La Récolte Philosophique du XXe Siècle : et Autres Recherches Philosophiques
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Genres
يتميز دريدا بنزعة شكية ترتاب في كل الأوليات التي سادت التراث الفلسفي الغربي مثل: «تقديم الحضور على الغياب، والكلام على الكتابة، والتشابه على الاختلاف، والأبدية على الزمن المتناهي»، وهو ببرنامجه في التفكيك يحاول أن «يتحدى هذه الأوليات، وأن يحدد الإطار النقدي لكل النصوص الأساسية في هذا التراث الغربي، فيتساءل عما أظهرته وعما سكتت عنه.»
70
لم يهدف دريدا إذن بمنهجه التفكيكي لوضع نظرية بديلة، ولكنه اكتفى فقط بفحص أدوات ومواد واستراتيجيات الآخرين دون أن يحاول أن يبني بناء خاصا به، ولقد كان هو نفسه على وعي بذلك، و«يعلم تماما أن التفكيك لا يمكن أن يصبح هو النموذج السائد الذي يجب أن يحل محل جميع النماذج الأخرى، وإلا فإنه يكون قد استبدل بنموذج عقلي مركزي نموذجا عقليا مركزيا آخر.»
71
ولكنه أراد فقط وقف التصورات الميتافيزيقية المتوارثة في خطابنا الفلسفي، وكأنما أراد أن يذكرنا بأننا «لم نفهم شوق نيتشه في زرادشت إلى ذلك الإنسان الذي يرقص فرحا خارج بيت الوجود»، فأراد أن يتحدى بمنهجه التفكيكي كل الأفكار المسبقة أو القبلية التي سادت الخطاب الفلسفي الغربي، ولكنه منهج لم يتجاوز - كما قلنا - مرحلة النقد والهدم إلى مرحلة التأسيس والبناء.
بعد هذا العرض لأهم تيارات الفلسفة الغربية في القرن العشرين ، وبعد أن وضع الفلاسفة أسس نقدهم للميتافيزيقا وتحليلاتهم للمعنى والأشكال اللغوية، وبعد أن كادت الفلسفة أن تتحول إلى منطق وفلسفة للغة، فهل صدق الشعار الذي أعلنه البعض عن نهاية الفلسفة؟ وإذا لم يكن هذا الزعم صحيحا، فما هي إذن الوظيفة الباقية للفلسفة؟ إذا كان من الصحيح أن الفلسفة لم تعد تدعي أنها تضع مذاهب شاملة، وعلى الرغم من أنها سلبت الكثير من وظائفها التقليدية، إلا أنه من الصحيح أيضا القول إنه حدث نوع من التحول للتفكير الفلسفي يشهد عليه تاريخ الفلسفة طوال القرن العشرين، بحيث يظل السؤال عما يبقى لها مشروعا، ولعله قد اتضح من العرض السابق أن الدور المهم الذي يكفل فرصتها في البقاء هو وظيفتها النقدية، بمعنى أنها وسيلة أو أداة نقدية سواء للعلم الوضعي أو للمجتمع البشري وتنظيم حياة الإنسان فيه. ولا عجب في هذا، فقد رأينا أن هذا هو الدور الذي حدده لها الفكر الغربي الذي طبع على النقد الذاتي المستمر. ولا حاجة بنا لأن نذكر القارئ بأن ما عرضناه من اتجاهات فلسفية ليس كافيا ولا شاملا، بسبب ما فرضته ظروف هذا البحث. (4) الإسهام الفلسفي العربي بين الترديد والتجديد
والآن علينا أن ننتقل إلى الجانب العربي لنتعرف على إسهام الفلسفة العربية في التيارات الفكرية التي اجتاحت الساحة الغربية في القرن العشرين، وحقيقة الأمر أن طرح هذه القضية بهذه الصيغة يغلب عليه طابع المبالغة والتفاؤل معا، فلا نستطيع بطبيعة الحال أن نقول إن هناك فلسفة عربية خالصة بالمعنى الدقيق لكلمة فلسفة، أو إن هناك مذاهب ومدارس فلسفية عربية بالمعنى المتعارف عليه في الفكر الغربي، ولكن هناك بالتأكيد محاولات للتفلسف متأثرة بالتيارات المتنوعة للفلسفة الغربية. وإذا توخينا الدقة قلنا إنه نوع من التلقي أو الاستقبال بأشكال مختلفة لتلك التيارات تمثلت في حركة نشطة لترجمة وتقديم وتعريف وعرض المذاهب الفلسفية الغربية على تنوعها، كما أن هناك أيضا محاولات لمفكرين عرب لتأصيل بعض الاتجاهات الفلسفية داخل الواقع الثقافي العربي. وسوف نعرض الآن نماذج منها بقدر ما تسمح به المساحة المتاحة لهذا البحث.
بالعودة إلى فلسفات بداية القرن نجد صدى أفكار كل من برجسون وفلسفة الحياة على الساحة الأدبية العربية على وجه الخصوص. وعلى الرغم من ترجمة أغلب أعمال برجسون إلى العربية، إلا أننا لم نجد لها انعكاسا من الناحية الفلسفية الدقيقة خارج أسوار المؤسسات الأكاديمية (وذلك باستثناء جوانية عثمان أمين التي بقيت شذرات متفرقة لم تكتمل في بناء متكامل)، بل انحصر تأثيرها على الأدب والأدباء، وخاصة في نظرتها الحيوية إلى الإنسان، واستعادة الاهتمام بالشعور الحي المتدفق والحرية والطاقة الروحية، وربما يكون هذا هو السبب في انجذاب المفكرين العرب إلى فلسفة برجسون بسبب ما وجدوا فيها من نزعة رومانسية تناسب العقلية العربية إلى حد كبير، وإن كانت هذه النزعة قد انحسرت عنها الأضواء كما انحسرت عنها في موطنها الأصلي تماما. •••
غلب على الفكر العربي التيار الوجودي، وخاصة فلسفة سارتر التي حظيت خلال الخمسينيات والستينيات بالقسط الأكبر من الاهتمام لا سيما بعد ترجمة جل أعمال سارتر إلى العربية، وليس هذا بالأمر الغريب، فقد رأينا كيف انتشر هذا التيار في البلدان الغربية انتشار النار في الهشيم. وعلى الرغم من أن تأثير الوجودية كان أعظم على الشعراء والقصاصين العرب، فقد حاول بعض المشتغلين بالفلسفة تأصيل التيار الوجودي في الفكر العربي بالعودة إلى التراث، ومحاولة تطبيق الوجودية، وبخاصة مفهوم القلق، على الفكر العربي كما فعل عبد الرحمن بدوي في كتابيه «الإنسانية والوجودية في الفكر العربي»، و«شخصيات قلقة في الإسلام»، وحتى لقد رأى البعض أنه «مفكر وجودي أضاف إلى الفكر الوجودي إضافات إبداعية ترتفع به فوق حدود النقل والتقليد والاتباع.»
72
Page inconnue