La vie d'Ibn Khaldoun
حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية
Genres
إن الذبابة أدمت مقلة الأسد
العرب والسياسة
عقد ابن خلدون في مقدمة تاريخه فصلا ذهب فيه إلى أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك. وتدور هذه المقالة على ألسنة بعض من يريد الحط من شأن العرب، ولا سيما الأعاجم الذين يريدون استعمار بلادهم، وإدخالهم تحت سيطرتهم، ويسوقونها كالشاهد على أن العرب لا يصلحون لأن يديروا سياستهم بيد مستقلة. وينقلها بعض العرب أو أنصارهم فيرمي ابن خلدون بسفه الرأي في هذه القضية، ويحكم على تخطئته؛ بحجة سداد نظرهم في السياسة، واتساع فتوحاتهم أيام الخلفاء الراشدين ومن اقتفى أثرهم من دهاة الأمراء وأبطال الرجال.
والتحقيق أن ابن خلدون إنما يقصد العرب الذين يعيشون بالبادية، وقبل أن يخرجوا من ظلمات جاهليتهم إلى الاهتداء بمعالم الإسلام. وعباراته صريحة في هذا الصدد. ومما قال في هذا القصد: «وإنما يصيرون إلى سياسة الملك بعد انقلاب طباعهم وتبدلها بصبغة دينية.» ثم قال: «واعتبر ذلك بدولتهم في الملة، لما شيد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهرا وباطنا، وتتابع فيها الخلفاء؛ عظم حينئذ ملكهم، وقوي سلطانهم.»
خرجت يوما من برلين على سكة الحديد إلى بعض نواحيها، وكان في رفقتي اثنان من مستشرقي الألمان. وبعد قليل أقبل علي أحدهما وقال لي: أليس هكذا يقول ابن خلدون: إن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك؟ فقلت له: إنما يريد العرب في عصر جاهليتهم، وأما بعد أن تحلوا بهدى الإسلام فقد أصبحوا كغيرهم من الأمم؛ يجيدون النظر في السياسة، ويديرون زمامها على بينة. فلاح على وجهه الامتعاض من هذا الجواب، وليست ألمانيا أقل شرها وحرصا على استعباد الشعوب الشرقية من بقية دول الاستعمار.
ويوضح ما قاله ابن خلدون من قلة خبرة العرب أيام جاهليتهم بمذاهب السياسة أنهم كانوا مغلوبين لطبيعتين لا ينتظم معهما أمر الملك وإدارة شئون الجماعة:
إحداهما:
الانتصار لمثل الجار والقريب والصاحب والحليف، وإن كان ظالما! وكانوا يرون هذه الطبيعة من مقتضيات صحة العهد وعزة الجانب. والسياسة إنما تقوم على قاعدة المساواة، وحماية الحقوق من أيدي المعتدين عليها، لا فرق بين بعيد وقريب، وعدو وحبيب. ويعتبر هذا بالحكومات الأجنبية؛ فإنك تجدها تعبث بقاعدة المساواة في البلاد المحتلة؛ فتستخف بحقوق الوطنيين، وترفع أبناء جنسها عليهم درجات، وهذا أول العلل التي تجعل سياستها منكرة، ووطأتها لا تطاق.
ثانيتهما:
المسارعة إلى مؤاخذة المسيء والانتقام منه بدافع طبيعة إباية الضيم، والسياسة تقضي باحتمال بعض الأذى والإغضاء عن كثير من الهفوات. وأقم الوزن بالقسط في الحكومات السائدة؛ فإنك ترى الحكومة التي هي أطيش حلما، وأخف يدا إلى إرهاق من تسميهم مجرمين سياسيين فتستيقن أنها أقصر عمرا، وأن بغضها في قلب شعبها أحر من جمر الغضا.
Page inconnue