وقد ظلت حياة الأحقاد والخرافات قوية متشبثة بالحياة. فمنذ رودلف دلوهيم إلى وقتنا الحاضر قام نيكولا دكيز، وفيفس، ومراتشي، وهوتنجر وبيلياندر، وبريدو وغيرهم، فوصفوا محمدا بأنه دجال، والإسلام بأنه مجموعة الهرطقات كلها وأنه من عمل الشيطان، والمسلمين بأنهم وحوش، والقرآن بأنه نسيج من السخافات، وقد كانوا يعتذرون عن الحديث الجد في أمر هذا مبلغ سخافته. مع ذلك فإن بيير المحترم (فنرابل) مؤلف أول رسالة غربية ضد الإسلام قد ترجم القرآن في القرن الثاني عشر إلى اللاتينية. وفي القرن الرابع عشر كان بيير باسكال من الذين توسعوا في الدراسات الإسلامية. وقد وصف إنوسان الثامن محمدا يوما بأنه عدو المسيح. أما القرون الوسطى فلم تكن تحسب محمدا إلا هرطيقا. وكان لريمون ليون في القرن الثامن عشر، ولغليوم بستل في القرن السادس عشر، ولرولان وجانييه في القرن الثامن عشر، وللقسيس دبرجلي ولرينان في القرن التاسع عشر آراء وأحكام مختلفة. على أن الكونت بولنفلييه وشول وكوسان دبرسفال ودوزي وسبرنجر وبارتملي سانتيلير ودكاستري وكارليل وغيرهم يظهرون على وجه الإجمال إنصافا للإسلام ونبيه، ويشيدون في بعض الأحيان بهما. مع ذلك فإن دروتي يتحدث في سنة 1876 عن محمد قائلا: «هذا الأعرابي المنافق القذر.» كما طعن عليه فوستر من قبل سنة 1822. وما زال للإسلام حتى اليوم محاربون متحمسون.»
أرأيت الحضيض الذي هوت إليه هذه الطائفة من كتاب الغرب؟ أرأيت إصرارهم - مع توالي القرون - على الضلال وعلى إثارة العداوة والبغضاء بين أبناء الإنسانية؟! ومن هؤلاء من جاءوا في العصور التي يسمونها عصور العلم والبحث والتفكير الحر وتقرير الإخاء بين الإنسان والإنسان. قد يخفف من أثر الضلال قيام أولئك المنصفين إلى حد ما، ممن أشار إليهم درمنجم، ومنهم من يقر بصدق إيمان محمد بالرسالة التي عهد الله إليه تبليغها من طريق الوحي، ومنهم من يشيد بعظمة محمد الروحية وبسمو خلقه ورفعة نفسه وجم فضائله، ومن يصور ذلك في أقوى أسلوب وأتمه روعة. وإن بقي الغرب مع ذلك ينال من الإسلام ونبيه أشد النيل، ثم تبلغ منه الجرأة حتى يبث المبشرين في أنحاء البلاد الإسلامية يذيعون مثالبهم الوضيعة، ويحاولون صرف المسلمين عن دينهم إلى المسيحية.
سبب الخصومة بين الإسلام والمسيحية
يجب لذلك أن نبحث عن السبب الذي ترجع إليه هذه الخصومة الهوجاء وهذه الحرب العنيفة التي تثيرها المسيحية على الإسلام. وعندنا أن جهل الغرب بحقيقة الإسلام وبسيرة النبي في مقدمة ما يدعو إلى هذه الخصومة. والجهل - ولا ريب - من أعقد أسباب الجمود والتعصب وأشدها استعصاء.
الجهل والتعصب
ولقد تراكم هذا الجهل على مر القرون، وقامت له في نفوس الأجيال تماثيل وأوثان يحتاج تحطيمها إلى قوة روحية كبرى كقوة الإسلام أول ظهوره، على أنا نحسب أن ثمة سببا غير الجهل هو الذي دفع أهل الغرب إلى هذا التعصب وإلى إثارة الحرب الضروس الشعواء التي أثاروها ويثيرونها على الإسلام وعلى المسلمين آنا بعد آن. وليس ينصرف ذهننا إلى ما قد يدور بالخاطر من صروف السياسة وحب الظفر بالشعوب لاستغلالها: فتلك في اعتقادنا نتيجة لا سبب لهذا التعصب المستعصي حتى على العلم وعلى بحوثه.
المسيحية لا تلائم طبيعة الغرب
أما السبب في رأينا فيرجع إلى أن المسيحية، وما تدعو إليه من الزهد في الحياة واعتزال العالم ومن العفو والمغفرة ومن المعاني النفسانية السامية، ليست مما يلائم طبيعة الغرب الذي عاش ألوف السنين على دين تعدد الآلهة، والذي يدعوه مركزه الجغرافي إلى حياة الكفاح لمغالبة الزمهرير والضنك وسوء الحال. فإذا قضت الظروف التاريخية عليه بأن يدين بالمسيحية فلا مفر له من أن يسبغ عليها ثوب الكفاح، وأن يخرجها بذلك عن طبيعتها السمحة الجميلة، وأن يفسد فيها هذا التناسق الروحي الذي يجعل منها حلقة في سلسلة الوحدة التي أتمها الإسلام: هذه الوحدة التي تؤاخي بين الروح والجسد وتزاوج بين العاطفة والعقل، وتسلك الفرد والإنسانية جميعا في نظام الكون على أنهما بعض منه متسق وإياه في لا نهاية الزمان والمكان. هذا في رأينا هو مرجع السبب في تعصب الغرب في موقفه من الإسلام موقفا تجافت الحبشة المسيحية عنه حين احتمى المسلمون بها أول ما دعا النبي إلى دين الله.
وإلى هذا السبب في رأيي، يرجع إغراق الغربيين وغلوهم في التدين وفي الإلحاد جميعا، إغراق تعصب وكفاح لا يعرف الهوادة ولا يعرف التسامح. وإذا كان التاريخ قد عرف منهم قديسين احتذوا في حياتهم مثال السيد المسيح والحواريين، فإن التاريخ قد عرف كذلك أن حياة أمم الغرب كانت دائما حياة نضال وكفاح وحروب دامية باسم السياسة أو باسم الدين، وعرف أن بابوات الكنيسة وأرباب السلطة الزمنية كانوا في نزاع دائم يغالب بعضهم بعضا، فيتغلب هذا يوما ويتغلب ذاك يوما آخر. ولما كان الفوز في القرن التاسع عشر قد تم للسلطة الزمنية، حاولت هذه السلطة أن تقضي على الحياة الروحية باسم العلم، وأن تزعم أن العلم سيحل من الحياة الإنسانية محل الإيمان من الحياة الروحية. وها هي ذي عرفت اليوم، بعد جهاد طويل، سوء رأيها، وأن ما قصدت إليه مستحيل تحقيقه. والصيحة تعلو اليوم من جوانب الغرب المختلفة يريد أهله حياة روحية أضاعوها، فهم يتلمسونها في الثيوزوفية وغير الثيوزوفية.
15
Page inconnue