الغنيمة الباردة:
ولعل من أهم الامور التي تُعين المسلم بإذن الله على الاستفادة من رمضان هو إدراكه أن هذا الشهر يُعد بمثابة (الغنيمة الباردة) التي يمكنه من خلالها إيقاظ الإيمان وتجديده في قلبه والتزود بالتقوى، وأن هذه الغنيمة لا يمكن إدراكها من خلال القيام بأشكال العبادات دون تحرك القلب معها، وهذا يستدعي منه تفرغًا - إلى حد ما - من الشواغل التي تشوش على عقله، وتصرفه عن الحضور التجاوب القلبي مع الأداء البدني للعبادات.
ويحتاج الأمر كذلك إلى عدم إجهاد البدن قدر المستطاع، فكلما أُجهد البدن ثقلت العبادة وغاب أثرها على القلب.
ومما يدعو للأسف أن البعض يظن أن قيامه بنوافل العبادات - كصلاة القيام - وهو في حالة من الإجهاد البدني والشعور الشديد بالتعب أفضل من عدم قيامه بها، لأنه لو تركها وأخلد للراحة بصورة مؤقتة فستفوته تلك النافلة مع الجماعة، وهذا - بلا شك - نتيجة لغياب الفهم الصحيح لحقيقة العبودية، ولقد مر علينا قوله ﷺ: (إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فلينصرف، فليضطجع) وليس معنى هذا هو سرعة الاستسلام للشعور بالتعب والإجهاد، ولكن لابد من إعطاء البدن حقه من الراحة حتى نستطيع - بعون الله - القيام بالعبادة وعقولنا وقلوبنا حاضرة معها قدر المستطاع.
ولك - أخي القارئ - أن تتأمل قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) [النساء: ٤٣] ففي مرحلة التدرج في تحريم شرب الخمر، كان التوجيه بعدم شربها قبل الصلاة حتى لا تُذهب العقل فلا يدري المصلي ما يقول، أي أن التركيز في الصلاة وفهم ما يقوله المرء أو يسمعه أمر ضروري يتحقق من خلاله مقصودها.
فماذا تقول عمن يدخل إلى الصلاة وهو شارد الذهن ويغلبه النعاس فيبدأ الصلاة وراء الإمام برفع يديه بالتكبير ثم يفاجأ بالتسليم؟! هل بهذا الشكل يزداد الإيمان والتقوى؟!
في رمضان العمل مع أنفسنا أهم واجباتنا:
فإن قلت: ولكن ماذا أفعل وفي رمضان تزداد الأعمال الخدمية والاجتماعية مما يؤثر بالسلب على إتقان العبادة؟
إن الحركة وسط الناس مطلوبة لتوجيههم ودعوتهم إلى الله، ومساعدتهم، وإسداء الخير لهم، ولكي يستفيد المسلم من هذه الحركة لابد وأن تنطلق من إيمان حي، ونفس مزكاة، فإن لم يحدث هذا كانت النتيجة سلبية كما قال صلى الله عليه وسلم: (مثل الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه، مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها) (١)
ويقول الرافعي: إن الخطأ أكبر الخطأ أن تنظم الحياة لمن حولك وتترك الفوضى في قلبك ..
وشهر رمضان فرصة عظيمة لشحن القلب بالإيمان، وترويض النفس وتزكيتها، فإن ضاعت من المسلم هذه الفرصة فأي حال سيكون عليه قلبه وإيمانه؟
فمن لم يحيي قلبه في رمضان فمتى يحييه؟ ومن لم يتزود بالإيمان في رمضان فمتى يتزود؟
من هنا نقول أنه ينبغي علينا الإستفادة من شهر رمضان على المستوى الفردي أكثر من المستوى الاجتماعي حتى نستطيع أداء واجباتنا الاجتماعية طيلة العام ..
وليس معنى هذا هو الاعتكاف التام عن الناس طيلة الشهر، ولكن المقصد هو تخفيف الجرعة، وهذا يستدعي منا إنهاء ما يمكن إنهاؤه من واجبات اجتماعية وخدمية قبل قدوم رمضان أو بعد رحيله، والإقلال قدر المستطاع من الزيارات العائلية، والإفطارات المجمعة، وكيف لا وشهر رمضان (أيامًا معدودات) سرعان ما تنقضي.
لقد كان ﷺ يعتكف في كل عام العشر الأواخر من رمضان، وفي العام الذي تُوفي فيه اعتكف عشرين يومًا .. أي ثلثي الشهر، فماذا تقول بعد ذلك وأي حجة ستسوقها لتبرر لنفسك عدم التركيز في العبادة وتحصيل الزاد من خلال منظومة العبادات في شهر رمضان؟!
إن التخطيط الجيد لتنفيذ الأعمال الاجتماعية، والمساعدات الخيرية، والحرص الشديد على الوقت وتنظيمه يساعد بإذن الله على تحقيق مصلحة الفقراء دون الإخلال ببرنامج الاستفادة الحقيقية من رمضان وبهذا نجمع الخيرين.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير (٥٨٣٧)
1 / 7