نهضت في انصياع للأوامر، لكني في ركن الشرفة ضربت العصا في التعريشة الموجودة هناك في استياء همجي؛ لم أكن أرغب في الذهاب مع ماري آجنس، بل كنت أرغب في البقاء وتناول الطعام وسماع المزيد عن بورترفيلد، تلك المدينة الفاسدة الحزينة التي تغص بأشخاص يشبهون أفراد العصابات لا يمكن الوثوق بهم. وسمعت ماري آجنس وهي تأتي خلفي بخطواتها الثقيلة المتعثرة. «ماري آجنس، ابتعدي عن الشمس أينما كنت، ولا تذهبي للتجديف في النهر، فأنت معرضة للإصابة بالبرد في أي وقت من العام!»
قطعنا الطريق وسرنا بمحاذاة ضفة النهر، وفي وسط حرارة الحقول الجافة بعد حصادها وقيعان المجرى المائي المتشققة والطرق البيضاء المغبرة، كان نهر واواناش يمثل قناة تلطف من حرارة الجو. وكانت الظلال هي ظلال أوراق الصفصاف الرقيقة التي لم تكن تحجب أشعة الشمس أكثر مما يحتفظ المنخل بمحتوياته. وكان الوحل على ضفاف النهر جافا، ولكنه لم يكن قد تحول إلى تراب بعد، بل كان كمسحوق السكر الذي يزين الكعك، مكسوا بقشرة رقيقة أعلاه ولكنه رطب وبارد بالأسفل، وكان ممتعا في السير عليه. خلعت حذائي وسرت حافية القدمين، فصاحت ماري آجنس مستنكرة: «سوف أشي بك!» «أخبريهم إذا أردت.» ونعتها في سري «مزعجة غبية.»
كانت الأبقار قد نزلت إلى النهر وتركت آثار حوافرها في الوحل، وتركت أيضا روثها المستدير الذي يبدو عندما يجف ككرات مصنوعة يدويا، أو كألعاب من الصلصال المصنوع يدويا. وعلى الجانبين من حواف الماء كان ثمة بسط ممتدة من أوراق الزنابق، وبين الحين والآخر تظهر إحدى زنابق الماء صفراء اللون، والتي تبدو شاحبة وهادئة وجذابة، حتى إنني اضطررت إلى رفع أطراف ثوبي وطيها في سروالي، والخوض بين الجذور في الوحل الأسود الذي يقطر من بين أصابع قدمي، ويعكر الماء، ويملأ أوراق الزنابق وبتلاتها.
فصاحت ماري آجنس في انفعال غاضب: «سوف تغرقين، سوف تغرقين.» رغم أن مستوى الماء كان بالكاد تجاوز ركبتي. وعندما أحضرت الزهور للشاطئ بدت خشنة وذات رائحة نفاذة وبدأت تموت على الفور، فاستأنفت السير في طريقي، متناسية أمرها، وسحقت البتلات في يدي.
مررنا على بقرة نافقة ترقد وساقاها الخلفيتان في الماء، وكان الذباب الأسود يزحف ويتجمع على جلدها ذي اللونين البني والأبيض ويلمع في الشمس كالتطريز بالخرز.
أمسكت بعصا وضربت على جلد البقرة، فارتفع الذباب محلقا في دوائر ثم هبط مرة أخرى. تخيلت أن جلد البقرة عبارة عن خريطة؛ واللون البني يرمز إلى المحيط والأبيض إلى القارات العائمة، أخذت أتتبع بعصاي أشكالها الغريبة وسواحلها المتعرجة محاولة الحفاظ على طرف العصا بين اللونين الأبيض والبني بالضبط، ثم قدت العصا عبر العنق متتبعة حبلا مشدودا من العضلات، فقد نفقت البقرة وعنقها مشدود كما لو كانت تحاول الوصول للماء، ولكنها كانت ترقد في الاتجاه الخاطئ، ثم قرعت بالعصا على وجهها، كنت أكثر جبنا عندما تعلق الأمر بلمس الوجه، وكنت أجبن عن النظر في عينيها.
كانت عيناها مفتوحتين تماما، تبرز كنتوء أملس داكن اللون فقد القدرة على الإبصار يلمع كالحرير، وبه بريق ضارب إلى الحمرة من انعكاس الضوء، كما لو كانت برتقالة محشوة في جورب حريري أسود. استقر الذباب في جانب واحد، وتجمع بشكل جميل كما لو كان حلية ملونة بألوان قزح. كان لدي رغبة قوية في وخز العين بعصاي كي أرى ما إذا كانت سوف تنهار أم ترتج وتتداعى كالهلام، كاشفة أنها من التركيب نفسه، أم أن الطبقة الجلدية على السطح سوف تتمزق وتطلق سراح الأجزاء المتعفنة بداخلها تاركة إياها تسقط على الوجه. حركت العصا حول العين، ثم سحبتها، فلم أستطع، لم أستطع أن أخز العين.
لم تقترب ماري آجنس، بل قالت محذرة: «اتركيها وشأنها، تلك البقرة العجوز الميتة. إنها قذرة، وسوف تعرضين نفسك للقذارة.»
فقلت وأنا أطيل في حروف الكلمة بتلذذ: «أيتها البقرة الميتة، أيتها البقرة الميتة.»
فقالت ماري آجنس بلهجة آمرة: «تعالي إلى هنا.» ولكنني شعرت أنها خائفة من الاقتراب.
Page inconnue