La Récolte Philosophique du XXe Siècle : et Autres Recherches Philosophiques
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Genres
إن علاقة التصور بالشيء - كما يقول لاندمان - «ليست كما يراها أدورنو هي علاقة الأقوى بالأضعف، بل هي علاقة العام بالخاص، فهو لا يفسده ولا يحتقره ولا يقلل من شأنه، ولا يخضعه إخضاع العبيد، ولا يجرده من قيمته، وإنما يحاول أن يفهمه ويجد له مكانا في النظام العقلي المتسق. ولو صح أن هذا الاحتواء التصوري للشيء هو في ذاته جريمة يرتكبها عدوانيون أو نخبة من العدوانيين المتوحشين (ويقصد بهم العلماء) لو صح هذا لكان على البشرية أن تتوقف عن استخدام اللغة جنبا إلى جنب مع توقفها عن استخدام العقل ... لماذا؟ لأن الكلمات نفسها أنواع من الاحتواء.»
41
مهما يكن من شيء فلا بد من الإشادة بالدور الذي قام به أدورنو في نقد العقل، فقد وضعه داخل السياق الاجتماعي كله، وأثبت أن بعض المذاهب الفلسفية - مثل البراجماتية والوضعية - قد جعلته أداة في خدمة الإنتاج الصناعي، ووظفته لخدمة مصالح معينة، وعزلته تماما عن مجال القيم كالعدالة والتسامح ... إلخ، وقد ترتب على ذلك أن العقل عندما استخدم هذا الاستخدام الأحادي نظر أيضا إلى موضوعاته نظرة أحادية هي نظرة السيد للمسود، فكرس بذلك اغتراب الموضوع عن الذات واغتراب الذات عن الموضوع، وترجمت العقلانية المتسلطة إلى نظم شمولية متسلطة بدورها. والسؤال الحقيقي الآن هو: كيف نعيد للعقل شموليته أو كليته الاجتماعية، أي كيف نعيد وضعه في السياق الاجتماعي الشامل ليكون عقلا اجتماعيا تاريخيا، وليس معرفيا فحسب؟ الإجابة هي من خلال فلسفة أكثر إنسانية، فلم يعد العقل ملكة ذاتية مستقلة، بل إنه يتطور تاريخيا واجتماعيا، ويتغير هو نفسه وفق الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ويمكن الرد على ملاحظة أدورنو عن توظيف العقل لمصالح معينة بأن ما حدث هو استغلال ثمار العقل من المعرفة لأجل أسباب وأهداف غير عقلانية وغير إنسانية، ولو أدركنا العقل في مختلف وظائفه، ونظرنا له نظرة كلية حية، لوجدنا أنه لا يمكن توجيه الاتهام للعقل التصوري الذي يقوم بعملية معرفية بحتة، بل يوجه الاتهام إلى توظيف العقل من جهات مختلفة لتحقيق مصالح ربما تكون سياسية أو اقتصادية لا تتصل بالمعرفة الخالصة. والواقع أن أدورنو خلط بين المعرفة واستخداماتها، وخلط أيضا بين السياسي والمعرفي، مما أدى إلى سوء فهم العملية المعرفية نفسها. ولا يمكن إنكار فوائد العلم العقلانية في الفهم الأفضل للواقع المادي وتشكيله؛ ولذلك انتصرت النزعة الآلية. أضف إلى هذا أن القدرة على التصنيف والقياس الكمي لا غبار عليها؛ لأنها إنجازات عقلية أصيلة، وإن كانت تكشف عن جانب واحد فقط من الموجود الفردي، ولا يصح أن تحجب عنا الجانب العيني الحي منه ما دام كلاهما يساعدنا على إدراك الواقع. والحقيقة أن ما يريده أدورنو هو أن الفكر التطبيقي لا ينبغي أن يكون شموليا، ولا أن يطبق بغير استثناء، وذلك إذا أردنا إنقاذ الموجود الفردي، واحترام تفرده. ولا تقتصر هذه الفكرة على أدورنو فحسب، بل اتجهت الفلسفة المعاصرة في مجموعها ضد الهوية لكي تحرر التعدد أو الكثرة، وترد إليها فرديتها الحميمة، ولكن الدفاع عن خصوصية الكائن واحترام فردانيته التاريخية ، وحمايته من هيمنة وشمولية العقل لا يعني إبطال الفكر العقلاني التصوري؛ إذ لا يمكن توقف الإبداع لمجرد أن يماره توظف توظيفا لا إنسانيا.
والمشكلة في حقيقة أمرها ليست في العقل نفسه الذي يقدم أساسا محايدا لتطبيقاته، وإنما تكمن في استخدامه استخداما سيئا، وخاصة من قبل أولئك الذين يبتغون المصلحة والهيمنة فقط. وأدورنوليس ضد العقلانية التصورية أو التصنيفية في ذاتها، بل ضد استخدامها لتحقيق مصالح تفضي بها إلى اللاعقلانية. ويجب التأكيد من ناحية أخرى على أنه إذا كان العقل يمارس السيطرة فهو لا يمارسها على البشر والأشياء، وإنما يمارسها على القوى غير العاقلة داخل الوعي المعرفي. لقد أوجد العقل الغربي حضارة قوامها التقدم العلمي، ولكن توظيف هذا العقل توظيفا خاطئا وانفصاله عن الحياة نفسها، وتصوره أنه النموذج الأوحد جعله يثمر حضارة عقلانية غير إنسانية، أوقعته في أزمات اللاعقلانية بصور وأشكال مختلفة (منها ما يطلق عليه اليوم اسم ما بعد الحداثة).
ولكن هل يريد أدورنو العودة إلى النزعة الحدسية المباشرة دون وسيط عقلي أو تصوري؟ الواقع أن كل كتاباته تنفي هذا؛ لأنه يؤسس عقلانية جديدة يصفها بأنها عقلانية نقدية، أي تنقد هيمنة عقلانية الفكر الغربي الذي يزعم بعض أعضاء النظرية النقدية - مثل ماركيوز - أنها بدأت من منطق أرسطو الذي اتجه لتثبيت هوية الأشياء، وتعريفها، وتحديدها تمهيدا للسيطرة عليها بمختلف أنواع السيطرة. وإذا رجعنا إلى السؤال السابق عن العودة للنزعة الحدسية، سنجد أن برجسون ذاته - وهو فيلسوف الحدس بغير منازع - لم يلغ التفكير العقلاني، بل وجد أن العقل ينصب على مجال العمل فهو يصنف، ويقيس قياسا كميا ... إلخ، ويوظف الموجودات في المصالح العملية، وإن كان الوصول لروح الأشياء وكنهها لا يتم إلا عن طريق الحدس. وإذن فالعقل في حد ذاته محايد لا يخضع الأشياء ، ولكنه ينحرف فقط عندما يوظف لتحقيق مصالح معينة.
ويؤكد ماكس هوركهيمر (1895-1973م) في كتابه «نقد العقل الأداتي» - ما سبق أن أكده بالاشتراك مع صديقه أدورنو في جدل التنوير - أي هجومه على المعرفة التصورية، وهجومه على العقل الذي يرى «أنه لا يمكن أن يعود إلى صوابه إلا عندما يعترف بأنه ليس عقلا مطلقا، وإنما هو نسبي متغير. فمنذ العصور القديمة وحتى ليبنتز لم يكن العقل ملكة ذاتية فقط، بل كان أيضا ملكة تتجه لمعرفة العالم الموضوعي، أي أن العقل الذاتي هو المسئول عن معرفة طبيعة الأشياء في العالم الموضوعي»،
42
لذلك كانت الأهداف إنسانية؛ لأنها تنشد انسجام العقل مع العالم الخارجي. وقد عرضنا في الصفحات السابقة كيف هاجم هوركهيمر الفلسفة الترانسندنتالية الكانطية في إطار نقده للمعرفة التصورية في محاولة منه لتنقية دور العقل؛ ولذلك رأى أن التنوير المضاد للدين والميتافيزيقا دمر انسجام العقل (أو الإنسان) مع العالم الخارجي مما ترتب عليه ظهور نمطين للعقل؛ أحدهما: عقل تنويري غايته التحرر والعدالة وإلغاء التشيؤ، والآخر: عقل أداتي غايته التسلط والسيطرة، ويؤدي إلى المادية والعدمية، وكلا النمطين متعارضان وغاية هوركهيمر هي توحيد التجريبية والعقلية في منهج ترنسندنتالي (أو شارطي لإمكان كل معرفة ضرورية وعامة الصدق).
وعلى الرغم من أن العقل الأداتي أو التقني له مزاياه، إلا أن النزعة الوضعية والبراجماتية ألحقتا به الضرر، فقد أصبح التقدم الفكري يعني تقدما صناعيا، وانفصلت المفاهيم والتصورات عن مصدرها العقلي، ولم يعد العقل هو قانونها ولا عادت قادرة على تحقيق أهداف الحياة. فالعدالة والحرية لا يمكن لهما أن يتحققا بالوضعية العلمية التي سلبت العقل كل علاقة بهما ولم تهتم إلا بالوقائع، وأصبحت خادمة لأدوات الإنتاج الموجودة، وانفصلت عن السياق الاجتماعي فلم تثمر غير الاغتراب.
Page inconnue