إن الفتن في قرطبة في تأجج واضطرام، فدعنا نكن حولها من المشاهدين دون أن نكون لها حطبا، وإذا كان لك رأي فيما يجب أن يكون عليه الحكم فبالله عليك دعه الآن ، وهلم بنا إلى حياة هادئة حلوة المجتنى، يرف فوقها جناحان من أمن وسكينة.
فنظر إليها ابن زيدون نظرة ساهمة حزينة وقال: ومن الذي يراك يا سيدتي ولا يختطفك ليفر بك إلى قمة جبل بعيد عن دسائس البشر ونمائمهم؟ إن للعيش في ظلالك معنى ليس في جنات النعيم، ولكن ماذا أفعل يا سيدتي في نفس جموح طموح لا يلين لها زمام، ولا تذل لقائد؟ لقد خلقت للمجد ولعظائم الأمور، فإذا ثارت نفسي إلى مطلب ركبت إليه أسنة الرماح، ولم أبال بما يملأ طريقي من أشراك وحبائل، وسخرت من الكاشحين، وغبرت في وجوه الحاسدين، وإن شيئا واحدا هو الذي يغض من جماحي، ويخفف من غلوائي. أتعرفين ما هو؟
فابتسمت ولادة وقالت: أعرف. وإني أستحلفك بحق هذا الحب أن تطامن من نفسك قليلا، وأن تتركنا نعيش في سلامة وهدوء بال زوجين سعيدين. اهجر هذه المطامح البعيدة أبا الوليد التي ستوردنا موارد التلف. - إلا مطمحي الأسمى، فإني سأعمل له أو أموت دونه، ولن أستحق أن أكون بعلا لأكرم نساء قرطبة إلا إذا ظفرت به يدي. - أي مطمح؟ - أن أعيد الدولة العربية بالأندلس إلى سالف مجدها أيام عبد الرحمن الداخل والناصر والمنصور بن أبي عامر. يجب أن يتحد العرب، ويجب أن تجمعهم عروة لا تنفصم، ويجب أن تتجمع دويلات الأندلس في دولة عربية موحدة يخفق فوقها علم واحد يصور وحدة الكلمة، ووحدة القوة، ووحدة الغاية. فلقد قالوا قديما، وكان قولهم حقا: إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. أتعرفين يا سيدتي أننا لم ينفعنا إلا تفرق كلمة ملوك الإفرنجة، وهم ولله الحمد على نعمائه دائما في شجار وشقاق وتنافس، ولولا ذلك ما كنت بجانبك اليوم في مدينة قرطبة، وربما كنا نكون تائهين في صحراء مراكش، نحسد رعاة الإبل على ما منحهم الله من دار ووطن. ولكن عراك الإفرنجة لن يطول، وسوف يدفعهم حب الغلب، ويحفزهم طلب الثأر إلى توحيد الكلمة ونسيان الأحقاد والوثوب على العرب من كل مكان، فإذا لم نأخذ الأهبة للهجمة الكبرى، ونعد العدة للداهية العظمى، ذهب كل شيء من أيدينا. فتنهدت ولادة وقالت: لن تجد اليوم من أبناء الخلائف من أمية من يعيد لك أيام الناصر، ولن تجد بين الأمراء من يعيد لك أيام الناصر، وهذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، ذلك بأن ينبع من أرض الأندلس رجل له عزيمة عبد الرحمن الداخل وصرامته وعبقريته، فيجمع الأواصر، ويوحد الكلمة، ويستميل القلوب، ويرد الدعاة المتهافتين على الحكم إلى أجحارهم. ولكن أين هذا الرجل الآن يا أبا الوليد بعد أن أقفرت الأندلس من الرجال؟
فأطرق ابن زيدون ثم رفع رأسه وقال: بعد أن مات ابن المرتضى فليس لي أمل إلا في رجل واحد، ولكنه أمل ضعيف خائر. - من هو؟ - إني أنظر إلى أشبيلية. - إلى بني عباد؟ - ربما. - إنهم طبل أجوف. - ولكنهم خير الشر. - أفي الشر خيار؟ - نعم إذا أجدب الزمان، وقلت الأعوان. وبينما هما في الحديث إذ دخلت نائلة فقبلت ابن زيدون في جبينه فعل الأم الرءوم، وانطلقت على طريقتها في سيل من الحديث لم يترك كلمة لقائل. ثم صاحت: أسمعتما بالنبأ العجيب؟ فقالت ولادة: هاتي يا جهينة الأخبار هاتي. - لقد ولى أبو الوليد بن جهور صفيه وخليله ابن السقاء الإشراف على شئون الدولة، وجمع في يديه كل أزمة المملكة، يصرفها كيف شاء.
فصاح ابن زيدون: هذا أول البلاء ونذير الزوال، إن ابن السقاء رجل واسع مدى العقل، كبير الآمال، ولكن كبار العقول بعيدي الآمال كثيرا ما يكونون خطرا على الدولة. إنه رجل متسلق هجام بعيد الحيلة، لا يتعفف عن جريمة إذا كان يصل بها إلى غايته. إنه يقطع اليد التي امتدت لمعونته بعد أن ينال منها مأربه.
فقالت نائلة: لا تبالغ يا أبا الوليد. - ستعلمين نبأه بعد حين. - إنه أرسله اليوم للسفارة بينه وبين ابن عباد. - ثعلب يلتقي بذئب! - ومن الفريسة؟ - قرطبة المسكينة. - لا تكن متطيرا، فالدنيا لا تزال بخير. ثم هرولت إلى الباب وهي تتجه نحو ولادة وتقول: الدنيا بخير مادام فيها حب وأمل.
وعاش ابن زيدون في كنف أبي الوليد بن جهور أول الأمر هانئا سعيدا، وعاد إليه ما كان من نفوذ وعلو مكانة، وكان يجمعهما المساء في ندوة ولادة بين أخدان من الشعراء والأدباء، فيطوون الليل بين سمر وطرب وفكاهة.
وترامت الأيام، وكرت الليالي، وأخذ شغف ابن جهور بابن زيدون يهدأ قليلا ويعدو عليه السأم ويصيبه الملال. واستمر أعداء ابن زيدون يرسلون الأخلوقة إثر الأخلوقة، والنمة وراء النمة، وكانوا من اللباقة في الكذب والبراعة في الدس بحيث ينقلون الخطا فيما هموا به من الفساد وئيدة وئيدة، حتى لا يشعر من يسعون عنده بأنهم يتغفلونه أو يستغلون ثقته.
بعث ابن جهور ابن زيدون للسفارة بينه وبين إدريس الحسني بمالقة، فأحتفى به الحسني مقدرا عظيم منزلته ورفيع أدبه، وأنزله خير منزل، وأجزل له الصلات، وأجرى عليه من الخدمة ما لم يجره قبله على عظيم. ثم أنس بمجلسه، وشغف بالاستماع إلى أدبه، وفتن بروائع أخباره وبدائع نوادره، وألح في أن يطيل ثواءه عنده، وتمنى لو جعل مالقة دار إقامته، واختار من مناصبها أعلاها قدرا وأبعدها نفوذا، فمالت نفس ابن زيدون إليه، وهفت إلى كريم وعوده، وذكر أعداءه بقرطبة، وذكر دالة ابن جهور عليه، وذكر أنه يعيش في كنفه كما يعيش راكب البحر، لا يفتأ في خوف وحذر وإن سكنت الريح وصحت السماء. ولكنه ذكر أيضا ولادة، وذكر أن العيش بدونها لا يطيب، فنفض عنه الرغبة في البقاء، ورأى أن قرطبة جنة نعيمة وإن حفت بالنار من كل جانب.
ولما طالت إقامته بمالقة دخل ابن عبدوس وابن المكري على ابن جهور ذات صباح، فقال ابن عبدوس: هل وصل إلى سمع مولاي أن ابن زيدون عزم آخر الأمر على الإقامة بمالقة؟ - لا. وكيف يتاح لوزير في دولة أن يكون في خدمة دولة أخرى تنافسها وتضمر لها العداء؟
Page inconnue