أفكان الرافعي يريد من هذه السهرة أن يصل ما انقطع من قصة «الجمال البائس» و «القلب المسكين» و«في اللهب ولا تحترق» ...؟ ... وفي منتصف الساعة الثانية عشرة، كان الرافعي في طريقه إلى بيته، بعدما ودع صديقه في منتصف الطريق، فلما بلغ الدار، خلع ثيابه، وتناول عشاء خفيفا من الخبز والبطارخ، والبطارخ كان طعام الرافعي الذي يحبه ويوثره على كل طعام في المساء؛ لأنه كان يؤمن بفائدته لأعصابه، وكان يستورده من بورسعيد جملة.
واستيقظ مع الفجر على عادته كل يوم، فتوضأ وصلى، وجلس في مصلاه يسبح ويدعو ويتلو قرآن الفجر، وأحس بعد لحظة حراقا في معدته، فتناول دواء وعاد إلى مصلاه، وصحا ولده الدكتور محمد لموعده، فشكا إليه ما يجد في معدته، وما كان إلا شيئا مما يعتاده ويعتاده الناس كثيرا من حموضة في المعدة، فأعطاه ولده شيئا من دواء وأشار عليه أن ينام، ثم لبس محمد ثيابه ومضى ليدرك القطار الأول إلى القاهرة كعادته كل يوم، ومضت ساعة ثم نهض الرافعي من فراشه لا يحس ألما ولا يشكو وجعا وما به علة، فأخذ طريقه إلى الحمام، فلما كان في البهو سمع أهل الدار سقطة عنيفة أحدثت صوتا شديدا، فهبوا مذعورين ليجدوا الرافعي جسدا بلا روح!
قال الدكتور محمد: «ولما وجدت البرقية تنتظرني في محطة القاهرة وليس فيها سبب ما يدعونني إليه، تحيرت حيرة شديدة، بلى، قد أيقنت أن شيئا حدث وأن كارثة وقعت، ولكن لم يخطر في بالي قط أنه أبي، لقد تركته منذ ساعتين سليما معافى قوي القلب أقوى ما يكون قلب رجل في سنه ... كل المفاجآت المروعة قد خطرت في بالي إلا هذا الخاطر، ولكن ... ولكن الذي مات كان أبي ...!»
يا صديقي، لك العزاء ولي، أحسبت أن الرافعي سيموت في فراشه وهو قد نذر أن يموت في الجهاد وفي يده الراية ينافح بها الشرك والضلال ويدعو إلى الله «ويواصل حملة التطهير ...؟»
2
طبت نفسا يا مصطفى! لكم كنت تخشى الهرم والمرض والزمانة ولزوم الفراش وثقل الأيام التي تعد من الحياة وما هي من الحياة! فأي كرامة نلت؟ وأي مجاز جزت؟ وهل رأيت الطريق بين الحياتين إلا ما كنت تريد؟ وهل كانت إلا خفقة نفس نقلتك من ملأ إلى ملأ أرحب في كنف الخلد وفي ظلال الجنة؟
يرحمك الله يا صديقي، ويرحمنا! •••
وحمل جثمانه بعد ظهر الإثنين 10 مايو سنة 1937، إلى حيث رقد رقدة الأبد في جوار أبويه من مقبرة الرافعي بطنطا، لم يشيعه إلا بضع عشرات من زملائه في المحكمة، أو من جيرانه في الدار!
وبلغ نعيه أقطار العرب وأدباء العربية، فسكت القارئ وتلفت السامع، وتغشى السامرين من أهل الأدب سكون ووحشة وانقباض.
وطالت فترة الصمت، والسامرون في غشيتهم لا ينطقون، إلا نظرات شاردة، وخواطر تصطرع وتموج، وذكريات تنبعث محرقة لاذعة، تذكر بما كان وتنبه إلى ما ينبغي أن يكون ...
Page inconnue