245

54

أين هذا مما يسود العالم اليوم باسم الحضارة الغربية، من تعصب للقومية وللدين وما يجره هذا التعصب من حروب وكوارث؟!

هذا الروح السامي في تسامحه هو الذي يجب أن يسود العالم إذا أريد أن تستقر في العالم كلمة السلام ليسعد الناس به. وهذا الروح هو الذي يجعل كل دراسة لحياة من أوحى الله هذا الكلام إليه، دراسة علمية خالصة لوجه العلم وحده، جديرة بأن تجلو أمام العلم من المسائل النفسية والروحية ما يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التي تلتمسها. وكل تعمق في هذه الدراسة يكشف عن أسرار كثيرة ظن الناس زمنا أن لا سبيل إلى تعليلها تعليلا علميا، ثم إذا مباحث علم النفس تفسرها وتجلوها واضحة للمتعقلين. فحياة محمد - كما رأيت - حياة إنسانية بلغت من السمو غاية ما يستطيع إنسان أن يبلغ، وكانت لذلك أسوة حسنة لمن هداه القدر أن يحاول بلوغ الكمال الإنساني من طريق الإيمان والعمل الصالح. أي سمو في الحياة كهذا السمو الذي جعل حياة محمد قبل الرسالة مضرب المثل في الصدق والكرامة والأمانة، كما كانت بعد الرسالة كلها التضحية في سبيل الله وفي سبيل الحق الذي بعثه الله به، تضحية استهدفت حياته من جرائها للموت مرات، فلم يصده عنه أن أغراه قومه، وهو في الذروة منهم حسبا ونسبا، بالمال وبالملك وبكل المغريات؟!

بلغت هذه الحياة الإنسانية من السمو ومن القوة ما لم تبلغه حياة غيرها، وبلغت هذا السمو في نواحي الحياة جميعا. وما بالك بحياة إنسانية اتصلت بحياة الكون من أزله إلى أبده، واتصلت بخالق الكون بفضل منه ومغفرة؟! ولولا هذا الاتصال، ولولا صدق محمد في تبليغ رسالة ربه، لرأينا الحياة على كر الدهور تنفي مما قال شيئا. لكن ألفا وثلاثمائة وخمسين سنة انقضت وما يزال بلاغ محمد عن ربه آية الحق والهدى. وبحسبنا على ذلك مثلا واحدا نضربه: ذلك ما أوحى الله إلى محمد أنه خاتم الأنبياء والمرسلين. انقضت أربعة عشر قرنا لم يقل أحد خلالها إنه نبي أو إنه رسول رب العالمين فصدقه الناس. قام في العالم أثناء هذه القرون رجال تسنموا ذروة العظمة في غير ناحية من نواحي الحياة فلم توهب لأحدهم هبة النبوة والرسالة. ومن قبل محمد كانت النبوات تتواتر والرسل يتتابعون فينذر كل قومه أنهم ضلوا ويردهم إلى الدين الحق، ولا يقول أحدهم إنه أرسل للناس كافة أو إنه خاتم الأنبياء والمرسلين، أما محمد فيقولها فتصدق القرون كلامه. ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وهدى ورحمة للعالمين.

وغاية ما أرجو أن أكون قد وفقت لما قصدت إليه من هذا البحث، وأن أكون قد مهدت به السبيل إلى مباحث في موضوعه أكثر استفاضة وعمقا. ولقد بذلت من الجهد في ذلك ما وسعته طاقتي وما يسره الله لي.

لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين .

55

تقدير وشكر

نوهت، في آخر الطبعة الأولى لهذا الكتاب؛ بما بذله لي المغفور له محمد طلعت حرب باشا، وكان يومئذ مدير بنك مصر وشركاته، من مختلف صور العون، فكان له فضل معاونتي أكبر المعاونة في الإسراع إلى إصدار الكتاب وفي أن أجعل من نسخ تلك الطبعة العشرة الآلاف ألفا للجمعية الخيرية الإسلامية. ونوهت كذلك بتأنق المرحوم محمود بك خاطر - مدير مطبعة مصر يومئذ - تأنقا أظهر الكتاب لقرائه في خير ثوب له. وذكرت معاونة المرحوم الأستاذ عبد الرحيم محمود المصحح بدار الكتب في تصحيح الكتاب وضبط الأعلام والآيات فيه، كما ذكرت ما للأساتذة الخطاطين محمد حسني، وسيد إبراهيم، والمرحوم مصطفى بك غزلان من فضل في تنسيق صحفه الأولى، وما للأساتذة إبراهيم الأبياري، وعبد الحفظ شلبي والشيخ أحمد عبد العليم البردوني، وعلي أحمد الشهداوي، المصححين بدار الكتب، من مجهود في وضع فهارسه. وأشرت إلى الأستاذ علي فودة الذي كان عوني وعون الأستاذ عبد الرحيم محمود في التصحيح. واعتذرت لسائر من عاونوني عن عدم ذكر أسمائهم مخافة أن يجني النسيان على بعضهم، وكررت الشكر لهؤلاء جميعا حين صدرت الطبعة الثانية.

وقد تواتر العون منذ ظهور الطبعة الأولى إلى أن تمت الطبعة الثانية من كثيرين لا أنسى لهم فضلهم. فقد تفضل الأستاذ الشيخ أحمد مصطفى المراغي - وكان يومئذ مدرسا بكلية اللغة العربية بالأزهر - فراجع الكتاب في نسخته الخاصة وبعث بها إلي وعلى هوامشها بعض ملاحظات لغوية أخذت بالكثير منها في الطبعة الثانية. كذلك أرسل إلي غير واحد مثل هذه الملاحظات، فأعرتها ما هي جديرة به من العناية. وأرسل إلي بعض الأصدقاء مؤلفات لهم راجعتها، واستعنت بها. من ذلك كتاب صديقي الفلسطيني الأستاذ إسعاف النشاشيبي «الإسلام الصحيح». ومنها كتابان للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، أحدهما «مفتاح كنوز السنة» الذي ترجمه عن المستشرق فنسنك ثم أكمله، والآخر «تفصيل آيات القرآن الحكيم» الذي وضعه على نظام المستشرق جول لابوم. وهذا الكتاب الأخير جم الفائدة لكل من أراد الرجوع إلى القرآن في مباحثه؛ فهو يجمع ما جاء في الكتاب في كل موضوع جمعا دقيقا نظامه غاية الدقة. وقد رجعت فيما خلا ذلك إلى كتب أخرى أضفتها إلى سجل المراجع.

Page inconnue