La vie du Christ : dans l'histoire et les découvertes de l'époque moderne
حياة المسيح: في التاريخ وكشوف العصر الحديث
Genres
Gracchus
أنه يعالج الآفة بإنشاء طبقة جديدة من الصيارفة والتجار، يحد بها من نفوذ النبلاء وأصحاب الضياع المتبطلين، واضطر هو وأخوه إلى تموين المعوزين بأغذية تبيعها الدولة بأقل من تكاليفها، ولكن عوامل الخراب كانت في تلك الأجيال أعمق وأفعل من عوامل العمار والصلاح، فلما حاول يوليوس فيلبس في سنة (104 قبل الميلاد) أن ينظم الإقطاعات بتشريعاته الزراعية قال في خطابه «التفسيري» كما روى شيشرون: «إن ملاك الأرض في مدينة رومة لا يزيدون على ألفين.» وازدادت هذه الحالة سوءا في عصر أوغسطس المجيد كما يوصف في التواريخ، فآلت المستعمرة الأفريقية إلى قبضة ستة من المتبطلين، وفيها ألوف من الأرقاء المسخرين.
وعصر أوغسطس المجيد هذا هو عصر الميلاد الذي قال فيه السيد المسيح في رواية الحواري متى: «إن للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكارا، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه.» •••
والواقع أنه كان عصرا مجيدا بقوة السيف، دون كل قوة أخرى من القوى الإنسانية، وقد أخذت رومة من قوة السيف كل ما تعطيه: فتوح واسعة، وسطوة تصد الأعداء، وتقمع الثائرين، وألقت رومة بكل اعتمادها على هذه القوة، فأصبحت لها سندا لا غنى عنه، وانتهت بها الحاجة إلى تلك القوة أنها ألقت بنفسها على مذبحها، فباعتها حريتها وكرامتها، وضيعت الجمهورية في سبيل القيصرية المطلقة، بل رفعت القيصر إلى مقام الربوبية المعبودة، فخلعت على القيصر أوغسطس لقب إله، وقررت عبادته مع الآلهة، ورصدت له شهرا في السنة لا يزال معروفا باسمه إلى اليوم، وتابعت بعده عهود القياصرة العسكريين من أمثال طراجان وهادريان وغيرهم من المتشبهين بهم، حتى عز عليها آخر الأمر أن تجد القياصرة العسكريين.
وكان القانون والنظام فخر رومة الأول، فضاع القانون مع السلطان المطلق، وضاع النظام مع التفاوت البعيد بين الحاكمين والمحكومين: ثروة وترف وطغيان من ناحية، وفقر وضنك وهوان من ناحية، ولا نظام للدول مع اختلال التوازن في المجتمع، بل لا نظام للحياة نفسها، ولا قيمة لها مع إفراط النعيم حتى السأم من الحياة، وإفراط الشقاء حتى النقمة على الحياة، فصدق في رومة كلها وصف السيد المسيح لذلك الرجل الخاسر الذي كسب العالم وضيع نفسه، فضاع وأضاع.
ولم يستقر الأمر للدولة الرومانية في فلسطين دفعة واحدة على أثر افتتاحها؛ لأن التنازع بين الرومان والفرس لم يترك للبلاد قرارا في مدى عشرين سنة، وانقسم الرأي في فلسطين بين الدولتين: منهم من يشايع الفرس، ومنهم من يشايع الرومان، واشتد التناحر بين الفريقين اشتدادا خرج بهم إلى ضراوة الوحشة في مناصب الدين فضلا عن مناصب الدنيا، ومن أمثلته أن أنصار الفرس تغلبوا على أنصار الرومان في بيت المقدس، وكان أنصار الفرس يرشحون لرئاسة الكهنة أنتيجونس بن أورسطبولس، فقبض هذا بيديه على مزاحمه هيركانوس، وقضم أذنه بأسنانه؛ ليحول بينه وبين وظيفة الكهانة طول حياته، إذ كانت هذه الوظيفة محرمة على المشوهين وذوي العاهات.
وكان في البادية الجنوبية من فلسطين زعيم مشهور بالحصافة والحزم على رأس قبائل أدوميين، عرف بفراسته وبعد نظره أن الكفة الراجحة في النزاع على فلسطين لدولة الرومان، فانضوى إليها، واستبسل في معونتها، فكافأته على خدمته بتنصيبه ملكا على اليهودية والسامرة والجليل، حيث ولد السيد المسيح، وكافأهم هو بالتمادي في محاكاة المدنية الرومانية، وأوحت إليه حصافته أن يداهن السلطة الدينية ويداهن السلطة الدنيوية في وقت واحد، فتغالى في الغيرة اليهودية التي كانت قبيلته تدين بها على سبيل المداراة والمجاراة، وتغالى في محاكاة الرومان والإغريق بالأزياء والمساكن والشارات والأسماء، وتكفل بإتمام بناء الهيكل على نفقته، ثم تكفل بترشيح رؤساء الهيكل من بين أعوانه «المترومنين»، إن صح هذا التعبير، لعلهم يدارون شططه في محاكاة الرومان، ومجافاة التقاليد العبرانية، كلما احتاج إلى التوفيق بين النقيضين.
ومع هذا الجهد المضني في التقريب بين الطرفين، مات هيرود وهو مغضوب عليه أشد الغضب من أبناء دينه، وحدث قبيل وفاته أن طائفة من الغلاة ثارت على مبانيه وأنصابه لتمسح منها معالم الوثنية، فعقد لهم محكمة علنية، وأمر بأجناده فحملوه إلى المحكمة، حيث قضى عليهم بالحرق وهم أحياء! وقبض على الزعماء المحبوبين، فحبسهم وأوصى أخته أن تقتلهم إذا مات قبل إعلان وفاته، لتذهب حسرة الشعب عليهم بفرح الشماتة فيه، فلا يمتعهم في ذلك اليوم بالفرح الذي ترقبوه.
وتمت البلية بتقسيم البلاد بين أبناء هيرود الثلاثة، فوقعت الجليل - حيث ولد السيد المسيح - في حصة هيرود الثاني ائتيباس، ووقعت اليهودية في حصة أرخلاوس، ووقعت مشارف الشام في حصة فيليب، وكان من مراسم الولاية أن يذهب الملك إلى رومة ليتلقى عهد الإمارة من يدي القيصر، فهذا الذي يشير إليه السيد المسيح في مثله المشهور كما رواه الحواري لوقا حيث يقول ما فحواه: «كان إنسان شريف النسب ذهب إلى كورة بعيدة ليأخذ لنفسه ملكا ويرجع ... وأما أهل مدينته فكانوا يبغضونه، فأرسلوا وراءه سفارة يقولون: لا نريده ملكا علينا ...»
ولكن القيصر أقر الأبناء الثلاثة في ولاياتهم، وخرجت البلاد ممزقة بين أبناء هيرود، وحكومات النبطيين، والمدن العشر، وقصدت رومة بهذا التمزيق أن تخيف ولاية بولاية، وتلجئهم إلى التنافس بينهم في مرضاتهم، وتتخذهم جميعا درعا تدفع به غارات الصحراء وهياج المتعصبين.
Page inconnue