وإنما هي على ما عرفتها واختبرتها، شيء آخر غير السخرية، وإن كانت شبيهة بها:
هي حب المعاكسة البريئة، أو هي الدعابة التي لا ضير فيها على أحد، ولا فرق بين الدعابة على النفس والدعابة على الآخرين.
لم يكن يبالي أن يبرز خير ما عنده، ولم يكن يبالي أن يقدح في أدبه وفنه بقلمه ولسانه، فيسبق المنكر والحاسد إلى القدح والإنكار، وبذل الجهد والعناء ...
لقد كان يرى أن حقائق الدنيا كالخيال؛ لأن غايتها إلى أمل أو ذكرى، وكلاهما خيال ... فليكن متاعه بها ونصيبه منها خيالا بغير عناء ...!
وكان يرى أن الناس يضنون بثنائهم كأنه شيء لا غنى عنه، فكان يريهم أنه في غنى عنه فعلا، وكأنه يقول لهم: «إن استطعتم فقولوا في أدبي وفني، وفي شخصي وسيرتي أكثر مما أقول.»
ويحسب بعضهم أنها فلسفة حياة، ويحسب الآخرون أنها «مظهر» من مظاهر التحدي التي يواجه بها الناس.
وليست هي بفلسفة وليست هي بمظهر، هي طبيعة فيه عهدتها منه في غير عالم الكتابة، ولم تفارقه منذ صباه، كاتبا أو غير كاتب، وغاية ما هنالك أنه كان يطاوعها حينا فيسترسل فيها، وأنه كان يكفها حينا فلا تظهر كل الظهور ... كان ولعه «بالمعاكسة البريئة» تسليته الكبرى .
ولست أحصي ضروب هذه المعاكسات التي كان يرتجلها ارتجالا في أكثر الحالات، ولكنني أذكر حادثا منها له اتصال بجانب نفسي في تاريخ حياته، وهو من قبيل الوقائع التي تفسر الأقوال، أو تفسر مذاهب الكتابة التي يسميها بعضهم فلسفة حياة.
قل من يذكر أن المازني شغل بالموسيقى في عنفوان شبابه، وأنه تعلم العزف على «الكمان»، وتلقى دروسا كثيرة فيه، واستطاع أن يوقع بعض البشارف، وأوشك أن يحسب فيه من مهرة العازفين.
وكنا نقضي السهرة ذات ليلة في ناد كبير من أندية الموسيقى والغناء، وطابت السهرة إلى ما بعد منتصف الليل، وكان يبيت يومئذ بمنزله على مقربة من الإمام، ولم يكن خط الترام قد وصل بعد إلى الإمام، وقد كان الترام الذي يذهب إلى تلك الجهة ينقطع قبل ذلك الموعد على كل حال.
Page inconnue