشاء، نسعد بالحب، ننام النوم العميق، لا أفكار ولا أكدار، ثقة لا حد لها بكل شيء، بك وبنفسي وبالله، وإيمان لا حد له بك وبنفسي وبالله، كل شيء ثابت الأركان مدعم البنيان. - أيام شاقة وسعيدة يا عبد الله. - جري بلا انقطاع وراء لقمة العيش، طمأنينة شاملة، حب يتبادل بقوة تضاهي قوة دوران الأرض!
أزاحت خصلة سوداء تهدلت فوق عينها وقالت وهي تضحك في دلال: ولكننا لم نكن نهنأ بجلسة سعيدة كهذه الجلسة في العصاري الطيبة.
فقال بحزن لم يعد يستطيع مداراته: فقد من الله علي بالترقية. - أصبحت مراجع وحدة ينتهي عمله في تمام الثانية بعد الظهر مثل كبار الموظفين. - وتهيأ لي من الفراغ ما لم أكن أحلم به.
ربتت على خده وقالت بارتياب: ما لك؟ - لا شيء بي. - خيل إلي أنك لست كعادتك.
ابتسم. ابتسم. وهو يرنو إلى بشرتها الصافية. اعترف بأنه لا شيء يمارس سيطرته على شيء كما تمارس سيطرتها عليه. عادت تسأله: ألست سعيدا بالترقية والفراغ؟ - الحق أن الفراغ خلقني من جديد. - وأنا كذلك. - فقد رأيتك في النهار طويلا بعد أن لم أكن أراك فيه إلا خطفا!
ضحكت ضحكة ناعمة منغومة فواصل حديثه: ورأيت حارتنا في الضوء، عرفت المقهى، توثقت علاقتي بالجيران خاصة الإمام والمدرس وشيخ الحارة.
هكذا الفراغ راحة ونعمة وتعارف. - وعرفت نفسي بعد أن كانت حواسي مشدودة دائما إلى الخارج. - يا لها من مكاسب لا تقدر بمال. - رأيت أهل حارتنا، لم أكن أتصور أنهم بهذه الكثرة. - ما أعجب ذلك وأجمله!
فتفكر قليلا ثم قال: ومنهم أناس أثاروا قلقي. - لم، كفى الله الشر؟! - يتخذون في ركن من المقهى مجلسهم، عصابة من الشبان، يتبادلون المزاح بأصوات مزعجة، لا يرحمون كبيرا ولا صغيرا من مزاحهم، ويتهجمون على الأعراض بلا حياء. - هكذا الشبان في كل زمان ومكان. - ألا يزعجك ذلك يا هنية؟ - لا أحب لك أن تنزعج أنت! - ولا يتركون فتاة دون غمز، حتى السيدات المصونات، حتى خيل إلي أني أقيم في عالم من الدعارة والانحلال. - لا تستسلم للأوهام السخيفة!
قام كأنما ضاق بمجلسه. وقف وراء النافذة دقيقة. رجع إلى وسط الحجرة ووقف مستندا إلى الخوان. قال بحنق: خيل إلي مرة أن أحدهم رماني بنظرة لم أرتح لها!
نضب المرح من صفحة وجهها وتساءلت: أي نظرة؟ - نظرة ماكرة ذات معنى. - أي معنى؟ - استفزني غضب وهممت بالقتال! - يا لطف الله! - وتنغص علي صفوي فلم أسترده بعد ذلك.
قالت بقلق واضح: إنك تبالغ يا عبد الله. - الحق أني عانيت تجربة جديدة كل الجدة وهي الشك!
هتفت باستياء: الشك! - كمن صحا عقب نوم ثقيل على لسع عود ثقاب مشتعل.
قالت بامتعاض وغضب: أطلعني على أفكارك أكثر. - قلت إنه الشك وكفى.
فصاحت بغضب: لا أصدق أنني أتلقى منك إهانة صريحة! - إني أسألك المعونة. - غير ما بنفسك قبل أن يفسد كل شيء.
فقال دون اكتراث لتحذيرها: إنك تخرجين كل يوم للتسوق. - لست في حاجة إلى من يذكرني بحياتي اليومية.
فقال بخشونة: وتذهبين إلى الفرن لابتياع الخبز! - كما أذهب إلى البدال والقصاب والكواء.
فقال بحنق: ولكن الفران يستقبلك استقبالا عجيبا، يهتف دون مناسبة: أهلا أهلا ويقبل عليك كأنه صديق حميم. - عبد الله! - إني أصف ما رأته عيناي. - أكنت تتجسس علي؟ - الشك له أسلوب لا مفر منه. - ولو بلغ الوقاحة؟! - ولو! - كيف خفيت عن عيني حقيقتك طيلة ذلك العمر؟ - كما خفيت عن عيني حقيقة أفظع! - اقطع لسانك واخرس. - رأيته وهو يكاد يأخذك في حضنه.
صاحت به: لا أسمح لك. - رأيت ذلك بعيني كما رأيته قبل ذلك في عيني الشاب بالقهوة! - لن أسمح لك بإهانتي! - هل لديك دفاع؟ - لست متهمة! - هل لديك تفسير؟ - أنت مجنون. - لا مفر من المواجهة. - كم أنك كريه أعمى! - الشتائم غير مجدية. - إني أشرف من أفكارك الوضيعة. - هاتي دفاعك.
فصاحت بكبرياء وهي تثب قائمة في غضب جنوني: لا تردد كلمة الدفاع، لا أسمح لك. - يا للشيطان! .. هذا يعني أنك تعترفين. - إني ذاهبة، بقائي مع شخص مثلك مستحيل!
ضرب الخوان بقبضته وهو يرتجف غضبا وصاح: تكلمي! - إني ذاهبة.
غادرت الحجرة فصاح في أعقابها: تكلمي!
ثم ضرب الخوان بقبضته مرة أخرى وصاح بجنون: أنت طالق!
2
جلس في حجرة الجلوس وحيدا. لم يحلق ذقنه ولم يمشط شعره. زائغ البصر. - إني وحيد، وحر، واليأس إحدى الراحتين.
وصمت مليا ثم قال: يجب أن أعترف بأنني غير سعيد وبأنني لا أجد لحياتي معنى.
عاد إلى الصمت مرة أخرى ثم راح يقول: ويجب أن أعترف أيضا بأنني أحبها، وبأنني أكرهها.
أطبق شفتيه دقيقة ثم قال: طلقتها لأنه من غير الجائز أن أبقي على زوجة خائنة، أما الحب فقلعة منيعة مستقلة - بذاتها وأبراجها - عن الشك والسلوك.
وقام ليذرع الحجرة ذهابا وإيابا. ودق جرس الباب فجأة. فتح الباب فدخل شيخ بدين قصير ذو لحية سوداء. تصافحا، قاده إلى الكنبة وهو يقول: خطوة عزيزة يا شيخ مروان عبد النبي.
جلس الرجل وهو يقول: أوحشتنا يا رجل! - أهلا بك، كيف أنت، وكيف الإخوان؟ - القهوة كلها مشتاقة إليك. - علم الله أني مشتاق إليكم كذلك.
فرماه الشيخ بنظرة ارتياب وهو يقول باسما: لو أنك مشتاق حقا لزرتنا! - الحزن يطوينا على أنفسنا. - ولكنه يتبخر عادة بين الإخوان. - لم تنفتح نفسي لشيء بعد. - كيف؟ .. لم؟ - أنت أدرى! - خطر لي أنه من المفيد أن نتعاون على محاربة ذلك العدو المدعو الحزن. - أنت إمام وصديق وإنسان. - إنه عدو خطير، له كل يوم فريسة، ولا يجوز أن نلقاه متفرقين.
دعاه الشيخ إلى الجلوس إلى جانبه. ربت على منكبه وقال مستطردا: وما دام سببه معروفا فالاهتداء إلى سبيل الشفاء ميسور!
أطرق عبد الله مليا ثم قال باستحياء: كانت تجربة قاسية عاصفة، وليس الشفاء منها بالأمر الميسور! - إنك صادق في تعبيرك، ولكن لا يجوز أن تنسى أمرين هامين.
وسكت ليخلق جوا مناسبا لسماع نصائحه، ثم قال: لا تنس، الإيمان بالله هو الملاذ الأخير من جميع الأحزان.
وعاد إلى السكوت مرة أخرى، ثم قال: ولا تنس أن تتثبت من حقيقة التجربة التي عصفت بك! - لقد رأيت بعيني رأسي. - واقعة الفران؟ - أجل، وقبل ذلك نظرة الشاب المستهتر إلي! - دعني أصارحك بأنني لم أشاركك الاقتناع فيما اقتنعت به! - لقد بهتت فلم تستطع الدفاع عن نفسها! - ولا تلك بحجة تشرع ضدها؛ فللمرأة كبرياؤها! - إني مطمئن إلى الإجراء الذي اتخذته. - ولكنك قضيت على نفسك بالسجن كأنما طلقت الدنيا في نفس الوقت. - سوف يدركني النسيان عاجلا أو آجلا.
فابتسم الإمام وقال بهدوء وثقة: إني رجل من رجال الله، خادم بيت من بيوته، أعرف حارتنا وأحوالها ما ظهر منها وما خفي، أتوكل على الله في كل فكر أو عمل، ولا غرض لي في الدنيا إلا الخير، وأبعد شيء عن خاطري أن أسعى إلى رد زوجة خائنة إلى عصمة رجل فاضل مثلك.
غض عبد الله بصره ليداري نظرة رجاء لاحت في عينيه وتمتم: لا شك عندي في ذلك كله يا شيخ مروان. - يا صديقي عبد الله، لقد قرأت في وجهك رسالة، لا أجزم بصحة ما قرأت فصارحني؛ أيتعذر عليك نسيانها؟ - الخيانة؟ - الزوجة!
فقال عابسا: كل شيء رهن بوقته. - الحب ككل شيء يجري مجراه بأمر الله، فلعلك تحبها؟! - لا أهمية لذلك. - صدقني يا صديقي عبد الله إذا قلت لك إن زوجتك بريئة! - بريئة! - أجل بريئة مما رميتها به.
فسأله باهتمام بين: كيف عرفت ذلك؟ - لا أدري من أين أبدأ، أأقول لك إن لرجال الله خواطرهم القلبية التي تفوق في قدرتها براهين العقول؟! ولكني أخاف ألا يكون إيمانك بالقوة التي تتخيلها، كثيرون يعتقدون أنهم مؤمنون ثم تراهم ينهارون لدى أول تجربة، المؤمن الحقيقي يا عبد الله يحرك الجبل ويزلزل الحياة ويقهر الموت.
فتنهد عبد الله قائلا: لا ينقصني الإيمان يا شيخ مروان. - ألم تعاشرها خمس سنوات كاملة بل يزيد؟ - لا يمنع ذلك من وقوع شر. - حدثني عن قلبك لا عن الوقائع الخارجية! - لا أنكر أني اطمأننت إليها الاطمئنان كله. - ألم يتسلل إليك الشك أبدا؟ - كلا.
ثم مستدركا بعجلة: لم يكن لدي وقت للشك. - لا أهمية للوقت في ذلك. - بل هو كل شيء يا شيخ مروان فأنا لم أنتبه إلى ما يجري حولي إلا من خلال الفراغ الذي أتيح لي عقب الترقية. - ألاحظت تغيرا في معاملتها لك؟
فتمهل قليلا ثم قال: لا أظن! - يا صديقي، إني أعرف حارتنا، رجلا رجلا، وامرأة امرأة وصبيا صبيا، لا يغيب عني شيء من أسرارها، وأشهد الله أنني لم أعرف امرأة تتمتع ببعض الخصال الحميدة التي تحظى بها امرأتك!
فقال متجهما: السلوك الحقيقي سر من الأسرار. - صدقت ولكن ندر أن استطاع خاطئ التستر على خطيئته إلى الأبد. - لقد رأيت ولا يمكن الاستهانة بما رأيت. - دعني أحدثك عن الشاب الذي هيجتك نظرته، لقد حققت بنفسي مع الشبان الذين يشاركوننا الجلوس في المقهى فثبت لي على وجه اليقين ألا أحد فيهم يضمر لك سوء ظن أو تقدير، فلعلك توهمت رؤية ما لا وجود له. - لا يمكن أن نشك في حواسنا. - حواسنا؟! عليها اللعنة، تلك المرايا المشوهة التي لم تخلق إلا لتشهد بكذبها بصدق حدس القلب. - ولكننا نحيا بها يا شيخ مروان. - نحن لا نحيا حقا حتى يمتلئ قلبنا بالإيمان.
فقال بمرارة: كأني أيضا لم أر الفران وهو يفتح لها ذراعيه!
فابتسم الشيخ مروان وقال: صدقني فقد ظلمته ورميته بما لا يجري له في خيال. - لست أعمى. - إنه رجل مسكين، وزوجه تشاركه في عمله ساعة بساعة، وهي تستقبل الزبائن معه! - كلا! - هو الحق بالتمام والكمال!
أطرق عبد الله محاصرا في ركن مسدود فاستطرد الشيخ: وإلى ذلك فهو عجوز دميم يكاد يقعده الكبر!
قام عبد الله في تأثر واضطراب وهو يقول: لا تجرفني إلى هاوية يا شيخ مروان! - معاذ الله، إني لا أقدم على عمل قبل أن أستخير الله ذا الجلال، وكم من مرة زارت مطلقتك الضريح ورجتني أن أدعو لك بالصحة والفلاح! - حسبك. - لعنة الله على الغضب، لعنة الله على الحواس!
تراجع عبد الله إلى الكنبة في الجناح الأيسر للحجرة وتهالك عليها مغمض العينين فقال الشيخ: أصلح خطأك، كفر عنه، استرد السعادة التي سلبها الشيطان، تخلص من وحدتك الغارقة في الحزن.
وتريث قليلا ثم قال: ولكن عليك أن تغير حياتك.
فقال عبد الله بتأثر شديد: دعني آخذ أنفاسي! - إنك في صميم قلبك ترحب بكافة الحقائق التي كشفتها لك، لا تنكر ذلك، إنك تحبها، ولا غنى لك عنها، إنك تنتظر اللحظة التي أدعوك فيها إلى ردها إلى عصمتك.
فتأوه الآخر قائلا: اللهم عفوك ورحمتك. - ولكن عليك أن تغير حياتك، فبادر إلى الإنجاب بعد أن من الله عليك باليسر، وتردد على الزاوية في أوقات الصلاة المتاحة، ولا يفوتنك درس من دروسي الدينية.
فقال عبد الله بحماس: بإذن الله لن يفوتني شيء من ذلك، والحق أني لم أكن مقصرا ولكن فترة الاستغراق في العمل أورثتني عادات سيئة لا يتحرر منها إلا صادق العزم. - فترة ذميمة!
فتردد عبد الله قليلا ثم قال: ولكنني كنت قويا وسعيدا! - تلك جنة الحيوان، أما الإيمان الحقيقي فلا تكمل أسبابه إلا بالتأمل والصلاة والدرس. - سمعا وطاعة! - آن لك أن تؤمن كما يؤمن الإنسان الكامل، وسوف تعرف الروح بهجتها، ومعنى الحياة الزوجية ومسراتها الحقيقية، وستعرف إلى ذلك كله كيف تهزم الشيطان إذا تصدى لك بلعبة من ألاعيبه!
انتقل عبد الله إلى جانب الشيخ. قبل جبينه، ثم قال بامتنان: ربنا يكرمك يا شيخ مروان، لقد انتشلتني من الظلمات وفتحت لي أبواب الهدى والسعادة.
3
دخلت حجرة الجلوس وهي تمشط شعرها. تبدى وجهها موردا رائقا بعد الحمام. نظرت نحوه وهو واقف في جلبابه وراء النافذة وتساءلت: ألا تستعد لحضور الدرس في الزاوية؟
لم يلتفت نحوها. لعله لم يسمعها. جلست على الكنبة وما زالت تمشط شعرها. قالت: أزف ميعاد الدرس يا عبد الله.
أجاب باقتضاب: لن أذهب.
حدجت ظهره بنظرة متسائلة ثم قالت بدهشة: لم تتخلف عن درس العصر مرة واحدة طوال العام الماضي.
غادر موقفه إلى الكنبة في الجناح الأيمن وجلس وهو يقول في فتور: لن أذهب. - ما لك؟! - لا شيء.
جمعت شعرها في ضفيرة طويلة مليئة كالغصن الريان وهي تتساءل: هل ثمة شيء ضايقك؟
فأجاب على غير توقع منها: بل أشياء.
تيقظت تماما في قلق واضح وسألته: ماذا هنالك؟
فقال بامتعاض ولكن بتهيب: ذلك الشيخ!
وأكمل متجنبا نظرتها المستطلعة: أصبح مضجرا! - الشيخ مروان؟! - نعم. - إنه يكاد يستأثر بأوقات فراغك! - ثبت لي أنه رجل مضجر! - حدث بينكما شيء؟ - يعيد ما يقول ويقول ما يعيد، بطريقة رجل يحفظ كلمات معادة عن ظهر قلب، كالببغاء، كالآلة، ودائما بلا روح! - شد ما تحمست له يا عبد الله. - لا أنكر أنني كنت مبهورا به، ولكنه مضى يتكشف لي على حقيقته، قاومت الملل شهورا، انتظرت عبثا أن يقول شيئا جديدا، ولكن لا جديد، رجل يؤدي وظيفته بلا روح، ينادي على بضاعته كبياع البطاطة. - متى اكتشفت ذلك؟
فقال بنبرة لم تخل من حدة: منذ زمن قصير، ولكن ليس من اليسير أن نجازف بإنكار ما تعودنا الإيمان به!
بهتت هنية. صرخ الذهول في عينيها. قالت وهي تضبط انفعالاتها: ليكن، لا تذهب إلى الدرس إن يكن ذلك يضايقك، وعلى أي حال فصداقتكما أكبر من الدرس وأبقى.
فقال بمرارة: هو ليس في المقهى بخير منه في الزاوية! - رباه، كيف أصدق أذني! - حقا؟! - عبد الله، لا تنس أفضاله علينا، من أجلها سمينا وليدنا باسمه، ولن تنكر أنك طالما تغنيت بصداقته وسجاياه.
نفخ قائلا بوجه عابس: لم يعد لي به ثقة البتة. - يا ألطاف الله! - على أي حال كان صديقي أنا لا صديقك أنت! - ولكنه صاحب فضل على كلينا، فهو الذي جمع شملنا من جديد. - وتبين لي بعد ذلك أنه غير جدير بالمركز الذي يشغله! - بالله كيف؟ - كنت أضيق بعم مراد عبد القوي شيخ الحارة إذا احتد عليه في مناقشة ما، وكان الشيخ مروان بدوره يتهم شيخ الحارة بأنه يعمل مرشدا للمباحث، ولكني بت أومن بصدق فراسة عم مراد!
قالت هنية بحزن واضح: لن أناقشك ولكن فسر ما غمض علي من أمره.
فصمت قليلا ليرتب أفكاره ثم قال: لم تتكشف الحقيقة لي دفعة واحدة، ولكنها جاءت كنقاط الماء التي تتجمع رويدا لتصنع في النهاية بركة آسنة! - أود أن أعرف كل شيء. - حسن. أول ما نفرني منه تهالكه على تصيد الدعوات إلى ولائم التجار بالحارة!
ابتسمت هنية ابتسامة فاترة فقال بحنق: اتضح لي أنه شره، وأنه في سبيل إشباع شراهته لا يتورع عن التودد المهين. - خصال لو نظرت إليها بعين غير غاضبة لأمكن أن تمر بها مرور الكرام!
فقال بسخرية مريرة: ما أجمل أن يسعد الإنسان بمحام مقاتل مثلك! - عبد الله .. ما هذه النبرة؟! - آلمتك؟ - إنها تذكرني ...
وأطبقت شفتيها دون أن تكمل كلامها فتساءل: بم تذكرك؟
ولكنها تجاهلت سؤاله قائلة: لكل إنسان عيوبه! - ليس الإمام كبقية الناس، وقد قال شيخ الحارة مرة: إنه عرف من الأئمة أناسا فوق مستوى البشر! - يمكن أن تقبله كإنسان عادي!
فقال بحدة: ومرة ضبطته وهو يقرص الزهر في لعبة النرد، الغشاش!
غمغمت بإشفاق: لا تحكم عليه من خلال لعبة تسلية! - الخلق ينعكس على لهونا كما ينعكس على جدنا!
تنهدت ولم تدر ماذا تقول فتساءل بحدة: ثم ألا تذكرين كيف عاقب خادمته؟! - قيل إنها سرقت. - أيبرر ذلك انهياله عليها بالضرب وطردها بوحشية؟ .. خيل إلي وقتذاك أنني أرى وحشا ينقض على فريسته!
صمتت تماما وراحت تعبث بضفيرتها بقلق بين. وضحك هو ضحكة ساخرة وقال: وكنت لمحت أشياء اعتدتها في وقتها أوهاما تافهة فلما تبين لي من أمره ما تبين عدت إليها بعين جديدة انحسرت عنها غشاوة التضليل.
تجلت في عينيها نظرة متسائلة فقال: تذكرت أنني رأيت عينيه أكثر من مرة وهما يتابعان نساء حارتنا باهتمام غريب!
هتفت بانزعاج: كلا! - ألا تصدقين أم أنك لا تريدين أن تصدقي؟ - ماذا تعني؟ - لم أعد أشك في أنه كان يطارد نساء حارتنا بعينين فاسقتين! - يا رب عفوك ورحمتك! - إنه خدعة كبرى وزنديق خطير! - رحماك اللهم! - رحماك يا هنية، لقد غرقت عاما في بحر من العمى والضلال! - حسبك، صادق من تشاء واهجر من تشاء.
فهتف متجهما بنبرة صارمة: ثمة أشياء لا يمكن أن تمر دون حساب! - ماذا تعني؟ - آن لي أن أصارحك بما في نفسي. - هذا ما ناشدتك الله أن تفعله. - لنعد إلى حادث شهده بئر السلم بعمارتنا! - عم تتحدث؟
فقال بصوت ممزق: كان ذلك منذ أشهر مضت، رجعت ذات يوم من مشوار إلى عمارتنا وكنت أنا جالسا في المقهى، أردت اللحاق بك لسبب لا أذكره الآن، صادف دخولك خروج الشيخ من شقته، رأيتكما في بئر السلم ، خيل إلي ...
صرخت هنية: ماذا تقصد؟ - رأيته يمد يده ...
قاطعته بغضب جنوني: ما من مرة قابلني حتى مد يده إلى رأس الطفل ليباركه وقد فعل ذلك أمام عينيك مرارا. - خيل إلي أن يده كانت تبارك صدرك!
فصرخت ثائرة: يا لك من مجنون قذر!
وهو يضحك بجنون: - ولكن وقتها كذبت عيني. - وقح .. وقح.. وقح. - استردت الصورة حياتها الحقيقية على ضوء ما تكشف لي بعد ذلك. - اقطع لسانك يا مجنون. - أدركت أنني كنت أعمى لا مجنونا، وأدركت لم سعى للإصلاح بيننا، وأدركت كم كنت لعبة بلهاء في يديه!
انتترت قائمة وهي تصرخ: أنت وحش، حيوان، مجنون، لن أبقى في بيتك لحظة أخرى.
وغادرت حجرة الجلوس وهي تنتفض غضبا. ضرب هو الأرض بقدمه بعنف وصاح وراءها: في داهية .. ألف داهية وأنت طالق!
4
عاد الصمت إلى البيت. صمت جاف نفاث للقلق. وطيلة الوقت ذرع الحجرة من الكنبة إلى الكنبة. اختفت آهات الطفل بشتى درجاتها المنغومة وأنواعها الصوتية الملونة بأطياف السخط والرضا. ولكن لم يبرح مخيلته جسمه الضئيل البني المطروح على ظهره وأطرافه الأربعة الصاعدة تتلاعب في الهواء عارضة أصابعه الصغيرة الدقيقة كالنقوش البارزة. وجعل يقول: تجنب الوحشة، فهي أنسب جو لتقطير الحزن والأسى!
وذرع الحجرة مرتين ثم عاد يقول: تحرك .. انطلق .. حتى لا تبقى فريسة مطاردة عاطفية محمومة.
وتجمع التصميم في زاويتي فيه وهو يواصل حديثه: الأسرة فخ .. والرجل الحر ...
ودق جرس الباب فقاطعه. فتح الباب فرأى الشيخ مروان أمامه. قطب في وحشية ولكن الشيخ لم يباله. دخل وهو يتساءل: أحق ما سمعت يا عبد الله؟
فقال عبد الله بفظاظة: اغرب عن وجهي. - أتطردني من دارك؟ - شر طردة! - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. - إنك أنت الشيطان الرجيم.
فقال الشيخ وقد غلبه الحزن: ربما كان لك عذر أول مرة! - اخرس، حذار من السفسطة، اذهب وإلا حطمت رأسك. - يا لطف الله، لقد أفسد عقلك الرجل الماكر. - لا أريد أن أسمع صوتك، اذهب. - المرشد الخبيث مراد عبد القوي، الذي يتخذ من مشيخة الحارة ستارا لمؤامراته الشيطانية، إنه يشعر بأنني عدوه بالفطرة، فلا يتردد عن التشنيع بي وافتراء الكذب علي، ولكن كيف هان عليك أن تصدقه يا عبد الله! - اذهب، إنه آخر نذير أنذرك به. - صدقته، بعت صداقتنا بثمن بخس وخربت بيتك! - أنت الذي خربته يا خنزير. - وانقض عليه يريد أن يقبض على عنقه. صده الشيخ بذراعيه. تلاحما بشدة ما بين هجوم كاسر ودفاع حكيم. وفي تلك اللحظة جاء مهرولا رجل نحيل متوسط القامة فدخل بينهما حتى فصل بينهما، ثم هتف لاهثا: يا للعار .. يا للخجل!
والتفت نحو الشيخ وهو يقول برجاء: تفضل الآن بالذهاب يا شيخ مروان.
وأغلق الباب وراءه ثم مضى بعبد الله إلى الكنبة متمتما: تمالك نفسك أيها الأخ الكريم.
وضرب كفا بكف وهو يقول: أي شيطان عبث بكما معا!
وهتف عبد الله وصدره يعلو وينخفض: ذلك الداعر الخائن.
جلس إلى جانبه. طوق منكبه بذراعه بحنان وقال: علينا أن نسترد هدوءنا واتزاننا قبل كل شيء.
فتأوه قائلا: إني حزين لدرجة اليأس يا أستاذ عنتر. - أعلم ذلك يا أخي فأنت مصاب في حب كبير وصداقة وطيدة. - لم تبد لي الحياة من قبل كريهة منفرة كما تبدو اليوم. - بلى، حياة ذات مائة وجه!
ثم بصوت منخفض: بيد أننا لا نعرفها على حقيقتها حتى نرى وجوهها جميعا! - قلبي غاص بوحشة مخيفة يتعذر معها الاستمرار في الحياة. - قلبي معك يا صديقي ولكن لا تستسلم لليأس. - إنها محنة بكل معنى الكلمة. - وعلينا أن نخرج منها سالمين! - يخيل إلي ...
فقاطعه قائلا: بين آلاف الضاحكين في هذه اللحظة يوجد على الأقل شخص واحد كان يفكر في الانتحار منذ عام. - لعلك لم تعرف كل شيء عن مأساتي؟ - بل أعرف كل شيء عنها، المهم أن نتجاوز الحاضر إلى المستقبل. - ما أسهل الكلام يا أستاذ عنتر! - وليس العمل بالمستحيل.
وسكت الرجل قليلا ثم استطرد: فكر جديا في تجديد حياتك من جذورها.
استغرقته الأفكار فلم ينبس فسأله عنتر: هل خطر لك يوما أن تسأل نفسك عن معنى حياتك؟
فرفع إليه عينين ثقيلتين فاترتين فقال الآخر: ما معنى الحياة؟ ما معنى الإنسان وما معنى الحب؟ ما معنى الخيانة؟ أأدركت ما أعني؟ - كلا. - لقد جربت من الحياة جانبا أقرب إلى البدائية ولكن تنقصك الثقافة. - وما علاقة ذلك بمأساتي؟ - أوثق مما تتصور. - لا أدري كيف. - فلنؤجل فهم ذلك إلى حين! - ولكني رجل بسيط التعليم. - غير أنك تمتلك أقوى قوة في الوجود وهو العقل. - إن ما يهمني الآن أكثر من سواه.
فقاطعه باهتمام: الثقافة أن تعرف نفسك، أن تعرف الناس، أن تعرف الأشياء والعلاقات، ونتيجة لذلك ستحسن التصرف فيما يلم بك من أطوار الحياة! - يا له من طريق طويل! - لقد ضيعت في الأرشيف عمرا، وفي المقهى عمرا، وفي الزاوية عمرا، ومن حق الثقافة عليك أن تهبها بعض عمرك. - يخيل إلي أنني لا أحب ذلك. - سوف تحبه، وستجد مكتبتي تحت تصرفك، مكتبة متواضعة فما أنا إلا مدرس، ولكن كن على يقين من أنك ستحبه، أكان من الممكن أن تحب زوجتك قبل أن تراها؟ - فصاح بحنق: لا ترجعني إلى تلك الذكرى. - لا زلت تحبها! - أود أن أقتلها. - هذا يعني أنك لا زلت تحبها. - ألم تسمعني يا أستاذ عنتر؟ - الكراهية الحقيقية هي النسيان. - يا له من حديث بغيض. - لا تنس أنني ها هنا لأنتشلك من الهزيمة، فلا يجدي إلا الصدق. - الصدق؟! .. أين الصدق؟ - إنه جوهرة قد تختفي أحيانا تحت ركام الأوهام. - من سوء الحظ أن مأساتي ليست وهما. - من ذا الذي يستطيع أن يقطع برأي في ذلك؟ - الضحية! - بل البصيرة.
هز عبد الله منكبيه في فتور فقال عنتر: فلنناقش خيانة الشيخ مروان المزعومة.
هتف عبد الله بغضب: المزعومة!
لم يعلق عنتر على صيحته فقال عبد الله: أجئت لتدافع عن ذلك الوغد؟
فقال بهدوء: من أجل الحقيقة وحدها جئت. - لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين.
فواصل حديثه وكأنه لم يسمعه: لأني أحب الحقيقة ولأني أود معاونتك. - لم يعد من السهل إقناعي! - فلنجرب. - إني أمقت ذلك. - صبرك. - لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني! - لا تأبه بأدوات الخطأ.
ندت عن عبد الله ضحكة جافة وقال: سمعت مثل ذلك من قبل، الوغد قاله لي! - حقا؟ - لعن الحواس وأشاد بالقلب. - وإني ألعنها أيضا ولكن لحساب العقل! - لا دخل للعقل فيما رأيت. - إني أعرف الشيخ مروان خيرا منك. - لا أحد يعرفه مثلي. - هلا حدثتني باكتشافاتك؟
صمت عبد الله زهدا في الحديث ونفورا منه فقال عنتر برجاء: احترم رغبة صديق يحبك ويتمنى لك الخير.
فقال عبد الله بحنق: إنه رجل مضجر، يعمل بلا روح، على خلاف ما يظن الناس.
فقال عنتر متوددا: أوافقك على رأيك في ذلك ولكن لا ذنب له فيما استشعرته. - ذنب من إذن؟ - لا أهمية لذلك الآن، غيره. - ذله المهين حيال التجار من أهل الحارة. - لا أنكر ذلك ولكنه من خلال علاقاته معهم أقنعهم بإنشاء المدرسة التي أنا مدرس بها!
بهت عبد الله. ومضت عيناه حنقا وهو يعثر بشرك، فقال الآخر برقة: لا تغرنك المظاهر، إن التكالب على الولائم عيب ولكن ثمة خبرا أكبر منه وأخطر.
فتساءل عبد الله بحذر: ومعاملته لخادمته؟ .. أنسيت ذلك؟
فضحك عنتر طويلا ثم قال: يا للرجل الضحية!
واستمر في ضحكه حتى قال: الحق يا صديقي أن البنت حاولت إغواءه! - هه! - أجل، تلك حقيقة لا يعلم بها أحد سواي، وأنا الذي اقترحت السرقة كعذر لطردها صونا لسمعتها!
بهت عبد الله مرة أخرى. عكست عيناه نظرة حذر وخوف. تمتم: فلنغلق باب ذلك الحديث. - أوجدت رغبة طارئة في الهرب؟ - الهرب! - لعلك تخشى اكتشاف ضحايا أبرياء لك! - أستاذ عنتر! - لا توصد باب السعادة في وجهك. - هيهات أن أنسى ما رأته عيناي. - تعني حكاية بئر السلم؟
فتنهد ولم ينبس. - لم لم تصدقها في وقتها؟ - لكثافة الغشاوة فوق عيني. - ثم استرجعتها بعين ذاكرة حانقة غاضبة كارهة! - لن أقيم قصورا على الرمال مرة أخرى. - راجع عقلك وحده. - كلا، الوغد الفاسق، طالما ضبطت عينيه وهما يفسقان بنساء حارتنا!
ضحك عنتر ضحكة عالية وقال: الضحية المسكين، ألا تعرف أنه لا يستطيع أن يرى إلى أبعد من ذراعين؟ - كلا، لم يشك ذلك قط. - إنه لا يحب الشكوى على الإطلاق.
فصاح عبد الله ملقيا بآخر تحدياته وأخطرها. - لقد رأيت يده في صدر زوجتي. - لم يحصل يا صديقي عبد الله. - حصل.
تنهد الرجل قائلا: لا بد مما ليس منه بد.
وسكت مليا، مكفهر الوجه لأول مرة، ثم قال: لا مفر من مصارحتك بحقيقة ما كان يجوز إعلانها.
تابعه الآخر صامتا ولكن باهتمام متزايد فقال عنتر: الرجل مصاب بعجز جنسي منذ أكثر من عام!
انكتمت أنفاس الانفعالات المحتدمة تحت طن من التراب فساد الذهول. وارتفع صوت عنتر قائلا: ذهبنا من طبيب إلى طبيب ولكن لم يعدنا أحدهم بشفاء عاجل!
لم يستطع عبد الله الخروج من صمته فقال عنتر: إن كنت في شك من قولي صحبتك إلى الطبيب بنفسي.
ثم وهو يرفع رأسه إلى أعلى: ليغفر لي الله ذنبي!
خلا كل منهما إلى نفسه. أغمض عبد الله عينيه. على رغمه انسابت دموع من تحت جفنيه. حانت من عنتر التفاتة إليه فرأى دموعه. تهلل وجهه وانبسط. تمتم بنبرة متأثرة: صديقي عبد الله، ليحفظك الله من كل سوء، ليجعل لك من عقلك مرشدا.
5
ضمت هنية وليدها إلى صدرها ترضعه. أما مروان الصغير فكان يحبو أسفل الكنبة. عبد الله .. انفرد بنفسه على كنبة أخرى يقرأ في كتاب. وسألته هنية: متى تستعد للذهاب إلى القهوة؟
فأجاب دون أن يرفع رأسه عن الكتاب: سأذهب إلى السينما مساء اليوم مع عنتر.
ومضى الوقت في هدوء شامل حتى دق جرس الباب. فتح الرجل الباب فدخل رجل طويل نحيل في بدلة رمادية.
رحب به عبد الله قائلا: أهلا بشيخ حارتنا.
حيا القادم الزوجة وجلس حيث أجلسه عبد الله إلى جانبه. - زارنا النبي يا سيد مراد عبد القوي. - انتظرتك في القهوة ولكنك لم تحضر كعادتك؟ - سأذهب إلى السينما مع الأستاذ عنتر.
ابتسم شيخ الحارة ابتسامة غامضة فقال عبد الله: هلا ذهبت معنا يا سيد مراد؟
فقال بهدوء: جئتك لغرض آخر.
فنظر الرجل نحو زوجته نظرة خاصة لتغادر الحجرة ولكن شيخ الحارة بادره: لا تزعجها، ولعله من المفيد أن تسمع حديثنا.
فتطلع إليه باهتمام حتى قال بهدوئه المألوف: سيدور الحديث حول صديقنا الإمام والمدرس!
دهش عبد الله. راقب وجه الرجل الحاد باهتمام. ولما طال السكوت قال: الحق أنه رغم صداقتكم فلا يخلو لقاء بينكم من مناوشات غير مريحة. - لا ضرر من ذلك. - ترى هل لانتصارك المتكرر عليهما في الشطرنج دخل في ذلك؟ - ليس ذاك بالتفسير المقنع. - بلى. - ولكنك تعرف لذلك أسبابا أخرى!
فلاح الارتباك في وجه عبد الله فقال شيخ الحارة: أعرف أنهما يشيعان عني أنني مرشد!
لم يخرج عبدا لله عن صمته فقال الرجل: ما عيب أن أكون مرشدا؟ ما المرشد إلا عين من عيون المصلحة العامة. - هذا حق. - ولا يخافه إلا المنحرفون. - هذا حق أيضا.
فابتسم شيخ الحارة وقال: ما علينا يا سيد عبد الله، ماذا تعرف عن الرجلين؟ - كل خير يا شيخ الحارة.
وقالت هنية: نحن مدينان لهما بسعادتنا.
وقال عبد الله: وباسميهما سمينا وليدينا.
فقال الرجل بهدوء كاد يكون برودا: إنما أسأل عن الرجلين لا عنكما.
فقال عبد الله بحماس: هما ألصق الناس بي، ومنهما أستمد العلم والهداية والمودة. - باسم الصداقة صارحني: ألك رغبة حقيقية في خدمة المصلحة العامة؟ - أعتقد ذلك. - أتفضلها عند المقارنة على العلاقة الشخصية؟
أجاب بعد تردد: أعتقد ذلك. - حسن، قلت إنهما ألصق الناس بك، كثيرا ما تجمعكم سهرات طويلة في بيت الإمام أو المدرس أو في بيتك هذا، ماذا ترى؟ .. ماذا تسمع؟ .. ماذا تلاحظ؟ - سهراتنا تمضي عادة في مناقشات يتخللها شرب الشاي والقرفة، وأنا شخصيا قليلا ما أشارك في الحديث إذ أنه يعلو علي كثيرا، ربما أطرح سؤالا من آن لآن، وهما رغم خلافاتهما الكثيرة ينتهيان عادة إلى نوع من الوفاق. - هل تستطيع أن تمدني بأمثلة مما يدور النقاش حوله؟
فأجاب عبد الله باهتمام منتشيا بإحساس بالأهمية: إنها موضوعات خطيرة حقا، مثل الحرية والخبز، الخير والشر، الخلود وهل يكون بالأرواح وحدها أو بالأرواح والأجساد معا، العفاريت وهل توجد بالحقيقة أو بالرمز.
فابتسم شيخ الحارة ابتسامة غامضة وقال: يا لها من مسائل خطيرة حقا! - جدا. - وهل برهنا على وجود للعفاريت حقيقي؟ - هذا ما يؤمن به الشيخ مروان أما الأستاذ عنتر فيتكلم عن ذلك بحذر شديد وإن قرر أن احتمال وجود كائنات غيرنا في العالم مقبول عقلا. - وكيف بررا وجود الشر في العالم؟ - ما زال عقلي طفلا ولكن عنتر يؤكد أن ما نعده شرا ليس بشر حقيقي إذا نظر إليه في موضعه من الصورة الكلية للكون.
فضحك شيخ الحارة ضحكة مقتضبة وقال: لا أظنه كذلك في نظر أي من المرشدين.
فقالت هنية: ولا في نظرنا يا سي مراد.
رحب شيخ الحارة برأيها بهزة من رأسه ثم تحول إلى عبد الله متسائلا: ألم يتطرق الحديث إلى موضوعات أهم؟ - أهم من الخير والشر والخلود؟
فقال وهو يداري ابتسامة: كالنساء مثلا أو المخدرات!
فهتف عبد الله: أعوذ بالله.
وقالت هنية: إنهما أفضل رجلين في حارتنا!
فسأله دون اكتراث لاعتراضاتهما: ألم تلاحظ في سلوكهما ما يدعو إلى التفكير؟ - كلا يا سيدي.
فرمقه بنظرة ذات معنى وقال: أذكر أنه كانت لك جولات مع الإمام مثيرة!
فقال عبد الله بيقين: لقد انقشعت غمومها بفضل القلب والعقل.
وقالت هنية باستياء: كيف هان عليك أن تذكرنا بذلك الماضي؟ - لا مؤاخذة، فإن عملي الدقيق عودني على ألا أتورع عن شيء في سبيل إتقانه.
ثم مركزا خطابه على عبد الله: رئي الأستاذ عنتر عبد العظيم في ليلة ممطرة وهو راجع إلى مسكنه حافي القدمين، واضعا في ذات الوقت حذاءه وجوربه تحت إبطه ملفوفين بجريدة، ألم يدعك ذلك إلى التفكير؟
فضحك عبد الله وقال ببراءة: أبدى عن ذلك منطقا غريبا ولكنه لا يخلو من سداد، قال: إن القدمين بغسلهما يعودان إلى أصلهما، أما الحذاء والجورب فلو تعرضا للمطر والطين لأصابهما حتما تلف كبير أو صغير! - أقتنعت بمنطقه؟ - اعتبرت الأمر كله فكاهة لطيفة. - ألم تر فيه تصرفا غير لائق برجل من رجال التربية؟ - الحق، إن احترامي له منعني من التفكير على ذلك النحو. - ألم يكن عرضة لأن يراه أحد من تلاميذه؟ - يا شيخ الحارة إن أكثريتهم لا تستعمل الأحذية خارج أسوار المدرسة! - ألا يعني سلوكه أنه يؤمن بأن الإنسان يجب أن يكون في خدمة الحذاء لا العكس؟ - اعتبرت الأمر فكاهة كما قلت.
فتفكر مليا ثم سأله بلهجة ابتداء جديدة: صرح الشيخ مروان مرة أنه يفضل أن يعيش في ظلام دامس على أن ينور مجلسه بمصباح وارد من بلاد أعداء الله، ما رأيك؟ - بيته يا سيد مراد مضاء بالكهرباء! - فما معنى التناقض بين قوله وفعله؟ - ما هي إلا طريقة للإعراب عن إيمانه وأصالته! - هل استشهد مرة بقول الشاعر:
هل الله عاف عن ذنوب تسلفت
أم الله إن لم يعف عنها يعيدها - أجل يا سيدي ولكن كان ذلك من خلال إبداء بعض الآراء في النحو. - إذن ليس لديك أية ملاحظات عن الرجلين؟ - بلى يا سيد مراد.
فقال الرجل وهو يهم بالقيام: آن لي أن أذهب.
فقال عبد الله بحرارة: بودي أن أدعوكم جميعا إلى جلسة مودة وتصفية في بيتي.
فقام شيخ الحارة وهو يقول: فات أوان ذلك! - بل ثمة فرصة طيبة.
فقال شيخ الحارة بهدوئه البارد: لقد ألقي القبض عليهما منذ ساعتين!
ندت عن هنية آهة فزع على حين صاح عبد الله منكرا: لا! - هي الحقيقة بلا زيادة ولا نقصان.
هتفت هنية متسائلة: كيف يقبض على أشرف رجلين في حارتنا؟ - علمي علمك يا أم مروان. - ولكنها كارثة عظمى! - بل أحداث عادية تقع كل يوم.
وأراد الرجل أن يمضي إلى الخارج ولكن عبد الله اعترض سبيله متسائلا في هستيريا: لم قبض عليهما؟
فأجاب بوضوح وقوة: لا جواب عندي على ذلك.
وحياهما وانصرف. خلف وراءه زوبعة اجتاحت العقل والقلب. جعل الزوجان يتبادلان النظر في صمت رهيب. قام بينهما حاجز مشحون بالنذر. وتمتمت هنية: أمر لا يصدقه العقل. - أجل. - كارثة حقيقية. - أجل. - انظر كيف تهدد كرامة الأبرياء! - نعم .. نعم. - عقلي سيطير في الهواء. - عقلي طار فعلا. - ما معنى ذلك يا عبد الله؟ - ما معنى ذلك! - وشيخ الحارة لا يريد أن يتكلم. - مسئولية خطيرة! - ولكنه يعرف كل شيء. - ربما. - ولعله المسئول عن كل شيء. - جائز. - أليس هو بصديقك؟ - ليس من السهل مناقشة عمله.
وحدجته بنظرة قلقة وقالت: الحادث قلقلك! - طبيعي. - لقد انفعلت به أكثر مما يجوز. - بل دون ما يجب. - قلبي .. قلبي غير مرتاح. - ولا قلبي!
وتبادلا نظرة ثقيلة معتمة كالحة.
6
ترامت من الحارة أصوات متلاطمة آخذة في نقاش محتدم. ترامت من وراء النافذة المغلقة فقال عبد الله: أهل حارتنا يتبادلون الرأي في القهوة.
ومضى إلى النافذة ففتحها على مصراعيها فتدفقت الأصوات في قوة ووضوح. ذهبت هنية بالطفلين إلى حجرة داخلية ثم عادت بمفردها فجلست قبالة زوجها على الكنبة وراحا يرهفان السمع باهتمام شديد. ••• - شيخ الحارة، إنه شيخ الحارة! - هو الذي دبر الإيقاع بهما. - ولكن لم؟ - الأسباب مجهولة. - لعلها أسباب شخصية. - ويتردد ذكر أسباب غريبة. - أي أسباب غريبة؟ - أسباب لها علاقة بالسلوك! - السلوك! معاذ الله. - الإشاعات تتطاير. - اضرب لنا مثلا. - كلام قيل عن المخدرات! - المخدرات! .. من ذا يتصور ذلك؟! - بل حتى الاتجار بالمخدرات جرى به الهمس. - يا ألطاف الله! - وكلام آخر عن النساء! - ليقطع الله ألسنتهم. - الرجلان بريئان، وما هي إلا مكيدة قذرة! - أجل، مكيدة يقف وراءها شيخ الحارة. - ولكن شيخ الحارة رجل مستقيم ما عرفنا عنه من سوء. - كالخط المستقيم، كالماء النقي. - ووسائل عمله وإن تكن مجهولة إلا أنها مؤكدة لا تخطئ. - هذه مغالاة لا مبرر لها، لا يخلو الرجل من ضعف إنساني، ولا شك عندي في أنه أوقع بهما لأسباب شخصية! - اتهاماته لا دليل عليها! - كل واحد يعرف أنه لم يكن يستلطفهما. - إنه لا يستلطف آخرين فلم لم يوقع بهم؟! - لكل إنسان مزاياه ونقائصه، هذا قانون ينطبق على الإمام والمدرس وشيخ الحارة، فشيخ الحارة ليس بالإنسان الكامل ولكن الأمر لم يكن يقتضي القبض على الرجلين المحترمين. - أنا أصر على براءة الرجلين وكمالهما! - وأنا أصر على امتياز شيخ الحارة. - انتظروا، ستعرف الحقيقة عاجلا أو آجلا. - لن يغير شيء من رأينا في الرجلين. - ولن يغير شيء من رأينا في الرجل. - يا لها من بلبلة، لن نتفق على رأي. - ولكن الحق واضح. - الحق واضح. - الحق واضح. - لا اتفاق على رأي . - والتعصب رذيلة غير مجدية. - ولكنه مبرر في حال الرجلين فهما مرجع كل كلمة طيبة أو سلوك حميد في حارتنا. - وهو مبرر كذلك في حال الرجل الساهر على أمن حارتنا وسعادتها. - ولكننا حيال موقف يحتم علينا التفرقة بين الصواب والخطأ. - لا يمكن أن يخطئ الرجلان. - ولا يمكن أن يخطئ الرجل. - يا لها من بلبلة، لن نتفق على رأي. •••
ضاق صدر عبد الله بما ترامى إلى سمعه فقام إلى النافذة فأغلقها بعصبية. عادا يتبادلان النظرة المعتمة الثقيلة. وتمتمت المرأة: إنها لبلبلة حقا لا تستخلص منها شيئا. - فقال بقلق: ولكنها تعصف بالقلب عصفا. - لكل رأيه ولكن أحدا لا يستسلم للعاصفة!
فقال وكأنما يناجي نفسه: لا يمكن أن يلقى القبض عليهما لغير ما سبب! - سمعنا كل ما يمكن أن يقال. - الأمر يختلف فيما يتعلق بي!
وساد صمت لم تجرؤ على خرقه حتى عاد يقول: فأنا لم أستقر على الطمأنينة إلا استنادا إلى الثقة الكاملة بهما! - لعله من المغالاة أن نطالب بالثقة الكاملة. - لولا ثقتي الكاملة بالأستاذ عنتر لما عاودت الثقة بالشيخ مروان! - ما أكثر الذين يؤمنون ببراءتهما! - وما أكثر الذين لا يؤمنون! - من الحكمة أن تبقى على ثقتك بهما ما دمت لا تجد الدليل القاطع على إدانتهما. - ولكنها حكمة قد تقضي علي.
فتساءلت بحزن وأسى: ماذا تعني؟
لم ينبس ولكنه طالعها بوجه مكفهر. وإذا بها تهتف بحدة: أصبحت خبيرة برصد وساوسك! - وساوسي؟! - وساوس التردد وضعف الثقة بالنفس!
فصاح بغضب: علي أن أكون مغفلا لتشهدي لي بالقوة والثبات؟!
فقالت بوجه متقلص بالعذاب: ها نحن نعود رويدا إلى الجحيم! - المهم أن يقوم صرح حياتي على حقيقة واضحة. - لعل الأهم من ذلك أن تنادي الحكمة في المحن وأن تتذكر دائما أنك أب!
فقال بسخرية مريرة: أجل، إني أبو مروان وعنتر. - وهي حقيقة أهم مما عداها.
فقال بارتياب: بل توجد حقيقة أخرى أكبر، وليست هي بالثانوية، وأنا أريدها كما هي في الواقع ولو دهمتني في هالة من النيران المتقدة. - أخشى أن يقتصر حظنا من السعي في النهاية على الاحتراق بالنيران المتقدة!
فرماها بنظرة متفحصة نافذة وقال بحنق: أنت وحدك تعرفين الحقيقة الكاملة!
فقالت بإصرار: حسبي أن أعرف أنني زوجة أمينة كما ينبغي للزوجة أن تكون.
فتمتم كأنما يناجي نفسه: زوجة أمينة كما ينبغي للزوجة أن تكون.
فقالت بتحد: أجل، هذا ما عنيته. - أترثين لي في صميم قلبك أم تسخرين مني؟
فقالت بحدة: علم الله أني أرثي لك! - إذن فأنت زوجة وفية. - لشد ما يؤلمني تساؤلك! - لا مفر من التساؤل حتى الموت.
فهتفت بغضب: اطرح أفكارك المريضة أو فلتذهب إلى الجحيم. - ها أنا أتقدم من الجحيم بخطوات ثابتة. - فكر مرتين، فكر مرات، فكر من أجل الطفلين. - ما أحوجني إلى ضوء شمعة في هذه الظلمات المتلاطمة! - حذار من الخطأ. - ما أحوجني إلى ضوء شمعة! - حذار من رمي الأبرياء بالتهم الباطلة. - ضوء شمعة لا أكثر. - إذا غادرت بيتك للمرة الثالثة فتكون الثالثة والأخيرة. - أتلجئين إلى التهديد لتمنعيني من التفكير؟ - إني أحذرك وأنبهك. - هل رميتك بتهمة تكرهينها؟ - دعني أسألك، ألا زلت تؤمن ببراءتي؟
فتنهد قائلا: في محنتي الراهنة لا أجد قدرة على الإيمان بشيء. - أرأيت؟! إني ذاهبة وعليك أن تحسم أمرك للمرة الأخيرة وإلى الأبد.
واندفعت خارجة من الحجرة وهي تردد: للمرة الأخيرة وإلى الأبد.
7
جلسا جنبا إلى جنب، عبد الله وشيخ الحارة. فرغا من احتساء الشاي وشيخ الحارة يقول: خمنت من بادئ الأمر لم دعوتني يا صديقي.
فقال عبد الله بحرارة: بالنسبة إلي فهي مسألة حياة أو موت.
فقال شيخ الحارة بامتعاض: تجنب من فضلك المبالغات العاطفية. - يهمني جدا أن أعرف الأسباب التي أدت إلى القبض على الشيخ مروان عبد النبي والأستاذ عنتر عبد العظيم.
فلوح شيخ الحارة بيده متضايقا وقال: عيب أهل حارتنا أنهم يخلطون بين العلاقات الشخصية والأمور العامة! - ليس الفضول على الإطلاق ما يدفعني إلى سؤالي! - ليس الفضول وحده ولكن علاقتك الوطيدة بالرجلين. - ولا ذاك أيضا، ولكن لأن على الجواب تتوقف حياتي، حياة أسرتي، سعادتي في هذه الحياة. - لعلك تعني المضاعفات التي أصابت حياتك الزوجية فيما مضى؟ - نعم . - إنه موقف يشاركك فيه كثيرون من أهل حارتنا!
فتساءل عبد الله بذهول: حقا؟ - هو الحق على وجه اليقين. - أتعني ...؟! - أعني أن الرجلين بحكم عملهما، اتصلا بأسر كثيرة، ونزلا منها نفس المنزلة التي نزلاها من أسرتك.
فقال عبد الله باهتمام: حدثني عما وقع لتلك الأسر؟
فقال بعدم اكتراث: منهم من خاب ظنه فيهما فطلق، ومنهم من أصر على الثقة بهما فمضت حياتهم كما كانت تمضي من قبل دون أدنى تأثر.
وحدجه بنظرة نافذة ثم واصل حديثه: ومنهم من لم يستقر على رأي فتردى في هاوية العذاب. - يا له من مصير غير محتمل! - أجل. - ولكن بوسعك أنت وحدك أن تحسم الأمر. - لا شأن لي بذلك. - بل هو واجبك نحو أهل حارتك. - يا صديقي إن مهمتي تتعلق بأمن الحارة وسلامتها ولا شأن لي بحياة الأفراد. - ولكن الحارة ليست إلا أهلها. - الحارة شيء وأهلها شيء آخر. - لا أفهم ذلك. - ولكني أفهمه بكل وضوح وبساطة، وتحت شعاره أعمل.
ثم قال بصوت مرتفع الدرجة: الحارة كل لا يتجزأ وليس من العسير أن أعرف ما ينفعها وما يضرها، أما أهلها فأفراد لا حصر لهم، وتتعدد مشكلاتهم بتعدد أهوائهم. - معذرة، يتعذر علي أن أسلم بذلك. - دعني أضرب لك مثلا، ثمة زوج يكره زوجته، وآخر يحبها حتى العبادة، وثالث لا هو يحبها ولا هو يكرهها، فهل تتصور لهم موقفا واحدا من حادثة القبض على الإمام والمدرس؟! - ولكن كلا منهم يود أن يتخذ موقفا على ضوء الحقيقة. - لعلك تفترض فيهم شجاعة قل أن تتوافر، وفي النهاية تتحكم الأهواء وحدها.
ثم التفت نحوه باسما متسائلا: أتحب زوجتك؟
فلاذ عبد الله بالصمت فقال شيخ الحارة: لطيف أن تحب زوجتك هذا الحب كله! - أعترف بأنه لعنة تطاردني. - فماذا تهمك الحقيقة؟ - هي كل شيء. - خيل إلي أنها لا شيء في مثل حالاتك. - أي قيمة لحب يقوم على كذبة؟!
وتنهد عبد الله ثم استطرد: إني أتساءل دون توقف، هل أطلق؟ هل أغمض عيني؟ هل أسلم للعبث والمجون؟ هل أنتحر؟ - يا له من عذاب! - أنت المسئول عنه.
فابتسم شيخ الحارة ساخرا وقال: أنت وحدك المسئول! - ما أسباب القبض عليهما؟ .. باسم الرحمة والصداقة أجبني.
فقال شيخ الحارة بهدوء: كثيرون يتصورون مسئوليتي في ذلك على غير حقيقتها. - ولكنك قبضت عليهما. - لم أقبض في حياتي على أحد. - الكل يجمع.
فقاطعه بهدوء: دعنا مما يجمعون عليه، إن مهمتي تنحصر في جمع المعلومات. - إذن حدثني عن معلوماتك. - المعلومات - كالوسائل التي أحصل بها عليها - سر من أسرار عملي. - أليس من المحتمل أن تكون خادعة؟ - إني أعرف عملي جيدا.
ثم بشيء من الكبرياء: ولا أثر فيه للهوى أو للأغراض الشخصية.
فقال بنبرة اعتذار: لم أقصد شيئا يسيء إليك ولكن حدثني عن انطباعك فهل تؤمن بأنهما مذنبان؟ - الحكم بذلك يخرج عن حدود عملي. - كيف ذلك؟ - إني أقدم معلومات، أما الحكم عليها فمن اختصاص غيري! - ولكن لا شك أن لك انطباعك عن المعلومات التي تتجمع لديك؟
لا أستطيع الجزم بشيء، إني أعرف على سبيل المثال - أن «أ» قابل «ب» في الساعة «د» في المكان «ه»، الواقعة مؤكدة ولكن ماذا تعني عند أهل الاختصاص؟ .. قد يعقب ذلك القبض على «أ»، أو على «ب»، أو على «أ» و«ب» معا، وقد لا يقع شيء البتة. - فإذا تم القبض فهذا يعني الإدانة. - كلا. - ولكن كيف؟ - قد يفرج عن المقبوض عليه بعد وقت ما، وقد يتضح أن القبض على «أ» و«ب» كان بغرض الإيقاع بثالث مجهول هو «و»! - أي حيرة! - هو الطريق إلى الحقيقة! - ربما كان أفضل ما يتبع هو الانتظار. - رأي يبدو وجيها، ولكن الانتظار قد يمتد عاما أو عشرة أعوام، فهل تطيق أن تترك زوجتك في بيت أبيها هذه المدة دون حسم؟! - إذن كيف يمكن معرفة الحقيقة؟ - لا أدري ماذا أقول، ولكن لا يكفي الاعتماد على الغير، لا بد من استغلال مواهبك الذاتية وخبرتك الماضية.
تنهد عبد الله من الأعماق وقال: الحق أني كنت أجد عند الرجلين إجابات جاهزة وحاسمة ومريحة كلما احتجت إليها. - ولكن لا تنس أنك طلقت في رحابهما مرتين! - ربما كنت متسرعا. - وربما كنت على حق!
صمت مليا مكفهر الوجه، ثم سأله: بم تنصحني فيما يتعلق بزوجتي؟ - أرجوك، لا شأن لي بالشئون الخاصة. - ولكنها كل شيء! - بالنسبة لك لا للحارة التي أنا شيخها! - إني أسألك كصديق. - أعترف بأن صفتي العامة قد غلبت على كل شيء، ولو أنني نصحتك نصيحة ثم ثبت بعد ذلك فشلها لحاسبتني على ذلك بصفتي شيخ الحارة لا الصديق فحسب.
تنهد عبد الله مرة أخرى ثم قال: إذن قد تثبت براءة الرجلين وقد تثبت إدانتهما! - أجل. - ليس ثمة يقين؟ - بلى. - مجرد احتمال! - نطقت بالصواب. - وما النسبة المئوية لكلا الاحتمالين؟ - لنقل 50٪! - 50٪. - أيهمك أمر الرجلين لهذا الحد؟ - يهمني أمر زوجتي قبل كل شيء.
فابتسم شيخ الحارة وقال: كم تحب زوجتك! ولكن لا غرابة فأنا أحب زوجتي أيضا.
فرمقه بنظرة غريبة وسأله: ألم تصادفك متاعب في حياتك الزوجية؟
فضحك شيخ الحارة لأول مرة وقال: لا يخلو بيت من ذلك، وقد وقفت مرة على عتبة الطلاق ولكن الله سلم. - أكان لذلك أسباب مختلفة؟ - ثمة تشابه لدرجة ما.
فسأله بلهفة: وكيف استرددت ثقتك بها؟
تفكر الرجل قليلا ثم قال: الحق أن زوجتي تعاونني فنحن لا نكاد نفترق، ولا يجد الشك ثغرة بيننا يمكن أن يتسلل منها.
نظر الرجل في ساعته. قام. قام عبد الله أيضا. ومضى شيخ الحارة نحو الباب ولكنه توقف في وسط الحجرة، ثم سأله: بحكم الفضول هلا أخبرتني بما أنت فاعل؟
فتفكر عبد الله وقتا ثم قال: لئن تكن زوجتي مذنبة بنسبة 50٪ فهي بريئة في الوقت نفسه بنسبة50٪! - وإذن! - ولأني أحبها أكثر من الدنيا نفسها، ولأنه لا بديل عنها إلا الجنون أو الانتحار، فإنني سأسلم باحتمال البراءة.
فابتسم شيخ الحارة ومضى إلى الباب. وتصافحا. ثم سأله وهو يهم بالذهاب: وهل أنت سعيد؟
فابتسم عبد الله ابتسامة لا تخلو من حزن وقال: بنسبة لا تقل عن50٪!
روبابيكيا
1
كالعادة كل صباح كان أول طارئ على الطريق. مع أول شعاع للشمس تنفرج عنه السحب. أورقت الأشجار فترامت خضرتها على المدى فوق كورنيش النيل. مشى على مهل مفعما بأنفاس الربيع وعيناه تنظران إلى بعيد. تنظران في لهفة. وكالعادة أيضا، وقريبا من منتصف الطريق لاحت لعينيه قادمة. تلاقيا تحت شجرة الأكاسيا فتصافحا باسمين. تساءل: نجلس فوق السور؟ - لا بأس.
وجلسا ظهراهما للنيل ووجهاهما للطريق الخالي. - صباح سعيد أن أصبح على وجهك. - شكرا. - ورغم أننا لم نتعارف إلا أمس فإنني أشعر بأنني أعرفك منذ زمن بعيد. - طالما جمعنا الطريق كل صباح. - كل صباح سعيد. - مشوار ضروري لي لتجنب الترهل. - ألفتك، كالنسمة الرقيقة والسحابة البيضاء، ونفذت إلى أعماقي بقوة مدعمة بالزمن. - لعلك تساءلت كثيرا عن سر مسيرتي الصباحية؟ - كثيرا جدا، خاصة وأن مظهرك لا يوحي بأنك موظفة، قلت لعلها تتمشى في منطقتها السكنية لأسباب جمالية. - ولكن ماذا عن خواطرك الأخرى؟ - الأخرى؟ - أي نوع من النساء ظننتني؟ - سيدة جميلة بقدر ما هي قوية، نظرتها جريئة ورزينة ومليئة بالثقة، وتسلل بصري ... - وتسلل بصرك؟ - إلى أصابعك فلم أر خاتما! - ولست في الوقت نفسه بنتا من البنات، أليس كذلك؟ ماذا قلت؟ - قلت لعلها أرملة أو ... - مطلقة، وفيم فكرت؟ - لم يخطر ببالي عبث ... - توكد لدي ذلك عند تعارفنا أمس.
فتفكر قليلا ثم قال: ولكن علي أن أصارحك بأني أحبك. - تعني أنك معجب بي؟ - أكثر من ذلك، أنا أحبك بكل معنى الكلمة. - ولكنك لم تعرفني بعد. - ثمة حب يجيء بعد المعرفة، وحب يسبق كل شيء. - الآخر كثير الأعباء. - الحق أني أحب المغامرة.
فضحكت ضحكة رقيقة وقالت: أتحب الصراحة؟ .. تخيلت حديثنا هذا من قبل!
فقال بفرحة: هذا يعني أني خطرت ببالك. - ألا يشهد هذا الطريق على قديم زمالتنا؟ - وشهد أيضا مصيري وهو يتقرر حتى من قبل أن أدري. - ولكن ألم تنقض مدة طويلة قبل أن ينطق الحب الذي تزعم أنه سبق كل شيء؟ - كان اللقاء يمر في سرعة الضوء. - جواب غير مقنع تماما. - وأول الأمر كنت في غفلة، واعتقدت فترة أخرى أنك سيدة متزوجة! - وربما كنت مرتبطا بعلاقة ما؟ - ربما. - أي نوع من العلاقة من فضلك؟ - عابرة. - عظيم!
ولاذا بصمت قصير حتى خرقه الرجل قائلا بنبرة جديدة بعض الشيء: يحسن بي أن أقدم ما خفي من شخصي؛ مهنتي صائغ، في الثلاثين من عمري، مركزي المالي على ما يرام. - وأنا مطلقة، قدر عمري كما تشاء، ويحسن بي أن أصارحك بأني جربت الزواج أكثر من مرة! - ما أجمل الصدق! - ألم يخفك ذلك؟ - كلا! - من حقك أن تقلق ولكن صدقني أني كنت وما زلت بريئة! - وأنا أحبك. - إذن فأنا سعيدة أكثر مما أستحق. - أأفهم من ذلك أنك ...؟ - إني أشاركك عواطفك! - ما أسعدني من عاشق!
وحدجته بنظرة ثاقبة وهي تسأله: ألم تتحر عني؟ - كلا. - أما أنا ففعلت.
فضحك طويلا ثم تساءل: وهل نجحت في الامتحان؟ - أعتقد ذلك. - بأي مقياس تحكمين؟ - العجز هو ما أكرهه في الرجل. - العجز؟! - أحبه قويا قادرا، رذائل القوة أحب عندي من فضائل الضعف. - إنك واضحة وقوية. - ماذا تكره أنت في المرأة؟
فتفكر قليلا ثم قال: القبح والانحلال. - الانحلال؟ - أظنه لا يحتاج إلى تفسير. - أأنت ممن يهتمون بالماضي؟ - كلا. - ماذا تقصد بالانحلال؟ - الاستهتار، مثل إنشاء أكثر من علاقة في وقت واحد، أو التسليم بلا حب! - ولكن ذلك مرض؟ - ربما. - لا توجد امرأة خائنة أبدا. - هذا صحيح بصفة عامة. - يخيل إلي أننا متفاهمان؟ - وعلينا أن نعد أنفسنا للزواج بأسرع ما يمكن.
2
مضت في الطريق ووقف يتبعها ناظريه. بقلب كله هيام. ثم انتبه إلى حركة ما. التفت نحو السور. وهو يقترب منه ظهر رأس رجل. لعله كان جالسا أو نائما. ها هو يقف الآن أمامه في الناحية الأخرى من السور التي تلي شاطئ النيل. ترى هل سمع حديثه مع المرأة؟ وطالعه الغريب بوجه شاحب، بارز العظام، غائر العينين، وذقن غير حليق. سوى جلبابه المتسخ فوق جسده الهزيل ثم عبر السور فصار على كثب منه. لص؟ متشرد؟ ليكن ما يكون. هم بالذهاب ولكن استوقفه صوته وهو يقول: الحب! .. ما أجمل الحب!
رمقه باشمئزاز وهم بالسير مرة أخرى، ولكن الرجل خاطبه قائلا: لدينا حديث مشترك فيما أعتقد.
فسأله بتقزز: أتخاطبني؟ - لم يعد يوجد سوانا في الطريق. - ولكني لا أعرفك؟ - ولا أنا أعرفك! - إذن لا تخاطبني. - ولكن لدينا حديث مشترك. - من أنت؟ - تاجر روبابيكيا. - وأي حديث تعني؟
فأشار بيد معروقة شبه سوداء من القذارة نحو الناحية التي سارت فيها المرأة وقال: بخصوص السيدة. - وما شأنك بها؟ - كنت آخر زوج لها! - هه؟! - تكلمت بوضوح فلا داعي للتكرار.
فتفحصه بذهول وتمتم: أنت مجنون بلا شك.
فضحك قائلا: لم ينعم الله علي بالجنون بعد. - لعلك تهذي! - لعلك تتساءل كيف آل أمري إلى ما ترى!
فلم يجب الرجل فقال تاجر الروبابيكيا: كنت تاجر غلال ناجحا.
ثم بنبرة ساخرة: ثم أفلست!
وضحك قائلا: ولكني ما زلت تاجرا على أي حال، وهاك عربتي.
وأشار إلى عربة يد منزوية وراء جزع شجرة فوق الطوار. هز الرجل منكبيه استهانة، أو تظاهرا بالاستهانة وهم للمرة الثالثة بالسير، ولكن التاجر سأله: والحديث المشترك؟
فسأله بحدة: أي حديث مشترك؟ - حديثنا عنها، أي حديث عنها فهو هام بالنسبة إلي، الحق أني ما زلت أحبها. - ما زلت تحبها؟ - بكل جوارحي. - ولم طلقتها؟ - نتيجة حتمية للإفلاس. - ولكن الزوجة المخلصة ...
فقاطعه: لا يمكن أن تكون زوجة لتاجر روبابيكيا. - ألم تكن .. ألم تكن تحبك؟ - أجل فيما أعتقد. - كيف تغير قلبها فجأة؟ - لا لوم عليها في ذلك. - لعل إفلاسك جاء نتيجة لأخطاء لا تغتفر؟ - اعتقدت أنا أن إفلاسي وقع بسببها واعتقدت هي أنه جاء نتيجة لعجزي. - عجزك؟ - وهي تكره العجز كما قالت لك من دقائق! - زدني إيضاحا. - لا أهمية لذلك. - ولكنه مهم في رأيي. - إنك تحبها ومن حقك أن تجرب حظك. - ولكنك أثرت موضوعا وتركته مفتوحا. - لا تقلق فهي امرأة ممتازة بكل معنى الكلمة. - لا تحاول خداعي. - لا سمح الله. - إنك تعني اتهامها. - أؤكد لك أنها على خلق عظيم. - لعلها لم تكن تحبك؟ - ها أنت تتهمها بأنها تزوجت من رجل من غير أن تحبه. - أعني أنها لم تحبك الحب الكافي. - جعلتني أؤمن بخلاف ذلك. - المرأة المحبة الفاضلة لا تتخلى عن زوجها. - أنا الذي تخليت عنها! - بسبب إفلاسك؟ - أليس ذلك كافيا؟ - ألم تختبر استعدادها للوفاء؟ - كلا، لدى تسليمي بعجزي عن إسعادها هربت بالطلاق. - بذلك يصبح الأمر واضحا. - لا شيء واضح في هذه الدنيا المعقدة. - ولكن ما قلته واضح جدا. - جرب حظك، جرب أن تبلغ الوضوح بنفسك. - يخيل إلي أنك تداور وتحاور لتلقي بذور الشك في نفسي. - أنت تقول ذلك.
فهتف بغضب: إذا كان لديك ما يستحق القول فقله وإلا فاذهب بغير سلام. - المتاجرة بالأشياء القديمة علمتني السماح. - الحديث المشترك؟ - لا شيء بعد. - أتهزأ مني يا صعلوك؟ - أبدا، ولكني أحب الحب كما أحب المحبين. - كنت تتجسس علينا؟ - أبدا، ولكني أنام على شاطئ النيل في الربيع. - كذاب. - الربيع الذي يجدد حياة الشجر ويعجز عن تجديد حياة البشر! - لا ألوم إلا نفسي على الاستماع إليك. - لن تندم على ذلك أبدا. - عد إلى القبر الذي خرجت منه. - سمعا وطاعة، أما مجلسي المختار فهو قهوة سوق الكانتو، وشهرتي هناك «الملعون». - عليك اللعنة! - إلى اللقاء.
3
أمام المرآة وقفت ترنو بإعجاب إلى العقد المطوق لجيدها. ترنو بصفة خاصة إلى اللؤلؤة المدلاة من واسطته. ونظرت من خلال المرآة أيضا إلى صورة الرجل المتربع فوق الديوان وراءها يتسلى بمشاهدة النيل من النافذة. وقالت وهي تتجه نحو الديوان: في أصابعك معجزة.
نزع بصره من النيل كمن يصحو من غفوة وتساءل: ماذا قلت يا عزيزتي؟ - من يبدع هذه اللؤلؤة فهو معجزة! - المعجزة حقا من تصنع اللؤلؤة من أجله.
فجلست إلى جانبه فوق الديوان وهي تقول: جميل أن أسمع منك غزلا رقيقا حتى اليوم. - حقا؟ .. ما وجه العجب في ذلك؟ - المألوف أن الغزل يوارى كلما أوغل المرء في الزواج. - ولكنك نبع للحب لا ينضب أبدا.
فمسحت على شعر رأسه بنعومة وقالت: حقا؟! - أيداخلك شك في ذلك؟ - كلا ولكنك لم تعد كما كنت.
فتردد قليلا ثم قال: لا علاقة لذلك بحبنا. - لا تخف عني شيئا فإني أشعر بكل شيء. - أردت دائما ألا أجرك إلى متاعبي. - ستجدني دائما في صميم متاعبك، لا تخف عني شيئا.
فتنهد قائلا: الحق أني محاصر بالقلق. - أرأيت؟! - أقاومه بكل ما أوتيت من قوة الانحدار إلى الهاوية! - وأخفيت عني كل شيء. - لم أكف دقيقة واحدة عن الكفاح. - والجميع يضربون المثل بسعادتنا. - الحق أني أندفع نحو الخراب. - الخراب؟! - اختل ميزان العمل في يدي ولا سبيل إلى ضبطه.
فقالت بحزن حقيقي: أي لعنة، أي لعنة، أي صحوة مباغتة من سعادة وهمية! - بل كانت وما زالت سعادة حقيقية. - أي لعنة تطاردني! لم أضن بعطاء، هيأت لك عشا ذهبيا، ما رأيك في عشنا؟ - جنة. - وأصدقائنا؟ - جذابون كالسحر. - ورحلاتنا وليالينا؟ - جمال في جمال. - أينقصنا شيء؟ - أبدا ولكني أنفق المال بجنون! - إنك صائغ عبقري ولا حدود لقدرتك. - لو كان مال قارون لنفد. - لا تقل ذلك يا حبيبي. - ولكنها الحقيقة. - وأي طعم للحياة بغير مباهجها الحقيقية؟ - أنا مهدد بالخراب العاجل. - لا تخيب أملي فيك. - ولكنها الحقيقة. - لا تعلن عجزك.
فقال بجزع: كل شيء له حد لا يجوز أن يتجاوزه. - إنما تهمني النتائج، أنا أحب الحياة الحلوة بقدر ما أحبك. - أنت جميلة، أنت فاتنة، أنت عطر الحب وروحه، ولكنك تتعلقين بمسرات يمكن الاستغناء عنها. - لا تقل ذلك أبدا. - الحب أغلى من أي شيء سواه. - ولكن أزهاره لا تنور إلا في خمائل المسرات. - ظننته غنيا بنفسه عما عداه. - لعل حبك فتر. - يا له من حكم جائر! - عندما يفتر الحب ينشط التفكير والتدبير. - أبدا، ليس الأمر كذلك. - عندما يفتر الحب يبدأ الندم على السرور البريء. - أنت تعلمين أن حبي لك لا يفتر أبدا. - بل وليتني ظهرك أمس واستغرقت في النوم! - بسبب انشغال البال لا فتور الحب.
فهزت رأسها في ارتياب فقال: ما أنا إلا إنسان ذو طاقة محدودة. - لم تكن كذلك في أيامنا الحلوة. - أنت سيدة ناضجة وتدركين من حقائق الأمور ما يقصر عن إدراكه غيرك.
فقالت بحدة: لم أحب هذا القول. - ما قصدت سوءا قط. - ولكني كرهته. - إني أعتذر، وإني أحبك، وأقر بأنني إنسان ذو طاقة محدودة! - إنك ترعبني. - حتى الحب تلزمه استراحات قصيرة. - إنك تحملني ذنوب الآخرين. - لا يعنيني الماضي قط. - إني امرأة بريئة، لا عيب فيها إلا أنها تحب الحياة حبا لا يعرف الحدود. - ولكنه حب لا يتأتى لرجل إشباعه. - الحق ما أنا إلا ضحية لعجز الرجال. - يا حبيبتي علينا أن نحرص على حياتنا المشتركة.
فقالت بكبرياء: لم أستطع ذلك في الماضي ولا أستطيعه الآن. - أليس ذلك أيضا نوعا من العجز؟ - كلا، لا تسم الأشياء بأضدادها. - أنت اليوم في عز نضجك.
فهتفت غاضبة: لست عجوزا بعد. - معاذ الله أن يخطر لي ذلك المعنى. - ولكنه خطر، ورميتني بما هو فيك.
فتنهد يائسا وقال: لا فائدة، أفلست في كل شيء.
ها هي اللعنة تطاردني من جديد. - ليبعد الله عنا اللعنات! - ها هي تطاردني من جديد!
ونهضت غاضبة فغادرت الحجرة.
4
تذكر فجأة تاجر الروبابيكيا. حاجة ملحة دفعته إلى البحث عنه لمناقشته. ولم يجد صعوبة تذكر في العثور على القهوة القابعة تحت البواكي بسوق الكانتو. وقف يجيل البصر في الجالسين ولكنه لم يظفر بطلبته على حين تطلعت إلى منظره الأبصار في دهشة. ورأى وراء النصبة رجلا يقوم بكل شيء فقدر أنه صاحب القهوة فاقترب منه، حياه، وسأله: أين تاجر الروبابيكيا الشهير بالملعون؟
فحدجه الرجل بنظرة أشعلها انتباه طارئ وقال: لا أدري. - ألا يجلس عادة في هذه القهوة؟ - ولكني لم أره من مدة. - وأين يمكن أن أجده من فضلك؟ - لا أدري. - هل يوجد أمل في رؤيته إذا انتظرت بعض الوقت؟ - من يدريني؟!
وقف الرجل في وسط القهوة مترددا. وإذا برجل يدنو منه حتى يقف أمامه ثم يسأله: أتريد مقابلة الملعون؟ - أتعرف مكانه؟ - اتبعني.
قال ذلك ومضى إلى الخارج. تبعه بأمل جديد في مقابلة الرجل. كان المغيب يضفي على الدنيا ظلاله، ولفحات هواء رطيب تتردد بأنفاس الخريف. سار وراء الرجل في زقاق ضيق. - أنحن ذاهبان إلى بيته؟
فلم يجب الرجل وواصل السير. ولدى أول منعطف يصادفهما هوت ضربة على رأسه فشهق ثم سقط مغمى عليه. ولما أفاق وجد نفسه ملقى فوق مقعد خشن كأنه أريكة في ظلام دامس لا يرى فيه شيء. جلس في حذر وهو يتساءل: أين أنا؟!
وأجال يده في الظلام وهم بالوقوف وإذا بصوت غليظ يقول بنبرة آمرة ومهددة معا : لا تتحرك .
فصدع بالأمر وهو يرتعد وسأل برجاء: ما معنى هذا من فضلك؟ - لا تسأل ولكن عليك أن تجيب. - سل عما شئت ولكني لم أسئ إلى أحد. - اخرس.
فخرس وقلبه يدق فعاد الصوت يسأل: ما مهنتك؟ - صائغ. - وعمرك بالسنة الهجرية؟ - لا أعرف. - أنصحك بأن تتجنب الكذب. - ممكن معرفته إذا أعطيت ورقة وقلما ونورا! - أيختلف عمرك الهجري عن عمرك الميلادي؟ - طبعا. - هل أفهم من ذلك أنك مصاب بانقسام الشخصية؟ - أنا سليم والحمد لله. - إذن لم ذهبت إلى قهوة سوق الكانتو؟ - لمقابلة تاجر الروبابيكيا الشهير بالملعون. - ما علاقتك به؟ - لا علاقة لي به. - تجنب الكذب حرصا على سلامتك. - أنا لا أكذب وليس ثمة ما يدعوني إلى الكذب. - ما علاقتك به؟ - تقابلنا مرة في الطريق. - أكرر تحذيرك من الكذب. - بالحق نطقت. - أي طريق؟ - طريق النيل. - متى؟ - منذ عام وبضعة أشهر. - لأي مناسبة؟ - صادفني في الطريق فتبادلنا حديثا عابرا.
انهالت عليه السياط في الظلام كالنيران. اجتاحه ألم حاد فصرخ من الأعماق. توقف الضرب ولكن صراخه لم يتوقف. ترك يصرخ ويتوجع بلا مصادرة لحريته في ذلك. حتى همد وسكت. عاد الصوت يقول: حذرتك من الكذب.
فقال بصوت ممزق: أنا لا أكذب. - ماذا كانت مناسبة المقابلة؟ - كنت أجالس خطيبتي على سور الكورنيش فلما ذهبت ظهر لي الرجل من وراء السور، وقال لي إنه كان آخر زوج لخطيبتي. - السوط أخف أدوات التأديب هنا.
فقال بجزع: ولكني أقول الصدق. - ومن كان أول زوج لها؟ - لم أسأله عن ذلك. - وماذا دار بينكما أيضا؟ - حدثني عن حياته حديثا غامضا وفي النهاية أخبرني عن مجلسه المختار بقهوة سوق الكانتو. - لم؟ - لا أدري. - ولم ذهبت تسأل عنه اليوم؟ - شعرت برغبة في محادثته. - في أي موضوع؟ - فشل زواجه. - لم؟ - ربما لأن زواجي أنذر أيضا بالفشل. - ماذا توقعت أن تجد عنده؟ - لا أدري، ولكن اليأس جعلني أتخبط. - حذرتك من الكذب.
فهتف في رعب: ما قلت إلا الصدق. - أمهلك دقيقة واحدة. - أقسم على ذلك بكل غال. - دقيقة واحدة. - أي شيء يدعوني للكذب؟! - أي شيء يدعوك إلى الكذب ؟ - لا شيء ألبتة .. صدقوني. - لم يبق إلا ثوان. - الرحمة! - انتهت الدقيقة.
وانهال عليه العذاب في الظلام. لم ينج منه رأس ولا قدم.
5
تراءى الملعون في الجانب الأيسر من قهوة سوق الكانتو وهو يدخن البوري. تلاقت عيناهما مرة ولكن الملعون بدا مستغرقا في البوري. تقدم منه حاملا كرسيا وضعه أمامه وجلس. رمقه الملعون بنظرة غير مرحبة وسأله: ماذا تريد؟ - ألا تذكرني؟ - من أنت؟ - ألا تذكر الصائغ؟
فانقلبت سحنة الملعون من السخط إلى الذهول وهتف: الصائغ؟ - بلحمه ودمه! - ولكن لا لحم هناك ولا دم. - أجل! - غير معقول. - هي الحقيقة كما ترى. - أعوام انقضت ولكنها لا تكفي لتبرير هذا التغير الشامل! - أجل. - كأنك خارج من قبر. - كأني خارج من قبر. - ماذا حدث لك؟ - ذاك تاريخ طويل. - ولكن زواجك فشل؟ - أجل. - ووقع الطلاق؟ - لا أدري. - وكيف تلاشى شكلك الآدمي؟
فتردد قليلا ثم سأله: ألك أعداء؟ - ليس لي أصدقاء. - سأقص عليك قصتي، فمنذ ...
وتوقف حائرا ثم تمتم: الحق أنه لم يعد لي علم بالزمن. - أهمله كما يهملنا. - جئت يوما أسأل عنك في هذه القهوة، خطفت، جرى معي تحقيق غريب، عذبت، سجنت في الظلام زمنا لا أدريه، ثم وجدتني ملقى في الخلاء!
ضحك الملعون وقال: مررت بمحنة مماثلة في زمن ماض. - أنت أيضا؟! - أنا أيضا. - نفس الظروف والأسباب؟ - تقريبا. - ومن هم أولئك الشياطين؟ - علمي علمك! - كيف يمكن أن تقع تلك الأحداث؟! - كما يقع غيرها. - أمور تجنن. - لا تشغل بالك بما لا حل له. - لا حل له؟ - أجل، بما لا حل له وحدثني عن زواجك. - لم أجد أثرا لدكاني التي ضاعت في التنظيم. - حدثني عن زواجك. - ذهبت إلى بيتي، بيت الزوجية، فوجدته مأهولا بأغراب! - ضاع كل شيء؟ - كل شيء.
فقال الملعون باسما: ولكن زوجتنا ما زالت ترفل في حلل السعادة. - ألديك معلومات عنها؟ - هل في وسع عاشق أن ينزع عينيه من معشوقه؟! - جاء دوري لأسألك. - ما أكثر أخبارها وما أقلها، حدث واحد يتكرر إلى ما لا نهاية، زواج طلاق، زواج طلاق، زواج طلاق، زواج ... - ما أعجب ذلك ! - ما أعجب ذلك! - يا لها من امرأة! - يا لها من امرأة! - لكنها طعنت في السن؟ - جمالها في عيني غير قابل للزوال! - سيجيئ يوم فيجري عليها ما جرى علينا. - أشك في ذلك. - لكل شيء نهاية. - ليس كل شيء له نهاية. - أنت تمزح ولا شك. - لم قصدتني في ذلك اليوم المشئوم؟ - أردت أن أناقش معك أسباب الفشل. - أكنت بدأت تعانيه؟ - أجل. - هي أسباب واحدة. - حقا؟ - ما العجب في ذلك؟ - إذن فهي امرأة مريضة. - الأصح أن تقول إننا نحن المرضى! - لن يوفق معها رجل. - لعله لم يخلق بعد. - ولن يخلق أبدا. - لا تحكم على المجهول. - إنه شيء يفوق الخيال. - كما أمكن أن توجد هي فمن الممكن أن يوجد هو.
فتنهد في قنوط وقال: دلني على عنوانها. - لمه؟ - أرغب في مقابلتها. - لكنها لن تعرفك. - أذكرها بنفسي فتعرفني كما عرفتني أنت. - وما فائدة ذلك؟ - أجل، وما فائدة ذلك؟! - خير من ذلك أن تفكر في عمل تحصل به على رزقك. - كنت أبرع صائغ. - دعنا من كان وكنا. - ماذا أعمل؟ - ممكن أجد لك عملا في الروبابيكيا، ولكني من زمن أفكر في مغامرة تعود علينا بالرزق الوفير. - ما هي؟ - مشروع لم أجد الشريك الثقة له. - وهل أصلح له؟ - سأجد لك غرفة للإقامة فوق سطح عمارة في حي راق. - وبعد؟ - ومن خلال علاقاتي الكثيرة بالبيوت والناس سأشيع أنك من رجال الأمن السريين الدهاة. - رجال الأمن؟ - وينتشر الرعب في المساكن التي لا يخلو واحد منها من نقطة ضعف يخاف عليها من القانون. - وماذا نجني من وراء ذلك؟ - أمثل دور السمسار الخاص لك وأتلقى الهبات والهدايا! - يا له من مشروع خيالي! - هو أكثر من واقعي، ستنهال علينا الأموال، لن نسترد قوانا الضائعة ولكنا سنعيش في رفاهية كالأحلام. - أتمنى أن تتحقق الأحلام. - وإذا تحققت أمكن بفضل الرفاهية أن نجد الوسائل الكفيلة بالعزاء والنسيان. - نسيان المرأة وعشقها؟ - أجل، ولدينا فرص لا حصر لها لتكرار التجربة في أحياء كثيرة. - لو تحقق ذلك فهو المعجزة! - أجل .. المعجزة!
6
في بهو فاخر جلس الشريكان. بينهما مائدة حفلت بما لذ وطاب من طعام وشراب. بهو كأنه متحف. وكانت أعينهما تلتمع بالنشوة حين قال الصائغ وهو يرفع كأسه: صحة الضعف البشري. - وليدم إلى الأبد! - أصبح الآن من الممكن أن ننسى. - صدقت ولكننا لم ننس بعد تماما. - كلما رجعنا إلى الإفاقة رجعت الذكريات كالزنابير. - يا ويلنا من الإفاقة. - ولكن لدينا ما يشغلنا، لدينا الطعام والشراب والتحف النادرة وأدوات الترف والحدائق والملاهي الليلية. - لدينا حقا ما يشغلنا ولكنها تخطر على القلب في الإفاقة. - ما دامت وسائل النسيان متوفرة فلا خوف علينا. - فلنغرق فيها حتى الأعماق. - إنها تطاردنا ولكنها لن تقبض علينا. - نجونا من الجنون. - يا له من جنون! - عليها اللعنة. - صحتك. - صحتك! - عليك أن تحصل لنا على عملة صعبة من السوق السوداء لنغزو السوق الحرة. - سيتم ذلك على خير وجه .. وأظن آن لي أن أذهب. - مصحوبا بالسلامة.
ودعه حتى الباب. وجعل يذرع البهو وهو ينظر في الساعة. حتى دخل الخادم وهو يقول: جاءت السيدة.
فقال بلهفة: أدخلها.
دخلت المرأة تخطف الأبصار بجمالها وبريق اللؤلؤة فوق صدرها. دعاها للجلوس وهو ينحني لها تحية، ثم قال: شرفت الدار. - شكرا. - كنت في انتظارك لتسليمك القرض كما تم الاتفاق عليه مع زوجك. - ولولا المرض لجاء بنفسه. - أعرف ذلك، شفاه الله، ولكن اسمحي لي أن أقدم لك كأسا. - شكرا.
وتنهد الرجل وقال بأسى: إذن لم تعرفيني بعد؟
فحدجته بنظرة غريبة فقال: أكثر من مرة تقابلنا بحضور زوجك، ولكنك لم تعرفيني للأسف.
لم تحول عنه عينيها فقال: لم تتغيري، أما أنا ...
هتفت: أنت؟! - أجل! - أي مفاجأة! - لا تعجبي فأنت العجب.
ولاذت بالصمت دقائق ثم سألته: أين كنت طيلة ذلك الدهر؟ - الحق أني لا أدري. - غير معقول. - هو غير معقول حقا ولكنه واقع. - كنت في مكان ما ولم تعن بالاتصال بي. - كنت في مكان ما واستحال علي الاتصال بأحد. - أين كنت؟ - في الظلام. - لا أفهم. - وليس عندي ما أقوله أكثر من ذلك، دعينا مما مضى وانقضى. - إنك لا تدري مدى تلهفي على معرفة ذلك. - وأنا عاجز عن إشباعه !
وتبادلا نظرة كئيبة حتى قال: وطلبت أنت الطلاق. - اضطررت إلى ذلك. - وتزوجت مرة بعد مرة.
فلاذت بالصمت، فقال: لك كمال مروع لا يحتمل.
فقالت بتبرم: دعنا من سيرته.
فتنهد قائلا: لذلك لا أجد فائدة في منح القرض! - ولكنك وعدته! - لن يغير من المصير المقرر.
فسكتت متجهمة فقال: لا أشك لحظة واحدة في أنك تؤمنين بقولي كل الإيمان.
فقالت بحزن: لن أنعم بالاستقرار فيما يبدو! - لذلك أقترح عليك أن تعودي إلي فعلى الأقل ستجدين عندي ثروة لا تنفد! - غير ممكن، أنت تؤمن بذلك أيضا. - وقد تحدث معجزة! - معجزة؟! - إني أنتظر طبيبا يعد في هذه الشئون معجزة!
فلاحت في وجهها خيبة واضحة فقال: لا توصدي باب الأمل وانتظري.
وطبع على يدها قبلة حارة وهو يودعها.
7
وجاء الطبيب في ميعاده. جاء يحمل حقيبة وعصا غليظة. رحب به بحرارة، ولكن شيئا في منظره جذب انتباهه فجعل ينظر إليه بدهشة حتى سأله: ما لك تنظر إلي هكذا؟ - الحق أني أعجب للشبه العجيب بيننا! - حقا؟
تساءل الطبيب وهو ينظر في وجهه بإمعان فقال مستدركا: أعني أيام شبابي.
فابتسم الطبيب فقال الرجل: نفس الصورة والقوة! - كل شيء محتمل. - أكاد أرى فيك نفسي الذاهبة. - سييسر ذلك من مهمة العلاج. - يسعدني ذلك.
وجال الطبيب بعينيه في أنحاء البهو الفخم الجميل ثم قال: حدثني عن دائك. - لحظة واحدة حتى أفيق من الدهشة.
وتريث قليلا ثم قال: سمعت عن براعتك الكثير فهل حقا تستطيع أن تعيد الشباب؟ - ذاك أيسر علي من التنفس. - يا للسعادة! - ولكن لم ترغب في استرداد شبابك؟ - يا له من سؤال يا دكتور! - يهمني أن أعرف جوابك. - ولكن الرغبة في الشباب لا تحتاج إلى تبرير. - أليس لحكمة الكهولة عشاقها؟ - لا أظن. - خبرني على الأقل ماذا فعلت بشبابك؟ - ولكن ألا يعد ذلك خروجا عن الموضوع؟ - بل هو في صميمه. - حسن، استثمرته في كافة وجوهه. - أبدا، بددت شطره الأكبر في الظلام. - أعرفت ذلك؟ - أجل. - كيف عرفته؟ - هو بعض عملي. - طبيب أنت أم قارئ غيب؟ - هما شيء واحد. - على أي حال لم أكن مخيرا. - ومن قال إنه غير مخير فقد أهدر شبابه. - كانت قوة مجهولة لم أعرف كنهها حتى اليوم. - أي جهد بذلت لتعرفها؟ - قلت إن البعد عنها غنيمة وسلام. - وهكذا أهدرت شبابك للمرة الثانية.
وتبادلا نظرة طويلة ثم قال الطبيب: أصابك ما أصابك نتيجة لعجز محقق. - عجز؟! - أجل، في العمل والحب. - أعرفت ذلك أيضا؟! إنك مذهل حقا! - قلت إنه بعض عملي. - أشهد بأنك عرفت حبي وعملي وضياعي. - وأكثر من ذلك. - أكثر من ذلك؟ - أعرف أنك دجال لص!
تراجع الرجل منذعرا فقال الطبيب ضاحكا: تاجرت بالخطايا، وحولت ثروتك الهائلة إلى تحف نادرة كما أرى.
اصفر وجه الرجل وارتعشت أطرافه فقال الطبيب: لا تخف، أنا طبيب لا شرطي. - سيدي. - أفندم! - ماذا تروم من وراء معرفتك اللانهائية؟ - أروم الشفاء لمرضاي. - أما زلت تنوي علاجي؟ - بل بدأته منذ رأيتك. - أترد إلي شبابي؟ - بلا أدنى شك. - وتصون الأسرار التي عرفتها؟ - إنه واجب الطبيب الأول.
فقال بابتهاج: لست مرعبا كما قد يتبادر إلى الذهن. - سيعود إليك شبابك الحق. - متى؟ .. متى يا دكتور؟ - قبل أن أغادر بيتك! - إنك لساحر. - ولكنك ساحر أيضا؟ - أنا؟! - استعضت عن الحب بالثروة ثم حولت الثروة إلى طعام، وشراب وتحف. - هي الرغبة في النسيان. - ولكنك كنت تخاف النسيان بقدر ما تتمناه. - ربما! - حسن، سيعود إليك الشباب.
وقبض على عصاه بشدة وهو يقول: آخر خطوات العلاج هي أصعبها.
وبسرعة جنونية راح يهوي بعصاه على كل ثمين في البهو. لم يبق على شيء من التحف والصور والمصابيح والثريات والحلي. ولم تكف يده عن توجيه الضربات حتى أصبحت الجواهر أكواما من الشظايا. وانزوى الرجل في أثناء ذلك في أحد الأركان وهو يرتعد رعبا ويصرخ بصوت مبحوح. وتنهد الطبيب في ارتياح وقال بهدوء: عملية من أشق ما صادفني في حياتي الطبية.
فصاح الرجل: أنت مجنون. - أصدق التهاني.
فصاح الرجل: خربتني الله يخرب بيتك. - أكرر التهنئة. - أنت مجنون. - يسعدني أن أسمع أسلوب الشباب يجري على لسانك .. وتناول حقيبته ومضى نحو الباب وهو يقول: عليك الآن أن تصون شبابك بعد أن رجع إليك بمعجزة وأن تنفقه فيما يليق بروعته، وإذا حدثت مضاعفات غير متوقعة فتلفن إلي من فورك.
8
رقد ذاهلا بين الخرائب. ضاعت الحبيبة وهلك ما يمكن أن يتسلى به عنها. لم يبق إلا الفقر والتشرد والهيمان المحروم. كان يفكر في ذلك عندما تناهى إليه صوت أجش وهو ينادي «روبابيكيا». نهض متثاقلا فناداه من النافذة. جاء الرجل فنظر في أنحاء البهو بدهشة، ثم نظر إلى صاحبها متسائلا ولكن هذا قال له متجاهلا تساؤله الصامت: افحص هذه البقايا واختر ما يصلح لك منها. - أوقع زلزال في مسكنك؟
فقال واجما: اختر ما يصلح لك. - الشظايا لن تنفعني بطبيعة الحال، ولكني آخذ ما يمكن إصلاحه أو تهيئته بطريقة ما. - ليكن.
وانكب التاجر على بقايا التحف المتناثرة يأخذ واحدة من بين كل عشرين وسرعان ما كف وهو يقول: لم يبق شيء ذو قيمة. - منذ لحظات كان كل شيء محتفظا بقيمته.
فنظر إليه التاجر في ارتياب وسأله: هل زارك الطبيب؟
فسأله بدوره داهشا: من أدراك بذلك؟ - قصته أصبحت مشهورة. - وأنا الذي دعوته بنفسي! - هو على أي حال لا يزور إلا من يدعوه بنفسه. - ولا فائدة من الندم! - ولا فائدة من الندم. - لعلك دعيت إلى بيوت أخرى خربها وذهب؟ - يكاد عملي هذه الأيام يقتصر على شراء مخلفاته. - الحق أني في مسيس الحاجة إلى نقود. - لن تحصل على شيء يذكر. - افحص من جديد. - لا فائدة، ولكن هناك فكرة لا بأس بها.
فتساءل الرجل بلهفة: ما هي؟
توجد تحفة قديمة لم يصبها التدمير. - أين هي؟
فأشار إليه قائلا: هي أنت! - أنا؟ .. أجننت؟ - هي التحفة القديمة الوحيدة التي لم تمس. - أتريد أن تشتريني كالأشياء القديمة؟ - خير من الموت جوعا. - يا لك من مهذار! - لا أعرف الهذر في العمل. - اغرب عن وجهي. - خير من أن تموت جوعا. - سأبدأ من جديد. - لعلك تأمل في مساعدة من شريكك الغني؟ - أتعرفه أيضا؟ - حكايتكما ذائعة في سوق الكانتو! - هلكنا! - كلا، فإن أهل المهنة الواحدة لا يخون بعضهم بعضا. - إذن فلأنتظره. - ولكنه قبض عليه في السوق السوداء. - يا للكارثة! - لم يبق لك إلا أن توافق على رأيي. - إني أحتقر رأيك. - سأنفذه أردت أم لم ترد! - أتركن إلى القوة اطمئنانا منك إلى ضعفي وشيخوختي؟ - إني أتعامل عادة مع الأشياء القديمة. - سأقاومك والويل لك. - افعل إن استطعت.
وتقدم منه بثبات فرفعه إلى كتفه كطفل، ومضى به إلى الخارج غير مبال بحركات ساقيه ولا بقبضاته الواهنة المنهالة فوق ظهره.
9
دفع التاجر العربة والرجل راقد فيها بين الأشياء القديمة. وكان يصيح بصوته الأجش بين آونة وأخرى «روبابيكيا». وبلغ طريق النيل لدى هبوط المغيب. وبدا الرجل مستسلما ولكن عينيه تحولتا تلقائيا نحو كورنيش النيل. وخطف بصره شيء يلمع. أحد بصره فرأى اللؤلؤة تتراقص فوق صدر المرأة الفاتنة. كانت تسير على مهل كأنما تبحث عن رجل جديد ودبت فيه حيوية من لا شيء فانتظر اقترابها على لهف. ولكنها حاذته ومرت به دون أن تلتفت نحو العربة. مضت في الاتجاه المضاد تضيء لؤلؤتها قتامة المغيب.
الرجل الذي فقد ذاكرته مرتين
1
لم يبق في الحديقة الصغيرة أحد سواه. ذهب الذين تناولوا عشاءهم سواء في الحديقة أم في البهو الصغير المتصل بها من الداخل. أكثرهم صعدوا إلى حجراتهم في الفندق وقلة مضت في الطريق الذي يشق الخلاء. انتظر النادل أن يذهب هو أيضا، ليخلي الحديقة من الكراسي والموائد، ولكنه لم يذهب. ولم يبد استعدادا للذهاب. جلس وحده يستقبل الهواء الجاف المنعش الهابط من سفح الجبل فيما وراء الخلاء. ولم يجد النادل بدا من نقل الموائد والكراسي إلى الداخل عدا مائدته وكرسيه ثم حام حوله كأنما ليذكره بأنه آن له أن ينصرف. وتجرأ أكثر فوقف أمامه وهو يسأل: هل من خدمة؟
فسأله بدوره: أتوجد في الفندق حجرة خالية؟ - أعتقد ذلك، تفضل بمقابلة صاحب الفندق. - تلك الفتاة في نهاية البهو؟ - كلا، إنه في الداخل فيما يلي البهو. - ومن تكون الفتاة إذن؟ - مدير المطعم وابنة المدير. - شكرا.
ولما لم يزايل مكانه قال النادل: هلا تفضلت بالذهاب لأتمكن من نقل المائدة؟ - معذرة، يلزمني بعض الوقت لأستعيد نشاطي من تعب طارئ.
ذهب النادل فلبث وحده كما كان. ونظر نحو الفتاة كما فعل مرارا وهو يتناول عشاءه. وبادلته النظر أيضا. وقال لنفسه: ليتها كانت هي صاحبة الفندق!
ثم بنبرة منتشية: ما أجمل أن يحوز الإنسان فتاة حسناء مثلها.
ومضى الوقت وهو لا يريد أن يتحرك. وإذا بصاحب الفندق يمضي نحوه على حين وقفت كريمته في نهاية الممر الموصل بين البهو والحديقة رغبة في إشباع حب استطلاعها. وقال صاحب الفندق للفتى: نحن في خدمتك.
فقال الشاب بارتباك: شكرا. - أخبرني النادل أنك تريد حجرة خالية. - أجل أريد حجرة للمبيت. - تفضل بالدخول للقيام بإجراءات الحجز. - إن أردت الحق ... - أفندم؟ - لا أدري في الواقع ماذا أقول! - ولكن لديك بلا شك ما تقوله. - لا أدري كيف أقوله.
اقتربت الفتاة أكثر حتى وقفت جنب أبيها وقال الرجل: ولكن لا مفر من الكلام! - أمهلني قليلا. - لعلك ليس معك نقود؟ - معي من النقود ما يكفي وزيادة. - إذن فما المشكلة؟ - مشكلتي أنني مرهق جدا. - ولكنك تبدو في صحة جيدة! - الحق أنني لا أعرف من أنا! - ماذا قلت؟ - لا أعرف من أنا. - أأنت مالك لقواك العقلية؟ - أعتقد ذلك.
وسألته الفتاة: كيف لا تعرف من أنت؟ - لا أعرف لي أصلا ولا هوية ولا اسما.
فسأله الأب: كيف تواجدت في حديقة فندقنا؟ - وجدت نفسي في الخلاء، الجبل ورائي، ومبنى وحيد أمامي هو الفندق، لم أجرؤ على التوغل في المدينة فتسللت إلى حديقة الفندق. - أليس معك بطاقة شخصية؟ - كلا، لعلي سرقت. - ولكن معك نقود كما تقول؟ - وجدتها ملفوفة في حزام حول بطني. - أليست نقودك؟ - هذا ما استنتجته.
تبادلوا النظرات في صمت حتى قال الأب: ستتذكر أشياء بلا ريب، لا بد أنك تذكر من أين أتيت؟ - لا أدري. - أين كنت ذاهبا؟ - لا أدري. - أسرتك؟ - لا أدري. - عملك؟ - لا أدري.
وسألته الفتاة: ألك زوجة؟ - لا أدري!
فتفكر الرجل مليا ثم سأله: وماذا تنوي أن تفعل؟ - لا فكرة لي بعد.
فتفكر الرجل مرة أخرى ثم قال: لا شك أنك ستجد في البحث عن أصلك وفصلك . - هذا هو المعقول. - كأن تنشر صورتك في الجرائد؟ - تفكير صائب. - وهو ما سيفعله المهتمون بأمرك. - أعتقد ذلك. - هي مشكلة نادرة حقا ولكنها سرعان ما تحل بنهاية سعيدة. - أرجو ذلك.
وسألته الفتاة برقة: ترى بم تشعر؟ - بأنني لا شيء ينحدر من لا شيء، ماض إلى لا شيء.
وتبادلوا النظرات مرة أخرى ثم قال الشاب: سأذهب أول ما أذهب إلى طبيب. - عين الصواب. - ولكن يلزمني مأوى مع إعفائي من الإجراءات المتبعة.
فقال الأب: إنها مغامرة قد تدفع بي إلى س و ج. - وقد تمر بسلام. - الله المستعان. - سأذكر لك صنيعك ما حييت.
وأرسله إلى حجرة مع فراش ووقف مع ابنته يتابعانه في سيره في ذهول صامت. وتبادلا نظرة طويلة ثم قال الأب: عجيبة تلك الحال لدرجة تعز على التصديق.
فتمتمت الفتاة: ولكنه صادق في مرضه. - وهذا هو العجب. - أجل. - ترى هل أخطأت في قراري؟
فقالت بهدوء: إنك لا تخطئ أبدا.
2
كانت شرفة الفيلا - فوق الجبل - تسبح في ظلام دامس. وكان يوجد بها رجلان. بدا الرجلان شبحين جلس أحدهما فوق كرسي هزاز ومثل الآخر بين يديه. وسأل الجالس: ماذا وراءك؟
فقال الآخر: ساقته قدماه إلى الفندق! - لا أعجب لذلك. - وهو على حال من العدم. - لا جديد في ذلك. - بل حال جديدة تماما. - حقا؟ - بالدقة نطقت. - كن يقظا وسجل كل شيء. - سمعا وطاعة.
3
تفرق النزلاء بعد العشاء فلم يبق في الإدارة سوى الأب والفتاة والشاب. وكان القلق بارزا في قسمات الشاب فقال له الأب بنبرة رثاء: لم تستقر بعد.
فقال الشاب: نشرت صورتي في الصحف ولم يسع ورائي أحد! - ثمة شيء طيب وهو أن الشرطة لم تسع وراءك كذلك! - وأكاد أجزم بأنني لن أصبر على أسلوب العلاج. - طويل ومعقد! - وكثير التكاليف.
وبعد صمت قصير عاد يقول: وبت أشعر بأني حمل ثقيل عليك. - كلا. - حقا؟ - أصبحنا فيما أعتقد أصدقاء. - الحق أنكم كل شيء لي في هذه الدنيا. - ولم أعد أخشى مسئولية من إيوائك.
وقالت الفتاة: وستعرف نفسك عاجلا أو آجلا.
فقال بشيء من الحياء: يخيل إلي أنني لن أكتشف شيئا ذا قيمة. - إنك رشيد ولا حاجة بك إلى أحد. - ولكن هل أمضي وقتي كله في الانتظار؟
فقال الأب: يحسن بك أن تفكر في الحاضر والمستقبل. - قبل أن تنفد النقود؟ - أجل. - فعلي إذن أن أجد لنفسي عملا. - ماذا تحسن من الأعمال؟ - أجرب.
فتفكر الأب مليا وقال: عندي فكرة.
فنظر الشاب إليه مستطلعا فقال: الفندق يحتاج إلى تجديدات. - ماذا تعني يا سيدي؟ - أقترح أن تشترك فيه بمالك وأن تعاون في أعمال الحسابات. - فكرة طيبة. - لنبدأ إذن. - ولكني أخشى أن نكتشف أن المال هو مال الغير. - مضى وقت منذ إعلانك عن نفسك، وهو يكفي لإبراء ذمتك.
فالتفت الشاب نحو الفتاة وسألها: ما رأيك؟ - أوافق أبي على رأيه. - عظيم.
فقال الأب: اتفقنا. - آن لي أن أصارحك برغبة تضطرم في نفسي. - إني مصغ إليك.
فقال بعد صمت قليل: أود أن أطلب منك يد كريمتك. - لا تتعجل الأمور. - انتظرت من الشهور ما فيه الكفاية. - ربما كنت متزوجا. - لم يسع إلي أحد. - لقد تبادلنا الرأي على أوسع نطاق وأنا مضطر الآن إلى الذهاب إلى مشوار عاجل.
قال الرجل ذلك وذهب. وقف الشاب والفتاة يتبادلان النظر. سألها: أأنت مترددة مثل أبيك؟
فقالت بهدوء عذب: أنت تعرف رأيي تماما. - أترغبين أن أنتظر حتى يتكشف لي الماضي؟ - لا يهمني أن تهتدي إلى ماضيك أو أن يهتدي ماضيك إليك. - أنا سعيد ولكن القلق يطاردني. - وتحبني أليس كذلك؟ - لا يربطني بهذا المكان إلا حبك. - حسبنا ذلك. - سأعمل وأتزوج ولكن والدك متردد. - كلا، إني أعرف والدي تماما. - يخيل إلي أني نلت ثقته. - أنت أهل للثقة. - لندع الله أن يهيئ لنا السعادة. - لندعه من صميم قلوبنا.
4
وفي شرفة الفيلا - فوق الجبل - جرى الحديث في ظلام دامس. سأل الشبح الجالس فوق الكرسي الهزاز: ما وراءك؟
فأجاب الشبح الماثل بين يديه: آواه صاحب الفندق. - رجل طيب وداهية ماكر. - وعمل كل ما يمكن عمله للاهتداء إلى هويته. - ولم لم ينظر الفتى في نفسه مباشرة؟ - إنهم يفضلون الوسائل غير المباشرة. - وثار فضول الناس ؟ - لم يعد يثير فضولهم شيء. - حسن. - وظل مجهولا كاللغز. - تعني في نظر نفسه؟ - طبعا. - وكيف مضت القصة؟ - ظهر الحب. - من جديد؟ - أجل، وفي الوقت نفسه تطلع الأب إلى نقوده! - يعز على اللص أن يسرق! - إنه من رجال الأعمال يا سيدي. - وهل يوجد فرق هناك بين اللص ورجل الأعمال؟ - إنهم هناك يفرقون بينهما. - وبعد؟ - اشترك الفتى بماله في الفندق وتزوج من الفتاة. - طريفة جدا هذه اللعبة. - الحب والعمل يبتسمان. - والبحث عن المجهول من ذاته؟ - لا يكاد يخطر له على بال إلا إذا انفرد بنفسه. - وهل ينفرد بنفسه كثيرا؟ - زوجته لا تحب ذلك. - ماكرة مثل أبيها. - الحق أنها تحبه وتحب الفندق. - الأمور تتعقد والأمل يتضاءل. - ولكنه موجود. - كن يقظا وسجل كل شيء. - سمعا وطاعة.
5
اجتمعت الأسرة حول مائدة في الحديقة الصغيرة، الأب والزوج والزوجة. تلقت وجوههم ظلال المغيب وقد غيرها على تفاوت تقدم الزمن. وكان الأب يقول: لن أشهد الصيف القادم، هذا ما أشعر به.
فقالت الزوجة: ربنا يطول عمرك يا أبي.
وقال الزوج: ستتحسن صحتك.
فقال العجوز: السعيد من يذهب في هذا الزمن.
فقالت الزوجة: ليست الأحوال بذاك القدر من السوء.
فتساءل الزوج: أيمكن أن يوجد ما هو أسوأ؟
فقالت الزوجة محتجة: يوجد دائما ما هو أسوأ.
فقال الزوج متهكما: ما أجمل حكمتك.
وقال الأب: كانت الحياة على أيامنا أبسط وأهنأ.
فقال الزوج: ثمة شكوى دائما من الحاضر والحسرة على الماضي ولكن الماضي كان حاضرا يوما ما.
فقالت الزوجة: لا نكاد ننعم بلقاء، نحن نركض كأن سياطا تلهب ظهورنا.
فقال الزوج: الويل لمن يستسلم لساعة من الراحة. - إني أعمل معك بقوة عشرة رجال. - وأنا أعمل بقوة عشرات من الخيل.
فقال الأب: كان العمل أمتع والثمرة أشهى!
فقال الزوج: نحن نحمل فوق أكتافنا سبعة من الأبناء. - حملنا أكثر وسعدنا بهم. - ألا تدري ماذا يعني ابن واحد في هذه الأيام؟
فقالت الزوجة: هكذا حال الناس جميعا. - كلنا في الهم شخص واحد.
فقال الأب: كم حسدنا الناس من أجل هذا الفندق!
فقال الزوج: اليوم هم ينظرون لنا برثاء.
وقالت الزوجة وهي تتنهد: امتلأ طريق الخلاء بالفنادق. - وكلها قامت على طراز حديث.
فسأله الأب: أليس لديك احتياطي كاف لتجديد الفندق؟ - لم يعد التجديد بالحل الناجع! - فما الحل إذن؟ - أن يهدم ويبنى من جديد! - ومن أين لك المال اللازم لذلك؟ - لا خيار لنا وإلا تحول الفندق على أيدينا إلى وكالة. - فيم تفكر؟ - في الاقتراض إن أمكن.
فقالت الزوجة: لا تكن متشائما. - لا وقت عندي للتشاؤم. - إنك تنسى أشياء هامة. - حقا؟
فقال الأب: ينقصكم شيء هام كان متوفرا لدينا. - ما هو يا سيدي؟ - الإيمان. - حتى هذا لا ينقصنا. - لا وقت لديك للإيمان، أتدري ماذا فعل الإيمان لنا؟ - ماذا فعل؟ - عثر جدي الفقير ذات يوم في صحن داره على كنز مدفون! - كنز مدفون؟ - كان يدعو الله أن يرزقه فرزقه، وشيد بمال الكنز أول فندق في هذه البقعة. - كان عليه أن يبحث عن صاحبه فيسلمه له! - كان الكنز هدية من الله إليه. - القانون اليوم يعتبر قبول مثل هذه الهدية نوعا من النهب! - اللعنة، إنكم تمارسون النهب بألف وسيلة ووسيلة. - معذرة يا سيدي، أتريدني على أن أسأل الله الرزق حتى أعثر على كنز مدفون؟ - ولن تعثر عليه مهما فعلت. - حقا! - لأن الإيمان لا يفتعل.
فنظر الزوج إلى زوجته وسألها: أهذا ما تعقدين به الأمل؟
فأجابت ببرود: ذاك مجد لم نعد له أهلا. - حسن. - ولكنا نملك ثروة أخرى. - حقا؟ - أبناءنا! - إنهم الهم الذي قصم ظهري. - ولكنهم غدا سيسعون إلى أصحاب الفنادق الجديدة بأسباب النسب والعمل! - يا له من خيال! - سيتجسد حقيقة صلبة. - يا له من خيال طموح! - بل علينا أن نيسر لهم سبيل العلم في أعلى درجاته. - أخشى أن نموت في أثناء ذلك جوعا. - إنه سباق مرير ولكن الفوز فيه للصابرين.
فقال الأب: ينقصكما الإيمان.
فقال الزوج: لا مجال اليوم للحلم بالكنوز المدفونة. - لن أشهد الصيف القادم، هذا ما أشعر به.
وقام بصعوبة، ثم مضى إلى الداخل وهو يقول: السعيد حقا من يرحل عن هذه الدنيا.
وما لبثت الزوجة أن ذهبت أيضا ولكنها رجعت بعد دقائق بزجاجة بيرة مثلجة وقدحين. ملأتهما والظلام يتجسد متمتمة: أنعش فؤادك.
ولكنه قال: لن يكفي الاحتياطي كله لبناء دور واحد جديد. - أنعش فؤادك يا عزيزي. - وماذا يعني دور جديد واحد في فندق قديم؟ - أنعش فؤادك، ألا تسمعني؟ - والأساس القديم لن يحتمل مزيدا من الأدوار. - ألا تريد أن تنعش فؤادك؟ - أرى الفنادق الجديدة فتقتلني الحسرة. - يلزمك قدر من الاسترخاء فأنعش فؤادك. - كيف تقدمهم الحظ وتخلف عنا؟ - لا تريد أن تصغي إلي! - إما فندق جديد وإما الجوع. - لدينا الإرادة ولدينا الأبناء. - أنت تحلمين مثل أبيك. - لدينا كنوز غير مدفونة.
وأرادت أن تداعب يده ولكنه نهض قائما وهو يقول: آن لي أن أذهب لمقابلة الرجل.
وذهب.
6
لبثت الزوجة وحيدة حتى رأت رجلا قادما من باب الحديقة. انحنى لها بأدب قائلا: مساء الخير يا سيدتي. - مساء الخير. - اسمحي لي أن أقدم لك نفسي، أنا صاحب الفندق الكبير. - أهلا وسهلا، تفضل بالجلوس.
جلس الرجل وهو يرمق بعينيه القدحين المترعين ثم تساءل: هل ينضم إلينا أحد؟ - كلا، كان زوجي هنا ثم ذهب. - ذهب لمقابلة صاحب فندق النور. - كيف علمت بذلك؟ - نحن نعرف ما يهمنا يا سيدتي. - همة مشكورة! - لعله نسي أن يشرب قدحه؟ - ما أهمية ذلك! - رجال الأعمال ينسون كثيرا من الشئون السارة! - أنت أدرى بذلك. - ولكن الناجحين منهم لا يهملون شيئا!
فقالت بشيء من الانفعال: نحن أيضا من الناجحين. - يسرني أن أسمع ذلك. - ولكن لم شرفتنا بزيارتك ما دمت أنك تعلم أن زوجي غائب؟ - لأقابلك أنت يا سيدتي. - ولم يا سيدي؟ - الحق إني أومن بتفوق حكمة النساء. - إن كنت تقصد المقارنة بيني وبين زوجي فإني أرفض ثناءك. - لم أحضر لأثير خلافا.
ثم نظر إلى قدح البيرة وتساءل: أتسمحين لي بأن أحل محل زوجك. - لا يروقني تعبيرك! - معذرة، جميع رجال الحي يعجبون بك. - أجئت يا سيدي لتعرب لي عن إعجابك؟ - جئت يا سيدتي لأشتري الفندق. - فندقنا؟ - إنه الفندق القديم الوحيد في المكان كله. - يا له من اقتراح لم أتوقعه أبدا . - زوجك يسعى إلى عقد قرض ولن يوفق في مسعاه. - لمه؟ - لأن أحدا لا يريد أن يخلق منه منافسا له خطره. - لا أحب أن أناقش هذا الموضوع في غيابه. - البيع أفضل، إني أخاطب حكمتك. - لا أرى رأيك. - إنه فندق قديم غير قابل للسكنى، ولا فائدة ترجى من تجديده، أما ثمنه فيصلح للاستثمار. - إنه حياتنا ومستقبلنا. - ممكن التفاهم على إيجاد عمل لك ولزوجك في الفندق الجديد. - لا تتكلم كما لو كان الاتفاق قد تم. - إني أخاطب رأس الحكمة. - الفندق الجديد سيقام بأيدينا وأموالنا. - لا مال لكم، وأبناؤكم ما زالوا يتلقون العلم. - دعنا وشأننا يا سيدي. - توجد مصالح مشتركة. - لا أظن. - كأنني أخاطب زوجك العنيد. - نحن شخص واحد يا سيدي. - يحسن بي أن أعترف لك بما في نفسي. - ترى ماذا في نفسك؟ - لا أهمية في الواقع للفندق. - ولكنه رغم قدمه ذو موقع ممتاز. - يهمني أكثر أن أنشئ علاقات مودة إنسانية. - حقا؟! - صدقيني، المال لا ينقصني. - حقا؟ - ما أنا في حاجة إليه حقا هو الحب! - انتظر رجوع زوجي لتطارحه الغرام. - ولكني أومن بالمرأة. - لا أشاركك رأيك يا سيدي. - على أي حال قد فهم كلانا صاحبه، ولدينا من الوقت ما يكفي للتفكير واتخاذ القرارات.
وقف الرجل باسما. شرب قدح البيرة حتى الثمالة. وأحنى رأسه ثم ذهب.
7
جرى الحديث في الظلام الذي يلف شرفة الفيلا فوق الجبل. سأل الشبح الجالس فوق الكرسي الهزاز: ماذا وراءك؟
فأجاب الشبح الماثل بين يديه: تعقدت الأمور. - ماذا يفعل صاحبنا؟ - يعمل بجنون، يحارب في ألف ميدان. - وامرأته؟ - تشاركه في كل خطوة. - والآخرون؟ - يعملون للاستيلاء على فندقه وامرأته. - أتعلم هي بنواياهم؟ - بكل وضوح، وبكل قوة ترفضها. - وهل يعلم الزوج؟ - بذكائه علم، وبصراحة زوجته. - ولم أخبرته؟ - لتؤكد له طهرها ولتحيي حبها في قلبه. - ألم يعد يحبها؟ - لا وقت عنده للحب. - ألم يعد للتفكير في ماضيه المجهول؟ - لا وقت عنده لذلك، غير أنه قال لزوجته مرة إنه ربما لو عادت إليه ذاكرته لوجد نفسه ابنا لمليونير! ولكنها سخرت منه قائلة إنه يحلم بالكنز مثل أبيها! - متى - في تقديرك - يرجع للتفكير في أصله؟ - أي أصل تقصد يا سيدي؟ - يا لك من أحمق! - حسن يا سيدي، إن ذلك يتوقف على نجاحه في مهمته. - لا نهاية لشيء هناك.
فأمسك الرجل عن التفوه بكلمة حتى قال الجالس: كن يقظا وسجل كل شيء. - سمعا وطاعة يا سيدي.
8
في الحديقة الصغيرة جلس الزوجان وقد تقدم بهما العمر على حين وقف أمامهما شاب مفعما حياة وقلقا. وكان الشاب يقول: انزعجت جدا لدى قراءة رسالتك.
فقالت الزوجة: قدرت ذلك يا بني. - أخذت أول طائرة.
فقال الزوج: كان علي أن أستطلع رأيك.
وقالت الزوجة: رغم علمنا بأنك عاكف على تحضير رسالتك.
فسأل الشاب: هل الأمر سيئ لهذا الحد يا أبي؟ - هو ذلك يا بني.
وقالت الزوجة بنبرة باكية: كان الجوع ضمن الأسباب التي أدت بأختك إلى الوفاة. - ولكن الفندق لا يخلو من زبائن. - فقال الزوج: اضطررنا إلى تخفيض إيجار الحجرة، لا يفي الربح بالضرورات، الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ. - والاحتياطي يا أبي؟ - استهلك في سد نفقات المعيشة.
وتبادل الزوجان نظرة سريعة غير أن الزوج خاطب ابنه قائلا: في غمار ذلك النزاع الأليم فقدنا أخويك العزيزين.
فهتف الشاب: شد ما حزنت عليهما! - الكلاب يضيقون علينا الخناق مستعملين أخس الوسائل وأقساها.
وقالت الزوجة بنبرتها الباكية: وذات يوم عثرنا على جثة أخيك عند سفح الجبل. - وماذا كشف التحقيق يا أماه؟ - قيدت القضية ضد مجهول.
وقال الزوج: وقد مات جدك حزنا.
وقالت الزوجة: وقتل أخوك الآخر وهو يحاول الانتقام لأخيه. - الويل للقتلة!
فقال الزوج: هكذا نحن محاصرون بالجوع والموت.
وقالت الزوجة: لذلك فكر أبوك في بيع الفندق والهجرة إلى مكان آخر.
فهتف الشاب: لن يحدث ذلك أبدا. - والحل يا بني؟ - لا أصدق أنكما قررتما ذلك، لعلكما تطرحان الفكرة للمناقشة! - حتى لو صح ذلك لما تغيرت النتيجة. - يلزمنا المزيد من الصبر. - العمر يتقدم بنا كما ترى.
وقال الزوج: وعليك أن تعرف كل شيء فقد ورطنا النزاع في أعمال عنف لم تجر لنا على بال. - أعمال عنف؟ - أجل يا بني ، لم نعد أبرياء في نظر القانون، لا أنا ولا أمك!
وقالت الزوجة: قد ينكشف أمرنا في أي لحظة. - يا للعنة! - هذه هي حياتنا بكل مرارتها.
وقال الزوج: وسيدفعنا الإصرار على البقاء إلى مزيد من الجرائم.
وتساءلت الزوجة: فما رأيك الآن يا بني؟
نفخ الشاب، تريث قليلا، ثم قال: علي أن أكاشفكما بأخطر نبأ في حياتي. - ما هو يا بني؟ - إذا صبرنا بضع سنوات فسوف يمكنني إعادة بناء الفندق بلا تكاليف تذكر. - أنت؟! - أجل، وذلك هو موضوع رسالتي. - لعله أمل، مجرد أمل؟! - بل أكثر من ذلك؛ فقد كشفت عن حقائق مؤكدة. - وإذا أخطأ تقديرك؟ - علينا أن نقبل المغامرة بأي ثمن.
فنظرت الزوجة إلى زوجها وقالت: هذا عامل جديد لم يجر في تقديرنا.
فقال الزوج: ولكنه كالحلم.
فقال الشاب: بل إنه أنجع في إعادة بناء الفندق من أعمال العنف نفسها. - سنضطر إلى ارتكاب المزيد منها ونحن ننتظرك. - إذن فعلينا بالصبر وارتكاب المزيد من العنف. - إنك تذكرنا بحماس أخويك. - ولكني آمل في نهاية أخرى.
فقالت الأم: هذا عامل جديد لم يجر في تقديرنا.
فقال الأب: أرى أنك تميلين إلى رأيه. - لا أنكر ذلك.
فقال الشاب بحماس: يجب أن أعود غدا بالطيارة.
فقالت الأم: سافر بالسلامة. - سأسافر غدا. - لتصحبك السلامة وليكتب لك التوفيق.
9
بقي الزوجان جنبا إلى جنب وساد الصمت. وجعلت المرأة تختلس النظر إلى الرجل حتى خرقت الصمت قائلة: علينا أن نصبر كما وعدناه.
فهز رأسه بالإيجاب دون أن ينبس فعادت المرأة تقول: علينا أن نصبر كما وعدناه. - أنت متحمسة لرسالته التي لا تعرفين عنها شيئا. - ولكني أعرفه وأومن به. - حسن. - ولكنك متردد فيما يبدو لي. - خانتك الفراسة. - لا أحد يعرفك كما أعرفك. - هكذا كل زوجين أمينين. - لا تسخر يا رجل. - ولكني جاد جدا. - أنت متردد. - لا عيب في ذلك إذا أخذ بمعنى التفكير. - وتضمر غير ما تظهر. - ماذا تعنين يا امرأة؟ - قلت إن الاحتياطي استهلك في سد نفقات المعيشة؟ - قلت ذلك حقا. - ولكنه لم ينفد بعد! - لم يبق منه ما ينفع لشيء . - قد ينفع من يفكر في الفرار! - ماذا تعنين؟ - أنت تدرك ما أعني. - إني أفكر في شيء واحد هو سلامة الأسرة. - سلامة الأسرة جزء لا يتجزأ من سلامة الفندق. - تحت هذا الشعار ضحيت بما ضحيت. - وعليك أن تستوصي بالمزيد من الصبر. - المزيد من الصبر. - ولكنك تضمر أمرا آخر! - أي أمر يا امرأة؟ - لعله الهرب. - الهرب؟! - إني أستنتج مستقبلك من مقدمات ماضيك.
فسأل وهو يضحك: هل سبق لي الهرب؟ - نعم. - جميل أن نضحك في غمرة هذا الغبار الدامي. - من أين لي بالضحك! - إذن فخير ما نفعله أن نغير الموضوع.
فرمته بنظرة قاسية وقالت: يبدو أنه آن لي أن أصارحك. - بماذا؟ - دفاعا عن أسرتك، دفاعا عن نفسك، سأصارحك بما كتمته طيلة السنين. - ألديك سر لم أعرفه؟ - بلى. - وما هو يا ترى؟
فقالت بهدوء رهيب: ماضيك المجهول.
فاشتعل اهتماما مباغتا وتساءل: ماضي المجهول؟ - الذي نسيته، أو الذي تصر على أن تنساه. - ماذا تعنين؟ - أنت تجهل ماضيك كما تجهل شخصك الحقيقي. - ذاك تاريخ مشهور. - ولكني أعرفه. - أنت؟! - كما كان أبي يعرفه! - أأنت جادة؟ - كل الجد. - منذ متى؟ - منذ وجدناك في هذه الحديقة. - يا له من عبث. - بل هو الجد كل الجد. - أتتوقعين أن أصدقك؟ - أقسم لك بروح ابني.
فهتف فيما يشبه الفزع: رباه! - أجل. - انتشليني من هذه الغيبوبة. - سأفعل حتى لا تقع في الخطأ مرة أخرى. - من أنا؟ - أنت زوجي. - إني أسألك من كنت؟ - كنت زوجي أيضا قبل أن تفقد ذاكرتك.
نظر إليها بذهول فقالت: كنت قبل ذلك ربيب أبي، وجدك غلاما ضالا.
ظل ينظر إليها بذهول فقالت: ولم تكن لك فكرة عن والديك فرباك وشغلك في الفندق ثم تزوجنا.
ما لبث ينظر إليها ذاهلا فقالت: وذات يوم سرقت الخزانة وهربت مع راقصة. - ماذا تقولين؟ - تذكر، تذكر، سرقت الخزانة وهربت مع راقصة. - رأسي يدور. - وكنت كما تكون اليوم مزيجا من التمرد والتمرد على التمرد فعذبتها - الراقصة - بالقدر الذي أردت أن تعذب به نفسك. - رباه .. أي عالم هذا! - فاضطرت هي إلى الهرب وسرعان ما فقدت ذاكرتك . - آه. - وراقبك أبي من بعيد ولم يبلغ الشرطة عنك حتى رأيناك يوما قادما. - آه. - ساقتك قدماك أو ضميرك إلى ضحاياك. - أي حلم مفزع! - ما حدث بعد ذلك فأنت تذكره. - أجل، ولعبتم معي تمثيلية متقنة!
آثرنا أن ننسى الماضي معك، حتى ذكرني ترددك بحالك قديما قبيل الهرب. - أغمض عينيه إعياء فقالت بحزم: علينا أن نصبر كما وعدناه.
10
في شرفة الفيلا - فوق الجبل - وفي ظلام دامس جلس الشبح فوق الكرسي الهزاز ومثل الآخر بين يديه. وسأل الشبح الجالس: ماذا وراءك؟ - الأسرة تكافح في صبر وعناء وعناد لا يعرف الهوادة. - وما الجديد من أنباء الصراع؟ - العنف يتراكم كالجبال. - وكيف حال صاحبنا؟ - عرف - فيما يعتقد - ذاته وتعلم من ذلك درسا لا ينسى. - وذاته الأولى ألا يفكر فيها؟ - لا وقت لديه لذلك. - أليس ثمة أمل في يقظة غير متوقعة؟ - لا أستبعد حدوث معجزة إذا تحققت آماله في البناء.
فتفكر الشبح الجالس مليا ثم قال: دعه وشأنه.
فقال الشبح الماثل بين يديه: سمعا وطاعة يا سيدي.
عنبر لولو
قام الكشك في الوسط من طرف الحديقة الجنوبي. كشك مصنوع من جذوع الأشجار على هيئة هرم تكتنفه أغصان الياسمين. وقف في وسطه كهل أبيض الشعر نحيل القامة ما زال يجري في صفحة وجهه بقية من حيوية. جعل ينظر في ساعة يده ويمد بصره إلى الحديقة المترامية مستقبلا شعاعا ذهبيا من الشمس المائلة فوق النيل نفذ إلى باطن الكوخ من ثغرة انحسرت عنها أوراق الياسمين. ولاحت الفتاة وهي تتجه نحو الكشك سائرة على فسيفساء الممشى الرئيسي. أحنت هامتها قليلا وهي تمرق من مدخل الكشك القصير، ومضت نحو الكهل بوجهها الأسمر وعينيها الخضراوين. تصافحا. ثم قالت بصوت ناعم وبنبرة اعتذار: إني خجلة!
فقال الكهل برقة: يسرني أن ألقاك. - لا يحق لي أن أنهب وقتك. - لا يعد ضائعا وقت نمنحه لعلاقة إنسانية. - شكرا لطيبة قلبك.
أشار إلى الأريكة داعيا إياها للجلوس فجلست ثم جلس وقالت: لم تسعفني الجرأة على طلب مقابلتك إلا لأني في مسيس الحاجة إلى رأي حكيم . - كل إنسان عرضة لذلك، غير أن من يراك في الإدارة لا يتصور أنك تحملين هما! - دعك من المظاهر!
فهز رأسه موافقا فواصلت: وتساءلت طويلا إلى من يحسن بي أن ألجأ، حتى هداني التفكير إليك. - أستغفر الله.
وتريثت لحظات ثم قالت: إنك لا تعرفني إلا كزميلة في إدارة السكرتارية. - بلى. - فعلي أن أقدم لك نفسي الحقيقية. - أهلا بها. - هي نفس مقضي عليها بالسجن المؤبد في شقاء دائم. - أرجو أن تتكشف بعد تبادل الرأي عن مغالاة عاطفية. - بل هي حقيقة واقعية.
تجلى الاهتمام في عينيه وهو يقول: إني مصغ إليك.
فقالت وهي تتنهد: حسبي أن أعرض عليك الفصل الأخير من المأساة.
فتجلى الاهتمام بصورة أوضح. - إني يتيمة الأبوين، لي إخوة ثلاثة صغار، نقيم في بيت زوج المرحومة أمنا. - وضع معقد. - وأبعد ما يكون عن الراحة. - لا يمكن إنكار ذلك. - وهو رجل عنيد متعجرف. - زوج المرحومة؟ - دون غيره. - أهو عجوز مثلي؟ - بل أكبر، وهو لا يحبنا! - هل أنجب لكم إخوة؟ - كلا، إنه عقيم! - ذلك مدعاة لحب الأطفال. - ولكنه شاذ، وقد أفهمني عقب وفاة والدتي بأنني المسئولة وحدي عن إخوتي.
وساد الصمت مليا حتى استطردت قائلة: لعله بقراره لم يجاوز العقل! - بلى ولكنه جاوز الرحمة. - على أي حال أنا لا أطمع في رحمته! - مفهوم. - وهو يمن علينا بالمأوى وببعض المساعدات وإن يكن يحتسبها ديونا مؤجلة.
هز الكهل رأسه دون أن ينبس فقالت متنهدة: لعلك تخيلت الصورة التي أعيش في إطارها، والحق أني لا أملك النقود اللازمة لملابس فتاة موظفة. - وشابة في عز شبابها! - هكذا تمضي الأيام في قسوة ومرارة، تحت رعاية عنيفة لا تعرف الرحمة، بلا أمل، أي أمل في غد أفضل!
فقال الكهل كالمحتج: لا يجوز أن ننظر إلى الحياة بهذه العين. - ولو كانت بالحال التي ذكرت؟ - ولو كانت!
ثم تساءل وكأنه يناجي نفسه: من ذا يقطع بما يخبئه الغد؟!
فرفعت منكبيها زهدا في مناقشة فكرته وقالت وهي تتنهد: وإذا بي أشعر بزحف الزمن، من خلال حياة التقشف والمرارة أخذ الزمن يطاردني. - ولكنك ما زلت في مطلع الشباب! - إني في الرابعة والعشرين من عمري. - عز الشباب! - ولكنه في مثل حالتي يعد مرحلة من الشيخوخة. - لا داعي للمبالغة، إن وضعك ليس الوحيد من نوعه في بلادنا، ما أكثر أشباهه وإن اختلفت الظروف والأسباب.
فرمته بنظرة غامضة وقالت: ولكني لم أحدثك بعد عن المشكلة الحقيقية! - الحقيقية؟! - التي تتحداني في اليقظة والمنام! - غير ما سبق ذكره؟ - ما حدثتك عنه حال يمكن اعتيادها كما يعتاد المريض مرضه المزمن.
فرفع الكهل حاجبيه متسائلا فقالت: أصبحت أشعر بشبابي لا كفترة من العمر تتسرب في ضياع، ولكن كقوة دافقة، قوة قاهرة، كهبة مقدسة، وحق إلهي!
نظر الكهل في بريق عينيها الخضراوين كالمأخوذ فقالت بنشوة وحماس: كم تنازعني نفسي إلى أشياء وأشياء، إلى كل شيء، إلى الوجود كله!
ثم وهي تخفض عينيها وبنبرة معتصرة بالحسرة والحزن: أود أن أرقص وأغني وأمرح!
اختبأ الكهل في صمته وهو يطبق شفتيه متفكرا. ولما طال انتظارها قالت: لعلي دهمتك بصراحتي!
فأصر على الاختفاء فقالت: لم تتوقع ذلك، أصبحت الأكاذيب وجبات يومية متكررة، ولكن ما جدوى هذا اللقاء إذا لم أكاشفك بدخيلة نفسي؟!
فتمتم الرجل بحذر: صراحتك مشكورة! - كان علي أن أعلن ما في نفسي أو أجن، ولكن كان علي أيضا أن أختار الرجل المناسب، وكنت تخطر على بالي دائما، رجل وقور ومحبوب وذو سمعة طيبة، له تاريخ مجيد قضى عليه بأن يكون ضحية فتعلقت به قلوب الضحايا! - أشكر لك إنسانيتك ولطفك. - لا أنكر أن لي صديقتين حميمتين في المصلحة، ولكني لم أفد من رأيهما ما يذكر! - هل كاشفتهما بما كاشفتني به؟ - كلا ولكني سألتهما الرأي في مناسبات حادة وخطيرة! - بم نصحتاك؟ - بدت لي إحداهما أبعد ما تكون عن الرحمة! - زيديني إيضاحا. - ليس الآن موضعه. - والأخرى؟ - إنها غاية في الغرابة، قالت لي: إن مشكلتي عامة وإن بدت خاصة، وأنها لا تحل بالحلول الفردية، وأن علينا أن نغير تفكيرنا من جذوره لنحقق تغييرا عاما وشاملا.
فابتسم قائلا: ليس رأيها بالجديد على مسمعي، ولكن كيف كانت استجابتك لها ؟ - لم يستمر ما بيني وبينها طويلا بعد ذلك فقد ألقي القبض عليها فجأة. - عرفت المعنية بحديثك، أليس هي زميلتنا السابقة بالحسابات؟ - بلى، وهكذا لم أجد أحدا سواك.
فقال بلهجة أبوية: إنك تنظرين إلى الأمور بمنظار أسود، ونسيت أنك قد ترزقين بابن الحلال غدا أو بعد غد! - أبناء الحلال متوفرون. - ألم يقع اختيارك على أحدهم؟ - كلا، إنهم موظفون شبان في مستوى مادي لا يختلف عن مستواي، وقبول يد أحدهم يعني التخلي عن إخوتي، ودعنا من تكاليف الزواج ومشاكلها!
فقال الكهل بإصرار: عسى أن يجيء عريس غني يقوم بكافة التكاليف ويسمح بالنزول عن مرتبك لإخوتك! - هذا حلم وليس عريسا! - الأحلام توجد كما توجد الحقائق. - أرفض أن أقيم ميزان حياتي على الأحلام، إني أعيش في جفاف قاتل وبلا أمل، ونفسي تتحرق إلى الحياة والسعادة، وفي كلمة، أود من أعماقي أن أرقص وأغني وأمرح.
رجع الكهل إلى حيرته وصمته فقالت بوضوح: هذه هي مشكلتي الحقيقية!
ولما وجدته مصرا على الصمت عادت تقول: يسعدني أني وجدت أخيرا الشجاعة لمصارحتك بها!
فجعل يغمغم بكلمات مبهمة؛ فقالت باسمة: وطبيعي أن أنتظر منك شيئا غير الصمت!
فجمع عزمه وقال: إني بطبعي وتاريخي أرفض التسليم بوجود طرق مسدودة! - ولكن طريقي مسدودة! - ما تزال. - أرجو أن تعتبرها كذلك إكراما لي، أنا لم ألجأ إليك إلا مطاردة بسياط الجزع، وبعد كفر بالأحلام والخوارق!
فقال بوضوح: لا رأي عندي دون مراعاة كاملة للكرامة! - الكرامة؟ - أعني السلوك الخليق بفتاة محترمة.
فقالت بتحد: لقد جئتك وأنا على علم غزير بالنصائح التقليدية! - طيب، هل تتوقعين لدي رأيا آخر؟ - نعم! - أن أسوغ لك السقوط؟ - نعم!
فتساءل الكهل بذهول: ألم تجيئيني مدفوعة بما ذكرت عن تاريخي وحسن سمعتي؟ - بلى! - وتصورت بعد ذلك أن أبارك سقوطك؟ - نعم!
فضحك الكهل على رغمه وقال: الحق أني لا أفهمك. - ولكنني واضحة كضوء الشمس! - الرقص والغناء والمرح؟ - نعم! - خبريني عما تتوقعين مني؟ - أن تصرح لي بأن النهل من متعة الحياة ليس سقوطا! - ولكنه ينقلب كذلك أردنا أم لم نرد! - وإذن فما علي إلا أن أصبر حتى أذوي وأذبل وأموت! - بل حتى تفرج. - كلام لن يكلفك شيئا ولكنه سيكلفني حياتي.
فقال متحايلا للهروب من حدة الموقف: حدثيني عن رأي صديقتك الأخرى، أعني التي لم تعتقل؟ - كان الحديث لمناسبة تقدم شاب لخطبتي، فطالبتني بأن أقبله دون تردد، وأما عن إخوتي فقد قالت: إنه ليس من حق أحد أن يضحي بحياة آخر في هذه الدنيا قصيرة لأجل!
فهز الكهل رأسه في حيرة صامتا فقالت: ولكني أرفض التضحية بإخوتي! - يا لك من فتاة نبيلة! - ولكن من حقي أن أحب الحياة، وأن أستمتع بهذا الحب. - إذا فقدنا الكرامة فإنه لا يطيب لنا شيء. - من الذي خلق الكرامة؟ - خلقتها السماء كما خلقتها الأرض. - ألم تسمع عما يقال عن الفتاة الأوروبية؟ - إنها تنتمي إلى حياة أخرى في أوروبا، ولست أملك المعرفة الكافية للحكم عليها. - ولكنها أثبتت لنا أنه من الممكن الاستهانة بالتقاليد الموروثة دون التضحية بقيم إنسانية باهرة! - قلت إني لا أملك الحكم عليها. - هل تهرب من مواجهة الحقيقة؟ - بل أتكلم بما أعلم. - أخشى أن تعدني مسئولية ثقيلة اعترضت طريقك الهادئ؟ - بل أود مساعدتك بكل قلبي.
فقالت برجاء: إذن قدم لي نصيحة مبتكرة. - مبتكرة! - أجل، لم أعد أومن بالماضي، لقد ورثت تعاستي عن الماضي، لذلك أكره كل ما يمت إليه بصلة، هبني نصيحة مبتكرة ولو هزئت في النهاية بما سميته بالكرامة! - ولكني صارحتك بما أومن به. - إنك رجل غير عادي، لا بد أن تنبع منك أفكار مبتكرة، أفكار لا تستمد سدادها من قول سلف أو من عادة أثرت. - من حقي، ومن واجبي، أن أكون مخلصا لطبعي أبدا.
فقالت وهي تنظر في عينيه بجرأة: أحيانا يخيل إلي أن شرا عصريا أفضل من خير بال! - أي ثورة تنطوي عليها جوانحك الرقيقة الجميلة! - الحياة توشك أن تفلت من بين أصابعي تحت شعارات متهرئة ترددها ألسنة محتضرة. - هذه انعكاسات أزمة كفرت بحكمة الصبر. - صدقني فإن حياتنا وقف قديم متهدم تتحكم فيه وصايا الأموات. - كل ذلك لأنك تودين أن ترقصي وتغني وتمرحي؟ - لأني أود أن أعيش حياتي. - وربما تودين غدا أن تقتلي الأنفس وتشعلي الحرائق وتهدمي الجدران؟
فضحكت قائلة في حبور: أود حقا أن أقتل زوج أمي، وأن أحرق من يتطاول على رميي بالسقوط، وأن أهدم جدران الإدارة!
ابتسم الكهل وهو يرمقها بحنان أبوي وقال: لعله الحب؟ - هه؟ - لعله حب يائس الذي أضرم فيك نار الثورة! - لا يوجد حب معين الآن، أحببت مرات وخاب الحب مرات، أما الآن فأنا أحب الحب وحده! - لا شك أن للحب عندك قصة!
هزت منكبيها في استهانة وقالت: أنت تعرف حب المراهقة ومصيره المحتوم .. ذاك واحد، وحلمت يوما بحب ممثل، وكان كلما تقدم لي خاطب أبدي قلبي استعدادا طيبا للحب لا يلبث أن يذهب بذهابه. - لا قصة حب الآن؟ - أكبر قصة حب، حب الحب نفسه!
وتبادلا نظرة طويلة. ثم سألته: بم تنصحني يا سيدي النبيل؟
فقال باسما: أنصحك بالرقص والغناء والمرح والقتل والتحريق والهدم. - أتسخر مني يا سيدي؟ - معاذ الله، بل إنك تغرينني بالتعلق بك! - حقا؟ - ما أكثر أوجه الشبه بيننا! - فيم؟ - في التعاسة على الأقل!
فقالت باستطلاع: لقد سمعت عنك الكثير.
فلاحت في عينيه نظرة حالمة وقال: كنت يوما ذا شباب يافع ومستقبل مرموق.
ثم وهو يبتسم: وذات يوم قررت الانضمام إلى الجموع الثائرة.
وسكت لحظة ثم تمتم: ولم أكتف بذلك فجازفت بالعمل في السراديب.
ثم واصل وهو يضحك ضحكة موجزة: ثم قضيت من حياتي خمسة وعشرين عاما في السجن. - أول ما لفتني إليك حديث بعض الزملاء في المصلحة عندما أشاروا إليك وقالوا هذا الرجل بطل من أبطالنا القدامى! - وقد خرج البطل من السجن بعد أن جاوز الخمسين، وبعطف من البعض ألحقت بالوظيفة، بمرتب مبتدئ، وعما قليل سأترك الخدمة دون أن أستحق معاشا، وقد فاتني الحب والزواج والأسرة، وإن امتد بي العمر فلا مفر من التشرد والجوع. - يا للبطولة! - لذلك قلت إن بيننا أوجه شبه. - ولكنك بطل! - لا يذكرني اليوم أحد!
ترامت إليهما في الكشك ضحكات هامسة وهي تقترب. مرق إلى الداخل فتاة وشاب سرعان ما تبادلا عناقا حارا. أسلمت الفتاة رأسها إلى كتف الشاب وأغمضت عينيها. قلبت رأسها، ولما فتحت عينيها وقع بصرها على الكهل والفتاة السمراء ذات العينين الخضراوين. ابتسمت بلا ارتباك يذكر ثم سحبت فتاها من يده وغادرا الكشك. ضحكت السمراء وابتسم الكهل. وسألته: لم اخترت هذه الحديقة مكانا للقائنا؟ - كنت أتردد عليها في الزمان الأول. - لا علم لك بما يدور فيها اليوم؟ - كلا، كنا نتخذها أحيانا مخبأ ننقض منه على أعدائنا.
فقامت برشاقة آخذة إياه من ذراعه، فمضت به إلى جدار الكشك. مدت بصرها من الثغرات بين أوراق الياسمين داعية إياه إلى النظر. نظرا معا وهما شبه متلاصقين حتى فغر الكهل فاه. وهمست في أذنه: انظر إلى الحديقة!
ثم وهي تكتم ضحكة: كم أنها مرصعة بالعشاق! - فوق ما يتصور العقل. - العقل يستطيع أن يتصور كل شيء لو تخلت عنه القبضة الخانقة.
فقال في انفعال ظاهر: انظري إلى هذه الفاجرة! - يا لها من سكرى بالحب! - أهذه حديقة عامة؟ - لا عيب فيها إلا أنها تشبه الجنة. - إنها في عمر الورد! - الحديقة؟ - الفاجرة! - يخيل إلي أنه لا زوج أم يرهبها ولا سجن يهددها!
رجع الرجل إلى مجلسه وهو يلهث. تراجعت الفتاة إلى وسط الكشك. وقفت كأنما تستعرض جسمها الرشيق.
دارت حول نفسها مرتين كأنما تشرع في الرقص. سألها وهو لا يتمالك نفسه: لم وقع اختيارك علي بالذات؟ - لأنك الرجل الذي قضى زهرة عمره في السجن. - كيف ظننت أنك واجدة رأيا جنونيا عند رجل مثلي؟! - تخيلت أنه لن ينتشلني من الموت إلا رجل كان الموت لعبته! - يا له من مزاح! - قلت لنفسي سأجد عنده رأيا جديرا ببطل!
فتردد قليلا ثم سألها: ألم تخشي أن أغازلك؟ - ليس ثمة ما أخشاه في ذلك!
هز الكهل رأسه مغلوبا على أمره فعادت إلى مجلسها إلى جانبه وهي تسأله: أليس في حياتك جانب لهو؟
فأجاب دون اكتراث: أقرأ بانتظام، وأذهب إلى السينما بين حين وآخر. - تعيش وحدك؟ - نعم، لا أقارب لي في القاهرة. - ولا أصدقاء لك؟ - منهم من قتل في الثورة ومنهم من تبوأ يوما الوزارة فبعد ما بيني وبينه. - والنساء، أليس في حياتك نساء؟ - ولى موسمهن في عمري.
ففكرت قليلا وقالت: أود أن أعترف لك بسر!
في تلك اللحظة ترامى إلى سمعيهما صوت رصاص ينطلق بقوة وغزارة. فبهت الرجل وارتجفت الفتاة. تساءلت: ما هذا؟ - رصاص من بندقية سريعة الطلقات. - كيف؟ .. لم؟ - لا أدري. - غارة؟! - ولكن صفارة الإنذار لم تنطلق، لعله تمرين.
وسكت الضرب. لبثا يرهفان السمع ولم يزايلهما القلق. تساءلت: هل يعود؟ - لا علم لي. - هل تستأنف الحرب؟ - من يدري؟! - الكلام عن ذلك لا ينقطع. - وهو ينتهي حيث يبدأ. - أتفكر في ذلك كثيرا؟ - إنه ظلنا ومصيرنا.
وفصل الصمت بينهما طويلا. حتى قال: إن الرصاص يحرك غرائز في أعماقي، لقد زلزل كياني في هذه اللحظة القصيرة. - يؤسفني أنني كدرت صفوك. - لنعد إلى ما كنا فيه، أكنت تتحدثين عن سر؟!
فابتسمت قائلة: أجل .. هناك سر.
فرمقها بنظرة مستطلعة فقالت: ثمة رجل في حياتي. - حقا؟ - شاب غني من طنطا! - ها هو الحلم يتحقق. - كلا، إنه متزوج. - ما مهنته؟ - تاجر. - أتقبلين أن تكوني الزوجة الثانية؟ - لكنه يمقت فكرة تعدد الزوجات. - هل سيطلق زوجته؟ - ويمقت فكرة الطلاق. - وماذا يريد إذن؟ - إنه يحبني! - كذاب! - أعتقد أنه صادق. - هل .. هل؟ - تقابلنا في مشرب شاي مرتين. - ماذا يريد؟ - يريد أن أقابله مرة ثالثة. - لا كرامة في ذلك. - رجعنا إلى الكرامة! - واضح أنه يريد العبث بك. - أو أن أعبث به! - كوني بريئة بقدر ما أنت صغيرة. - وحدثني عرضا عن شقة يملكها في الهرم! - الداعر! - لم أقطع برأي بعد.
فهتف بحدة: الرقص والغناء والمرح. - لا أحب لك أن تغضب.
ومالت نحوه فلثمت جبينه. وجعل ينظر إليها باهتمام وتوقد. سألته برجاء: ألا تريد أن تمن علي برأي؟ - عليك أن تصبري حتى يجيء الفرج كما أن علي أن أصبر حتى يجيء الموت!
فقامت وهي تقول: شكرا، وإذن فيجب أن أذهب.
هتف باستنكار: تذهبين! - لم أجئ لأقيم هنا. - أنت ذاهبة إلى الشاب الغني من طنطا. - كلا، ليس موعده اليوم. - لا يمكن أن تذهبي. - آن لي أن أذهب .
قام إلى جدار الكشك ورمى ببصره إلى الخارج ثم قال بعصبية: الحب لا يتوقف لحظة واحدة. - متع بصرك.
تحول إليها وهو يقول بانفعال: كأنك ابنتي!
ومال نحوها فلثم جبينها وهو يقول: لا تذهبي إلى مشرب الشاي. - ليس اليوم. - إنه يريد عشيقة! - لم يصرح بذلك. - أنت ساذجة؟ أنت ماكرة؟ .. ما أنت؟ - أنا مصممة. - أنت جميلة، أنت فاتنة، اصبري. - يجب أن أذهب. - إنه يرفض أن يطلق، ويرفض أن يتزوج زوجة ثانية، لماذا؟ لعل زوجته غنية، لعلها رأسماله الحقيقي، وغير بعيد أن تكون أكبر منه سنا، لذلك جهز شقة للعبث، يجيء إلى القاهرة باسم التجارة ليمارس الدعارة، هذه هي الحقيقة. - أشكرك، ولكن آن لي أن أذهب.
قبض على يدها، ثم على ساعدها، وقال وهو يزداد انفعالا: لن تذهبي.
ابتسمت قائلة: لقد تأثرت لحالي أكثر مما يجوز. - لا حدود لما يجوز في ذلك. - شد ما أزعجتك. - أكثر من سبب يشد أحدنا إلى الآخر. - ولكن الوقت يسرقنا وزوج أمي رجل شرس. - فلنسحق رأسه ولكن لا تذهبي إلى الشاب الغني من طنطا. - إني راجعة إلى البيت.
ففرقع بأصابعه وقال: جاءتني فكرة طيبة. - فكرة؟ - إنك مشغوفة بالحياة، ولا خوف عليك من كهل مثلي، فلنذهب سويا إلى عنبر لولو. - عنبر لولو؟ - حديقة في صحراء سقارة، في المركز منها بركة مترامية من ماء الورد، وتنتشر بها المقاصير المغطاة بالأزهار، وشعارها غير المكتوب افعل ما تشاء.
فاتسعت عيناها دهشة وقالت: أنت تدعوني إلى ذلك؟ - مع آمن رفيق! - لا أصدق! - لا يعز شيء على التصديق. - ولكن .. ولكن ليس الوقت مناسبا. - كل وقت فهو مناسب لزيارة عنبر لولو! - لم أسمع بها من قبل. - إنها جنة الأحلام، كل حلم فهو واقع في عنبر لولو. - إنك تتكلم بصوت جديد، وعيناك تنطقان بمعان جديدة.
جذبها من يدها إلى جدار الكشك فنظر من الثغرات داعيا إياها إلى النظر وقال محموما: انظري، جميع هؤلاء حمقى لأنهم لم يعرفوا الطريق إلى عنبر لولو. - تلك الحدائق النائية عرضة للخطر! - إنها ترقد في حضن الأمان وآي ذلك أنه لا يوجد بها شرطي واحد! - وماذا نفعل هناك؟ - كما تهوين، لا أحد يرى الآخر في عنبر لولو. - انظر إلى هذه الفتاة الفاجرة! - إنها فاجرة لأنها تلهو بعيدا عن عنبر لولو. - إنك تخيفني! - لا ظل للخوف في عنبر لولو.
تراجعت عن الجدار فلحق بها في نشاط غير معهود وهو يشد على يدها. وتساءل: ألم تجيئي لتسمعي نصيحة من كهل؟ - إني أمقت النصائح! - اذهبي معي إلى عنبر لولو. - رباه .. إني أتراجع، لعل حديثك الحكيم أثر في أكثر مما توقعت! - حديث عنبر لولو؟ - حديث الصبر والكرامة! - إنك لا تؤمنين بالألفاظ الصفراء. - ولكنك تؤمن بها؟ - إن ربع قرن في السجن خليق بأن يخل الميزان. - إنك تخيفني. - كلا، ولكنها حيلة نسائية بالية! - اهدأ، فلنجلس، أود أن أعترف بسر جديد. - اعتراف آخر؟!
عاد إلى مجلسهما وهو يلهث. وقبل أن تفتح فاها تدافعت أقدام مهرولة تند بين وقعها ضحكات شابة متوثبة. اندفعت إلى الداخل فتاة يطاردها شاب. لمحا وجود الكهل والفتاة ولكنهما لم يلقيا إلى ذلك بالا. مضت تحاوره وهو يتحين غفلة للانقضاض عليها. وفجأة وثبت الفتاة فوق الأريكة الوحيدة التي يستقر عليها الكهل وصاحبته وتخطت الرجل فاختفى لحظة بين ساقيها ثم قفزت إلى الباب، ومنه إلى الحديقة والشاب في أثرها. سوى الكهل هندامه وتمتم كأنما يناجي نفسه: ما أجمل أن يذهبا إلى عنبر لولو!
ثم قال لفتاته بضيق: نحن نضيع وقتا ثمينا لا يعوض!
فقالت تذكره: ولكن ثمة اعتراف جديد! - لا قيمة الآن لأي اعتراف! - أود أن أعترف لك بأن حكاية الشاب الغني من طنطا مختلقة من جذورها ولا أساس لها في الواقع! - حقا؟ - بالصدق أعترف لك. - ذاك يعقد الأمور ولا يبسطها! - وعلي أن أذهب الآن. - كلا، لن تذهبي. - لا شيء يدعونا للبقاء. - بل علينا أن نفهم الأسباب التي دعتك إلى اختراع الحكاية. - لا أهمية لذلك ألبتة. - كلام غير علمي، فالحلم له أسبابه كالواقع سواء بسواء. - أكرر، لا أهمية لذلك.
فهز رأسه مفكرا وقال باهتمام: دعيني أفكر.
ومسح على جبينه واستطرد: شاب .. تاجر .. غني .. من طنطا .. شقة خاصة في الهرم. - كدت أنسى تلك التفاصيل. - لا يمكن أن تنسي. - أنت ظريف ولكنك عنيد. - أصغي إلي، شاب، تخيلته شابا، الشباب رمز الجنون بحب الحياة، وأنت تهيمين بحب الحياة لحد الجنون. - لكني تغيرت. - كذب، لم يمر وقت يسمح بالتغيير. - يخيل إلي أني عاشرتك في هذا الكشك عمرا. - أصغي إلي يا عزيزتي، .. تاجر .. ما معنى تاجر؟ إنه نقيض الموظف، الموظف رمز الروتين، التاجر رمز الحركة، الموظف ظل الأخلاق التقليدية، التاجر ظل الانطلاق واللاأخلاقية.
فتساءلت ضاحكة: أتراني حلمت بقرصان؟ - وأكثر يا عزيزتي، إنك تدعيننا للإيمان بإبليس كما آمن إبليس بنفسه، إنك تنبذين آدم مخلوق الخطيئة والاستغفار، وتعشقين إبليس مخلوق الإبداع والكبرياء، إنك تعيدين للنار كرامتها حيال التراب. - سامحك الله .. أنت خفيف الروح. - وما معنى غني؟ الغني هو الذي يملك المال والقوة، ولكننا لم نعد في عصر الأغنياء، أي غني اليوم إنما هو كاللص الذي لم يهتد إلى أثره بعد، ستطبق عليه يد العدالة في المساء أو عند منتصف الليل، فالحلم يريد شابا غنيا، لفترة محددة، إنه يخشى المعاشرة الطويلة، يخشى أن يتكشف مع الزمن عن شخص حقير شرس مثل زوج أمك، فأنت ترغبين فيه وتكرهين في الوقت نفسه فكرة دوامه، سوء ظن مكتسب من ماض تعيس. - أتقرأ الفنجان أيضا؟ - من طنطا! .. ماذا يقول الحلم؟ طنطا هي مثوى السيد البدوي، صاحب الكرامات والمعجزات، الذي كان يجيء بالأسرى من الأعداء .. فهمت يا عزيزتي؟! - فهمت يا سيدنا الشيخ. - وشقة الهرم؟ .. الشقة مفهومة ولكن لماذا في الهرم؟ .. الهرم في ظاهره قبر ولكنه في حقيقته يشكل تحديا للزمن .. للموت. - تفسير مسل وجميل، ولكن يجب أن تفكر في الذهاب. - ابصقي هذه النية من فيك وهلمي إلى عنبر لولو. - بل إلى البيت. - ماذا في البيت مما يغريك بالعودة إليه؟ - هو بيتي على أي حال. - سيتغير طعمه ومذاقه عقب زيارة لعنبر لولو.
رمقته بنظرة ارتياب وسألته: ما علاقة كهل وقور مثلك بعنبر لولو؟ - فيه خلوة للعجزة، كل شيء في عنبر لولو. - ترى .. ترى أأنت جدير بالسمعة الطيبة التي تتمتع بها؟ - أنسيت رأيك في الوقت القديم ووصايا الأموات؟ - لكني تعلمت أشياء جميلة من معاشرتك الطويلة هنا! - لا تسخري من رجل قضى زهرة عمره وراء القضبان. - اغفر لي فإني لم أجاوز الأربعة والعشرين ربيعا من عمري! - ولكنه في حالتك يعتبر مرحلة من مراحل الشيخوخة!
وقامت متجهمة فقام في أثرها بحال توحي بالاعتذار، وقال: لا معنى للغضب بعد أن تعارفنا على خير وجه!
فقالت بنبرة ساخرة: شيدت قصرا ولكن على الرمال! - حقا؟ - الشاب الغني من طنطا حقيقة من صميم الواقع! - بل خيال في خيال! - حقيقة من صميم الواقع.
فقبض على ساعدها بعنف وهو يطلق على عينيها نظرة من نار. وتوثب ليقذفها بسيل من الكلمات التي انصهر بها شدقاه ولكن شخصا غريبا اقتحم الكشك على غير توقع. اقتحمه وكأنما ألقي به إليه. مشعث الشعر، أغبر الوجه، يتصبب عرقا. رفع بنطلونه وحبكه حول وسطه. ضرب الأرض بقدميه بشدة ليزيل عن حذاءه ما يطوقه من طين. بادلهما النظر صامتا دون أن ينبس. مضى إلى طرف الأريكة وارتمى عليها في إعياء. جعل صدره يرتفع وينخفض ورائحة عرقه تنتشر. حل بالكشك صمت كالشلل. لكن الفتاة كانت أول من خرج منه. خلصت يدها من قبضة الكهل وقالت: أستودعك الله، إني ذاهبة.
فقال الكهل برجاء: انتظري، يحسن بك ألا تسيري وحدك في الطرقات الخالية في هذه الساعة من الأصيل! - وإذا بالشاب الغريب يقول: ليست الطرقات بالخالية!
فرماه الكهل بنظرة مغيظة متسائلة فقال الشاب: جميع الطرقات مطوقة برجال الشرطة!
فتحول غيظ الكهل إلى دهشة وسأله: لم؟
فسأله الشاب بدوره: ألم تسمعوا طلقات الرصاص؟ - بلى، منذ وقت غير قصير، ظننته تدريبا عسكريا. - لم يكن تدريبا عسكريا.
فسألته الفتاة: أكان غارة جوية؟ - لم يكن غارة جوية.
فسأله الكهل: هل بلغتك عنه أنباء صادقة؟
فهز الشاب رأسه بالإيجاب، وأجاب النظرات المتسائلة قائلا: صعد شخص إلى قمة البرج وأطلق الرصاص من بندقية سريعة الطلقات. - ما هويته؟ - لا يدري أحد. - وما الهدف الذي أطلق عليه الرصاص؟ - أطلقه على كافة الجهات، على جميع الناس! - يا للخبر ، وكم عدد الضحايا؟ - لم يصب أحد! - غير معقول. - يبدو أنه أراد أن يطلق الرصاص لا أن يصيب أحدا! - حادث غامض. - إنه لكذلك. - هيهات أن يثبت عدم الشروع في القتل. - ذاك واضح، ولكن ربما صفحته خالية من السوابق!
فقال الكهل باستياء: ليس خلو الصفحة من السوابق بالشهادة الطيبة دائما، ولا العكس بالصحيح. - قول لا يخلو من حكمة. - أهنئك على حسن إدراكك. - شكرا. - لكن لنعد إلى مطلق الرصاص، لعله مجنون؟ - كلا. - إنك تتحدث عنه بيقين! - بل أردد ما تناقله الناس في الطرق. - ولكن لم يطلق النار في جميع الجهات دون أن يقصد إصابة أحد! - ذاك بعض السر الذي يسعى وراءه رجال الشرطة.
فقالت الفتاة: لعله مجنون بالشهرة. - لا يبدو كذلك.
فعادت تقول: لعله كان في حاجة ملحة إلى الترفيه!
فابتسم الشاب قائلا: لا أظن الأمر كذلك.
وسأله الكهل: ماذا يقول الناس عنه أيضا؟ - يقال: إنه كان ضمن وفد دعي إلى زيارة الجبهة ومعسكرات اللاجئين. - حقا! .. لعل أعصابه اهتزت فوق ما يحتمل. - لكنه لم يفقد توازنه قط وإلا لقتل الناس بالعشرات! - أطلق النار وهو في كامل وعيه؟ - وكامل عقله! - يا له من حادث غامض!
وقالت الفتاة: كم أود أن أراه!
فقال الكهل: سترينه في جرائد الغد، كذلك تجري الأمور منذ قديم!
ثم التفت إلى الشاب وهو يقول كأنما يقدم له نفسه: أنا أيضا ولعت يوما بإطلاق النار!
ثم بنبرة اعتزاز: ولكن الرصاص انصب على الأعداء!
فقال الشاب بامتعاض: يقال: إن صاحب البندقية المجهول هتف قبل أن يختفي «ليستقر الرصاص في قلب العدو الأكبر.»
فقال الكهل في حيرة: حتى القتل أصبح غامضا رغم أنه أوضح فعل في الوجود! - ليس ثمة غموض ألبتة.
فتساءل الكهل بغيظ: أكان العدو الأكبر يسير فوق رءوس المارة؟ - أو خلفهم أو أمامهم أو تحت أرجلهم!
فقالت الفتاة بانفعال: واضح أو غامض، لا يهم، كم أنه جميل أن يطوف إنسان بالجبهة وبمعسكرات اللاجئين ثم يصعد إلى برج القاهرة ليطلق النار في جميع الجهات!
فسألها الكهل: هل وضح لك ما غمض علي ؟ - نعم. - ولكن كيف؟ - إني أفهم بطريقتي الخاصة!
وسادت لحظات من الصمت ارتفعت خلالها ضجة في الخارج. ثم تبين على وجه اليقين أن ثمة ضجة تجتاح الحديقة.
هرعا إلى ثغرات الياسمين فرأيا العشاق يتجمعون في الممشى وقد تولاهم الوجوم والارتباك. ثم رأيا رجال الشرطة وهم يحتلون الأركان. قالت الفتاة بانفعال: أصبحنا في قلب الحدث.
فقال الكهل: وقد يقع صدام دام.
والتفتت الفتاة نحو الشاب وقالت له: واضح أن رجال الشرطة يعتقدون أن صاحبك المجهول في الحديقة معنا!
فقال الشاب بهدوء: وهو فرض محتمل!
فقال الكهل: ولم يعد ثمة مجال للهرب.
فقال الشاب: إن من يقدم على ما أقدم عليه لا يمكن أن يركن إلى الهرب إلى ما لا نهاية.
فقال الكهل وهو يحدجه بمودة: وعليه فخير سبيل أن يذهب إليهم بنفسه. - أتظن ذلك؟
وابتسم. ثم قام بهدوء. حياهما بإحناءة من رأسه قائلا: إلى اللقاء.
ومضى نحو باب الكشك فمرق منه إلى الحديقة وهما يردان وراءه: إلى اللقاء!
واقتربا من باب الكشك متلاصقين وراحا يراقبان ما يحدث في الخارج. لبثا وقتا غير قصير ثم رجعا إلى مجلسهما فيما يشبه الإعياء والحزن. وقال الكهل وكأنه يناجي نفسه: فاتني أن أستوضحه بعض الأمور، كان الوقت قصيرا وحرجا!
فقالت الفتاة: وفاتني أن أدعوه إلى شيء من اللهو!
فقال لها معاتبا: ما زلت قادرة على المزاح! - أنسيت هيامي بالرقص والغناء والمرح؟
فقال بامتعاض: آن لك أن تذهبي إلى شابك الغني من طنطا!
فضحكت قائلة: دعني أعترف لك بأنه حلم لا أساس له في الواقع!
فهتف بغضب: لقد أرهقتني اعترافاتك المتضاربة.
فقالت بتسليم: هلم بنا إلى عنبر لولو!
ونهضت قائمة. لكنه جذبها برقة من يدها فأجلسها مرة أخرى وقال وهو يحني رأسه: دعيني أعترف لك بأن عنبر لولو لم توجد بعد.
فاتسعت عيناها دهشة وتمتمت: ماذا قلت؟ - كانت مجرد مشروع! - مشروع؟! - أجل. - ماذا تملك لتنفيذه؟ - رسمنا له خطة عظيمة في غيابات السجن! - السجن؟! - كان حياتنا الحقيقية، أنا وبعض الزملاء، وقد اشتققنا اسمه من عنبر السجن وأضفنا إليه «لولو» على مثال هونولولو. - وماذا عن تمويله؟ - فكرنا في ذلك بطبيعة الحال، وبالإجماع اتفقنا على وسيلتين لا ثالث لهما؛ وهما السرقة والقتل!
فضحكت متسائلة: وماذا أخركم عن التنفيذ مذ تم الإفراج عنكم؟ - الخيانة! - الخيانة؟ - إذا بالزملاء يتوبون إلى الله ويؤدون فريضة الحج في عام واحد! هكذا تعطل مشروع عنبر لولو! - يا للخسارة! - العين بصيرة واليد قصيرة!
وفرق بينهما صمت واجم ثقيل. حتى قال الكهل: آن لنا أن نذهب ولكن لا يجوز أن نفترق! - حقا؟ - ألا ترحبين بذلك؟ - من المؤسف أنك لن تحسن الرقص ولا الغناء ولا المرح. - ولكني صاحب مشروع قيم! - عنبر لولو؟! - أجل. - لكنه لا يمكن تنفيذه بمجهود فردي؟ - إذا اتفقنا أمكن أن نصنع شيئا ذا بال. - وماذا في وسعي أنا؟ - أصغي إلي، نحن نملك مواهب لا تقدر بثمن. - ما أريد إلا أن أرقص وأغني وأمرح. - لن أطالبك بأكثر من ذلك. - ماذا تعني؟ - عنبر لولو، جنة الأحلام، ما قيمتها بلا رقص وغناء ومرح.
فابتسمت الفتاة بأمل وتساءلت: وأنت؟
فقال بفخار: أنا مولع بالقتل منذ قديم الزمان.
قام فقامت. أعطاها ذراعه فتأبطتها. مضيا نحو باب الكشك وهو يقول: سأطلق الرصاص في جميع الجهات وسنرقص ونغني ونمرح.
Page inconnue