159

La Vie de l'Orient

حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره

Genres

ولو كان محمد مخادعا في قليل أو كثير لفقد ثقة أتباعه وصحابته وأنصاره، فضلا عن أن خصومه ما كانوا ليسكتوا عن مساوئه، فما بالك إذا كان هؤلاء الخصوم أنفسهم قد شهدوا بأمانته وعفته وصدقه ومكارم أخلاقه؟

إن التاريخ لا يعرف زعيما دينيا نجح في دعوته وهو متصف بالرذائل كالخداع وغيره، وقد نجح محمد أعظم نجاح وكان أكبر الأنبياء توفيقا، وقالت دائرة المعارف البريطانية في مطبوعاتها الأخيرة

Mohamed, The most successful of prophets .

كما أنها بلا ريب إذا تنزلت وذكرت بعضهم لوصفته بأنه أخيب رجال السياسة وأشدهم سخافة.

بقي علينا أن ندل القارئ على قصة قديمة يعرفها تشرشل معرفة جيدة، وهي أن تشرشل شهد بعض معارك السودان وشهد مع بنيت الفظائع التي اقترفها كور (راجع عدد يناير 1898 من مجلة كونتمبوراري رڤيو بعنوان «بعد أم درمان»)، فإن الفظائع التي حرمتها جميع قوانين الحرب قد اقترفها (جرائد إنجلترا وفرنسا يناير وفبراير سنة 1899، وكتاب «المركز الدولي لمصر والسودان» تأليف جول كوشري.)

وفي نهاية الأمر وبعد أن هدمت قبة ضريح المهدي ونبش قبره ووزعت أظافره على السيدات واستعملت جمجمته محبرة للمداد في وزارة «ح» بالقاهرة لثلاثة أشهر، ثم نقلها بعد ذلك «ر» إلى لندن وأهداها إلى ابن أخت غوردون؛ قرر البرلمان الإنجليزي لأحد القواد مكافأة قدرها خمسون ألف جنيه 750000 فرنك بأغلبية 393 صوتا على 51. وفي تلك الجلسة احتج جون مورلي وونستون تشرشل، وقال هذا الأخير: «لقد كان المهدي نبيا وملكا وقائدا فلا تجوز إهانته ولا نبش قبره، ويعد هذا العمل وحشيا ومخالفا للشرف الوطني ولأبسط قواعد الإنسانية.»

وهذه النادرة في حياة تشرشل هي التي أوحت إلى المؤلف الألماني أن يستعمله في كتابة المقدمة لتاريخ المهدي. ولو استحق المهدي دفاع تشرشل وتحمسه والذود عن حرمة قبره، فيجدر بتشرشل أن لا يتهجم على مقام النبي محمد الذي كان المهدي من أصغر أتباعه. لو أن المهدي استحق لقب الملك والقيادة والنبوة وهو لم يعمل إلا في حدود طاعة محمد والسير على قدمه، فماذا تكون مكانة محمد نفسه في نظر ذلك الذي كان يفتخر بالدفاع عن محمد أحمد السوداني الذي وصمه كثيرون من كتاب الإنجليز بالخداع والدجل والادعاء؟

الحبشة بين الماضي والحاضر

زار مصر أخيرا سمو الأمير اصفاوصن ولي عهد الحبشة، فلقي من الإكرام والإجلال ما يستحقه ولي عهد مملكة أفريقية شقيقة لها فضل الاستقلال والتنعم بالحرية. وأذكر أن كاتب هذه الأسطر تكلم في حفلة تكريم للشيخ عبد العزيز الثعالبي في يناير سنة 1930 في حديقة ليمونيا دعا إليها صاحب جريدة الشورى محمد علي الطاهر أفندي، فامتدح الحرية وامتدح الشعب الحبشي الذي يتمتع بالحرية مع بعده عن قشور المدنية، وأثنى على الفقير العاري الحافي الذي ينعم بالحرية والاستقلال وفضله على الغني المتنعم إذا كان في وطنه أسيرا أو تابعا لسيد أجنبي.

وضرب مثلا بالحبشة فاعترضه أحد الحاضرين وقال: «أنا مش وياك يا فلان ... فإن الحرية ليست كل شيء دائما ولا تقوم مقام الثروة ...» وكان المتكلم يريد أن يرد على المعترض بما يقنعه لولا أنه رأى وسمع أن جمهور الحاضرين معه فكفاه ذلك ترضية واغتباطا، لأن غايته إقناع السامعين برأيه ولا شأن لمعترض أو اثنين أو عشرة ما دامت الفكرة مقبولة لدى الكثرة الغالبة. وفي الحق أن المعترض كان يتكلم ضد ضميره.

Page inconnue