عندما كنت أدلف إلى الغرفة وهي تتحدث مع أمي يحل على الغرفة صمت مترقب غير طبيعي، وكانت أمي تستمع إليها وعلى وجهها تعبير بائس متصنع التعاطف يشي بأنها تحس أنها محاصرة. لكن ماذا عساها أن تفعل؟ إن فيرن هي صديقتها المقربة وربما الوحيدة، لكن كان ثمة أشياء لم تظن قط أنها سيتحتم عليها أن تسمعها. يبدو أن فيرن تفتقد السيد تشامبرلين.
وقد قالت لفيرن: «لقد كان يعاملك معاملة سيئة.» لكن فيرن هزت كتفيها وضحكت ضحكة غامضة وقالت: «صحيح، لقد كان يعاملني معاملة سيئة ، لم يسقط إنسان من نظري بهذه السرعة كما سقط هو، لكني مع هذا أفتقده كلما أسمع من يحاولون قراءة الأخبار المحلية في الإذاعة.»
لم تجد إذاعة جوبيلي من يستطيع قراءة الأخبار كما هي الآن مليئة بالأسماء الروسية دون أن يشعر بالذعر، كما جعلوا شخصا يدعى باتش يقدم برنامج «في ذكرى»، وعندما كانت الإذاعة تبث أغنية «يسوع، السعادة التي ينشدها الإنسان»، كانت أمي تصاب بالجنون.
كنت أنوي أن أخبر ناعومي حكايتي مع السيد تشامبرلين بعد أن انتهت. لكن ناعومي تعافت من مرضها بنظرة جديدة للحياة وخسرت خمسة عشر رطلا من وزنها، واختفت صراحتها مع قوامها المكتنز، وعف لسانها واختفت جراءتها. لقد صارت ترى نفسها من منظور جديد رقيق. كانت تجلس تحت شجرة وتنورتها تفترش المكان حولها تشاهدنا ونحن نلعب الكرة الطائرة وتتحسس جبينها بين الحين والآخر لتتأكد من أنها غير محمومة. إنها حتى لم تلق بالا لكون السيد تشامبرلين قد رحل؛ فقد كانت منشغلة تماما بنفسها وبمرضها؛ فقد ارتفعت حرارتها حتى تعدت المائة والخمس درجات فهرنهايت. اختفت المفردات الفجة عن الجنس من حديثها وكما يبدو من عقلها، برغم أنها تحدثت كثيرا عن الدكتور واليس الذي مسح رجليها بالإسفنجة بنفسه، وعن تعريها أمامه وهي تشعر بالعجز أثناء مرضها.
لذلك لم أنل الراحة المتمثلة في تحويل ما فعله السيد تشامبرلين إلى قصة مضحكة ومفزعة أيضا. ولم أعرف ماذا أفعل بهذه الحكاية، لم أستطع أن أعيده لدوره القديم، لم أستطع أن ألبسه دور الفاسق القوي قاصر الفكر المحرك الأساسي لأحلام يقظتي؛ فقد وهن إيماني بالانحلال المحدود. ربما في أحلام يقظتي فقط كان الباب المسحور يفتح بسهولة وبجمال، دافعا الأجساد إلى التحرر الكامل من أي فكر، من أي شخصية، إلى الانغماس في المتع؛ تلك الرخصة الرديئة المجنونة. بدلا من هذا، أراني السيد تشامبرلين أن جزءا كبيرا من المكون البشري هو الجسد الذي لا يستطيع الإنسان التغلب عليه ولكن يجب أن يمنحه حالة من النشوة، ذلك اللغز العنيد والجوانب المظلمة من النفس.
في شهر يونيو، أقيم حفل عشاء الفراولة السنوي الذي يقام على المرج خلف الكنيسة المتحدة. ذهبت فيرن إلى العشاء كي تغني مرتدية ثوب الشيفون ذا الورود الذي ساعدتها أمي في صنعه، غير أنه أصبح ضيقا للغاية عند الخاصرة؛ فمنذ رحيل السيد تشامبرلين زاد وزن فيرن ولم تعد رقيقة ومكتنزة، وإنما صارت بدينة للغاية متورمة كالنقانق المسلوقة، ولم تعد بشرتها ذات البقع شاحبة وإنما استحالت لامعة نضرة.
ربتت فيرن على خصرها قائلة: «على كل حال، لن يستطيع أحد أن يقول إن فستاني مضيق بالدبابيس، أليس كذلك؟ لكنها ستصير فضيحة إذا ما فكت الغرز.»
كنا نسمع صوت كعبيها العاليين على الرصيف؛ ففي الأمسيات الهادئة الغائمة تحت الأشجار المورقة كانت الأصوات تنتقل لمسافات بعيدة، فالضوضاء الاجتماعية لمرتادي حفل الكنيسة المتحدة كانت تصل حتى عتبة دارنا. هل كانت أمي تتمنى لو أنها ارتدت قبعة وفستانا صيفيا وذهبت للكنيسة؟ كان مذهبها اللاأدري ونزعتها الاجتماعية دائما في صراع في جوبيلي؛ حيث كانت الحياة الدينية والاجتماعية كيانا واحدا. طلبت منها فيرن أن تذهب إلى الكنيسة قائلة: «إنك عضو بالكنيسة، ألم تقولي لي إنك انضممت إليها عندما تزوجت؟» «وقتها لم تكن أفكاري قد تشكلت بعد، أما الآن فسأكون منافقة إذا ذهبت، فأنا غير مؤمنة.» «وهل تظنين أن كل من يذهبون إلى الكنيسة مؤمنون؟»
كنت في الشرفة أقرأ رواية «قوس النصر» التي استعرتها من المكتبة. كان شخص ما قد ترك بعض النقود للمكتبة فاشترت بها المكتبة مجموعة من الكتب الجديدة، معظمها أوصت به السيدة واليس، زوجة الطبيب التي تحمل درجة جامعية لكنها لا تتمتع بالذوق الذي كان مجلس المدينة يعول عليه. فقد كانت هناك شكاوى من الناس، وقال بعضهم إنه كان لا بد أن يوكل هذا الأمر إلى بيلا فيبين، إلا أنه لم يزح عن رفوف المكتبة سوى كتاب واحد هو رواية «وكلاء الدعاية»، والتي كنت قد قرأتها أولا، أما أمي فقد التقطتها وقرأت منها وأصابها الحزن. «لم أتوقع قط أن أرى أحدا يستخدم الكلمات المطبوعة في أمر كهذا.» «إنه يتناول مجال العمل في الدعاية، وكم هو مجال فاسد!» «أخشى أن هذا ليس الأمر الوحيد الفاسد، فقريبا سيكتبون عن كيفية الذهاب إلى المرحاض، لماذا لم يكتبوا عنه حتى الآن؟ لم يكن ثمة شيء كهذا في رواية «سايلس مارنر»، لم يكن هذا في مؤلفات الكتاب الكلاسيكيين. لقد كانوا كتابا جيدين، لم يكونوا يحتاجون لهذا.»
كنت قد تحولت عن روايات كريستين لافرانسداتر التاريخية التي كنت أفضلها وأصبحت أقرأ الروايات الحديثة كروايات سومرست موم ونانسي متفورد، كنت أقرأ عن أناس أثرياء ذوي حيثية كانوا يزدرون نوعية البشر الذين يشغلون قمة الهرم المجتمعي في جوبيلي: كالصيادلة وأطباء الأسنان وأصحاب المحال. تعلمت أسماء مثل بالنسياجا وسكيابارلي، وعرفت أسماء المشروبات الكحولية: الويسكي مع الصودا، والجن مع التونيك، وأسماء علامات تجارية مثل تشينتسانو، وبيندكتاين، وجراند مارنيي. وعرفت أيضا أسماء فنادق، وشوارع ومطاعم في لندن وباريس وسنغافورة. في تلك الروايات، كانت الشخصيات تمارس الجنس مع بعضها، كانوا يفعلون ذلك طول الوقت، لكن لا يرد فيها وصف دقيق لما يفعلونه على عكس ما كانت أمي تظن. وقد شبهت إحدى الروايات ممارسة الجنس بالدخول في نفق قطار (بافتراض أن الإنسان هو قطار كامل) ثم الاندفاع منه إلى مرج جبلي مرتفع جميل مبارك لدرجة يشعر معها المرء أنه يحلق في السماء. دائما ما كانت الكتب تشبه ممارسة الجنس بشيء آخر، ولم تتحدث عنه قط في حد ذاته.
Page inconnue