وسألته في ذلك مرة فقال: «نحن يا بني نعيش في جو عامي لا يعرف العربية، ما يتحدث الناس وما ينشئ كتاب الصحف في ذلك سواء، واللسان العربي هنا في هذه الكتب، إنها هي البادية لمن يطلب اللغة في هذا الزمان، بعدما فسد لسان الحضر والبادية ...»
على أنه كان لا يفيد من هذه القراءة اليسيرة قبيل الكتابة إلا الجو البياني فقط، أما حروف اللغة وأما أساليب اللغة، فلم تكن تعنيه في شيء، فيقرأ عجلان غير متلبث كما يطالع صحيفة دورية، حتى يفرغ من الفصل الذي بدأ، ثم يطوي الكتاب ويستعد للإملاء.
وإذا كان كثير من الكتاب تزعجهم الحركة والضوضاء وتعوقهم عن الاستمرار في الكتابة،
2
فإن الرافعي كان - على ما في أذنيه - يزعجه أن يمر النسيم على صفحة خده ... كان مكتبه إلى جانب باب الشرفة، وكان لي نضد صغير إلى جانب مكتبه حيث أجلس ليملي علي، فكان يلذني أحيانا والجو حار أن أفتح باب الشرفة لأتروح، فلا تكاد تهب نسمة بجانبه حتى يكف، وعرفت عادته هذه فكنت أغلق الشرفة والنافذة جميعا، لأصلى حر الغرفة أربع ساعات أو يزيد حتى يفرغ من إملائه، وكان يؤذيني من ذلك أنني كثير التدخين، والحر والمجهود العصبي يزيدان الرغبة فيه، فلا تمضي ساعتان منذ بدأنا حتى يفسد جو الغرفة، فأفتح الشرفة لتجديد الهواء برهة نتبادل فيها الحديث، ثم أعود فأغلقها ليملي علي ... على أنه في غير وقت الكتابة كان يحب أن يقضي في الهواء الطلق أكثر وقته، حتى في برد الشتاء القارس، فكان إذا فرغ من إملائه خرج إلى الشرفة البحرية يفتح صدره للهواء يعبه عبا كما يقبل الشارب الحران على الماء في يوم قائظ ...
ولم أكن أقاطعه حين يملي علي مقاطعة ما، إلا حين أشعر أنه يهم بالانتقال في الموضوع من فصل إلى فصل، فألقي إليه ما أريد أن أقوله مكتوبا في ورقة، لأحاوره في عبارة أو لأستوضحه معنى ... ثم يعود إلى إملائه وأنا أكتب صامتا، وهو لا يرفع عينيه إلي، كأنما يتحدث من وراء ستار إلى سامع غير منظور، أو كأنه في نجوى خاصة ليس فيها سامع ولا مجيب، ولقد كان يخيل إلي أحيانا وأنا صامت في مجلسي والقلم يجري في يدي على الصحيفة وأذني مرهفة السمع كأنه في شبه غيبوبة يتحدث إلى نفسه والمجلس خال إلا منه، فما أنا فيه بشيء إلا إدراكا غير مجسد، وأحيانا أخرى كانت تتسع روحه وتنبسط حتى تشملني، فما أكتب كلاما يمليه علي، ولكن تمليه نفسي على نفسي وإن صوته ليرن في أذني بما سبق إليه خاطري ...
ولم يكن يملي مسترسلا، ولم يكن يملي وانيا متمهلا، ولم يكن في كل أحواله سواء، فحينا يطاوعه القول، وحينا يتأبى عليه فيسكت وهو يدق على المكتب بحديدة في يده ويغمغم بصوت لا يبين، فإذا طال به الوقوف تناول كتابا أي كتاب على مكتبه، فيفتحه فيقرأ كلمة أو سطرا أو جملة، ثم يطوي الكتاب ويعود إلى الإملاء، ولقد يراه من يراه في هذا الوقت فيحسبه يملي مما قرأ، وما به ذاك، ولكنها كانت لازمة من لوازمه تعودها حين يرتج عليه، وتعود أن يجد فيها مفتاح القول ...
ولقد تأبى عليه القول مرة فطال به الصمت، فمد يده إلى كتاب على مكتبه وهو يقول ضاحكا: «يا أخي، لقد تعودتها وما أجد لها علة، وتعودت بها أن أجد ما أريد عند أول كلمة أقرؤها ولو كان الكتاب معجما لغويا ...» وكان الكتاب الذي مد إليه يده هو «القاموس المحيط» قلت: «إن في بعض الأشياء مثل المفاتيح العصبية ...» قال: «صه، هذه هي الكلمة التي أريدها: المفاتيح العصبية ...» ثم طوى الكتاب وعاد إلى الإملاء.
3
وكانت له عناية واحتفال بموسيقية القول، حتى ليقف عند بعض الجمل من إنشائه برهة طويلة يحرك بها لسانه حتى يبلغ بها سمعه الباطن، ثم لا يجد لها موقعا من نفسه فيردها وما بها من عيب، ليبدل بها جملة تكون أكثر رنينا وموسيقى، وكان له ذوق فني خاص في اختيار كلماته، يحسه القارئ في جملة ما يقرأ من منشآته، وكنت أجد الإحساس به في نفسي عند كل كلمة وهو يملي علي، هذا الذوق الفني الذي اختص به، هو الذي هيأه إلى أن يفهم القرآن ويعرف سر إعجازه في كل آية وكل كلمة من آية وكل حرف من كلمة، وحسب القارئ أن يعود إلى تفسير الرافعي لقوله - تعالى:
Page inconnue