La vie du Christ : dans l'histoire et les découvertes de l'époque moderne
حياة المسيح: في التاريخ وكشوف العصر الحديث
Genres
وقد كان الإيمان بانتظار المسيح على أشده بعد زوال مملكة داود وهدم الهيكل الأول، فردد الشعب الإسرائيلي وعود أنبيائه بعودة الملك إلى أمير من ذرية داود نفسه، تخضع له الملوك، وتدين الأمم لسلطانه، ثم ترقى الإيمان «بالمسيح» بمعنى الملك إلى الإيمان بالمسيح بمعنى المختار، أو المنذور للهداية والصلاح، وبلغ هذا التحول غايته في بعض النبوءات، ومنها نبوءة أشعيا التي امتازت بتكرار هذه الوعود، فمن وصف القوة والبطش والصولة والصولجان، إلى وصف الدعة والتضحية والصبر على المكاره في سبيل التحذير والتبشير، وقد جاء في الإصحاح الثالث والخمسين من صفات الرسول المنتظر أنه «محتقر ومخذول من الناس، ورجل أوجاع وأحزان»، وجاء في الإصحاح التاسع من سفر زكريا: أنه «عادل، ومنصور وديع، يركب على حمار ابن أتان»، واتفقت أقوال كثيرة على أنه يأتي مسبوقا برائد يعلن مجيئه، وهو النبي إيليا (إيلياس) منبعثا من الأموات.
وقد كان هذا الارتقاء في فهم الرسالة المسيحية يصاحب أطوار الشعب الإسرائيلي في تاريخه المتعاقب، فيقوى الرجاء في المسيح الملك كلما ضعفت الدول المسيطرة على فلسطين، وهان خطب الثورة عليها، وتعاظم الأمل في استقلال رعاياها ، ويعود الرجاء إلى «المسيح الهادي » كلما استحكم سلطان الغالبين، وبدا أن الأمل في الخروج عليهم بقوة السلاح بعيد عسير، وهكذا تراوح تفسير الرسالة المنتظرة بين رجعة الدولة وبعثة الهداية على حسب أطوار التاريخ، فلما دخلت فلسطين في حوزة الدولة الرومانية سنة خمس وستين قبل الميلاد، وأخذ الأمل في قيام الدولة يتضاءل، ويخلفه الأمل المتتابع في انتظار الرسول المخلص، والبعثة الروحانية، اقترن هذا التحول بظاهرتين تصطحبان حينا وتفترقان، بل تتناقضان جملة أحيان، فعظم سلطان الهيكل وكهانه حين تحول السلطان القومي كله إليهم، وأصبح هذا السلطان ملاذ المتطلعين إلى كل رئاسة قومية تصمد للدولة الأجنبية، ومن الناحية الأخرى جنحت الضمائر المتعطشة إلى اليقظة الروحية جنوحا متمردا على القديم، مؤمنا بانتظار البعث من غير جانب «الهيكل» وبقاياه، وما جمد عليه مع الزمن من الموروثات والمأثورات.
فلما بلغ الكتاب أجله، وحانت البعثة المرقوبة، كان المعسكران متقابلين متحفزين على استعداد.
النبوة بين بني إسرائيل
من تمام العلم باستعداد عصر الميلاد لدعوات النبوءة أن نلم بأحوال النبوءة في الشعب الإسرائيلي منذ تكاثر عدده، وتنوعت أعمال الرئاسة والتعليم بين قبائله وأسباطه، فإن أحوال النبوءة في ذلك الشعب لم تكن على الصورة التي تسبق إلى خواطرنا من النظر في تواريخ كبار الأنبياء، وتواريخ الفترات التي مضت بين عهودهم في الأمم المتعددة.
فنحن اليوم نستهول دعوة النبوءة، ونعلم عن يقين أن الذي يقدم على ادعاء النبوءة في عصرنا هذا يقدم على خارقة مستغربة، ويعرض نفسه لاتهام المتدينين قبل المنكرين والملحدين؛ لأن أتباع الأديان يؤمنون بختام النبوءات، أو يؤمنون بأن النبي الجديد ينتقص عقائدهم، ويزعم لنفسه أن يعلمهم ما لم يعلموه من كتبهم وأقوال أنبيائهم، أما المنكرون والملحدون، فهم لا يقبلون دعوى النبوءة في هذا العصر، ولا في غيره من العصور.
ونحن اليوم نعلم أن الفترة بين إبراهيم وموسى، وبين موسى وعيسى، وبين عيسى ومحمد - صلوات الله عليهم - قد طالت حتى حسبت بمئات السنين، ففي اعتقادنا على الدوام أن ظهور الأنبياء حادث جلل لا يتكرر في كل جيل، ولا يراه الإنسان في عمره مرتين.
ونحن اليوم نعلم من تواريخ كبار الأنبياء أنهم أقدموا على مصاعب تخفيف المقدمين عليها، وشقوا بدعوتهم طرقا لا يسهل تذليلها؛ لأنهم حطموا آلهة، وسفهوا أحلاما، وغيروا العقائد التي درجت عليها الأمم عصورا بعد عصور، وأقاموا عليها سلطان ذوي السلطان، كما أقاموا عليها شرائع الحاكمين والمحكومين، كذلك صنع محمد، وكذلك صنع موسى - عليهما السلام - فمن تولى الهداية إلى دعوة على هذا النحو فهو متعرض للعدوان والبغضاء، مقتحم على الناس طريقا لا يقبلون اقتحامه من أحد، ولا يرون أحدا يقتحمه عليهم إلا أعنتوه، وأقاموا له العراقيل.
أما أحوال النبوءة في بني إسرائيل فينبغي أن نتصورها على غير هذا النحو؛ لأنها تخالفه من جملة وجوه.
فأول ما هنالك من الفوارق أن الأنبياء في بني إسرائيل لم يكن وجودهم ندرة، ولم يكن بينهم فترة، أو لم يكن حتما لزاما أن تكون بينهم فترة، فقد يوجد منهم في العصر الواحد أربعمائة نبي، كما جاء في سفر الملوك الأول، حيث جمع ملك إسرائيل «الأنبياء نحو أربعمائة رجل وسألهم: أأذهب إلى رامة جلعاد للقتال؟»
Page inconnue