لم أمدح الخليفة «عبد الحميد» إلا في مناسبة واحدة وهي إعلان الدستور، ويومئذ كتبت أبياتا أهنئه بها، وأسجل تاريخ السنة بحساب الحروف الأبجدية، فكان التاريخ هذه الشطرة:
قد أنشأ الدستور عبد الحميد
ومجموع حروفها بحساب الجمل «1326»، وهي السنة الهجرية التي أعلن فيها الدستور ...
ولما توفي مصطفى كامل شيعته صحيفة الدستور - وهي من صحف الحزب الوطني - برثاء أبلغ من رثاء صحيفة اللواء، ولكنني أحجمت عن رثائه بثناء خلو من النقد، وأحجمت في ذلك المقام من نقد سياسته قبل الآستانة، وقبل الخديو وقبل السيادة العثمانية، وكاشفت الأستاذ فريد وجدي بحرجي وحرج صحيفته، وهي لسان الجامعة الإسلامية الأولى ولسان الحزب الوطني الثاني بعد اللواء، فقال لي رحمه الله: إنه يفهم هذا الحرج وإنه يقوم عني بما أتحاشاه، فآثرت الصمت عن الرثاء على ثناء بغير نقد، أو نقد متحفظ، متحرج، بين مضطرب الآراء ... •••
وانقطعت الصلة بيني وبين الصحيفة بضعة أشهر لا أكتب فيها ولا أكتب إليها، ولكنني كتبت إليها مقالي الوحيد من الخارج يوم أعلن الدستور في إيران، وقلت فيه مهنئا للشاه الصغير: لو كنت في فرنسا لكان مصيرك كمصير الصبي ابن لويس السادس عشر، ولكنك تحمد الله؛ لأنك في بلد إسلامي وتحمد لشعبك - ولا ريب - جميل هذا الصنيع.
والآن - بعد نصف قرن كامل - أقول: إنني قد جربت هذا البرنامج السياسي، الصحفي، في مشكلات هذه الحقبة وأزماتها جميعا ... فحمدت مغبة هذه التجربة، ولم أجد فيما وجدته من الحوادث المتناقضة برنامجا أصح منه، ولا أصلح لقضية مصر وقضايا الأمم الشرقية، ولا أعلم أن الحوادث بعد الحوادث كشفت لنا عن خطة أهدى منه للعاملين، وأحق منه باتباع المتبعين ...
وبعد، فإنني لا أحب أن أنافق القارئ باصطناع التواضع الكاذب طلبا للثناء الأكذب، فأقول: إن الحكاية سهلة على كل من يطلبها، وإنها حكاية يطلبها كل من شاء بغير عناء ...
الاستقلال
كلا، ليس من السهل على كل ناشئ في العشرة الثانية من عمره أن يسلك سبيله بين تلك النقائض والشبهات، دون أن يروض نفسه على استقامة القصد إلى الحقيقة، واستقلال الرأي بين شتى الدوافع والمغريات ...
ولكنني أعود فأقول: إنه لا استقلال الرأي، ولا استقامة القصد، كانت كافية لهدايتي إلى سبيلي لو لم أستفد من ظروف الآونة التي نشأت فيها، وظروف البلد الذي نشأت فيه ...
Page inconnue