La Vie de l'Orient
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Genres
بيد أننا لم نتخذ شيئا من الفضائل الأوروبية كالاتحاد والمناصرة والتضحية وبذل المال في سبيل الخير وشد أزر المشروعات الوطنية، وازدرينا ديننا وآدابنا القومية وتاريخنا وتقاليدنا، ولم ندرس ماضينا ولم نطلع على صفحات حضارتنا، ولم نبن ركنا جديدا كما كانت أوائلنا تبني ولم نفعل كالذي فعلوا، بل هدمنا وعشنا بين الأنقاض وسترنا أنفسنا بأسمال من بضائع أوروبا وزينا أدمغتنا ببعض قشور من علومهم، ولم نشيد لمجتمعنا قواما قويا حديثا بدل الذي تهدم فأفسدنا حياتنا فسادا يبدو كأنه لا صلاح له. فوجب علينا إذن مداواة العلة قبل استفحالها وعلاج الداء قبل الإعضال.
هل كان قاسم أمين يحلم بكل هذا؟ هل كان يتمنى أن تصل المرأة المصرية إلى هذا الدرك من الانحطاط في سبيل السفور؟ إن دعاة السفور الآن ليخجلون من دعوتهم بعد أن جرت المرأة المصرية شوطا بعيدا في ما هو عكس الحرية المقصودة. لقد كان قاسم - رحمه الله - يرمي إلى تحرير عقلها من قيود الجهل وتحريرها من قيود الأسر المنزلي واسترجاع حقوقها التي شرعتها الشريعة المحمدية السمحاء، ولم يكن يقصد إلى الابتذال والتردي الذي صارت إليه المرأة المصرية بفهم الحرية المعكوس ...
كتينة الباشا الوزير ... والمستشار
أما الأفندي المصري وهو الطبقة السائدة في المدن، فهو مثال محزن من الخليط الإفرنجي والشرقي، وتعليمه بحكم الضرورة عاجز عن ترشيده، وقد قضى كرومر أربعين عاما في تعليم المصريين تعليما يؤهلهم ليكونوا موظفين في الحكومة وخداما للإنجليز، وقد رأيت رجلا صار فيما بعد وزيرا وكان إذ ذاك وكيلا لإحدى الوزارات ينتظر مستشار الداخلية في محطة العاصمة، فلما وصل المستشار أهوى الرجل على يده يريد تقبيلها ثم قبل يد زوجته ثم ذهب الرجل في أمر إعداد المتاع للنقل، فالتفت المستشار فلم يجده فناداه بأعلى صوته «يا فلان» فجاء المسكين يعدو ويشق صفوف الناس وهو يجأر: ييس سير، بالإنجليزية!
وقد تمثل لي في هذا المنظر ليس فقط الذل الذي وصل إليه المصري، وليس الثمن البخس الذي بيعت به الكرامة الشرقية (ووكيل الوزارة هذا عالم فاضل، وشاب نبيه، ومن سلالة تركية عالية)، بل تمثل لي نجاح سياسة كرومر ودنلوب في نصف قرن. وقد بلغ من تركز المهابة الإنجليزية في قلوب هذه الطبقة من الحكام أن رجلا شغل مناصب القضاء عشرات السنين ثم عين وزيرا لإحدى الوزارات، وحالما كان يباشر أعماله في غرفته علم أن سير برونيات، مستشار العدل السابق في مصر وعدوها اللدود الذي شبه الثورة المصرية بشرارة نار تطفئها بصقة إنجليزية؛ قد وصل إلى باب الوزارة ليزوره، وكان برونيات قد خرج من الحكومة المصرية من زمن وعين رئيسا لجامعة شنجاهاي وكان يسافر في مصر سائحا لا أكثر ولا أقل، وقد رأى من المجاملة أن يطوف بالوزارات ليتعرف إلى وزراء العهد الجديد، فلما علم المستوزر بمقدمه وقبل وصوله إلى درج السلم الموصل إلى غرفته نهض ولم يلاحظ أن مفتاح أحد الأدراج مشتبك بسلسلته الذهبية فانقطعت السلسلة، وكان المستشار لم يصل بعد وبقي في انتظاره بباب غرفته بضع دقائق ولم ينل من تحيته واستقباله غير قطع «الكتينة» الذهبية! وقد روى لي هذه الحادثة كاتب سره وكل منهما لا يزال حيا يرزق.
طبعا إننا لا ننكر قيمة التعليم الأوروبي وقد استفدنا به أعظم الفوائد، وأنا لا أتصور ماذا تكون حالة أحدنا إن لم نتفقه بآدابهم ولم نقرأ كتبهم ولم نطلع على مجلاتهم وصحفهم.
ولكن قد عرفنا بالابتلاء وتقرر لدينا بالاختبار منذ شرعنا نقوم بذلك أن التعليم مع كونه الدواء الشافي لأمراض عديدة وكونه ضروريا لا بد منه لإتمام الارتقاء الاجتماعي الصحيح؛ فإنه إذا لم نحسن إدارته كل الإحسان وتوفى وسائل تدبيره القسط الأكبر من الإجادة والإحكام انقلب بقوة فعله وعمله سما قاتلا تتولد منه جراثيم الفساد والاضطراب، لأن شأنه أن ينقض ما ينقض ويجرف ما يجرف ويهيج ضعاف الأدمغة ويستثير مساريع الأطماع وبعيدي الآمال مما لا يستطيع تحقيقه في الحال، فيحمل الإخفاق أهل البلاد على السخط والغضب فتضطرم نار ذلك اضطراما.
خطة كرومر ودوجلس دنلوب
وقد كانت هذه خطة كرومر في التعليم في مصر، وبقينا عشرات السنين نصرخ ضد دنلوب وزير المعارف المقنع ونحتج على سياسته ولا من يجيب نداءنا، وكان وزير يذهب وآخر يجيء ودنلوب رابض في كرسيه لا يتزحزح كأنه ورثه عن أجداده الاسكتلنديين، ومنحه الإنجليز لقب دكتور على جهله، وقد كان حقا دكتورا في الاستعمار وخنق الآمال القومية وقتل اللغة العربية ودراسة الدين، وفي عهده انقلبت المشيخة إلى أفندية بطرابيش كالطراطير وكانت لهم هيئة مضحكة ومحزنة وهم يلقنون دروس النحو والصرف والبيان والبديع، وعادوا بعد بضع سنين يلبسون العمائم والقفاطين فكانوا كالغربان في تقليد الطاووس.
وعلى الرغم من كل جهود الإنجليز ونجاحهم في صبغنا بالصبغة الإفرنجية مع نقص التعليم وحقارة شأنه وقلة العلوم التي تلقيناها واختصار المناهج وتلقيننا التاريخ والجغرافيا والرياضيات والطبيعيات بالإنجليزية، ولم يكن ينقصهم إلا أن يعلمونا اللغة العربية بالإنجليزية، على الرغم من هذا لم يفوزوا بمأربهم فقد تعلق بعضنا بالمثل الأعلى وتعلمنا اللغة الإنجليزية لزيادة ثقافتنا. وقد لمح كرومر من خلال الرماد وميض نار فعاد يقول في تقاريره إنه يرتاب شديد الارتياب في شأن المصريين الذين تلقوا العلوم الغربية. والحقيقة أن المستعمرين بعد أن رأوا في الحي رجالا أمثال مصطفى كامل وقاسم أمين بدءوا يعزون السبب في انتشار روح المقاومة للاستعمار إلى التعليم الذي جاءوا بمناهجه وأساليبه، وكان أول البادئين بهذا لورد ماكولي ثم كرومر وغيرهما من رجال السياسة، فأخذوا يحذرون حكوماتهم من إتقان التعليم في المستعمرات بحجة أن الغالب على الناشئين هو النزوع إلى الثورة، إذ كانوا يقرءون أمورا تسيء عقولهم هضمها ويقيسون أقيسة فاسدة فيتعبون ويتعبون، فهم يرغبون قلع العلوم الشرقية من بين الشرقيين ولكنهم يضنون أن يجعلوا مكانها العلوم العصرية لئلا تحيا بها نفوس هذه الأمم، إذ يعلمون أنه لا يجتمع العلم والذل في محيط واحد سواء كان علما شرعيا إسلاميا أو علما أوروبيا عصريا أو علما جامعا بين الأمرين.
Page inconnue