وكانت العادة أن يزور المدارس الحربية بين آونة وأخرى مفتش خاص غايته فحص التلاميذ والإشراف على أحوال معيشتهم ودروسهم وصحتهم؛ ليقدم بذلك تقريرا وافيا إلى الوزير، فجاء بريان هذه المرة المسيو ده كراليو، وذلك في سبتمبر 1783، ولما رأى نابوليون أدرك حالا ما عنده من الاستعداد على الرغم من أن معارف التلميذ الشاب كانت وقتئذ قليلة لا تكاد تتعدى الرياضيات، فوقع اختياره عليه لإرساله إلى باريس، وحرر بذلك شهادة أتى فيها على وصفه من حيث القامة والبنية والصحة، ولم ينس أن يذكر فيها أنه ضعيف في اللغة اللاتينية وفي الألعاب.
ثم جاءت أمه لزياته، فأفرغت جهدها في إقناعه بالعدول عن البحرية؛ حيث لا يجد إلا عدوين: الماء والنار. والذي زادها قلقا عليه ما رأت من نحوله وتحول ملامحه، حتى إنها أبت بادئ ذي بدء أن تصدق أنه ولدها، كما يقول نابوليون نفسه في حديث له مع الجنرال مونتولون؛ لأنه حقا كان قد تغيرت صحته وساءت كثيرا؛ لإفراطه في الدرس وسهر الليالي مكبا على المطالعة، وذلك «لأن فطرته كانت تأبى عليه إلا أن يكون الأول في صفه».
ولا توجد تفاصيل عن حياة نابوليون في بريان سوى ما كتبه أحد رفقائه في المدرسة ونشره بعد سقوط الملكية؛ أي سنة 1815، فقد جاء في هذا الكتاب أن نابوليون كان يجهل تقريبا الفرنسوية، فعينوا له أستاذا خصوصا هو الأب ديبوي، وكانت ذاكرته ضعيفة جدا؛ بحيث لا يقوى على استظهار دروسه، إلا أنه كان يفهم بسرعة معنى كل ما يقرأ، وقد قرأ كثيرا وخصوصا التاريخ.
وكان متطرفا في مدح الإنكليز وذم الفرنسويين، وقد اضطر فيما بعد إلى تغيير رأيه هذا، وكان لون وجهه أصفر شديد الاصفرار، فكان يعلل ذلك بأنه وهو في المهد كانت الحرب مستعرة في كورسيكا، فاضطرت مرضعه أن تنجو به إلى الجبال، وجلبت له عنزة تشاركها في إرضاعه لقلة لبنها، ولكن العنزة ماتت فلم تجد غير الزيت لتغذيه به (كذا).
بونابرت حين كان طالبا في المدرسة الحربية الملكية.
ويقال: إن نابوليون لم يكن ليشترك مع رفقائه في الرياضة واللعب، ولكن الكاتب الذي يدعي أنه رافق نابوليون أيام المدرسة يقول: إنه في باريس كان يلعب كغيره، ولا سيما لعبة تسمى لعبة اللص وأخرى لعبة الصيد، وكلاهما حركة وركض. أما ألعاب الخفة فكان يجهلها تماما حتى إنه لم يكن يعرف أن يرمي حجرا فيصيب، بل إنه كان عاجزا عن تجعيد شعره بذاته، وقد بلغ ذلك منه أن سمح له بالشذوذ عن القاعدة، فصار يدعو مزينا لتجعيده وإرسال جديلة وراء رأسه حسب زي تلك الأيام.
وقد غادر نابوليون بريان في 17 أكتوبر سنة 1784 غادرها غير آسف؛ لأن شوقه إلى كورسيكا لم يزل متقدا وحنينه إلى سمائها الجميلة لم يزايل فؤاده لحظة.
أما مدرسة باريس فقد أنشئت على عهد لويس الخامس عشر بالقرب من الأنفاليد، كأنما أراد منشئها أن ينعش الأبطال القدماء ويفرح شيخوختهم بمنظر الشباب المعزي، ثم أقفلت واعتيض عنها بمدرسة خاصة أعدت لقبول زهرة الطلاب ممن امتازوا في دروسهم من أي بلد فرنسوي كانوا، وقد أظهر نابوليون أنه حائز الصفات المطلوبة فقبل فيها بسهولة.
ولا نعرف من حياة نابوليون في هذه المدرسة الملكية إلا نتفا يرويها رفقاؤه، ومنها هذه الحادثة التي تدل على نفسه: كان الاعتراف إجباريا في المدرسة، فإذا لم يجئ التلميذ من تلقاء نفسه إلى الكنيسة جيء به غصبا، ووقف عند الباب حارس يمنعه من الخروج قبل أن يتم هذا الفرض الديني، فلما جاء دور نابوليون ووقف أمام الكاهن سأله هذا عن وطنه، فأجابه أنه من كورسيكا، فما كان من الكاهن إلا أن انطلق في ذم الكورسيكيين وعد عيوبهم ولصوصيتهم، فتكدر نابوليون واحتدم الجدال بينه وبين معرفه حتى انتقل من السب إلى التهديد، وانتهى بأن ضرب نابوليون بقبضة يده على الحديد الفاصل بينه وبين الكاهن، فكسره وهجم عليه، ولولا الحارس الذي أسرع إلى الفصل بينهما لكانت معركة دموية، ولم يعاقبه رؤساؤه على ما جرى؛ لأنه لم يفعل ذلك إلا دفعا للإهانة التي أراد أن يلصقها الكاهن ببلاده.
وإليك حادثة أخرى ليست أقل دلالة على أخلاقه:
Page inconnue