وكان من دأب الشيخ البرقوقي أن يسأل شيوخ الأدب رأيهم في مقالات المجلة وأبوابها ... فسأل حافظ عوض، وسأل مصطفى صادق الرافعي، وسأل محمد المويلحي صاحب عيسى بن هشام، فانتقد حافظ عوض عنوان الكتاب كما ترجمته المجلة، وزاد انتقاده في ثقة الشيخ بكاتب هذه السطور؛ لأنني ترجمت عنوان الكتاب «بالأكاذيب المتفق عليها»، واقترح الشيخ البرقوقي أن «نسجعه» ليوافق أسماء الكتب فجعلناه «الأكاذيب المقررة في المدنية الحاضرة» ... فلما جاءه النقد من بعيد - وهو على عادته سريع التصديق - قال لي: إنه لن يرفض رأيي مطاوعة لرأي السجعة بعد الآن ...
وسأل مصطفى صادق الرافعي فزاده انتقاده ثقة بي كذلك؛ لأنه قال لي: إنه يسمع حكمه في البيان العربي، ويرفضه فيما عداه، ولا سيما كتابه «الفكر ومباحث العصر الحديث»، وقد أنحى الرافعي على «نوردو» وعلى كاتب هذه السطور، فحسنت هذه الشهادة المعكوسة عند الشيخ ...
ولقي صاحبنا المويلحي فسأله عني قائلا: بماذا يشتغل هذا الشاب؟
قال الشيخ: بلا شيء!
قال: أتراه يعيش على شيء من ميراث جده العقاد؟
فأفهمه الشيخ أنني لا أنتمي إلى «السيد حسن موسى العقاد» المشهور، وأنه لا قرابة بيني وبين ذلك البيت، وأنني أعيش بالقليل مما يردني من أهلي، وبالقليل من أجور المقالات أو فصول الكتب المترجمة ... فقال المويلحي مبتسما: «إنه أولى بالوظيفة من أكثر «التنابلة» الذين عندنا في هذا «الديوان»، فطلبتها؛ فأجيب طلبي لساعته بغير امتحان ...»
وقد كان ديوان الأوقاف في تلك الحقبة مجمع الأدباء والشعراء من شيوخ وشبان ... كان فيه محمد المويلحي، وأحمد الأزهري صاحب مجلة الأزهر، وأحمد الكاشف، وعبد الحليم المصري، وعبد العزيز البشري، وحسين الجمل، وحسن الدرس، وعلي شوقي، ومحمود عماد، ومصطفى الماحي، وغيرهم من «المحررين» المغمورين ... وكان عملي الأول فيه مساعدا لكاتب المجلس الأعلى بقلم السكرتارية، وهي وظيفة من أخطر وظائف الديوان في ذلك الحين.
سمسرة الخديو
وكأنما هي قسمة واحدة تلقاني على صور متعددة في جهات مختلفة ... فكلما اشتغلت بعمل من الأعمال وجدته في إبان أزمة من أزماته، أو مرحلة من مراحل الاضطراب في تاريخه، وأول هذه الأعمال عملي في وظائف الحكومة بإقليمي قنا والشرقية ...
ففي هذين الإقليمين بدأت أول حركة من حركات الشكاية الاجتماعية بين الموظفين بعد الاحتلال، ولم تزل قائمة حتى انتهت بزيادة الحد الأدنى لمرتبات الوظائف إلى خمسة جنيهات، والشروع في تعديل نظام العلاوات وقانون المعاشات.
Page inconnue