ولكن كثيرا ما يخطئ الطبيب فيشخص المرض على غير حقيقته، فلعله واهم. ولعله أخطأ التشخيص، وكثيرا ما يحدث، وكثيرا ما نسمع الأحاديث عن أطباء شخصوا فأخطئوا التشخيص وعالجوا فأساءوا العلاج، فلأذهب إلى طبيب ثان وثالث من كبار الأطباء حتى أستيقن المرض، وهكذا فعلت، ولكن - مع الأسف - كلهم أجمعوا على التشخيص وطريق العلاج.
بدأ الطبيب المعالج يباشر علاجه: فها أنا في المستشفى والطبيب يعصب عيني قبل العملية بأسبوع، وها أنا ذا في ظلام حالك ليل نهار، دنياي كلها ليل، بل أكثر من ليل، فالجلسة محرمة، والتقلب على الجوانب محرم، كأني قد شددت على السرير شدا، بل أصعب من الشد، لأن إرادتي هي التي تشدني، فاحتملت في صبر، وبدأت أفكر في الدنيا وهوانها وسخافة الناس الذين يشغلون أنفسهم بالتافه من أمورها، ويتحاربون ويتشاجرون على الحقير من متعها، وهي عرضة في كل وقت للزوال، ولو عقلوا لما تخاصموا ولا تحاربوا وكانوا إخوانا متحابين متعاونين، يأخذون الأمور بهوادة وحكمة وحسن تقدير وتفكير في العواقب.
حاولت أن يكون ظلامي مضيئا، فلئن حرمت النور من العينين فليستنر قلبي، ولئن حرمت نور البصر فلتضئ بصيرتي، ولكن كنت أنجح في هذا حينا وأخفق أحيانا، فقد اختلف الإلف والعادة وكنت أشعر دائما أن العينين هما الكوتان اللتان تطل منهما نفس الإنسان على الدنيا، فإذا عدم النظر فقد أغلقت الكوتان، وحبست نفس الإنسان؛ وأحيانا كنت أتردد بين الأمل في عودتي إلى ما كنت عليه وأن تجري الأمور في المستقبل القريب كما جرت في الماضي، فأشعر بالطمأنينة والراحة، وبين اليأس والخوف من الظلام الدائم، فيستولي علي الفزع والهلع؛ وأرهب ما يكون إذا تقدم الليل وانقطع الزوار وانصرف الأهل، ونام الناس، واعتراني القلق، وشعرت بالوحدة، واستولت علي الأفكار المظلمة، فاجتمع علي ظلام الليل وظلام النفس.
أستجدي النوم فلا يجدي، وأفزع إلى الأفكار المطمئنة فلا تسعف، وأعد ساعة الجامعة بالقرب مني ربعا فربعا، وتغفو عيني غفوة فأظن أن الليل انقضى ببؤسه وشقائه، ثم أتسمع إلى حركة الشارع لعلي أتبين منها قرب النهار، فأسمع حركة عربات وسيارات ومارة، فأتساءل: هل الناس عائدون من آخر سهراتهم أو هم مستقبلون لبدء نهارهم؟ وهل هذه الحركة حركة متأخرة، أو حركة مبكرة؟ وأظل في هذا الشك زمنا بين رجاء أن يكون الصبح وخوف أن يكون الليل، وإذا بالساعة تدق الحادية عشرة أو الثانية عشرة، فأجزع من أني مقبل على ليل ليس له آخر، وأنشد مع الشاعر:
يا ليل بل يا أبد
أغائب عنك غد؟
وأعزي النفس بأن حولي في الحجر المجاورة في المستشفى مرضى يتألمون ولا أتألم، ويستغيثون ولا أستغيث، وأن بهم جروحا ولا جروح بي، ولكن سرعان ما تذهب هذه التعزية لأن الآلام متنوعة، وقد يكون ألم النفس أشد وقعا من ألم الجسم.
لم يكن لي من العزاء أحسن من الإيمان، فهو الركن الذي يستند إليه المرء في هذا الوقت الرهيب، ومن دونه يشعر كأن الهاوية تحت قدميه.
لو أدرك الناس هذا ما ألحدوا، فالإلحاد جفاف مؤلم، وفراغ مفزع، ومحاربة للطبيعة الإنسانية التي فطرت على الشعور بإله، والارتكان عليه والأمل فيه، وإلا كانت الحياة جافة فارغة مفزعة منافية للطبيعة. وكان من المصادفة الحسنة أن حضر إلي أحد أبنائي الأوفياء وأحب أن يسليني بالقراءة لي بعض الوقت، فكان مما اختاره لي كتاب «اعترفات تولستوي» فوقع في نفسي موقعا جميلا، إذ رأيته يصور حياته وقد ركن أول الأمر إلى العقل وحده، وإلى العقل الواقعي لا غير، فأسلمه الاعتماد على المقدمات المنطقية المادية وحدها إلى الإلحاد، وعد الدين خرافة من الخرافات، ولكنه شعر بعد حين بأن الحياة لا قيمة لها وأنها فارغة من المعاني.
إن هذه الحياة المادية التي تركن إلى العقل الجاف وحده لا تستطيع أن تجيب عن الأسئلة الآتية: ما قيمة الحياة؟ ما الذي يربط بين الحياة المادية المحدودة وبين الأبدية؟ وما الذي يربط بين حياة الإنسان الجزئية والإنسانية الكلية؟ إلى مثل هذه الأسئلة فكان لا يجد في قضايا العقل وحدها جوابا، وساءت نفسه وأظلم تفكيره، وأدرك أن الحياة على هذا الوضع نكتة سخيفة، وأنها لا تستحق البقاء، وحاول الانتحار مرارا، وفي كل ذلك كان يهزأ بالدين، ولا يريد أن يتجه إلى التفكير فيه؛ وأخيرا بعد الشقاء الطويل والعذاب الأليم اتجه إلى الدين لينظر كيف يحل الجزئية بالكلية، والنفس الفردية بالإنسانية، فاطمأنت نفسه وانقلب متدينا.
Page inconnue