ولما انقسم الوفد واتهم عدلي باشا وصحبه ببعض الاتهامات كنت في صف سعد باشا ومن مؤيديه والداعين له، ومع ذلك لم يضع استقلالي في التفكير، فأذكر مرة أن كان سعد باشا في حجرته في منزله، وتناول عدلي باشا بالتجريح قبل أن يهاجمه علنا، فسألته الأدلة على هذا التجريح، فأتى بأدلة لم تقنعني، فرددت عليه فغضب مني وقال لي: «إنك اليوم سيئ المنطق».
على كل حال انغمست في السياسة واشتركت في المظاهرات وبخاصة في المظاهرات التي ترمي إلى التقريب بين الأقباط والمسلمين، وكنت أتلمس المظاهرة، فأركب عربة وأنا بعمامتي أصطحب فيها قسيسا بملابسه الكهنوتية ونحمل علما فيه الصليب والهلال ونحو ذلك من أعمال.
واشتدت الحركة الوطنية في مدرسة القضاء وأفلت زمامها من يد عاطف بك بعد أن كان لا يسمح بمظاهرة ما ولا إضراب، إلى أن جاء يوم انعقد فيه مجلس الإدارة في المدرسة وكانت الوزارة وزارة نسيم باشا الأولى، وهي ليست على وفاق مع سعد، وكان وزير المعارف محمد توفيق رفعت باشا عضوا فيه، فاجتمع بعض الطلبة في جزء من فناء المدرسة تحت شباك الحجرة التي ينعقد فيها المجلس وهتفوا بحياة سعد وسقوط وزارة نسيم، فاتهم رفعت باشا عاطف بك بأنه دبر هذه المؤامرة مع أنه بريء من ذلك فيما أعتقد، ولم يأت المساء حتى أعلن قرار مجلس الوزراء بإحالة عاطف بك على المعاش.
أثر هذا الحادث في نفسي أثرا كبيرا وحزنت له حزنا عميقا، فقد لازمت عاطف بك نحو خمسة عشر عاما في مدرسة القضاء، تلميذا ومدرسا، وأنا أستفيد من روحه ومن خلقه، فلما خرج منها أحسست أن بناء المدرسة قد هدم على رأسي.
وعين للمدرسة ناظر جديد
1
لا أعرفه ولا يعرفني ووجد المدرسين في المدرسة يقابلونه مقابلة حسنة ويسيرون معه كما كانوا يسيرون مع عاطف بك فإن حزنوا لخروج عاطف فحزن في نفوسهم من غير أن يكون له مظهر خارجي أما أنا فلسذاجتي لم أستطع أن أكتم عواطفي، فلم أستقبله عند حضوره ولم أسلم عليه إلا إذ قابلته عرضا، وكانت تأتيه الأخبار أني أذهب كل يوم عصرا إلى عاطف بك في منزله، فكرهني أشد كره، وأعلن ذلك في جمع من الأساتذة، وقال إنه يجب أن يتعاون مع كل المدرسين إلا إياي، وساءت حالتي في المدرسة. وحدث أن قرر مجلس الإدارة يوما تعيين متخرج من مدرسة القضاء مدرسا بالمدرسة بشرط ألا يدرس الفقه، فرأيت القرار نابيا، وأنه يمس مدرسة القضاء في صميمها، فتحدثت بذلك مع المدرسين والطلبة وترتب على ذلك أن هاج الطلبة لما أن سمعوا كلامي، وبلغ ذلك الناظر الجديد فركب عربة وذهب إلى رئيس الوزراء عدلي باشا يكن وأبان أنه لا يستطيع العمل معي، فأصدر أمره بنقلي إلى القضاء. فعينت قاضيا في محكمة قويسنا الشرعية، وكان هذا آخر العهد بتدريسي في المدرسة.
وانتهت بذلك مرحلة طويلة، هي زهرة العمر تقريبا: خمسة عشر عاما من سني الشباب بين طالب ومدرس، نلت فيها أكثر ثقافتي، وجربت فيها أكثر تجاربي في الحياة، وتعلمت ما استطعت من العلم ومن الناس، ولقيت فيها أكبر الشخصيات التي أثرت في نفسي، وطبعت فيها بطابع لازمني طول حياتي؛ دخلتها مغمض العينين ليس عندي إلا قليل من التجار، وخرجت منها شيئا آخر، لذلك بكيت عليها كما أبكي على فقد أب أو أم أو أخ شقيق؛ ومما آلمني أنني تركت التدريس وهو ما أحبه إلى القضاء وهو ما لا أحبه، وظللت أعزي نفسي بالاتصال بعاطف بك وبعض الأساتذة الذين أحبهم اتصال صداقة؛ كما ظللت أساهم في السياسة وأشارك بعض من صاروا من زعماء السياسيين،
2
ولكن لم أندفع اندفاعهم، ولم أظهر في السياسة ظهورهم، لأسباب أهمها أني - على ما يظهر - لم أتشجع شجاعتهم، فكنت أخاف السجن وأخاف العقوبة. ولعل من أهم أسباب خوفي إشفاقي على والدي وقد أصبحت ابنهما الوحيد؛ إذا سمعا بحبسي أو عقابي هد ذلك من كيانهما الذي أشرف على السقوط. وقد علمني أبي الإفراط في التفكير في العواقب ومن فكر في العواقب لم يتشجع. والسبب الثاني أن مزاجي علمي لا سياسي، ولهذا كنت أختلف عن زملائي السياسيين بأنهم كانوا يؤمنون بسعد باشا كل الإيمان، ويعتقدون صحة كل ما ذهب إليه وارتآه، ويئولون ما يصدر عنه من خطأ ويلتمسون الحجج لتبريره، ولم أكن على هذا المذهب، بل كنت أؤيد سعدا وأنقده، وأؤيد عدلي وأنقده؛ وليس هذا هو المزاج السياسي الذي يؤمن بكل ما يصدر عن الحزب ويتحمس له، وإنما هو المزاج العلمي الذي يزن الشيء مجردا ثم يحكي له أو عليه في أناة.
Page inconnue