La vie de la pensée dans le nouveau monde
حياة الفكر في العالم الجديد
Genres
وكل ذلك ضروري لغذاء الإنسان.
وتأتي بعد درجة الانتفاع المادي درجة أعلى، هي أن أدرك ما في الطبيعة من جمال، إنك قد تنظر إلى الثمرة نظرتك إلى الغذاء، لكنك كذلك قد تنظر إليها نظرتك إلى الشيء الجميل قد سواه الله وصوره، فأكمل التسوية والتصوير، ها هنا في هذه المرحلة تزداد فاعليتك الخالقة؛ إذ تضفي على الطبيعة من نفسك كمالا من كمالها، وجمالا من جمالها ، وفي هذه المرحلة أخلاق وفيها تفكير، أما الأخلاق ففي اتساق النغم بينك وبين مشاهد الطبيعة؛ إذ ستكون العلاقة بينك وبينها أقرب شيء إلى العلاقة بين العازف والآلة التي يعزف عليها، وهل الفضيلة إلا الجمال؟ كلاهما في الاتساق والتناغم، الفعل الفاضل هو الذي يلتزم الحدود المعقولة، وكذلك الشيء الجميل، وأما التفكير فهو في إعمال الإنسان فكره في هذا الجمال الذي يشهده، الجمال والفضيلة والفكر كلها جوانب متصل بعضها ببعض، الحق والجمال والخير ثلاثة خيوط من نسيج واحد، فبالحق ندرك ما ندركه، وبالجمال نقدره ونعشقه، وبالخير نفعل الصواب الذي يمليه إدراكنا للحق، وإحساسنا بحبه، وهذه النواحي الثلاث كلها متضمنة في إدراكنا للطبيعة من الوجهة الجمالية؛ لأن إدراك الجمال وحده كاف لخلق الفضيلة والكشف عن الحق.
والدرجة الثالثة في علاقة الإنسان بالطبيعة هي إدراكه لما بين وقائعها وحوادثها من جهة، وفكره من جهة أخرى من تواز، فكل ما يجري في الطبيعة له صورته في فكر الإنسان؛ إذ بين الأفكار والأشياء تطابق تام كامل، بحيث يستحيل أن يكون هنالك فكرة بغير مدلولها في الطبيعة، أو أن يكون في الطبيعة شيء دون أن تقابله حالة من حالات الفكر والروح، والعقل - أو الروح - بصفة عامة تقابله الطبيعة بصفة عامة، وإذن فهناك التقابل بين الكل الروحي والكل الطبيعي، كما أن هنالك التقابل بين كل حالة هنا وحالة هناك، ولما كان تسلسل الحالات العقلية هو نفسه تسلسل ظواهر الطبيعة، كان منطق الفكر هو نفسه منطق الأشياء، لا فرق بين ما يحدث في العقل، وما يحدث في الطبيعة الخارجية «قانون الأشياء هو كذلك قانون العقل البشري، يكتشف الفلكي أن الهندسة - وهي تجريد مطلق للعقل البشري - هي قياس حركة الكواكب، ويكتشف الكيميائي النسب والقواعد المعقولة في المادة كلها، وليس العلم سوى كشف التشابه، والتطابق الذي يكون بين الأجزاء التي تبدو متباينة متباعدة، وهكذا يلمح الصبي الدارس، وهو تحت قبة النهار المستديرة أنه هو والطبيعة قد نشآ من جذر واحد، أحدهما ورقة والآخر زهرة، سوف يرى أن الطبيعة تجابه الروح، وتجيبها جزءا بجزء، أحدهما خاتم والثاني مختوم، جمالها جمال عقله، عندئذ تصبح الطبيعة لديه هي مقدار ما يحصله ، وبمقدار ما يجهل من الطبيعة يكون القدر الذي لا يملكه من عقله، وفي عبارة موجزة يصبح المبدأ القديم: «اعرف نفسك» والمبدأ الجديد: «ادرس الطبيعة» في النهاية مبدأ واحدا.»
27
وآخر الدرجات الأربع التي يتدرج فيها الإنسان مع ارتقائه في علاقته بالطبيعة، هي درجة الرياضة الروحية التي يرتاضها الإنسان عندما يتعلم من الطبيعة كيف تتسق الأجزاء في كل واحد متزن متجاوب موصول الأطراف، عندما يتعلم أن الطبيعة على اختلاف كائناتها، وتنوع مخلوقاتها إن هي إلا وحدة واحدة تستهدف غاية وتسير نحوها، ألا إن بين كائنات الكون من أوجه الشبه ما يزيد كثيرا على ما بينها من أوجه الاختلاف، إن كل شيء في جنبات الطبيعة، من الحيوان الأدنى إلى الإنسان الأعلى، صارخ بقوانين الصواب والخطأ، في الطبيعة وحدة وثيقة العرى، حتى ليستحيل أن تكون بغير روح كلي واحد منبث فيها، تراه في الفكر ومنطقه كما تراه في الأشياء وتسلسلها سواء بسواء. (2) «هنري ديفد ثورو»
28
والفردية المتطرفة
كثيرا ما تبدأ الدعوة إلى مذهب فكري معين دون أن تكون مكنونات هذا المذهب قد ظهرت كلها ظهورا واضحا عند الدعوة الأولى، فيجيء الأتباع بعدئذ واحدا بعد واحد ليستخرجوا إلى وضح النهار ما كان خبيئا كامنا، ويدفعوا بمبادئ المذهب خطوة بعد خطوة إلى آخر نتائجها المنطقية، فإذا هذه النتائج تبدو غريبة حتى على أصحاب المذهب الأولين أنفسهم؛ لأنهم حين أخذوا يدعون إلى مذهبهم هذا، لم يكونوا قد تبينوا دفعة واحدة كل ما تنطوي عليه مبادئه.
فها هم أولاء بناة الدستور الأمريكي ومعلنو استقلالها قد اعتمدوا على أساس من فلسفة «لوك» (انظر الفصل الأول) فقرروا أن للإنسان حقوقا طبيعية، يتمتع بها بحكم فطرته، وهبها له الله ولم يهبها سلطان حاكم؛ ولذلك فهي ملكه الذي لا يشاركه فيه إنسان، ومن تلك الحقوق الطبيعية الفطرية - كما ورد في وثيقة «إعلان الاستقلال» - حق الحياة وحق التماس السعادة، فإن كان الأفراد قد تنازلوا عن بعض حقوقهم هذه للدولة، لقاء ما تتعهد به الدولة من صيانة الحقوق التي احتفظوا بها لأنفسهم ولم يتنازلوا عنها فيما تنازلوا، فما ذلك إلا بموافقتهم ورضاهم، هم الذين أقاموا الدولة باختيارهم، وهم الذين يزيلونها إذا ما قصرت في أداء واجبها الذي تعهدت لهم بأدائه، وقد كانت الحقوق التي تنازل الأفراد عن بعضها مما يمكن التنازل عنه، لكن هنالك جانبا من الإنسان خاصا به، سيظل ملكا له، يستحيل أن يشمله التنازل، وهو جانب الروح، أو العقل، فليس للدولة كائنة ما كانت، بل ليس للكنيسة ذاتها، أن تحاسب الإنسان على حياته الروحية وإدراكه العقلي.
فجاء بعد ذلك «إمرسن» مع زملاء له يتفقون معه في وجهة النظر، وإن لم يكن لهم ما له من قوة التعبير، جاء بعد ذلك «إمرسن» وزملاؤه المثاليون، فانتزعوا من هذا المبدأ إحدى نتائجه التي تلزم عنه، وهي أن يكون للفرد - إلى جانب استقلاله السياسي - استقلال فكري، فلا ينبغي لفرد أن يعتمد على فكر فرد آخر، وواجب الإنسان يقتضيه أن ينظر في ثنايا ضميره ليدرك إدراكا حدسيا مباشرا ما عسى أن يوحي إليه به ذلك الضمير، فيكون هو الحق، ولا يبطل هذا الحق حق آخر يدركه الفرد نفسه في لحظة أخرى، ولما كان الفرد الواحد ممثلا للروح الكلية الشاملة؛ فهو فيما ينطق به عن صدق وسلامة حدس، إنما يفصح عن حقيقة تلك الروح الكلية من جهة؛ وبالتالي فهو يعبر عما هو حق بالنسبة لسائر أفراد البشر من جهة أخرى، وبهذا يصبح ما هو حق لفرد حقا لكل فرد آخر، وإن جاء إدراكه عن طريق فرد واحد.
Page inconnue