La Vie de l'Orient
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Genres
لقد ظهر في الشرق زعماء سياسيون كثيرون، بل في كل ناحية من ناحيات الشرق العربي وفي مصر خاصة، ونحن نذكر منهم على سبيل المثال جمال الدين الأفغاني وأحمد عرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول، وبعض الزعماء في بلاد فارس وسوريا وتركيا وشمال أفريقيا.
أما جمال الدين الأفغاني فكان في الحقيقة مصلحا عاما للدين والسياسة والاجتماع، ولكن السياسة كانت الصبغة الغالبة على مبادئه، ولعله اتخذ الإصلاح الديني والإصلاح الاجتماعي ونشر الفلسفة وسيلة للإصلاح السياسي، لأنه كان يرى أن إصلاح السياسة يصلح كل شيء، وكان الإصلاح السياسي في نظره ينحصر في نقطتين: الأولى تحرير الشعوب من الحكم الاستبدادي، أي من ظلم الحكام الشرقيين المطلقين الذين كانوا لعهده في فارس والأفغان وتركيا ومصر، وعندما ظهر لأول عهده لم تكن أوروبا قد هجمت على الشرق هذا الهجوم الفظيع، بل كان الإنجليز في الهند وحدها والفرنسيون في الجزائر وحدها. ونظر بعد ذلك في تخليص أمم الشرق الواقعة تحت الحكم الأجنبي وارتأى لخلاص الشعوب الإسلامية مما كانت واقعة فيه لعهده تأليف الجامعة الإسلامية تحت رياسة الخليفة، ولم يكن لعهده رجل يصلح لتولي هذا المنصب سوى السلطان عبد الحميد.
لقد لجأ الأفغاني أولا إلى الملوك أنفسهم وحاول هدايتهم بالعلاقة الشخصية، وقد نجح فعلا في إقناع شاه الفرس بضرورة إعطاء الدستور إلى شعبه، وتمكن من قلب الشاه وبذل له الإخلاص كله، وامتزج بالمصلحين من الشعب الفارسي بعد أن استمالهم إليه بعقله وعلمه وفصاحته وشخصيته الجذابة، ولما اضطهد وتآمروا ضده سافر إلى بلاد الهند، وشعر الإنجليز بقوته ونفوذه فنفوه فذهب إلى الأفغان، وكانت مملكته تتناهبها المظالم، وهي واقعة تحت السلطة الإنجليزية لأنها خطر على أبواب الهند، فلم يكن الدور الذي لعبه فيها عظيما ولكنه لقحها، وترك فيها خميرة صالحة كما ترك خميرته في فارس وكما ترك آثاره في الهند. وإني أفسر كل ما حدث في تلك البلاد من الثورات والنهضات القومية والنزعات الدستورية بفعل جمال الدين دون سواه، الذي كان نبي القومية الشرقية وأستاذ الحرية في تلك البلاد. ثم جاء إلى مصر وعلم فيها ونشر مبادئه، وكانت أسرع الأمم للاستفادة بمبادئه، فحصلت الثورة العرابية بعد خروجه من مصر بقليل. وفي مصر لقي الأفغاني اضطهادا من العلماء ثم من الحكومة ثم من الشعب، ولم يلذ به ولم يلتف حوله إلا بضعة نفر من العظماء يكادون يعدون على الأصابع، وأعظمهم بلا ريب المرحوم محمد عبده الذي نفذ خطته بعد موته، وكان وارثه الوحيد وحامل الشعلة التي تلقاها عنه في الإصلاح الديني والقومي.
وقصد جمال الدين إلى تركيا حيث لقيه السلطان عبد الحميد بالحفاوة والترحيب والكرامة، ولم يكن ذلك لدعج عينيه ولكنه لأنه رأى فيه عضدا في فكرة الجامعة الإسلامية، أو على الأصح لأن فكرة الجامعة الإسلامية التي بسطها له جمال الدين قد راقته وأراد الانتفاع بها لتوطيد ملكه. وكل رجال الإصلاح الذين قاموا في تركيا تلقوا عن جمال الدين مبادئهم.
ومات جمال الدين في القسطنطينية في أواخر القرن التاسع عشر مصابا بالسرطان في لسانه، ولهجت الألسن بعد ذلك أنه ذهب ضحية خصومه كما هي العادة في الشرق، وهذه شائعة لا أثبتها ولا أنفيها.
ولكن ماذا كانت حياة جمال الدين الذي كان من عظماء العالم؟
إنه كان كسقراط في حكمته وقدرته على تكوين الرجال.
وكان كابن خلدون في علمه واتساع دائرة معارفه.
وكان كديموستين في فصاحته وخطبه، وكجان جاك روسو في حريته وصراحته.
لقد عاش مضطهدا مطاردا، ولم يتمكن في واحدة من الممالك الإسلامية الشرقية التي عاش فيها وأحب خيرها وخدم شعبها؛ من أن يعيش عيشة راضية أو يتمتع بحياة هادئة، ولم يؤسس أسرة، ولم يبن بيتا ولم يدخر مالا، ولم يتول منصبا، بل عاش عيشة المفاليك المشردين، يبيت ليلته ولا يدري أين يكون صباحه. ومع ذلك فهو الرجل الوحيد الذي أيقظ المشرق من رقدته التي نامها سبعة قرون منذ اجتاحه الموغول من الشرق والأوروبيون من الغرب، هو الرجل الذي أنهض الشرق بعد أن يئس كل من عداه من إيقاظه.
Page inconnue