ومضى عام وعام والحرب ما تزال مستعرة، والبؤس تتعدد ألوانه، وتتشكل صوره، وتحتشد آثاره، والرافعي دائم الحديث إلى نفسه وهو يحمل ما يحمل من هم الشعب في قلبه الكبير، حتى امتلأ الإناء يوما ففاض. •••
في بعض اللحظات التي تفيض فيها النفس بالألم، يحس الإنسان كأنه شيء له في نظام الكون إرادة وتدبير، وأن من حقه أن يقول للمقدور: لماذا أنت في طريقي ...؟ فتراه في بعض نجواه يتساءل: رب، لم كتبت علي هذا ...؟ لماذا حكمت بذلك ...؟ لماذا قدرت وقضيت ...؟ ما حكمتك فيما كان ...؟ ألم يكن خيرا لو كان ما لم يكن ...؟ ثم يثوب إلى نفسه ويفيء إلى الرضا، فيعود معتذرا يقول: رب، لقد ظهر حكمك ودقت حكمتك فمغفرة وعفوا ...!
وتظل حكمة الله مطوية في ظلمات الغيب، لا يتنورها إلا من غمره شعاع الإيمان، وسطع في قلبه نور الحكمة، أما الذين تعبدتهم شهوات أنفسهم فهم أبدا في حيرة وضلال.
في لحظة من تلك اللحظات، أغمض الرافعي عينيه وراح يفكر، وفي رأسه خواطر يموج بعضها في بعض ، ثم فاءت نفسه، فرفع رأسه وهو يقول: «رب ما أدق حكمتك، وأعظم تدبيرك ...!» وأفاض الله عليه ورفع عن عينيه الغطاء.
وعاد ينظر إلى الناس يأكل بعضهم بعضا، ويسرق بعضهم أقوات بعض، ويتزاحمون على الحياة فيسارعون إلى الموت، فدمعت عيناه، ولكنه كان يبتسم، وعاد يقول: «حكيم أنت يا رب! ليتهم وليتني ... ليتهم يعلمون شيئا من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس! ... كل شيء في هذا الكون العظيم يجري على قدر منك وتدبير حكيم!»
ثم شرع يؤلف كتابه «المساكين».
كتاب المساكين
أخرج الرافعي كتابه هذا في سنة 1917، وهو الكتاب الرابع مما ألف في المنثور، وثاني ما ألف في أدب الإنشاء، ويعرف به الرافعي في الصفحة الأولى منه فيقول: «هو كتاب أردت به بيان شيء من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس ...»
وقدم له بمقدمة بليغة في معنى الفقر والإحسان والتعاطف الإنساني، يقول فيها: «هذا كتاب حاولت أن أكسو الفقر من صفحاته مرقعة جديدة ... فقد ولله بليت أثواب هذا الفقر وإنها لتنسدل على أركانه مزقا متهدلة يمشي بعضها في بعض، وإنه ليلفقها بخيوط من الدمع، ويمسكها برقع من الأكباد، ويشدها بالقطع المتنافرة من حسرة إلى أمل، وأمل إلى خيبة، وخيبة إلى هم، وأقبح من الفقر ألا يظهر الفقر كاسيا أو تكون له زينة إلا من أوجاع الإنسانية أو المعاني التي يتمنى الحكماء لو أنها غابت في جماجم الموتى الأولين ...»
والكتاب فصول شتى، ليس له وحدة تربط بين أجزائه، إلا أنه صور من آلام الإنسانية كثيرة الألوان متعددة الظلال، تلتقي عندها أنة المريض، وزفرة العاشق، ودمعة الجائع، وصرخة اللهفان المستغيث، فهنا صورة «الشيخ علي» الرجل الذي يعيش بطبيعته فوق الحياة وفوق الناس؛ لأنه يعيش في نعمة الرضا، وإلى جانبه قصة الغني الشيخ الذي حسب أنه سيطر على الحياة؛ لأنه ملك المال، وهذه صاحبته الحسناء الصغيرة التي انتشلها الشيخ بماله من الفقر الجائع فوهب لها المال، ولكنه سلبها نعمة الشعور بالحياة، وهذا، وهذه ... من صور المساكين الذين يعيشون يحتسون الدموع أو يتطهرون بالدموع .
Page inconnue