فمن غضباته التي نذكرها تلك الغضبة التي أشرت إليها في معرض الكلام على تأليف العبقريات، وأولها «عبقرية محمد» صلوات الله عليه. •••
كنا نزور ساحة المولد النبوي على مقربة من مسكني بالعباسية، في جولة من جولاتنا التي كنا نسميها بالتفتيش الفني على أحياء المدينة، فذكرنا مقال البطولة النبوية، وكتاب الأبطال للفيلسوف الأيقوسي توماس كارليل، كان يعرف إعجابي بما يكتب ذلك الفيلسوف، فقال: ولم لا تكتب أنت ذلك المقال من جديد، ونحن أولى بهذا الواجب من كتاب الغرب، مهما يكن من إخلاصهم في تقدير البطولة المحمدية؟
وكان في الجماعة فتى متحذلق يحسب أن حرية الفكر إنما تقاس بمقدار التطاول على المقدسات الموقرة، وعلى مقدساتنا نحن دون سائر العالمين ... ففاه بكلام هازل يشير به إلى السيف وإلى الزوجات الكثيرات ... وما راعنا إلا المازني الوديع الساخر ينتفض غضبا كأنما لمسته لفحة من وقود مضطرم، وإلا حركة يوشك أن يتبعها عمل وهو يقول تعقيبا على صيحتي في وجه ذلك الدعي المتحذلق: كلا، كلا، إن هذا الهجر لا يثبت الحاجة إلى الضرب بالسيف في نشر الدعوات، إنه ليثبت الحاجة إلى ما هو أصلح من ذلك لداء البذاءة والقحة ... إنه الضرب بالحذاء توفيرا للسيف عن مثل هذا المقام ...!
على أن الزمن قد كان يصنع صنيعه في هذا المزاج الذي وفق هذا التوفيق العجيب بين الجد والقداسة، وبين السخرية و«اللا مبالاة» في عالم الأدب الخالد، وفي عالم المعيشة العارضة من يوم إلى يوم، فكان من صنيع الزمن أنه لم يزل يوسع المسافة بين الواقع والمثل الأعلى عاما بعد عام، حتى كاد أن ينتهي بها إلى الطرفين المتقابلين، فلم يكن للواقع عنده في أخريات أيامه نصيب غير التحدي والسخرية والاستخفاف، ولم يكن فيه غير باطل الأباطيل، وغير النظرة «عالماشي» وغير التفويت والإغضاء ... ولم يكن في أكثر الأحايين أهلا للمصالحة بينه وبين المثل الأعلى فوق عرشه الرفيع من وراء المنظور والمأمول. •••
وسكنت في طويته قوة النضال حتى عاد بشيء من الندم إلى نضاله القديم، وحتى استكثر الرد على من ينكرون حقه ويجحدون فضله، حيث هو أحق وأجدر بالاعتراف، وأحق وأجدر بالفضل والتفضيل.
فما كان إنكاره لشعره - فيما أعلم وأعتقد - إلا تحديا منه للإعجاب والاستحسان، ممن يظنون أنهم ينعمون عليه بإعجابهم واستحسانهم، ويسلبونه نعمة يتكالب عليها بما ينكرونه عليه، أو يبخسونه، مؤمنين ومكابرين متعنتين ...
وفي هذه الفترة كان يقول ما يقوله وهو لا يبالي أن يحسب جوابه من الجد، أو يحسب من المزاح: إنني في مصنع النجارة الفني أعطيكم ما تطلبون، وما بالي أعطيكم كرسي الصالون وأنتم تطلبون كرسي المطبخ؟! أو أسومكم ثمن الدولاب وأنتم تبذلون ثمن الصندوق الصغير؟! وخدعته قبل أن تخدع غيره سهولة الكتابة عليه، فنسي أن السهل الممتنع هو الذي يستطيعه مثله بلا مبالاة ... ويطلبه سواه، بكل ما في وسعه من مبالاة، فلا يقدر عليه. •••
كان يجلس إلى المرقم «التايبرايتر» ليكتب القصة أو المقال المطلوب، ساعة الطلب بغير تحضير ... وكان يكتبه في جلسة واحدة ويختمه مع ختام الورقة الأخيرة، فيحس القارئ أنه لم يقل كل ما عنده، ولكنه يحس كذلك أن الذي قرأه كاف، واف، أو يزيد على الكفاية والوفاء.
وهنا - أيضا - نعلم الفارق بين «اللا مبالاة» السالبة و«اللا مبالاة» الموجبة التي تغنيها القدرة عن جهد المبالاة ...
ربما كانت سهولة الكتابة على المازني تقنعه هو نفسه بأنه غير مكترث بما يكتب، ولكنه ينسى أن هذا الذي يكتبه بغير اكتراث يحاوله المكترثون جهدهم فلا ينتهون إليه، وأحسب أنني قرأت له المقال الذي كان يكتبه في نصف ساعة، وقرأت له من قبل ذلك مقالات كان يكتبها ويعود إليها في ساعات، فكان أجود ما كتبه من ثمرات السرعة البالغة، سرعة الكاتب الذي يقول: إنه «لا يبالي»، ولكنه يبلغ غاية الشوط من «مبالاة» الآخرين ...
Page inconnue