ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا؟
ويقول الله عز شأنه لمن هو خير منك فيمن هم شر منه:
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين .
وماذا صنع ابن زيدون؟ ادعى على نفسه كذبا أن ابن المرتضى في داره، ليصرف عن ولادة فيما خيلوه له سوء عذابك وتنكيلك، ثم ثبت أن الرجل لم يكن بداره، وأنه لم يظهر له أثر بقرطبة كلها. أيكون جزاؤه بعد ذلك أن يسجن وأن يطوق بالأغلال كما يفعل بالأشرار والمجرمين؟ ادعه يا مولاي إليك، وخذه بالمعروف والموعظة الحسنة، فإنك واجد فيه بعد محنته ذهبا نضارا أخلصته النار، وسيفا بتارا صقله الكفاح. - لا يا نائلة إنه مسعر فتنة، ونذير شر، ولن تهدأ قرطبة وهو طليق ينفث سمومه. لقد كان يمر بخاطري أن أقتله، ولكني سأكتفي الآن بسجنه.
فتقدمت ولادة إليه متوسلة تقول: انفه يا سيدي إلى أية مملكة من ممالك الأندلس وانفني معه إن كنت لا تزال ملحا في إقصائه. - لا يا سيدتي، إني لا آمن غوائله إلا إذا كان في قبضة يدي، وتحت سمعي وبصري، ويحسن ألا نطيل الحديث في هذا الشأن فقد جلتما فيه بأكثر مما أحب. ثم قام من مجلسه فانصرفتا حزينتين باكيتين.
دخل ابن زيدون السجن بائسا كاسف البال بعد أن طارت آماله، وتقطعت حباله، وبعد أن زلت به القدم، وأخطأ سهمه الهدف. كان يبني له الخيال عزا كبيرا، ويصور له الطموح جاها عريضا، ألم يكن من قبيلة بني مخزوم ذات الشرف الباذخ، والمحتد الراسخ، التي دخلت الأندلس مع الفاتحين فملكت البلاد، ووطدت دعائم الإسلام؟ ألم تكن لأبيه غالب الرياسة والمنزلة الرفيعة في القضاء والعلم والأدب؟ ثم يزفر طويلا وهو يقول: والآن ماذا أصنع؟ أو ماذا سيصنع بي؟ إن ابن جهور إذا غضب كانت نار الجحيم بردا وسلاما، وإذا صمم نكب عن ذكر العواقب جانبا، وبعد حين يرى نفسه وقد قبض على قلم أمامه فكتب:
قل للوزير وقد قطعت بمدحه
زمنا فكان السجن منه ثوابي
لا تخش في حقي بما أمضيته
من ذاك في، ولا توق عتابي
Page inconnue