لكن فرانك ويلز قال بكل شهامة ومراعاة: «كنت سأفعل إن لم تكن تسكن على مسافة بعيدة للغاية.»
كان لا يزال يظن أنني أقطن في طريق فلاتس؛ إذ كنت مشهورة في الفصل بأنني أمشي مسافة كبيرة حتى أصل إلى المدرسة. ألم يعرف أنني أعيش في المدينة الآن؟ لا وقت كي أخبره ولا سبيل لذلك أيضا، كما أن الأمر ينطوي على مخاطرة صغيرة - لا أستطيع تحملها إطلاقا - أن يضحك علي تلك الضحكة الهادئة التي تشبه الصهيل ويقول إنه كان يمزح.
صاحت زوجة المصور قائلة: «جميع الراقصين.» فاستدرت بتلقائية نحوها وتبعتها إلى وراء الستائر. وبعد لحظة غرق إحباطي في بحر من الامتنان؛ فالكلمات التي قالها أخذت تتردد في عقلي كما لو كانت كلمات مديح أو اعتذار، فكانت نغمة حديثه رقيقة جدا وواقعية وإقرارية وجميلة . واستقر بداخلي شعور بالسلام - كذلك الذي كان يغمرني في حلم اليقظة - أثناء التقاط الصورة، وصاحبني في الطقس البارد في طريق العودة إلى قاعات المجلس، وبقي معي ونحن نغير ملابسنا حتى عندما قالت ناعومي: «انفجر الجميع ضحكا من الطريقة التي كنت تمسكين بها رأسك أثناء الرقص، لقد بدوت كدمية مكسورة العنق. لكن لم يكن بيدك أي شيء.» كانت في مزاج يزداد سوءا لحظة بعد الأخرى، وهمست في أذني: «هل تعلمين، كل ما أخبرتك به عن دايل ماكلوفلين؟ كله كذب، كله كان تمثيلا افتعلته كي أستخرج منك أسرارك، ها ها.»
كانت الآنسة فاريس تلتقط الثياب وتطويها بشكل آلي، وكان بعض من دقيق الذرة قد انسكب على مقدمة ردائها الوردي الضارب إلى الحمرة، وبدا صدرها مقعرا كما لو أن شيئا انهار بداخله. كانت لا تكاد تلحظ وجودنا إلا عندما قالت: «اخلعن الحلي وردية الشكل من على أحذيتكن يا بنات، اتركنها أيضا؛ فكل هذا سنعيد استخدامه يوما ما.»
سرت إلى مدخل قاعة البلدية، وهناك كانت أمي تنتظر ومعها فيرن دوجرتي وأخي أوين مرتديا زي تحية العلم (كان على طلاب الصفوف الأصغر أن يقوموا بمهام غير ذات أهمية مثل تحية العلم أو المقطوعات الموسيقية التعليمية البسيطة قبل رفع الستار لعرض الأوبريت) غارسا علمه - الذي سمح له بالاحتفاظ به - في كومة من الجليد.
فقالت أمي: «ما الذي أخرك هكذا؟» وكان لديها بعض التعليقات الصغيرة الغريبة تتعلق بالتقاليد فقالت: «لقد كان الأوبريت جميلا، لكن هل أصبت بتشنجات في رقبتك؟ ذاك الصبي ويلز كان الوحيد على خشبة المسرح الذي نسي أن يخلع قبعته أثناء نشيد «ليحفظ الله الملك».»
ماذا حدث بعد الأوبريت؟ في أسبوع واحد تلاشى عن الأنظار. فكانت رؤية قطعة من أزياء الأوبريت معلقة في حجرة المعاطف في انتظار إعادتها إلى مكانها؛ تشبه رؤية شجرة عيد الميلاد مسندة إلى الشرفة الخلفية في شهر يناير وقد تحول لونها إلى اللون البني وأجزاء من الشرائط المبهرجة ملتصقة بها، وكأنها تذكار لوقت تبدو توقعاته المحمومة وما بذل فيه من مجهود الآن في غير محله. لكن الأرضية الصلبة التي يوفرها لنا السيد ماكينا كانت ثابتة تحت أقدامنا؛ فكل يوم كنا نحل ثماني عشرة مسألة حسابية كي نلحق بما فاتنا من المنهج، ونستمع باطمئنان إلى عبارات مثل: «الآن وبسبب كل هذا الوقت الذي فقدناه، لا بد أن نضع أنوفنا بين شقي الرحى.» وقد بدت تعبيرات مثل «أنوفنا بين شقي الرحى»، «أكتافنا على العجلة»، «أقدامنا على الدواسات» - وهي التعبيرات المفضلة لدى السيد ماكينا - بسذاجتها وسهولة توقعها؛ مرضية لنا بشكل غريب. فكنا نأخذ معنا إلى المنزل أكواما من الكتب، ونقضي وقتنا نرسم خرائط أونتاريو والبحيرات العظمى - وهي أصعب خرائط يمكن رسمها في العالم - وندرس رواية «رؤيا السير لونفال».
كانت جميع المقاعد في الفصل قد نقلت من أماكنها، وقد اتضح أن عملية إعادة ترتيب المقاعد وتغيير الجيران فكرة مثيرة للاهتمام ومحفزة. وصار فرانك ويلز يجلس الآن على الجانب الآخر من الفصل. وذات يوم جاء حارس المدرسة بسلمه الطويل وأزال شيئا كان مرئيا في أحد المصابيح المعلقة منذ عيد الهالوين. اعتقدنا جميعا أنه واق ذكري وقد ارتبط اسم دايل ماكلوفلين به، ولكن - بالقدر نفسه من الغموض وإن كان أقل خزيا - اتضح في النهاية أنه مجرد جورب قديم. كان السيد ماكينا سيقول في مثل هذا الموقف: «إنه وقت نبذ الخيالات والعودة للحديث عن الأمور المهمة.»
بالطبع لم تخب جذوة الحب بداخلي تماما مع تغير الموسم؛ وظلت أحلامي تطاردني في يقظتي، لكنها كانت مستقاة من الماضي، فلم يكن هناك شيء جديد يغذيها، كما أن تغير الموسم أحدث فارقا. فقد بدا لي أن الشتاء هو فصل الحب لا الربيع؛ ففي الشتاء يبدو العالم الذي نقطنه متقلصا، ومن ذلك الحيز الضيق المنغلق الذي نعيش فيه، قد تزدهر الآمال الرائعة. أما الربيع، فيظهر جغرافيا المكان العادية؛ الطرقات الطويلة بنية اللون، والأرصفة القديمة المتشققة تحت أقدامنا، وأغصان الشجر التي تكسرت في عواصف الشتاء والتي لا بد أن تزال عن الأفنية؛ فالربيع يظهر المسافات كما هي بالضبط.
لم يستكمل فرانك ويلز دراسته ويلتحق بالمدرسة الثانوية كما فعل معظمنا، بل حصل على وظيفة في مغسلة جوبيلي للتنظيف الجاف. في ذلك الوقت، لم تكن محال التنظيف الجاف تمتلك شاحنات؛ فكان معظم الناس يذهبون ليستلموا ملابسهم بأنفسهم، لكن قليلا من الثياب كانت توصل إلى أصحابها في منازلهم. وكانت وظيفة فرانك ويلز أن يقوم بتسليم تلك الثياب في أي مكان في المدينة، وأحيانا كنا نقابله أثناء تأدية مهام عمله في طريق عودتنا من المدرسة، فكان يلقي علينا التحية باللهجة السريعة الجادة المهذبة التي تميز رجل أعمال أو رجلا عاملا يخاطب أولئك الذين لم يدلفوا بعد إلى العالم المسئول. وكان دائما ما يحمل الثياب رافعا إياها إلى مستوى كتفيه ومرفقه مثني بالشكل المناسب لإتمام المهمة؛ فعندما بدأ العمل لم يكن قد اكتمل نمو جسده ليبلغ أقصى طول له.
Page inconnue