اعتزمت السفر إلى الواحات الخارجة، وذهبت إلى المحطة وودعني عدد كبير من طلبة المدرسة ومدرسيها، واعتذر الناظر لارتباطه بموعد آخر، وكان وداعا مؤثرا حقا اختلط فيه شعور الفرح الشديد بالحزن الشديد - فرحت لما رأيت من مظاهر الوفاء والإخلاص، حتى جرى الطلبة مع القطار في بدء تحركه وآثار الحزن بادية على وجوههم، وحزنت لحالة أبي وأمي لفراقهما من غير عائل يعولهما، ووصلت إلى أسيوط في الساعة الثالثة بعد نصف الليل وذهبت إلى أقرب فندق، وفي الصباح سألت عن المحكمة الشرعية فوجدتها في بناء جميل فرش فرشا جميلا، واستقبلني رئيس المحكمة
1
استقبالا حسنا ودعاني للغداء معه، وعرض على في المساء أن يزيرني بعض بيوت الكبراء، وتقابلنا وأزارني بيت الهلالي، وبيت خشبة، وعندما زرنا البيت الثاني وجدنا مدير أسيوط هناك، يحف به كثير من الأعيان، فاستقبلنا استقبالا فاترا، ثم جلس يتحدث والقوم منصتون كأن على رءوسهم الطير، يؤمنون على كل ما يقول ولا يجرؤ أحد أن يخالفه في قوله، وكان موضوع حديثه المقارنة بين أقباط أسيوط ومسلميها، وأن الأقباط أكثر جدا في الحياة وسعيا في طلب الرزق وحرصا على ما يدخل في يدهم من مال وأكثر تعليما لأولادهم، وأكثر قبولا للمدنية الحديثة، وأن المسلمين يجب أن يسيروا سيرهم ويعنوا بأمورهم وهم أولى بذلك.
26 إبريل
بعد أن قضيت يومين في أسيوط رأيت فيهما المدينة ومبانيها ومتاجرها ومساجدها وخزانها، ركبت قطار الصعيد في الساعة الثالثة بعد نصف الليل، فوصلت مواصلة الواحات في الساعة السابعة صباحا، ثم انتقلت إلى قطار الواحات فسار القطار سيرا بطيئا وبدت لي الصحراء متسعة الأرجاء، طورا يمد الناظر نظره فلا يرى إلا أرضا منبسطة كلها رمال، وطورا يرى هضبات مرتفعة، ومررت على أرض يسمونها «غيط البطيخ»، لأنها أرض رملية واسعة بعثرت فيها أحجار مكورة كأنها البطيخ، وكان لون الرمال يختلف كلما سرنا فتارة أحمر وتارة أصفر وتارة غيرهما؛ وظل هذا منظر الصحراء حتى وصلت بلدة المحاريق في الساعة الثالثة بعد الظهر، وكان يقيم فيها المنفيون، ثم وصلت الخارجة في الساعة الرابعة، فكانت مدة الطريق نحو تسع ساعات، ولو أسرع القطار لقطعها في ثلاث أو أقل، وكان يحزنني أثناء الطريق ذكرى أبوي الشيخين وحنيني إلى وطني وألمي من غربتي. فلما قاربت الوصول إلى الخارجة، مررت على مركز لشركة إنجليزية أنشئت لتستغل أرض الواحات، فرأيت إنجليزيين يقفان في الشمس يشرفان على العمال، فقلت في نفسي أيأتون من إنجلترا الباردة إلى الواحات المحرقة طمعا في الكسب وأملا في النجاح، ويعيشون عيشة فرحة مستبشرة، وتأتي أنت من بلدة في مصر إلى بلدة أخرى في مصر ليس بينهما إلا أقل من يوم وتبكي؟ - خجلت من نفسي وتبين لي سبب من أسباب نجاحهم وإخفاقنا وغناهم وفقرنا. وعاهدت الله ألا أحزن بعد ذلك ولا أبكي.
29 أبريل
نزلت يومين ضيفا على معاون الإدارة، إذ لم يكن للواحة مأمور وإنما يقوم مقامه معاون، وبحثت عن بيت أسكنه، وأخيرا اهتديت إلى بيت هو خير ما رأيت، أجرته ثمانون قرشا في الشهر، دوران بنيا بالطوب النيئ، وسقفا بجذوع النخل. إذا فتحت شبابيكه أسندت بقطع حجرية، أحسن ما فيه أنه بسيط خلا من كل مظاهر المدنية والحضارة، يطل من ناحيته البحرية على بساتين زرعت نخيلا ومشمشا وبرتقالا، ويطل من ناحيته الجنوبية على الصحراء الرملية، وبعد أن استرحت فيه قليلا سمعت الباب يدق، فجاءني الخادم يقول إن أخا المأذون بالباب، فأذنت له، فدخل ووراءه غلام يحمل صحفتين في يديه، في إحداهما لحم نيئ، وفي الأخرى أرز غير مطبوخ. قلت: ما هذا؟ قال هي هدية من أخي المأذون، فاعتذرت في رفق. فأخذ يتلو علي الأحاديث الكثيرة في فضل الهدية وقبولها، فاضطررت أن أعتذر في عنف، وبعد ساعة أو ساعتين دق الباب ثانية، فإذا بخادم العمدة يحمل معه عشر برتقالات، وهي في نظرهم هدية ثمينة، لأن زمن البرتقال قد انقضى من الواحات وأصبح فيها تحفة ثمينة، فاعتذرت أيضا.
30 إبريل
زرت الخارجة، وقد علمت أن عدد سكان بلدانها كلها 8383 نفسا، وأكبر بلادها الخارجة، فهي تزيد عن خمسة آلاف، ثم باريس فهي ألف وبضع مئات، ثم بولاق وهي تزيد عن الألف، ثم جناح وهي تزيد عن أربعمائة. أكثر كسبهم من النخيل في موسم البلح، وهم يزرعون القمح والأرز والشعير والفول السوداني والمشمش والزيتون والبرتقال وقليلا من البطيخ، وحب القمح والأرز ضئيل كأهلها وحيواناتها، وقد أخبرت أنهم إذا أرادوا أن يزرعوا قمحا فلابد أن يأتوا بالتقاوي من الصعيد، ولا يبذرون قمحهم لأنهم إن فعلوا ذلك خرج المحصول في غاية الضعف والصغر، وبيوتها كبيوت قرى الريف المصري الحقيرة. مبنية بالطين مسقوفة بجريد النخل. وبعض شوارعها مسقوف وبعض أجزاء هذا السقف وطيء حتى يضطر السائر أن ينحني وهو يسير انحناء يقرب من الركوع، وترى الرجال والأطفال إذا مروا في هذه الشوارع مساء يحملون أعوادا من الخشب يشعلونها ليهتدوا بها ويتقوا العقارب.
فيها طائفة من العميان يعملون سقائين وهم يسيرون جماعات وعلى ظهورهم القرب، يحملون الماء من العيون إلى البيوت، وليس بها سقاء إلا أعمى. وأغرب مناظرها منظر العيون تنبع من الأرض وتجري في الجدول، وبعضها طبيعي وبعضها مصنوع، وبعضها كبير وبعضها صغير، وبعضها قد بذل في عمله جهد كبير، وبعضها يدل مظهره على أنه من أثر الرومان. والناس يملكون ماء العين بالساعات، قسم الأسبوع إلى ساعات، فمنهم من يملك العين ساعتين أو ثلاثا أو أكثر في الأسبوع، يسقي فيها أرضه وزرعه.
Page inconnue